46 مشكل الحديث
مشاركة سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——‘——-”
——-‘——‘——-”
مشكل الحديث 46:
قال الإمام مسلم
(485) – ((1379)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، قالَ: قَرَاتُ عَلى مالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «عَلى أنْقابِ المَدِينَةِ مَلائِكَةٌ، لا يَدْخُلُها الطّاعُونُ، ولا الدَّجّالُ»
وقال الإمام البخاري:
(1880) – حَدَّثَنا إسْماعِيلُ، قالَ: حَدَّثَنِي مالِكٌ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُجْمِرِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، «عَلى أنْقابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُها الطّاعُونُ، ولاَ الدَّجّالُ».
————-
ليست مكة والمدينة في مأمن من الأوبئة، فقد وقع بالمدينة وباء في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى البخاري (2643) عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: (أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ، وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ … إلخ).
ومعنى: ذريعاً: أي: سريعاً.
غير أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المدينة لا يدخلها الطاعون، وجاء في بعض ألفاظ الحديث أنه لا يدخل مكة أيضاً. كما سبق في حديث أبي هريرة
قال الحافظ في “الفتح”:
“وَوَقَعَ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: (الْمَدِينَة وَمَكَّة مَحْفُوفَتَانِ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلّ نَقْب مِنْهُمَا مَلَك لَا يَدْخُلهُمَا الدَّجَّال وَلَا الطَّاعُون) أَخْرَجَهُ عُمَر بْن شَبَّة فِي ” كِتَاب مَكَّة ” عَنْ شُرَيْح عَنْ فُلَيْح عَنْ الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَرِجَاله رِجَال الصَّحِيح” انتهى.
وقد ذكر النووي رحمه الله عن أبي الحسن المدائني أن مكة والمدينة لم يقع بهما طاعون قط.
“الأذكار” ص 139.
ولكن .. ذكر بعض العلماء أن مكة قد دخلها طاعون عام 749 هـ.
وأجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله عن ذلك بأنه لم يكن طاعوناً، وإنما كان وباء آخر، فظن من نقل ذلك أنه طاعون.
فالحاصل: أن مكة والمدينة محفوظتان من الطاعون، وليستا محفوظتين من غيره من الأمراض والأوبئة.
قال باحث: وابن حجر تعقبه محققو المسند بقولهم: ” كذا قال في إسناده (العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه)، وهو وهمٌ، إما من صاحب كتاب مكة، أو من الحافظ ابن حجر، فالحديث لا يُعرف إلا عن عمر بن العلاء، عن أبيه
فإن كان عمر بن شبة رواه كما ذكر الحافظ فهو خطأ منه بلا شك، فقد خالفه في ذلك: الإمام أحمد، وسعيد بن منصور، وابن أبي خيثمة، وإن لم يكن رواه كذلك، فيكون الحافظ وهم من اسم عمر بن العلاء إلى العلاء بن عبد الرحمن.
فالحديث: رواه الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا سُريج، قال: حدثنا فُليح، عن عمر بن العلاء الثقفي، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون).
والقول أن مكة محفوظة من الطاعون ليس بصحيح، وفيما يلي بيان ذلك:
أولا: أن هذا الحديث ضعيفٌ لا حجَّة فيه.
ففي إسناده:
1 – عمر بن العلاء بن جارية الثقفي وأبوه، وهما مجهولان.
ذكرهما البخاري وابن أبي حاتم ([2])، وسكتا عنهما، وذكرهما ابن حبان في الثقات ([3]).
ولم أقف على من وثقهما من أهل العلم.
قال ابن أبي حاتم: “عمر بن العلاء الثقفي مديني، روى عن أبيه عن أبي هريرة، روى عنه فليح بن سليمان، سمعت أبي يقول ذلك”.
وقال: “وقلت لأبي: هو أخو الأسود بن العلاء، فقال: لا أدري، هو شيخ مديني”
(2) -فُليح بن سليمان المدني، متكلَّم في حفظه وضبطه، وضعَّفه كثير من الأئمة.
فهو وإن أخرج له الأئمة الستة، فقد تُكلم فيه، “فضعفه: النسائي، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، ويحيى القطان، والساجي، وقال الدارقطني وابن عدي: لا بأس به” ([5]).
ثانياً: أن الحديث رواه الشيخان والإمام مالك في الموطأمن حديث نُعيم بن عبد الله المُجْمِر عن أبي هريرة بلفظ: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) ([10]).
ورواه أحمد من حديث ذكوان السمَّان عن أبي هريرة بلفظ: (على أبواب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال) ([11]).
