(463) و (464) و (465) و (466) عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘-
باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر
مقدمة:
قال ابن القيم: “الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِخْبَارِ بِخِسَّتِهَا، وَقِلَّتِهَا وَانْقِطَاعِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا. وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِشَرَفِهَا وَدَوَامِهَا. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَقَامَ فِي قَلْبِهِ شَاهِدًا يُعَايِنُ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ” (مدارج السالكين)
سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ – قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ – يَقُولُ: الزُّهْدُ تَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَرَعُ تَرْكَ مَا تَخَافُ ضَرَرُهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَأَجْمَعِهَا.
(مدارج السالكين)
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه. الأول ترك الحرام. وهو زهد العوام. والثاني ترك الفضول من الحلال. وهو زهد الخواص. والثالث ترك ما يشغل عن الله. وهو زهد العارفين.
وهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم من كلام المشايخ، مع زيادة تفصيله وتبيين درجاته. وهو من أجمع الكلام. وهو يدل على أنه رضى الله عنه من هذا العلم بالمحل الأعلى. وقد شهد الشافعي بإمامته في ثمانية أشياء أحدها الزهد. (المدارج)
ومتعلقه ستة أشياء. لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها. وهي المال، والصور، والرياسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله.
وليس المراد رفضها من الملك. فقد كان سليمان وداود من أزهد أهل زمانهما. ولهما من المال والملك والنساء ما لهما. وكان نبينا محمد من أزهد البشر على الإطلاق. وله تسع نسوة. وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان من الزهاد. مع ما كان لهم من الأموال. وكان الحسن بن علي من الزهاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحا لهن، وأغناهم. وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهاد، مع مال كثير. وكذلك الليث بن سعد من
أئمة الزهاد. وكان له رأس مال يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء.
ومن أحسن ما قيل في الزهد، كلام الحسن أو غيره: «ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال. ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة – إذا أصبت بها – أرغب منك فيها لو لم تصبك». فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه. وقد روي مرفوعا. (مدارج السالكين)
الدنيا: هي حياتنا هذه التي نعيش فيها، وسميت دنيا لسببين:
السبب الأول: أنها أدنى من الآخرة؛ لأنها قبلها كما قال تعالى: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (الضحى: (4)). (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
والثاني: أنها دنيئة ليست بشيء بالنسبة للآخرة، كما روى الإمام أحمد من حديث المستورد بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» موضع السوط: موضع العصى القصيرة الصغيرة في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها من أولها على آخرها، فهذه هي الدنيا.
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَا ءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَا ءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَار ا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيد ا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَ ا لِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ (24)
قال ابن القيم عن هذه الآية:” وهَذا مِن أبْلَغِ التَّشْبِيهِ والقِياسِ.”
قال ابن كثير:” ضَرَبَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى مَثَلًا لِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، بِالنَّبَاتِ الَّذِي أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَاءِ، مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ مِنْ زَرْعٍ وَثِمَارٍ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَمَا تَاكُلُ الْأَنْعَامُ مِنْ أَبٍّ وقَضْب وَغَيْرِ ذَلِكَ، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا} أَيْ: زِينَتَهَا الْفَانِيَةَ، {وَازَّيَّنَتْ} أَيْ: حَسُنت بِمَا خَرَجَ مِنْ رُباها مِنْ زُهُورٍ نَضِرة مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، {وَظَنَّ أَهْلُهَا} الَّذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي: على جَذاذها وحصادها فبيناهم كذلك إذ جاءتها صاعقة، أو ريح بادرة، فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَهَا، وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أيْ: يَبَسًا بَعْدَ تِلْكَ الْخُضْرَةِ وَالنَّضَارَةِ، {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ} أَيْ: كَأَنَّهَا مَا كَانَتْ حَسْنَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ} كَأَنَّ لَمْ تَنْعَمْ.
فكان حال الدنيا في سرعة انقضائها، وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله؛ كحال نبات الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعد ما التف وزيَّن الأرض بخضرته وألوانه وبهجته. [البقاعي: (3) / (433)]
قال السعدي: ” وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها. ”
– {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
وأما الغافل المعرض؛ فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان. [السعدي: (362)]
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَا ءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَا ءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيم ا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء مُّقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاب ا وَخَيْرٌ أَمَل ا (46)} [الكهف (45) – (46)]
يَقُولُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ} يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فِي زَوَالِهَا وَفَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا {كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ} أَيْ: مَا فِيهَا مِنَ الحَبّ، فَشَبَّ وَحَسُنَ، وَعَلَاهُ ((1)) الزَّهْرُ وَالنَّوْرُ وَالنُّضْرَةُ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} يَابِسًا (ابن كثير) الْهَشِيمُ: مَا يَبِسَ وَتَفَتَّتَ مِنَ النَّبَاتَاتِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا (البغوي)
قال الشوكاني:”
الهَشِيمُ الكَسِيرُ، وهو مِنَ النَّباتِ ما تَكَسَّرَ بِسَبَبِ انْقِطاعِ الماءِ عَنْهُ وتَفَتَّتَ، ورَجُلٌ هَشِيمٌ: ضَعِيفُ البَدَنِ”
{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أَيْ: تُفَرِّقُهُ وَتَطْرَحُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (ابن كثير) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُثِيرُهُ الرِّيَاحُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تُفَرِّقُهُ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: تَنْسِفُهُ (البغوي)
قالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء … لأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى، ويذهب، كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا: الكفاف منها ينفع، وفضولها يضر. [القرطبي: (13) / (289)]
قال ابن عثيمين في تفسيره:”وهذا النوع من الأمثال ضربه الله تعالى في عدة سور من القرآن الكريم حتى لا نغتر بالدنيا ولا نتمسك بها، والعجب أننا مغترون بها، متمسكون بها مع أن أكدارها وهمومها وغمومها أكثر بكثير من صفوها وراحتها”
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} أَيْ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَهَذِهِ الْحَالِ (ابن كثير)
ثم قال عز وجل مقارنا لما يبقى وما لا يبقى، قال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف (46)]، المال من أي نوع، سواء كان من العروض أو النقود أو الآدميين أو البهائم، {وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ولا تنفع الإنسان في الآخرة إلا ما قدم منها.
