(453) و (454) و (455) و (456) و (457) و (458) و (459) و (460) و (461) و (462) عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘-
(54) – باب فضل البكاء من خشية الله تَعَالَى وشوقًا إِليه
قَالَ الله تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: (109)] وقال تَعَالَى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم: (59)، (60)].
قوله (باب فضل البكاء من خشية الله تَعَالَى وشوقًا إِليه) قال ابن علان:” أشار المصنف بالترجمة إلى أن الداعي للبكاء إما أن يكون خشية لما علم العارف من عظم جلال مولاه، وإما شوقًا لما كشف له مما تقصر العبارة عن بيان أدناه، فضلًا عن أقصاه” (دليل الفالحين (681) / (2))
البكاء من خشية الله ثمرة الخوف
والبكاء شوقا إليه ثمرة الرجاء
{وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ((109))} اثنى الله عزوجل على الذي يبكون من خشيته.
جَمْعُ ذَقْن، وَهُوَ أَسْفَلُ الْوَجْهِ (تفسير ابن كثير) قال ابن عثيمين:” (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ) يعني عليها، والمراد المبالغة في السجود، حتى تكاد أذقانهم تضرب بالأرض من شدة المبالغة في سجودهم” (شرح رياض الصالحين (3) / (344))
قال القرطبي:” ابن خويز منداد: ولا يجوز السُّجُودُ عَلَى الذَّقَنِ. لَأَنَّ الذَّقَنَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْوَجْهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالشَّيْءِ عَمَّا جَاوَرَهُ وَبِبَعْضِهِ عَنْ جَمِيعِهِ”
قال الطبري:” يقول تعالى ذكره: ويخرّ هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان، إذا يُتْلَى عليهم القرآن لأذقانهم يبكون، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا، يعني خضوعا لأمر الله وطاعته، واستكانة له. (تفسير الطبري)
قال ابن كثير:” وَقَوْلُهُ: {وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ} أَيْ: خُضُوعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَيَزِيدُهُمُ اللَّهُ خُشُوعًا، أَيْ: إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ: (17)].”
قال القرطبي:” هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي صِفَتِهِمْ وَمَدْحٌ لَهُمْ. وَحُقَّ لِكُلِّ مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ وَحَصَلَ مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَيَخْشَعَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعَ وَيَذِلَّ. وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنِ التَّيْمِيِّ قَالَ: مَنْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُبْكِهِ لَخَلِيقٌ أَلَّا يَكُونَ أُوتِيَ عِلْمًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَعَتَ الْعُلَمَاءَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وقال أيضا:” قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَبْكُونَ} دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُهَا وَلَا يَضُرُّهَا”
قال ابن تيمية:” الْخُرُورِ عَلَى الذَّقَنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخُرُورِ إلْصَاقَ الذَّقَنِ بِالْأَرْضِ كَمَا تُلْصَقُ الْجَبْهَةُ وَالْخُرُورُ عَلَى الذَّقَنِ هُوَ مَبْدَأُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودُ مُنْتَهَاهُ فَإِنَّ السَّاجِدَ يَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا عَلَى ذَقَنِهِ لَكِنَّهُ يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ وَالذَّقَنُ آخِرُ حَدِّ الْوَجْهِ وَهُوَ أَسْفَلُ شَيْءٍ مِنْهُ وَأَقْرَبُهُ إلَى الْأَرْضِ. فَاَلَّذِي يَخِرُّ عَلَى ذَقَنِهِ يَخِرُّ وَجْهُهُ وَرَاسُهُ خُضُوعًا لِلَّهِ” (مجموع الفتاوى)
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ} يَعْنِي: اسْتِهْزَاءً {وَلَا تَبْكُونَ} مِمَّا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ (تفسير البغوي)
قال الشوكاني:” وبَّخَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ فَقالَ: {أفَمِن هَذا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} المُرادُ بِالحَدِيثِ القُرْآنُ: أيْ كَيْفَ تَعْجَبُونَ مِنهُ تَكْذِيبًا.
وتَضْحَكُونَ مِنهُ اسْتِهْزاءً مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَحَلٍّ لِلتَّكْذِيبِ ولا مَوْضِعٍ لِلِاسْتِهْزاءِ ولا تَبْكُونَ خَوْفًا وانْزِجارًا لِما فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ”
قال ابن باز:” حث على البكاء من خشية الله عزوجا واستنكر عليهم عملهم من الضحك وعدم البكاء من خشيته جل وعلا، فإن المؤمن إذا تلا هذا الكتاب العظيم وسمع براهين الله وحججه أوجب له ذلك الخشوع لله والحذر من غضبه والبكاء من خشيته: أَفَمَنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَمِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا؛ فالمؤمن ينبغي له أن يتدبر هذا الكتاب العظيم ويتعقل بما فيه من الزواجر والعظات والتكرار حتى يرق قلبه وحتى تدمع عينه وهكذا ما جاءت به السُّنَّة الصحيحة عن الرسول الله من الوعيد والوعد كل ما يحرك القلوب ويذكرها بالله عزوجل. (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 193)
(453) – وعَن أبي مَسعودٍ – رضي الله عنه- قالَ: قَالَ لي النبيُّ ?: «اقْرَأْ علَّي القُرآنَ» قلتُ: يَا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟، قالَ: «إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فقرَأْتُ عَلَيْهِ سورَةَ النِّساء، حَتَّى جِئْتُ إِلى هذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيدًا} [الآية: (41)] قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتَّ إِليْهِ. فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ “. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: ” إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي “. فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} رَفَعْتُ رَاسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَاسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ.