ورواه البخاري من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، قال: ولا الطاعون إن شاء الله) ([12]).
ولذا قال الحافظ ابن كثير عن رواية أحمد: “هذا غريبٌ جدًا، وذِكْرُ مكة في هذا ليس بمحفوظ، أو ذِكْرُ الطاعون، والله أعلم”.
البداية والنهاية (19/ 189).
وقال ابن الملقن: “ورد بإسنادٍ ضعيفٍ أنها لا يدخلها طاعون أيضًا”.
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (12/ 531).
ثالثاً: أن الحديث –على فرض ثبوته- ليس صريحًا في نفي دخول الطاعون إلى مكة.
فقد تابع الإمامَ أحمد في روايته عن سريج بن النعمان: ابنُ أبي خيثمة، ولكن بلفظ: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، المدينة على كل نقبٍ منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون) تاريخ ابن أبي خيثمة – السفر الثالث- (1/ 146).
وهي ظاهرة في أنَّ النفي خاصٌ بالمدينة.
وأما رواية أحمد فمحتملة، ولفظها: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون) ([16]).
فيتحمل أن يكون الضمير عائدًا للمدينة فقط، بدلالة إفراد كلمة (منها) ولم يقل منهما.
قال السمهودي: ” كذا هو لا يدخلها بالأفراد، فيحتمل عودها للمدينة فقط”
رابعاً: أن الواقع يؤكد ضعف هذا الحديث، فقد وقع الطاعون في مكة في بعض الأزمنة، خلافًا للمدينة فلم يقع فيها الطاعون قط.
قال ابن تغري بردي: “فيها أعني (سنة تسع وأربعين كان الوباء العظيم … وعمّ الدنيا حتى دخل إلى مكّة المشرّفة، ثم عمّ شرق الأرض وغربها، فمات بهذا الطاعون بمصر والشام وغيرهما خلائق لا تحصى
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة (10/ 233).
وقال برهان الدين الحلبي عن المدينة: “ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين، وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة” السيرة الحلبية (2/ 119).
وقد أقر الحافظ ابن حجر بوقوع هذا الطاعون في هذا العام، ونقل عن شهاب الدين بن أبي حجلة قوله: “أن مكة لم يدخلها الطاعون قط، إلا هذه المرة، فمات بها خلق كثير من أهلها والمجاورين بالطاعون، وتواتر النقل بذلك”.
بذل الماعون في فضل الطاعون (ص379).
لكنه في الفتح حاول التشكيك في تسميته طاعوناً
خامساً: المنفي في هذه الأحاديث هو دخول الطاعون لا الوباء، والطاعون أخص من الوباء، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، ولذا فالنصوص الشرعية لا تدل على امتناع دخول الأوبئة إلى المدينة النبوية حفظها الله من كل سوء. انتهى كلام الباحث
ذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ الطاعون وباء خاص، لا تدخل فيه باقي الأوبئة المُعدية.
وإذا لم تَدخل، فالفضل الوارد فيه يَخصُّه وحدَه.
حيث قال الفقيه ابن حَجَر الهَيتمي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (4/ 11):
«وعِبارته: “الوباء غير الطاعونِ، والطّاعون أَخَصُّ مِن الوباء … ”.
ويدل على الفرق
أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن لأُمَّته ما هو الطاعون، فخرَج بهذا التبيين كل وباء ليس على صفته.
حيث أخرج الإمام أحمد (26182 و 25118)، وأبو يَعلَى (4408)، عن أُمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((«فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْإِبِلِ، الْمُقِيمُ فِيهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ»)).
وأخرجه ابن الأعرابي في “مُعجمه” (2456)، مِن طريق آخَر، عن عائشة، بلفظ:
((غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ تَخْرُجُ بَيْنَ الْآبَاطِ وَالْمَرَاقِّ)).
وقد صحَّح الحديث:
ابن خُزيمة، وأبو العباس البوصيري، والسيوطي، والألباني، وغيرهم.
وحسَّن إسناده أو جوَّده:
المُنذري، وأبو الفضل العراقي، وابن حَجَر العسقلاني، وأبو بكر الهيثمي، وابن حَجَر الهيتمي، وغيرهم.