وذكر البنين دون البنات؛ لأنه جرت العادة أنهم لا يفتخرون إلا بأيش؟ إلا بالبنين، والبنات في الجاهلية مَهينات قد أهن بأعظم المهونة (تفسير ابن عثيمين)
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا قول الجمهور، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل الصلوات الخمس، وقيل: الأعمال الصالحات على الإطلاق. (ابن جزي)
{الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} هي الأعمال الصالحة من أقوال وأفعال، ومنها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومنها الصدقات، وغير ذلك، هذه هي الباقيات الصالحات.
{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، ولا شك أن الأمر كما قال ربنا عز وجل: خَيْرٌ ثَوَابًا؛ أي: أجرًا ومثوبة، {وخير أملًا} أي: مؤملًا يؤمله الإنسان؛ لأن هذه الباقيات الصالحات كما وصف الله باقيات أما الدنيا فانية زائلة.
قال ابن باز:” الأخيار من العُباد والصلحاء من الرسل وغيرهم قدموا أمر الآخرة وآثروها على الدنيا واجتهدوا في طاعة الله ولم تشغلهم هذه العاجلة عن الإعداد للقاء ربهم فهكذا ينبغي للمؤمن أن يزهد فيها زهداً يمنعه من الاشتغال بها عن طاعة الله والغرور بها عن حق الله، أما الاشتغال بها للكسب الحلال والاستغناء عما في أيدي الناس وسد والنفع للمسلمين والصدقة عليهم هذا أمر مطلوب وهو خير ولكن الذي يخشى منه هو الاشتغال بها عن الآخرة” (شرح رياض الصالحين لابن باز (2) / (210))
وقال تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: (20)]
يقول تعالى ذكره: اعلموا أيها الناس إن متاع الحياة الدنيا المعجلة لكم، ما هي إلا لعب ولهو تتفكَّهون به، وزينة تتزيَّنون بها، وتفاخر بينكم، يفخر بعضكم على بعض بما أولى فيها من رياشها (الطبري)
أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم؛ فإن اللعب طور سِنّ الطفولة والصبا، واللهوَ طور الشباب، والزينة طور الفتوة، والتفاخرَ طور الكهولة، والتكاثر طور الشيخوخة. [ابن عاشور: (27) / (401).]
ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي أَنَّهَا زَهْرَةٌ فَانِيَةٌ وَنِعْمَةٌ زَائِلَةٌ فَقَالَ: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} وَهُوَ: الْمَطَرُ الَّذِي يَاتِي بَعْدَ قُنُوطِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ]} [الشُّورَى: (28)] ((1))
* * *
وَقَوْلُهُ: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أَيْ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ نَبَاتُ ذَلِكَ الزَّرْعِ الَّذِي نَبَتَ بِالْغَيْثِ؛ وَكَمَا يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تُعْجِبُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْكُفَّارَ، فَإِنَّهُمْ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَأَمْيَلُ النَّاسِ إِلَيْهَا، {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أَيْ: يَهِيجُ ذَلِكَ الزَّرْعُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا بَعْدَ مَا كَانَ خَضِرًا ((2)) نَضِرًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّهُ حُطَامًا، أَيْ: يَصِيرُ يَبَسًا مُتَحَطِّمًا، هَكَذَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا تَكُونُ أَوَّلًا شَابَّةً، ثُمَّ تَكْتَهِلُ، ثُمَّ تَكُونُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، وَالْإِنْسَانُ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ وَعُنْفُوَانِ شَبَابِهِ غَضًّا طَرِيًّا لَيِّنَ الْأَعْطَافِ، بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَشْرَعُ فِي الْكُهُولَةِ فَتَتَغَيَّرُ طِبَاعُهُ وَيَنْفَد ((3)) بَعْضُ قُوَاهُ، ثُمَّ يَكْبَرُ فَيَصِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا، ضَعِيفَ الْقُوَى، قَلِيلَ الْحَرَكَةِ، يُعْجِزُهُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ. (ابن كثير)
* * *
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الآية معناها تشبيه الدنيا بالزرع الذي ينبته الغيث في سرعة تغيره بعد حسنه، وتحطمه بعد ظهوره والكفّار هنا يراد به الزراع فهو من قوله: كفرتُ الحبَّ إذا سترته تحت الأرض: وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالزرع والفلاحة، فلا يعجبهم إلا ما هو حقيق أن يعجب، وقيل: أراد الكفار بالله وخصهم بالذكر؛ لأنهم أشد إعجاباً بالدنيا وأكثر حرصاً عليها. (ابن جزي)
قال ابن عثيميين:” هذه خمسة أشياء كلها ليس بشيء: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، مثالها: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) (الحديد: (20))، أعجب الكفار؛ لأن الكفار هم الذين يتعلقون بالدنيا وتسبي عقولهم الدنيا، فهذا نبات نبت من الغيث فصار الكفار يتعجبون منه من حسنه ونضارته: (أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما) (الحديد: (20))، ويزول وينتهي الآخرة (وفي الآخرة عذاب شديد
ومغفرة من الله ورضوان) (الحديد: (20)).