(اقْرَأْ علَّي القُرآنَ) فيه فضل ابن مسعود رضي الله عنه، قال النووي:” استحباب طلب القراءة من غيره ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه تواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم.”
(وعليك أنزل) قال القاري:” جريان الحكمة على لسان الحكيم أحلى، وكلام المحبوب على لسان الحبيب أولى.” (مرقاة المفاتيح)
(إني أحب أن أسمعه من غيري) قال ابن بطال: يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره؛ ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره، ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو ? على أبي بن كعب، فإنه أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة، ومخارج الحروف، ونحو ذلك.
قال ابن علان:” لكونه أبلغ من التفهيم والتدبير لأن القلب حينئذٍ يخلص لتعلق المعاني والقاراء مشغول بضبط الألفاظ وأدائها حقها ولأنه اعتاد سماعه من جبريل والعادة محبوبة بالطبع، ولهذا كان عرض القرآن على الغير سنة”
(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيدًا) قال ابن باز:” يعني: جئنا بك يا محمد على هؤلاء، على أمته عليه الصلاة والسلام شهيداً أنه بلغهم وأنذرهم وأمرهم ونهاهم” (شرح رياض الصالحين (2) / (194))
قال القرطبي:” احتج به أهل التجويد على جواز الوقف الكافي من الآي، والمقاطع؛ لأن الكلام حيث قال له: حسبك، غير تام، بل تمامه فيما بعده. وقد قيل: إن قوله لعبد الله: حسبك تنبيه على ما في الآية، لا أنه وقفه هناك.” (المفهم)
قال ابن باز:” اعتياد الكثير من الناس أن يقولوا: صدق الله العظيم عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم وهذا لا أصل له، ولا ينبغي اعتياده بل هو على القاعدة الشرعية من قبيل البدع إذا اعتقد قائله أنه سنة، فينبغي ترك ذلك وأن لا يعتاده لعدم الدليل.
وأما قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فليس في هذا الشأن، وإنما أمره الله عزوجل أن يبين لهم صدق الله فيما بينه في كتبه العظيمة من التوراة وغيرها، وأنه صادق فيما بينه لعباده في كتابه العظيم القرآن، ولكن ليس هذا دليلا على أنه مستحب أن يقول ذلك بعد قراءة القرآن أو بعد قراءة آيات أو قراءة سورة؛ لأن ذلك ليس ثابتًا ولا معروفًا عن النبي ? ولا عن صحابته رضوان الله عليهم …. لم ينقل أحد من أهل العلم فيما نعلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: صدق الله العظيم بعد ما قال له النبي ?: حسبك والمقصود أن ختم القرآن بقول القارئ صدق الله العظيم ليس له أصل في الشرع المطهر، أما إذا فعلها الإنسان بعض الأحيان لأسباب اقتضت ذلك فلا بأس به. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (7/ 333).
قال ابن عثيمين:” والشهداء طائفتان من الناس:
الطائفة الأولى: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: (143)].
والثانية: أهل العلم الذين ورثوا الأنبياء، فإنهم شهداء بعد ميراث الأنبياء بعد أن يموت الأنبياء، فالشهداء على الخلق هم العلماء بعد الرسل يشهدون بأن الرسل بلغوا، ويشهدون على الأمة بأن الرسالة قد بلغتهم، ويالها من ميزة عظيمة لأهل العلم، أن يكونوا هم شهداء الله في أرضه.” (شرح رياض الصالحين (3) / (344))
قال ابن حجر:” قال ابن بطال: إنما بكى صلى الله عليه وسلم عند تلاوته هذه الآية؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق، وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر يحق له طول البكاء. انتهى، والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته؛ لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم وعملهم قد لا يكون مستقيما، فقد يفضي إلى تعذيبهم، والله أعلم.” (فتح الباري)
قال الأتيوبي: “لا تنافي بين ما ذكره ابن بطال رحمه الله من أسباب البكاء، وبين ما استظهره الحافظ رحمه الله، فالأولى أن المجموع أسباب للبكاء، فتأمل”
قال ابن باز:” لا شك أن هذا الموقف عظيم من تذكره وأهواله وشدائده أوجب له ذلك خشية الله – سبحانه – والحذر من غضبه والبكاء من خشيته عزوجل، فينبغي للمؤمن أن يتذكر أسباب الخشوع لله وأسباب البكاء من خشيته حتى تدمع عينه ويرق قلبه.
(454) – وعن أنس، – رضي الله عنه-، قالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّه ? خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقالَ: «لَوْ تعْلمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ?. وُجُوهَهُمْ. ولهمْ خَنِينٌ. متفقٌ عَلَيْهِ. وَسَبَقَ بيَانُهُ في بابِ الخَوفِ.
(455) – وعن أبي هريرةَ – رضي الله عنه-، قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ ?: «لاَيَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع وَلا يَجْتَمعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّه ودُخانُ جَهَنَّمَ» رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
فيه فضل البكاء من خشية الله. ومن بكى من خشية الله سينجو من النار.