وقال الحافظ ابن عبد البَر المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار” (8/ 315 – 316):
«وقد جاء تفسير الطاعون في حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إِنَّ فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، قَالَتْ: أَمَا الطَّعْنُ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، تَخْرُجُ فِي الْمَرَاقِ وَالْآبَاطِ، مَنْ مَاتَ مِنْهُ مَاتَ شَهِيدًا»))».اهـ
وقال ــ رحمه الله ــ أيضًا (26/ 71)، عن غُدَّة الطاعون:
«وقد تَخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث شاء الله مِن البَدن».اهـ
قال الحافظ ابن حجر: “وقد وقع فيها الوباء بالموت الكثير في زمن عمر رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري من طريق أبي الأسود الدؤلي قال: (أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، وهم يموتون موتا ذريعًا) … ، وأما الطاعون فلم يُنقل قط أنه وقع بها من الزمان النبوي إلى زماننا هذا، ولله الحمد”.
بذل الماعون (ص104).
وقال ابن القيم: “الطاعون – من حيث اللغة -: نوعٌ من الوباء، قاله صاحب الصحاح، وهو عند أهل الطب: ورمٌ رديءٌ قتَّال يخرج معه تلهُّبٌ شديدٌ مؤلمٌ جدًا يتجاوز المقدار في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد، ويئول أمره إلى التقرُّح سريعًا، وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع: في الإبط، وخلف الأذن والأرنبة، وفي اللحوم الرَّخوة …
قال الأطباء: إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة، والمغابن، وخلف الأذن والأرنبة، وكان من جنس فاسد: سُمِّي طاعونًا … “.
ثم قال: ” ولما كان الطاعون يكثر في الوباء، وفي البلاد الوبيئة، عُبِّرَ عنه بالوباء، كما قال الخليل: (الوباء: الطاعون، وقيل: هو كل مرض يعم).
والتحقيق: أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكلُّ طاعونٍ وباءٌ، وليس كلُّ وباءٍ طاعونًا، وكذلك الأمراض العامَّة أعمُّ من الطاعون فإنَّه واحدٌ منها”
زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 35).
وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (ذ4/ 204):
«وأمَّا الطاعون، فهو:
قُروح تَخرج فى الجسد، فتكون فى المرافق، أو الآباط، أو الأيدى، أو الأصابع، وسائر البَدن، ويكون معه ورَم وألم شديد، وتخرج تلك القُروح مع لَهِيب ويَسوَد ما حواليه أو يَخضَر أو يَحمَر حُمرة بنفسجية، كدُرَّة، ويحصل معه خفقان القلب والقَيء.
وأمَّا الوباء، فقال الخليل، وغيره: هو الطاعون، وقال هو كل مرض عام.
والصَّحيح الذى قاله المُحققون …
قالوا: وكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا.
والوباء الذى وقع فى الشام فى زمَن عمر كان طاعونًا، وهو طاعون عمواس، وهي قرية معروفة بالشام».اهـ
وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بَذْل الماعون في فضل الطاعون” (ص:104 – 105):
«ويُفارق الطاعون الوباء بخصوص سَببه الذي لم يَرد في شيء مِن الأوباء نظيره، وهو كونه مِن طعن الجن.
وهو عندي لا يُخالف قول الأطباء: “مِن كونه يَنشأ عن مادة سُمِّية أو هيجان الدم أو انصبابه إلى عضو أو غير ذلك”، لأنَّه لا مانع أنَ ذلك يَحدُث عن الطعنة الباطنة، فيحدث مِنها المادة السُّمية، أو يَهيج بسببها الدم، أو ينصب.
فللأطباء إذ لم يتعرَّضوا لكونه مِن طعن الجن معذرة، لأنَّ ذلك أمْرٌ لا يُدرَك بالعقل، ولا بالتجرُبة، وإنَّما تلقيناه مِن خبَر الشارع، فتكلموا على ما نشأ مِن ذلك الطعن بقدر ما اقتضته قواعد علمهم».اهـ
والحاصل:
أنَّ الثابت في السنة النبوية الصحيحة: نفي دخول الطاعون إلى المدينة، “فلم تزل محفوظة منه مطلقًا في سائر الأعصار، كما جزم به ابن قتيبة، وتبعه جمعٌ جمٌّ من آخرهم النوويّ”
خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (1/ 155).
وأما الأوبئة فلا يوجد ما يدل على امتناع دخولها للمدينة.
وليس في النصوص الشرعية ما يدل على امتناع دخول الطاعون -فضلا عن الأوبئة- إلى مكة.
نسأل الله أن يحميها وسائر بلاد المسلمين من الطاعون ومن كل وباء.
والله أعلم
تنبيه: كون مرض كورونا دخل المدينة لا يعني الطعن في الحديث فكورونا من الأوبئة وليس طاعونا.