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ دَالًّا عَلَى زَوَالِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا وَفَرَاغِهَا لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، حَذّر مِنْ أَمْرِهَا وَرَغَّبَ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، فَقَالَ: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أَيْ: وَلَيْسَ فِي الْآخِرَةِ الْآتِيَةِ الْقَرِيبَةِ إِلَّا إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا: إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ. (ابن كثير)
وَقَوْلُهُ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أَيْ: هِيَ مَتَاعٌ فانٍ غارٍّ ((4)) لمن ركن إليه فإنه يغتر بِهَا وَتُعْجِبُهُ حَتَّى يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا دَارَ سِوَاهَا وَلَا مَعَادَ وَرَاءَهَا، وَهِيَ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ. (ابن كثير)
قال السعدي في نهاية تفسير هذه الآية
فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولهذا قال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: إلا متاع يتمتع به وينتفع به، ويستدفع به الحاجات، لا يغتر به ويطمئن إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور.
وقال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران: (14)]
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ}، أي: جُعِل هذا الشيء زينًا في قلوبهم، ومَن الذي زيّن؟ هل المزَيِّن الله عز وجل؟ أو المزين الشيطان؟ المزين هو الله، وقد أضاف الله التزيين إلى نفسه في عدة آيات {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام (108)]، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل (4)].
وأضاف التزيين أيضًا إلى الشيطان: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل (24)]، لكن تزيين الشيطان إنما كان بالنسبة لأعمال هؤلاء، يعني زين لهم الأعمال، أما الأشياء المخلوقة فالذي يزينها هو الله عز وجل.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ} أي: زيّنها الله عز وجل في قلوبهم ابتلاءً واختبارًا. (ابن عثيمين)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا زُيِّن لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَاذِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينِ، فَبَدَأَ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ بِهِنَّ أَشَدُّ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ((1)) مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء”. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِهِنَّ الْإِعْفَافَ وَكَثْرَةَ الْأَوْلَادِ، فَهَذَا مَطْلُوبٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّزْوِيجِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، “وإنَّ خَيْرَ هَذه الأمَّةِ كَانَ أكْثرهَا نسَاءً” ((2)) وَقَوْلُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ((3)) الدُّنْيَا مَتَاع، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ، إنْ نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه، وإنْ غَابَ عَنْها حَفِظْتُه فِي نَفْسهَا وَمَالِهِ” ((4)) وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: “حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ ((5)) وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي الصَّلاةِ” ((6)) وَقَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من النِّسَاءِ إِلَّا الْخَيْلُ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا النِّسَاءُ ((7)).
وَحُبُّ الْبَنِينَ تَارَةً يَكُونُ لِلتَّفَاخُرِ وَالزِّينَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا، وَتَارَةً يَكُونُ لِتَكْثِيرِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهَذَا مَحْمُودٌ مَمْدُوحٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: “تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ” ((8))
وَحُبُّ الْمَالِ -كَذَلِكَ-تَارَةً يَكُونُ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالتَّجَبُّرِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَهَذَا مَذْمُومٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلنَّفَقَةِ فِي الْقُرُبَاتِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْقَرَابَاتِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَاتِ، فَهَذَا مَمْدُوحٌ مَحْمُودٌ ((9)) عَلَيْهِ شَرْعًا. (ابن كثير)
قال ابن القيم:” تقديمه المال على الولد في كثير من الآي فلأن الولد بعد وجود المال نعمة ومسرة، وعند الفقر وسوء الحال هم ومضرة فهذا من باب تقديم السبب على المسبب، لأن المال سبب تمام النعمة بالولد.”