قوله: (لا يلج) من الولوج أي لا يدخل. (تحفة الأحوذي)
(رجل بكى من خشية الله)
فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية. (تحفة الأحوذي)
قال ابن علان:” من فيه تعليلية: أي لخشية الله الداعية إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي” (دليل الفالحين)
(حتى يعود اللبن في الضرع)
هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} (تحفة الأحوذي)
كما أن للبن إذا خرج من الضرع لا يعود كذلك من بكى من خشية الله لا يدخل النار.
(ولا يجتمع غبار في سبيل الله)
أي في الجهاد.
فيه فضل الجهاد في سبيل الله.
(ودخان جهنم)
فكأنهما ضدان لا يجتمعان.
فيه أن جهنم لها دخان.
مما جاء عن السلف في أمر البكاء من خشيت الله:
عن عطاء قال: كُنْتُ أَصْنَعُ الكُحْلَ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وَكَانَ يُطْفِئُ السِّرَاجَ بِاللَّيْلِ، ثُمَّ يَبْكِي حَتَّى رَسِعَتْ عَيْنَاهُ. (سير أعلام النبلاء)
رسعت عيناه: أي تغيرت وفسدت والتصقت؟ أجفانها.
عَنْ يَعْلَى بنِ عَطَاءٍ، عَنْ أُمِّهِ: أَنَّهَا كَانَتْ تَصْنَعُ الكُحْلَ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو.
وَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ البُكَاءِ، يُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَهُ وَيَبْكِي، حَتَّى رَمِصَتْ عَيْنَاهُ.
عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوْبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} [الحَدِيْدُ: (16)] بَكَى حَتَّى يَغْلِبَهُ البُكَاءُ.
عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَسفَلَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ البَالِي مِنَ البُكَاءِ.
عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، قَالَ: لأَنْ أَبْكِي مِنْ خَشْيَةٍ، أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا.
إِبْرَاهِيْمُ بنُ عِيْسَى اليَشْكُرِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَطْوَلَ حُزْنًا مِنَ الحَسَنِ، مَا رَأَيْتُهُ إِلاَّ حَسِبْتُهُ حَدِيْثَ عَهْدٍ بِمُصِيْبَةٍ.
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ:
أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَائِمٌ يُصَلِّي، إِذِ اسْتَبْكَى، فَكَثُرَ بُكَاؤُهُ، حَتَّى فَزِعَ لَهُ أَهْلُه، وَسَأَلُوْهُ؟ فَاسْتَعجَمَ عَلَيْهِم، وَتَمَادَى فِي البُكَاءِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِي حَازِمٍ، فَجَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا الَّذِي أَبكَاكَ؟
قَالَ: مَرَّتْ بِيَ آيَةٌ.
قَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: {وَبَدَا لَهُم مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُوْنُوا يَحْتَسِبُوْنَ}.
فَبَكَى أَبُو حَازِمٍ مَعَهُ، فَاشتَدَّ بُكَاؤُهُمَا.
وَقَالَ الوَاقِدِيُّ: كَانَ يزيد بن أبي سلمة مِنَ العُبَّادِ، يُصَلِّي اللَّيلَ كُلَّه وَيَبْكِي، وَكَانَ مَعَهُ فِي الدَّارِ يَهُوْدِيَّةٌ، فَتَبكِي رَحْمَةً لَهُ.
فَقَالَ مَرَّةً فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ هَذِهِ يَهُوْدِيَّةٌ بَكَتْ رَحْمَةً لِي، وَدِيْنُهَا مُخَاِلفٌ لِدِيْنِي، فَأَنْتَ أَوْلَى بِرَحْمَتِي.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ وَقْعَ دُمُوْعِ سَعِيْدِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ عَلَى الحَصِيْرِ فِي الصَّلاَةِ.
مَاتَ البُخَارِيُّ فَلَمْ يُخَلِّفْ بِخُرَاسَانَ مِثْلَ أَبِي عِيْسَى، فِي العِلْمِ وَالحِفْظِ، وَالوَرَعِ وَالزُّهْدِ، بَكَى حَتَّى عَمِي، وَبَقِيَ ضَرِيْرًا سِنِيْنَ.
عَنْ سُفْيَانَ الثوري قَالَ: البُكَاءُ عَشْرَةٌ أَجزَاءٍ: جُزْءٌ للهِ، وَتِسْعَةٌ لِغَيْرِ اللهِ، فَإِذَا جَاءَ الَّذِي للهِ فِي العَامِ مَرَّةً، فَهُوَ كَثِيْرٌ.
قَالَ سَهْلُ بنُ رَاهْوَيْه: قُلْتُ لابْنِ عُيَيْنَةَ:
أَلاَ تَرَى إِلَى الفُضَيْلِ، لاَ تَكَادُ تَجِفُّ لَهُ دَمْعَةٌ؟
قَالَ: إِذَا قَرِحَ القَلْبُ، نَدِيَتِ العَيْنَانِ.
قال الحسن بن عرفة العبدي:”رأيت يزيد بن هارون بواسط، وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد عمي، فقلت له: يا أبا خالد! ما فعلت العينان
الجميلتان؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
(456) – وعنه قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ?: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى. وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ. وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه. اجتَمَعا عَلَيهِ. وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ. فَقَالَ: إِنّي أَخافُ اللَّه. ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ. ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفقٌ عَلَيْهِ
سبق معنا في باب الحب في الله
(457) – وعَن عبد اللَّه بنِ الشِّخِّير. – رضي الله عنه-. قَالَ: أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه ? وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ.