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مِقْدَارِ الْقِنْطَارِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَحَاصِلُهَا: أَنَّهُ الْمَالُ الْجَزِيلُ، (ابن كثير)
قال البغوي:” وَسُمِّيَ قِنْطَارًا مِنَ الْإِحْكَامِ، يُقَالُ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَحْكَمْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَنْطَرَةُ”
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمُقَنْطَرَةِ} قَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُحَصَّنَةُ الْمُحْكَمَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْكَثِيرَةُ الْمُنَضَّدَةُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَقَالَ يَمَانٌ: [الْمَدْفُونَةُ] ((3)) وَقَالَ السُّدِّيُّ الْمَضْرُوبَةُ الْمَنْقُوشَةُ حَتَّى صَارَتْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ،
{مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وَقِيلَ سُمِّيَ الذَّهَبُ ذَهَبًا لِأَنَّهُ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى، وَالْفِضَّةُ لِأَنَّهَا تَنْفَضُّ أَيْ تَتَفَرَّقُ.
{وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} الْخَيْلُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَاحِدُهَا فَرَسٌ، كَالْقَوْمِ وَالنِّسَاءِ وَنَحْوِهِمَا (البغوي)
الخيل هي هذه الحيوانات المعروفة؛ وسميت خيلًا؛ لأن صاحبها غالبًا يبتلى بالخيلاء لأنها أفخر المراكب، فالراكب لها يكون في قلبه خيلاء، أو لأنها هي تختال في مشيتها، ولهذا ترى الخيل عند مشيتها ليست كغيرها، تشعر بأن فيها ترفعًا واختيالًا، قال بعضهم: أو لأنها يخيل إليها أنه لا شيء يساميها، وهذا لا ندري عنه، اللهم إلا ما يظهر من أثر مثل اختيالها في مشيتها (ابن عثيمين)
وقوله: {الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران (14)] قيل: معنى المسومة التي تسوَّم، أي تُطلق لترعى، كما قال تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل (10)]. وقيل: المسومة: المعلَّمة التي جُعل لها أعلام للزينة والفخر، مثل أن يُجعل عليها ريش النعام أو أشياء أخرى تحسنها.
المسومة عند الناس أغلى من غيرها؛ لأنها ما سُومت إلا لأنها جيدة، ومن أصل جيد، فلهذا تسوم ويُعتنى بها أكثر. (ابن عثيمين تفسير)
وَقَوْلُهُ: {وَالأنْعَامِ} يَعْنِي: الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ {وَالْحَرْث} يَعْنِي: الْأَرْضَ ((32)) الْمُتَّخَذَةَ للغِرَاس وَالزِّرَاعَةِ (ابن كثير)
فهذه سبعة أشياء: النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث.
ولو فتشت عامة رغبات الناس في هذه الدنيا لوجدتها لا تخرج عن هذه الأشياء السبعة في الغالب (ابن عثيمين تفسير)
القرطبي:” وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تُنال إلا بترك الشهوات، وفطام النفس عنها.”
{ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْنَا {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مَتَاعٌ يَفْنَى {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أَيِ الْمَرْجِعِ، فِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ فِي الْآخِرَةِ. (البغوي)
قال ابن عثيمين: ” مرجع كل إنسان إلى الآخرة؛ إما إلى جنة وإما إلى نار، وليس ثمة دار أخرى ثالثة” (تفسير ابن عثيمين)
قال السعدي:” وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار”
قال ابن باز:” وهكذا في هذا الزمان الطائرات والسيارات وغير ذلك كلها، هكذا كل ذلك متاع الحياة الدنيا هذه الزينة وهذا المتاع كله لهذه الدنيا، والآخرة عند ربك خير وأبقى للمؤمنين؛ ولهذا قال: {ذَلِكَ مَتَعُ الحياة الدنيا [آل عمران: (14)] يعني: هذا الشيء من متاع الحياة الدنيا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَثَابِ} [آل عمران: (14)] وقال تعالى في آية أخرى (بل تؤثِرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
وقال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر: (5)]
قال ابن كثير:” قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيِ: الْمَعَادُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيِ: الْعِيشَةُ الدَّنِيئَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَتْبَاعِ رُسُلِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ فَلَا تَتَلَهَّوا عَنْ ذَلِكَ الْبَاقِي بِهَذِهِ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وَهُوَ الشَّيْطَانُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَيْ: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ وَيَصْرِفَنَّكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رُسُلِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ كَلِمَاتِهِ فَإِنَّهُ غرَّار كَذَّابٌ أَفَّاكٌ”
قال السعدي:” يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث والجزاء على الأعمال، {حَقٌّ} أي: لا شك فيه، ولا مرية، ولا تردد، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية والبراهين العقلية، فإذا كان وعده حقا، فتهيئوا له، وبادروا أوقاتكم الشريفة بالأعمال الصالحة، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بلذاتها وشهواتها ومطالبها النفسية، فتلهيكم عما خلقتم له، {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ”
قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا: أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: {يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجو: (24)]. [القرطبي: (17) / (346)]
وقد تضمنت الآية غرورين: غروراً يغتَرّه المرء من تلقاء نفسه، ويزيّن لنفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في هذه الدنيا ما يتوهمه خيراً، ولا ينظر في عواقبه؛ بحيث تخفى مضارّه في باديء الرأي، ولا يظنّ أنه من الشيطان، وغروراً يتلقاه ممن يغرّه وهو الشيطان. وكذلك الغرور كله في هذا العالم: بعضه يمليه المرء على نفسه، وبعضه يتلقاه من شياطين الإِنس والجن. [ابن عاشور: (22)
وقال تعالى: {ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر، كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون، كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر: (1)، (5)]
يَقُولُ تَعَالَى: شَغَلَكُمْ حُبُّ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا وَزَهْرَتُهَا عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ وَابْتِغَائِهَا، وَتَمَادَى بِكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَكُمُ الْمَوْتُ وَزُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، وَصِرْتُمْ مِنْ أَهْلِهَا؟! (ابن كثير)
هذا خبر يراد به الوعظ والتوبيخ، ومعنى {ألهاكم}: شغلكم، و {التكاثر}: المباهاة بكثرة المال والأولاد، وأن يقول هؤلاء: «نحن أكثر»، ويقول هؤلاء: «نحن أكثر». ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقول ابن آدم: مالي مالي. وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت}. [ابن جزي: (2) / (605)]
ولم يذكر المتكاثر به، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، من التكاثر في الأموال، والأولاد، والأنصار، والجنود، والخدم، والجاه، وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر، وليس المقصود به الإخلاص لله تعالى. (السعدي)
قال السعدي” فاستمرت غفلتكم ولهوتكم [وتشاغلكم] {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فانكشف لكم حينئذ الغطاء، ولكن بعد ما تعذر عليكم استئنافه.
ودل قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية، أن الله سماهم زائرين، ولم يسمهم مقيمين.”
قال ابن عثيمين:” معنى الآية الكريمة؛ أي: إنَّكم تَلَهَّيتم بالتكاثُر عن الآخرة إلى أن متُّم.
وقال أيضا في تفسيره:” وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس الآن في الجرائد وغيرها يقول عن الرجل إذا مات: إنه انتقل إلى مثواه الأخير، أنَّ هذا كلامٌ باطلٌ وكَذِبٌ؛ لأن القبور ليس هي المثوى الأخير، بل لو أن الإنسان اعتقد مدلولَ هذا اللفظ لصار أيش؟ كافرًا بالبعث، والكفر بالبعث رِدَّةٌ عن الإسلام، لكن كثيرًا من الناس يأخذون الكلمات على عواهنها ولا يدرون ما معناها، ولعل هذه موروثةٌ عن الملحدين الذين لا يُقِرُّون بالبعث بعد الموت
وَقَوْلُهُ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}
قيل: إن {كَلَّا} بمعنى الرَّدْع؛ يعني: ارتدعوا عن هذا التكاثر، وقيل: إنها بمعنى حقًّا. (ابن عثيمين)
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا ((17)) وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي: الْكُفَّارَ، {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ. (ابن كثير)
قال ابن عثيمين:” {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: سوف تعلمون عاقبةَ أَمْركم بالتكاثر الذي ألهاكم عن الآخِرة.
{ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهذه الجملة تأكيدٌ للرَّدْع مرَّةً ثانية.
قال ابن القيم: ” ومن تأمل حسن موقع «كلا» في هذا الموضع، فإنها تضمنت ردعا لهم، وزجرا عن التكاثر، ونفيا وإبطالا لما يؤملونه، من نفع التكاثر لهم، وعزتهم وكمالهم به، فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا، وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم، وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية، وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم: من أين استخرجوها؟ وفيم صرفوها؟.
فلله ما أعظمها من سورة، وأجلها وأعظمها فائدة، وأبلغها موعظة وتحذيرا، وأشدها ترغيبا في الآخرة، وتزهيدا في الدنيا على غاية اختصارها، وجزالة ألفاظها وحسن نظمها. فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا.” (ابن القيم عدة الصابرين)
* * *
وَقَوْلُهُ: {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}
أَيْ: لَوْ عَلِمْتُمْ حَقَّ الْعِلْمِ، لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ. (ابن كثير)
وقال تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: (64)] والآيات في الباب مشهورة.
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}
فجيء باسم الإِشارة لإفادة تحقيرها. [ابن عاشور: (21) / (31)]
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا، وَأَنَّهَا لَا دَوَامَ لَهَا، وَغَايَةُ مَا فِيهَا لَهْوٌ وَلَعِبٌ: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أَيْ: الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الْحَقُّ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهَا وَلَا انْقِضَاءَ، بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ أَبَدَ الْآبَادِ.
وَقَوْلُهُ: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أَيْ: لَآثَرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى. (ابن كثير)
قال البغوي:” اللَّهْوُ هُوَ: الِاسْتِمْتَاعُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَاللَّعِبُ: الْعَبَثُ، سُمِّيَتْ بِهِمَا لِأَنَّهَا فَانِيَةٌ.
{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أَيْ: الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الْبَاقِيَةُ، وَ”الْحَيَوَانُ”: بِمَعْنَى الْحَيَاةِ، أَيْ: فِيهَا الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فَنَاءَ الدُّنْيَا وَبَقَاءَ الْآخِرَةِ.”
وأما الأحاديث فأكثر من أن تحصر فننبه بطرف منها على ما سواه.