حديث صحيح رواه أَبو داود. والتِّرمذيُّ في الشَّمائِل بإِسنادٍ صحيحٍ.
قوله (أزيز)
بزاءين معجمتين ككريم أي حنين من الخشية. وهو صوت البكاء قيل وهو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. (حاشية السندي على النسائي)
(والمرجل)
بكسر الميم إناء يغلى فيه الماء. (حاشية السندي على النسائي)
وهو بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم قدر من نحاس وقد يطلق على قدر يطبخ فيها ولعله المراد في الحديث. قال الطيبي: أزيز المرجل صوت غليانه ومنه الأز وهو الإزعاج.
قلت: ومنه قوله تعالى {تؤزهم أزا} وقيل: المرجل القدر من حديد أو حجر أو خزف لأنه إذا نصب كأنه أقيم على الرجل قاله في المرقاة. (عون المعبود)
في رواية (وفي صدره أزيز كأزيز الرحى) كأزيز الرحى يعني الطاحون. قال الخطابي: أزيز الرحى صوتها وحرحرتها (عون المعبود)
تنبيه رواية أبي داود الرحى، ورواية النسائي المرجل.
يعني: من البكاء، والرحى عندما يطحن بها يصدر لها صوت. (شرح سنن ابي داود للشيخ عبدالمحسن العباد)
قال بدر الدين العيني:” واستدل صاحب» المحيط «من أصحابنا بهذا الحديث، أن المصلي ينبغي أن يخشع، ويكون قلبه فيها على الخوف من عدله، والرجاء في فضله، ومن لازم الخوف الشديد في القلب: البكاء عادةً، فإذا بكى في صلاته من ذلك الوجه من غير أن يعلو بصوته فلا بأس، أو بكى من اشتياقه إلى الجنة، أو خوفه من النار، ويكره أن يَبكِي لمُصيبة لحقته، أو لذِكر موتاه، ونحو ذلك.” (شرح سنن أبي داود للعيني)
وفي الحديث دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة سواء ظهر منه حرفان أم لا، وقد قيل: إن كان البكاء من خشية الله لم يبطل وهذا الحديث يدل عليه ويدل عليه أيضا ما رواه ابن حبان بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: {ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح} وبوب عليه ذكر الإباحة للمرء أن يبكي من خشية الله. واستدل على جواز البكاء في الصلاة بقوله تعالى {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} (عون المعبود)
صححه الألباني في صفة الصلاة
قال الشيخ عبدالمحسن العباد:” إذا بكى الإمام في الصلاة وبسبب بكائه أبكى فهذا لا يؤثر، مادام أنه ليس فيه تكلف، وهذا مثل المرأة الصحابية التي جاءها بعض الصحابة وزاروها فهيجتهم على البكاء، وجعلتهم يبكون سجية بغير تكلف.” (شرح سنن أبي داود)
قال ابن القيم:” وأما بكاؤه ? فكان من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويسمع لصدره أزيز. وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية. ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال: («تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون»)، وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض، (وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: (41)] [النساء: (41)]، وبكى لما مات عثمان بن مظعون، وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته، وجعل ينفخ ويقول: («رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم
وهم يستغفرون ونحن نستغفرك») وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته، وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل ” (زاد المعاد)
(458) – وعن أَنسٍ رضي الله عنه. قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ?، لأَبِيِّ بنِ كَعْبٍ. رضي الله عنن «إِنَّ اللَّه عزوجل أَمْرَني أَنْ أَقْرَأَ علَيْكَ: لَمْ يَكُن الَّذِينَ كَفَرُوا» قَالَ: وَسَمَّاني؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَبَكى أُبَيٌّ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكي.
وفي رواية عند البخاري آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: ” اللَّهُ سَمَّاكَ لِي “. فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.
وفي رواية أخرى عند البخاري آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: ” نَعَمْ “. قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: ” نَعَمْ “. فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
قال النووي: “وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْحُذَّاقِ فِيهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَالْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْمَنْقَبَةُ الشَّرِيفَةُ لِأُبَيٍّ بِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ ? عَلَيْهِ وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ شَارَكَهُ فِي هَذَا وَمِنْهَا مَنْقَبَةٌ أُخْرَى لَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَنَصِّهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ وَمِنْهَا الْبُكَاءُ لِلسُّرُورِ وَالْفَرَحِ مِمَّا يُبَشَّرُ الْإِنْسَانُ بِهِ وَيُعْطَاهُ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ وَأَمَّا قَوْلُهُ آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أمر النَّبِيَّ ? يَقْرَأُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى أُبَيٍّ فَأَرَادَ أُبَيٌّ أَنْ يَتَحَقَّقَ هَلْ نَصَّ عَلَيْهِ أَوْ قَالَ عَلَى رَجُلٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الِاسْتِثْبَاتُ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْحِكْمَةِ فِي قِرَاءَتِهِ ? عَلَى أُبَيٍّ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ سَبَبَهَا أَنْ تَسْتَنَّ الْأُمَّةُ بِذَلِكَ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى أَهْلِ الْإِتْقَانِ وَالْفَضْلِ وَيَتَعَلَّمُوا آدَابَ الْقِرَاءَةِ وَلَا يَانَفَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى جَلَالَةِ أُبَيٍّ وَأَهْلِيَّتِهِ لِأَخْذِ الْقُرْآنِ عنه وكان بعده ص رَاسًا وَإِمَامًا فِي إِقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَجَلُّ نَاشِرَتِهِ أَوْ مِنْ أَجَلِّهِمْ وَيَتَضَمَّنُ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ ? وَأَمَّا تَخْصِيصُ هَذِهِ السُّورَةِ فَلِأَنَّهَا وَجِيزَةٌ جَامِعَةٌ لِقَوَاعِدَ كَثِيرَةٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَمُهِمَّاتِهِ وَالْإِخْلَاصِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ وَكَانَ الْوَقْتُ يَقْتَضِي
الِاخْتِصَارَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ” (شرح مسلم للنووي)
قال النووي:”
الحكمة في أمره بالقرا ءة عَلَى أُبَيٍّ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي هِيَ أَنْ يَتَعَلَّمَ أُبَيٌّ أَلْفَاظَهُ وَصِيغَةَ أَدَائِهِ وَمَوَاضِعَ الْوُقُوفِ وَصُنْعَ النَّغَمِ فِي نَغَمَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أُسْلُوبٍ أَلِفَهُ الشَّرْعُ وَقَدَّرَهُ بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ مِنَ النَّغَمِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي غَيْرِهِ وَلِكُلٍّ ضَرْبٌ مِنَ النَّغَمِ مَخْصُوصٌ فِي النُّفُوسِ فَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ وَقِيلَ قَرَأَ عَلَيْهِ لِيَسُنَّ عَرْضَ الْقُرْآنِ عَلَى حُفَّاظِهِ الْبَارِعِينَ فِيهِ الْمُجِيدِينَ لِأَدَائِهِ وَلِيَسُنَّ التَّوَاضُعَ فِي أَخْذِ الْإِنْسَانِ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ وَالشُّهْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِيُنَبِّهَ النَّاسَ عَلَى فَضِيلَةِ أُبَيٍّ فِي ذَلِكَ وَيَحُثَّهُمْ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ وَكَانَ كَذَلِكَ فَكَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ ? رَأْسًا وَإِمَامًا مَقْصُودًا فِي ذَلِكَ مَشْهُورًا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انتهى (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” وفي تخصيص أبي بن كعب التنويه به في أنه أقرأ الصحابة، فإذا قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم منزلته كان غيره بطريق التبع له” (فتح الباري)
(فبكى) وقال النووي: أما بكاؤه فبكاء سرور، واستصغار لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة، وإعطائه هذه المنزلة، والنعمة فيها من وجهين:
أحدهما: كونه منصوصا عليه بعينه، ولهذا قال: «وسماني»: معناه: نص علي بعيني، أو قال: اقرأ على واحد من أصحابك؟ قال: بل سماك، فتزايدت النعمة.
والثاني: قراءة النبي ?، فإنها منقبة عظيمة له، لم يشاركه فيها أحد من الناس.
وقيل: إنما بكى خوفا من تقصيره في شكر هذه النعمة.
قال ابن حجر:” فبكى أبي إما فرحا وسرورا بذلك، وإما خشوعا وخوفا من التقصير في شكر تلك النعمة. (فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” هذا البكاء يحتمل أن يكون شوقا إلى الله عزوجل؛ لأن أمر نبيه ? أن يقرأ هذه السورة على أبي تدل على رفعة أبي بن كعب رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون ذلك من الفرح؛ فإن الإنسان ربما يبكي إذا فرح، كما أنه يبكي إذا حزن.” (شرح رياض الصالحين)
قال ابن باز:” فَبَكَى أَبَي له تعظيماً الله وخشية له الا الله، هذا يبين لنا فضل ذلك، وأن البكاء من خشية الله من خصال الأخيار، فينبغي للمؤمن أن يتعاطى أسباب ذلك وأن يحرص على أسباب ذلك؛ ليلين قلبه ويخشع قلبه وليتأثر قلبه بطاعة الله.” (شرح رياض الصالحين لابن باز (2) / (200))
قدم هذا الحديث على الحديث الآتي لأن فيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم.
(459) – وعنه قالَ: قالَ أَبو بَكْرٍ لعمرَ، بعدَ وفاةِ رسولِ اللَّه ?: انْطَلِقْ بِنا إِلَى أُمِّ أَيمنَ. نَزُورُها كَمَا كَانَ رسُولُ اللَّه ?، يَزُورُهافَلَمَّا انْتَهَيا إِليْها بَكَتْ فقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّه ?، قالَتْ: إِني لاَ أَبْكِي، أَنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ مَا عنْدَ اللَّه خَيرٌ لِرَسُولِ اللَّه ?، ولكِنِّي أَبْكِي أَنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّماءِ فَهَيَّجَتْهُما عَلى البُكاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيانِ مَعهَا رواهُ مسلم. وقد سبق في بابِ زيارَةِ أَهل الخَيْرِ.
(460) – وعن ابن عمر، قال: «لما اشتد برسول الله ? وجعه قيل له في الصلاة فقال:» مروا أبا بكر فليصل بالناس «فقالت عائشة،: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن غلبه البكاء» فقال: «مروه فليصل».
وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. متفق عليه
جاء في رواية في الصحيحن إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ،
قال السيوطي: “هذا الحديث متواتر، وورد أيضًا من حديث عائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن زمعة، وأبي سعيد، وعلي بن أبي طالب، وحفصة – رضي الله عنهم- وقد سبقت طرقهم في الأحاديث المتواترة.” (تاريخ الخلفاء)
(فقال) ? («مروا أبا بكر) (فليصل بالناس») استدل به على أن الآمر بالأمر بالشيء يكون آمرا به، وهي مسألة معروفة في أصول الفقه، وأجاب المانعون بأن المعنى بلغوا أبا بكر أني أمرته، وفصل النزاع أن النافي إن أراد أنه ليس أمرا حقيقة، فمسلم؛ لأنه ليس فيه صيغة أمر للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزمه فمردود، قاله في «الفتح»
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي القول الثاني (البحر المحيط)
ابن عبدالبر: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَرَادَ الْخِلَافَةَ وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ فَضْلٌ بَيِّنٌ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فِي الْإِمَامَةِ إِلَى الْقِرَاءَةِ وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا الْخِلَافَةَ
قَالَ أَبُو عُمَرَ مَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ? كَانَتْ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا بِحَضْرَتِهِ فَلَمَّا مَرِضَ وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهَا وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ وَوُجُوهُ قُرَيْشٍ وَسَائِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَكِبَارُ الْأَنْصَارِ حُضُورٌ وَقَالَ لَهُمْ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ ? فَارْتَضُوا لِإِقَامَةِ دُنْيَاهُمْ وَأَمَانَتِهِمْ مَنِ ارْتَضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ? لِدِينِهِمْ (الاستذكار)
(فليصل بالناس) أخذ منه أفضلية الصديق على باقي الصحابة الذين هم أفضل من جميع الأمة وأنه الخليفة من بعده، ولذا قال عمر «رجل اختاره النبيّ لديننا ألا نرضاه لدنيانا»
وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا) جملة معترضة بين القول ومقوله، بيّن بها سبب صرفه أمر النبيّ ? عنه إلى عمر – رضي الله عنه-.
قال القرطبيّ: قوله: «رقيقًا» أي رقيق القلب، كثير الخشية، سريع الدَّمعة، وهو الأسيف أيضًا في الحديث الآخر، وحالة الحزين غالبًا الرقّة، والأسيف في غير هذا: العبد، والأسيف أيضًا: الغضبان. انتهى.
(يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ) قال السنديّ: وكأن أبا بكر – رضي الله عنه- رأى أن أمره ? بذلك كان تكرّمًا منه له، والمقصود أداء الصلاة بإمام، لا تعيينُ أنه الإمام، ولم يَدْرِ ما جرى بينه ?، وبين أزواجه في ذلك، وإلا لما كان له تفويض الإمامة إلى عمر. انتهى.
وقال في «الفتح» ما معناه: لم يُرِدْ أبو بكر – رضي الله عنه- بهذا القول ما أرادت عائشة – رضي الله عنها – يعني ما يأتي أنها أرادت أن يصرف ? الإمامة عن أبي بكر؛ لئلا يتشاءم الناس به لو مات النبيّ ?، كما يأتي بعد حديثين -وقال النوويّ رحمه الله: تأوله بعضهم على أن أبا بكر قاله تواضعًا، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور، وهو كونه رقيق القلب، كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس. انتهى.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون – رضي الله عنه- فَهِمَ من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعَلِم ما في تحمُّلها من الخطر، وعَلِم قُوّة عمر على ذلك، فاختاره، ويؤيِّده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه، أو يبايعوا أبا عبيدة بن الجرّاح والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة المتقدمة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه، أو استخلف.
وقال القرطبي: ويستفاد منه أن للمستخلف في الصلاة أن يستخلف، ولا يتوقف على إذن خاص له بذلك.
واستدل به على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدا؛ لأنه ? استخلف أبا بكر – رضي الله عنه-، ولم يصل بهم قاعدا غير مرة واحدة، قاله في «الفتح».
قولها: (رجل أسيف) أي: حزين، وقيل: سريع الحزن والبكاء، ويقال فيه أيضا: الأسوف. (شرح مسلم للنووي)
قوله: (أسيف) بوزن فعيل وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب. ط.
(فتح الباري)
سئل هل يجوز البكاء أثناء الصلاة؟ نعم، إذا غلبه البكاء خشية لله وتعظيمًا له خشوعًا عند القراءة أو سماعها فلا بأس، قد كان النبي ? يبكي وكان الأخيار يبكون، فقد ثبت عنه ? أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء في الصلاة، وكان الصديق رضي الله عنه إذا صلى بالناس لا يسمع صوته من البكاء، وكان يسمع لعمر نشيج البكاء وهو يصلي بالناس رضي الله عنه وأرضاه.
فالمقصود أنه إذا غلبه ذلك ولم يتعمده للرياء وإنما غلبه عند سماع القرآن أو عند قراءة القرآن فإنه لا حرج عليه، ولكنه ينبغي له أن يجاهد نفسه مهما أمكن في عدم التشويش على الناس أو عدم تفهيمهم لكتاب الله عزوجل؛ لأن المقصود الخشوع مع تفهيم الناس كلام الله حتى يستمعوا له ويستفيدون كلام الله عزوجل والذي يغلبه لا يضره، والله ولي التوفيق. نعم.