(463) -عن عمرو بن عوف الأنصاري – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- إلى البحرين يأتي بجزيتها فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: “أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين”فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال:”أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم. ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها. فتهلككم كما أهلكتهم “متفق عليه.
بوب عليه البخاري بابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا.
عن عمرو بن عوف الأنصاري – جاء في رواية البخاري ومسلم عن عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ – وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا – قوله: (الأنصاري) المعروف عند أهل المغازي أنه من المهاجرين وهو موافق لقوله هنا: ” وهو حليف لبني عامر بن لؤي ” لأنه يشعر بكونه من أهل مكة، ويحتمل أن يكون وصفه بالأنصاري بالمعنى الأعم، ولا مانع أن يكون أصله من الأوس والخزرج ونزل مكة وحالف بعض أهلها فبهذا الاعتبار يكون أنصاريا مهاجريا، ثم ظهر لي أن لفظة الأنصاري وهم، وقد تفرد بها شعيب عن الزهري، ورواه أصحاب الزهري كلهم عنه بدونها في الصحيحين وغيرهما، وهو معدود في أهل بدر باتفاقهم. (فتح الباري)
قوله: (بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين) أي البلد المشهور بالعراق، وهي بين البصرة وهجر. (فتح الباري)
وقوله: (يأتي بجزيتها) أي بجزية أهلها، وكان غالب أهلها إذ ذاك المجوس، ففيه تقوية للحديث الذي قبله، ومن ثم ترجم عليه النسائي ” أخذ الجزية من المجوس “، وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوى عامل البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية. (فتح الباري)
فيه أخذ الجزية من المجوس.
قوله: (فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافقت صلاة الصبح) يؤخذ منه أنهم كانوا لا يجتمعون في كل الصلوات في التجميع إلا لأمر يطرأ، وكانوا يصلون في مساجدهم، إذ كان لكل قبيلة مسجد يجتمعون فيه، فلأجل ذلك عرف النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اجتمعوا لأمر، ودلت القرينة على تعيين ذلك الأمر وهو احتياجهم إلى المال للتوسعة عليهم فأبوا إلا أن يكون للمهاجرين مثل ذلك، وقد تقدم هناك من حديث أنس، فلما قدم المال رأوا أن لهم فيه حقا. ويحتمل أن يكون وعدهم بأن يعطيهم منه إذا حضر، وقد وعد جابرا بعد هذا أن يعطيه من مال البحرين فوفى له أبو بكر. (فتح الباري)
قوله: (فتعرضوا له) أي سألوه بالإشارة.
قال القرطبي:” لأنَّهم أرهقتهم الحاجة والفاقة التي كانوا عليها، لا الحرص على الدنيا، ولا الرغبة فيها، ولذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا وأملوا ما يسركم، وهذا تهوين منه عليهم ما هم فيه من الشدة، وبشارة لهم بتعجيل الفتح عليهم” (المفهم)
قوله: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم)
الطيبي: فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن الفقر، فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده، والمراد بالفقر العهدي، وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء ويحتمل الجنس والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى؛ لأن مضرة الفقر دنيوية غالبا ومضرة الغنى دينية غالبا.
جاء عند ابن ماجه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَقْرَ وَنَتَخَوَّفُهُ، فَقَالَ: ” آلْفَقْرَ تَخَافُونَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُصَبَّنَّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا حَتَّى لَا يُزِيغَ قَلْبَ أَحَدِكُمْ إِزَاغَةً إِلَّا هِيَهْ، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ “.
قال ابن باز:” فخاف عليهم الدنيا، الفقر أقل خطر، الإنسان مع الفقر قد قد يكتفي بالقليل، لكن متى بسط عليه الدنيا قد لا يصبر؛ بل يستعين بها على معاصي الله ومخالفة أمره، قد يقع بسببها فيما حرم الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أن رءاه استغنى العلق: (6)، (7)] قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا؛ يعني: الفقر وابتلينا بالسراء، فلم، نصبر” (شرح رياض الصالحين)
والفقر قد يكون خيرًا للإنسان، كما جاء في الحديث القدسي الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: «إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى»، يعني: أطغاه وأضله وصده عن الآخرة والعياذ بالله ففسد، «وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر». (ابن عثيمين)
قوله: (فتنافسوها) قال القرطبي:” قوله: فتنافسوها كما تنافسوها) أي: تتحاسدون فيها، فتختلفون وتتقاتلون فيهلك بعضكم بعضا، كما قد ظهر ووجد، وقد سمى في هذا الحديث التحاسد تنافسا؛ توسعا، لقرب ما بينهما” (المفهم)
الأصل فتتنافسوا فحذفت إحدى التاءين، والتنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه (فتح الباري)
قاا
قوله: (فتهلككم) أي: لأن المال مرغوب فيه، فترتاح النفس لطلبه فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك، قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس غيره فيها، ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا، والفقير آمن من ذلك. (فتح الباري)
قال القرطبي:” وفيه ما يدلّ على أن الفقر أقرب للسلامة، والاتساع في الدنيا أقرب للفتنة” (المفهم)
قال ابن عثيمين:” وهذا هو الواقع، وأنظر إلى حالنا نحن هنا- يعني في المملكة- لما كان الناس إلى الفقر أقرب، كانوا لله أتقى وأخشع وأخشى، ولما كثر المال؛ كثر الإعراض عن سبيل الله، وحصل الطغيان، وصار الإنسان الآن يتشوف لزهرة الدنيا وزينتها … سيارة، بيت، فرش، لباس، يباهي الناس بهذا كله، ويعرض عما ينفعه في الآخرة.