قال ابن باز:” وفيه من الفوائد أن الصديق رضي الله عنه كان إذا قرأ يبكي من خشية الله جل وعلا، وكان إذا قرأ القرآن يبكي وتدمع عينه لما يجد فيه من الحلاوة والعلم والفضل والخير الكثير، فلهذا يبكي من خشية الله، فدل ذلك على أنه ينبغي لقراء القرآن ولأهل الإسلام إذا قرؤوا هذا الكتاب العظيم أن تكون، لهم عناية بالقراءة والتدبر والخشوع والإقبال على كتاب الله، ليفهموا مراده وليعملوا ما أمرهم به سبحانه وتعالى، وليستفيدوا من كتاب ربهم ولتخشع قلوبهم وتطمئن، وبذلك تدمع العين ويبكي الإنسان من خشية الله عزوجل.”
(461) – وعن إِبراهيمَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ أَنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عَوْفٍ، – رضي الله عنه- أُتِيَ بطَعامٍ وكانَ صائِمًا، فقالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيرٍ، – رضي الله عنه-، وهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَه مَا يُكَفَّنُ فيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ إِنْ غُطِّي بِها رَاسُهُ بَدَتْ رِجْلاُه، وإِنْ غُطِّيَ بِهَا رِجْلاه بَدَا رأْسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيا مَا أُعْطِينَا وقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنا عُجِّلَتْ لَنا. ثُمَّ جَعَلَ يبْكي حَتَّى تَرَكَ الطَّعامَ. رواهُ البخاري
وفي رواية ذُكر حمزة (قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي)
قال الذهبي:”
ابن عبد عَوْف بْن عبد الحارث بْن زُهْرَةَ بْن كِلاب، أَبُو محمد القُرَشِيّ الزُّهْرِيّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشُّورَى
كان تاجرا سعيدا فتح عليه في التجارة وتمول، حتى إنه باع مرة أرضا بأربعين ألف دينار فتصدق بها، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم على خمسمائة راحلة.
وفي «الصحيح» أن النبي ? غاب مرة فقدموا عبد الرحمن يصلي بالناس، فأتى رسول الله ? وهو يصلي بالناس، فأراد أن يتأخر، فأومأ إليه أن اثبت مكانك. فصلى وصلى رسول الله خلفه. وهذه منقبة عظيمة.” إلى غير ذلك من سيرته.
قال الكرماني:” أحد العشرة المبشرة أسلم قديما على يد الصديق وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد وثبت يوم أحد وجرح فيه عشرين جراحة أو أكثر وصلى رسول الله ? خلفه يوم تبوك مات سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالبقيع” (الكواكب الدراري*
قال ابن حجر:” مصعب بن عمير:
بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ بن كلاب العبدري.
أحد السابقين إلى الإسلام، يكنى أبا عبد اللَّه. قال أبو عمر: أسلم قديما والنبيّ ? في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فعلمه عثمان بن طلحة، فأعلم أهله فأوثقوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة فهاجر إلى المدينة وشهد بدرا، ثم شهد أحدا ومعه اللواء فاستشهد.” (الاصابة في تمييز الصحابة
قال الكرماني:” كان من جملة الصحابة بعثه رسول الله ? إلى المدينة يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين وهو أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة وكان في الجاهلية من أنعم الناس عيشا وألينهم لباسا وأحسنهم جمالا فلما أسلم زهد في الدنيا وتقشف وتحشف وفيه نزل (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) قتل يوم أحد شهيدا” (الكواكب الدراري)
– وكان مصعب رجلا شابا، كان عند والديه بمكة وكان والداه أغنياء، وأمه وأبوه يلبسانه من خير اللباس: لباس الشباب والفتيان، وقد دللاه دلالا عظيما، فلما أسلم هجراه وأبعداه، وهاجر مع النبي ?، فكان مع المهاجرين، وكان عليه ثوب مرقع بعدما كان في مكة عند أبويه يلبس أحسن الثياب، لكنه ترك ذلك كله مهاجرا إلى الله ورسوله.
وأعطاه النبي ? الراية يوم أحد، فاستشهد، وكان معه بردة- أي ثوب- إذا غطوا به رأسه بدت رجلاه- وذلك لقصر الثوب- وإن غطوا رجليه بدا رأسه، فأمر النبي ? أن يستر به رأسه وأن تستر رجلاه بالإذخر؛ نبات معروف.
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (3) / (352)
(وكان صائمًا) جملة في محل الحال وأتى بها لبيان كماله أنه مع توفر الداعي لتناول الطعام تركه لما صرفه عنه مما يخاف منه أن يكون مؤخرًا له عن الدرجات العلا. (دليل الفالحين (2) / (689))
قوله: (ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط) يشير إلى ما فتح لهم من الفتوح والغنائم وحصل لهم من الأموال، وكان لعبد الرحمن من ذلك الحظ الوافر. (فتح الباري)
قال ابن حجر:” وفي قول عبد الرحمن بن عوف ” وهو خير مني “. دلالة على تواضعه. وفيه إشارة إلى تعظيم فضل من قتل في المشاهد الفاضلة مع النبي صلى الله عليه وسلم”. (فتح الباري)
هذا من تواضعه وكمال فضله وإلا فأفضل الصحابة العشرة الذين منهم ابن عوف (دليل الفالحين)
قال ابن حجر:” وفي الحديث فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا لئلا تنقص، حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله: ” خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت “.
قال ابن بطال: وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها قال: وكان بكاء عبد الرحمن شفقا أن لا يلحق بمن تقدمه.