وصارت الجرائد والصحف وما أشبهها لا تتكلم إلا بالرفاهية وما يتعلق بالدنيا، وأعرضوا عن الآخرة، وفسد الناس إلا من شاء الله.
فالحاصل أن الدنيا إذا فتحت- نسأل الله أن يقنا وإياكم شرها – أنها تجلب شرا وتطغي الإنسان (كلا إن الإنسان ليطغى) (أن رآه استغنى) (العلق: (7)، (6)).
وقد قال فرعون لقومه: (يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) (الزخرف: (51))، افتخر بالدنيا، فالدنيا خطيرة جدا”
وفي هذا الحديث أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه، وفيه البشرى من الإمام لأتباعه وتوسيع أملهم منه، وفيه من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بما يفتح عليهم، وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين. (فتح الباري)
(464) – عن أَبي سعيدٍ الخدريِّ، رضي الله عنه. قالَ: جَلَسَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلى المِنْبَرِ، وَجَلسْنَا حَوْلَهُ. فقال: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِن زَهْرَةِ الدُّنيَا وَزيَنتهَا» متفقٌ عيه
عن الطبراني وعن عوفِ بن مالكٍ قال:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال:
«آلفقرَ تخافون أو العوز، أم تهمكم الدنيا؟ فإن الله فاتحٌ عليكم فارسَ والرومَ، وتصب عليكم الدنيا صبًا حتى لا يُزيغكم بعدي إنْ أزاغكم إلا هي». (صحيح الترغيب)
نبرت الشيء أنبره نبرا: رفعته. ومنه سمي المنبر. (الصحاح في اللغة والعلوم)
(مما أخاف) أي ما أخاف عليكم الفقر وإنما أخاف عليكم الغنى. (حاشية السندي)
زهرة الدنيا: زينتها وبهجتها.
قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه ((131))]. (فيصل آل مبارك)
قال ابن رجب:” وضرب مثل الدنيا بنبات الربيع … وهذا لم يكن في خطبة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس في خطبة الجمعة. (فتح الباري لابن رجب)
قال ابن حجر:” والمراد بالزهرة الزينة والبهجة كما في الحديث، والزهرة مأخوذة من زهرة الشجر وهو نورها بفتح النون، والمراد ما فيها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها مما يفتخر الناس بحسنه مع قلة البقاء.
(وزينتها) على الزهرة من عطف الخاص على العام وخشيته من ذلك لئلا يتعلق حبه بالقلب ويأخذ بهجته بالبصر فيوقع في الأسباب المؤدية إلى فساد الدين. (دليل الفالحين)
جاء في رواية مسلم فَقَالَ: ” لَا وَاللَّهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا “.
قال النووي:” فيه التحذير من الاغترار بالدنيا والنظر إليها، والمفاخرة بها، وفيه: استحباب الحلف من غير استحلاف إذا كان فيه زيادة في التوكيد والتفخيم ليكون أوقع في النفوس. ”
قال ابن باز:” النفوس مجبولة على حب هذه الدنيا وزينتها والتمتع بلذاتها، فربما جر العبد ذلك إلى أن يستعين بها على ما يسخط الله، وأن يستعين بها على ترك ما أوجب الله فيخسر الدنيا والآخرة، فالواجب أن تكون خادماً للآخرة ومطيةً للآخرة، وأن يستعان بها على طاعة الله؛ ولهذا جاء في الحديث: نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِح يقول به هكذا وهكذا ينفقه في وجوه الخير.” شرح رياض الصالحين لابن باز (2) / (214)
فيه التحذير من زهرة الدنيا وأنها مهلكة.
(465) – عنه أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّه تَعالى مُسْتَخْلِفكُم فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْملُونَ فاتَّقُوا الدُّنْيَا واتَّقُوا النِّسَاءِ» رواه مسلم.
مر معنا هذا الحديث في باب التقوى
(466) -وعن أَنسٍ . أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ» متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية للبخاري ” اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ ”
جاء في رواية البخاري عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ:
” اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ … فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ ”
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا … عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قال ابن علان: “قاله في أشد أحواله لما رأى تعب أصحابه لحفر الخندق”. (دليل الفالحين)
تسهيل للأمر عليهم وتبشير لهم بما أعد الله لهم من الخير في مقابلة ما هم فيه من صالح الأعمال رضي الله تعالى عنهم. (حاشية ابن ماجه للسندي)
ا قاله الطيبيّ :، وفيه أن لا عيش ألذّ، وأمرأ، وأشهى، وأهنأ مما يجد العبد من طاعة ربّه، ويستروح إليها حتى يرفع تكاليفها، ومشاقّها عنه، بل إذا فقدها كان أصعب عليه مما إذا وُتر أهله وماله، وإليه ينظر قوله صلى الله عليه وسلم : «أرحنا بالصلاة يا بلال» ((1))، وقوله: «وجُعلت قرّة عيني في الصلاة» ((2))، وتعريضٌ بذمّ عيش الدنيا”
وجِمَاعُ معنى الحديث: الحثّ على مجاهدة أعداء الدين، وعلى مجاهدة النفس، والشيطان، والإعراض عن استيفاء اللذّات العاجلة. انتهى كلام الطيبيّ ((4))،
وعن زيد بن ثابتٍ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:
“مَنْ كانَتِ الدنيا هَمَّه فَرَّقَ الله عليه أَمْرَهُ، وجَعلَ فَقْرَهُ بيْنَ عَيْنَيْهِ؛ ولمْ يأْتِهِ مِنَ الدنيا إلا ما كُتبَ له، ومَنْ كانَتِ الآخِرَة نيَّتَهُ جمَع الله له أمْرَهُ، وجعَل غِنَاهُ في قلْبِه؛ وأتَتْهُ الدنيا وهِيَ راغِمَةٌ”. (صحيح الترغيب)
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رَأى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَيَقُولُ «لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ» أخرجه الشافعي في مسنده (1) / (304)، حديث رقم (792)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7) / (48)، باب: كان إذا رأى شيئًا يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة، حديث (13100)، أخرجه البيهقي بسنده إلى الشافعي، والحديث مرسل لأنه عن مجاهد أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم … ، الحديث.
الإنسان إذا رأى ما يعجبُه مِن الدُّنيا رُبَّما يلتفت إليه فيُعرض عن الله، فيقول: «لبيك» استجابةً لله ، ثم يوطِّنُ نفسه فيقول: «إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة» فهذا العيش الذي يعجبك عيش زائل، والعيش حقيقة هو عيش الآخرة، ولهذا كان من السُّنَّة إذا رأى الإنسانُ ما يعجبُه في الدُّنيا أن يقول: «لبيك، إن العيشَ عيشُ الآخرة». (الشرح الممتنع للعثيمين)
فلا يحزن الإنسان لما يصيبه في هذه الدار فإنه منقض وأجره باق دائم (دليل الفالحين)
قال ابن باز:” لا عيش حقيقي إلا عيش الآخرة الدنيا فيها عيش لكنه زائل ليس بحقيقي؛ لأنه زائل متاع قليل ولكن العيش الحقيقي المقيم الثابت الدائم هو عيش الآخرة هو العيش الذي ينبغي يسعى لها ويعمل المؤمن لتحصيله لدار الكرامة، أما عيش هذه الدنيا فهو زائل مهما ملك منه العبد وما تحصل عليه فالمال إلى الزوال إما أن يزول هو ويدعه لمن خلفه، وإما أن تزول عنه في حياته؛ ولهذا قال سبحانه: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قليل [التوبة: هذه الدار متاع، قليل كما قال تعالى: {قُلْ مَتاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء: ]
«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» يعنى العيشة الهنية الراضية الباقية هو عيش الآخرة، أما الدنيا فإنه مهما طاب عيشها فمآلها للفناء، وإذا لم يصحبها عمل صالح فإنها خسارة. (ابن عثيمين)
ومما جاء عن السلف في الزهد في الدنيا (سير أعلام النبلاء)
عن أبي حازم المديني قال: مَا الدُّنْيَا؟ مَا مَضَى مِنْهَا، فَحُلُمٌ، وَمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَأَمَانِي.
قَالَ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ: قَالَ رَجُلٌ لِمُحَمَّدِ بنِ وَاسِعٍ: أَوْصِنِي.
قَالَ: أُوْصِيْكَ أَنْ تَكُوْنَ مَلكًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قَالَ: كَيْفَ؟
قَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا.
قال سفيان الثوري: لَيْسَ الزُّهدُ بِأَكْلِ الغَلِيْظِ، وَلُبْسِ الخَشِنِ، وَلَكِنَّهُ قِصَرُ الأَمَلِ، وَارْتِقَابُ المَوْتِ.
قال إبراهيم بن أدهم:”
وَعَنْ إِبْرَاهِيْمَ، قَالَ: الزُّهْدُ فَرضٌ، وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الحَرَامِ، وَزُهْدُ سَلاَمَةٍ، وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الشُّبُهَاتِ، وَزُهْدُ فَضْلٍ، وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الحَلاَلِ.
قَالَ الفُضَيْلُ:
لاَ يَسْلَمُ لَكَ قَلْبُكَ حَتَّى لاَ تُبَالِي مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا.
الفُضَيْلِ: حَرَامٌ عَلَى قُلُوْبِكُم أَنْ تُصِيْبَ حَلاَوَةَ الإِيْمَانِ، حَتَّى تَزْهَدُوا فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ أَبِي الحَوَارِيِّ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ: مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟
قَالَ: إِذَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ، فَشَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ، فَصَبَرَ، فَذَلِكَ الزُّهْدُ.
إلى غير ذلك من الآثار