قال ابن باز:” جاءتهم الغنائم والخيرات في عهد عمر وعهد عثمان وفتحت الدنيا على الناس فخاف عبدالرحمن، وقال: إني أخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا وجعل يبكي وترك الطعام رضي الله عنه، هذا مما يبين أنه ينبغي للمؤمن أن يكون على باله الحذر والخشية الله عزوجل، وأن تدمع عينه عند وجود الأسباب المقتضية لذلك.” (شرح رياض الصالحين (2) / (203))
ثم قال عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه-: ” قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا”؛ لأن الكافر يجزى على حسناته في الدنيا، وله في الآخرة عذاب النار، والمؤمن قد يجزى في الدنيا وفي الآخرة، لكن جزاء الآخرة هو الأهم.
فخشي – رضي الله عنه- أن تكون حسناتهم قد عجلت لهم في هذه الدنيا، فبكى خوفا وفرقا، ثم ترك الطعام.
ففي هذا دليل على البكاء من خشية الله ومخافة عقابه. (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (3) / (353))
(462) – وعن أَبي أُمامة صُدَيِّ بْنِ عَجلانَ الباهِليِّ، ?، عن النبيِّ ? قَالَ: «لَيْسَ شَيءٌ أَحَبَّ إِلى اللَّه تَعَالَى مِنْ قَطْرَتَين. وأَثَرَيْنِ: قَطْرَةُ دُمُوعٍ مِنْ خَشيَةِ اللَّه وَقَطرَةُ دَمٍ تُهرَاقُ في سَبِيلِ اللَّه تعالى، وَأَمَّا الأَثَرَانِ فَأَثَرٌ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرٌ في فَرِيضَةٍ منْ فَرَائِضِ اللَّه تَعَالَى» رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.
وحسنه الألباني في صحيح الترغيب
وفي البابِ أحاديثُ كثيرةٌ، منها:
حديث العْرباض بنِ ساريةَ. – رضي الله عنه-، قَالَ: وعَظَنَا رسُول اللَّه ? مَوْعِظَةً وَجِلَتْ منها القُلُوبُ، وذَرَفْت منْهَا العُيُونُ”. وقد سبق في باب النهي عن البدع. يحكي حال الصحابة عند الموعظة.
من قطرتين) بفتح القاف وهي كما في «المصباح» النقطة (وأثرين) بفتح الهمزة والثاء المثلثة هي ما بقي من الشيء دلالة عليه (دليل الفالحين)
(وَأَثَرَيْنِ): أَيْ خُطْوَتَيْنِ. (مرقاة المفاتيح للقاري)
(قطرة دموع من خشية الله تعالى)
قَطْرَةِ دُمُوعٍ): أَيْ: قَطْرَةِ بُكَاءٍ حَاصِلَةٍ (مرقاة المفاتيح)
أي قطرة من دموع، كما في رواية الترمذي
وقيل: المراد قطرات إلا إنها أفردت معه بذهن السامع. (التنوير شرح الجامع الصحيح الصنعاتي)
(وقطرة دم تهراق في سبيل الله تعالى) يحتمل أنه يريد يهرقها المؤمن من عدوه أو يهراق من المؤمن أو أعم. (التنوير للصنعاني
(فِي سَبِيلِ اللَّهِ): وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْجِهَادَ وَغَيْرَهُ مِنْ سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِفْرَادِ الدَّمِ وَجَمْعِ الدُّمُوعِ أَنَّ الدَّمْعَ غَالِبًا يَتَقَاطَرُ وَيَتَكَاثَرُ بِخِلَافِ الدَّمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِقَطْرَةِ الدَّمِ قَطَرَاتُهَا، فَلَمَّا أُضِيفَتْ إِلَى الْجَمْعِ أُفْرِدَتْ ثِقَةً بِذِهْنِ السَّامِعِ، وَفِي إِفْرَادِ الدَّمِ وَجَمْعِ الدُّمُوعِ ; إِيذَانٌّ بِتَفْضِيلِ إِهْرَاقِ الدَّمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى تَقَاطُرِ الدَّمْعِ بُكَاءً اه (المرقاة للقاري)
(وَأَمَّا الْأَثَرَانِ، فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): كَخُطْوَةٍ، أَوْ غُبَارٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ فِي الْجِهَادِ، أَوْ سَوَادِ حِبْرٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. (مرقاة المفاتيح)
أي تأثير في سبيله بأي نوع من التأثيرات. (التنوير للصنعاني)
قال ابن باز:” الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبيل اللهِ تَعَالَى أثر قدمه ودابته وسيارته وغير ذلك مما يُركب في سبيل الله،، هذا من الآثار المحمودة والمحبوبة إلى الله، وهكذا الآثار في طريقه إلى أداء الصلاة المفروضة في المساجد، هذه الآثار مما يحبها الله”
(في فريضة من فرائض الله تعالى) قال ابن العربي: الأثر ما يبقي بعده من عمل يجرى عليه أجره من بعده ومنه: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: (12)]، وقال غيره: الأثر ما يبقى من رسم الشيء وحقيقته ما يدل على وجود الشيء والمراد خطوة الماشي وخطوة الساعي في فريضة من فرائض الله أو ما بقي على المجاهد من أثر الجراحات وعلى الساعي المتعب نفسه في أداء الفرائض والقيام بها والكد فيها كاحتراق الجبهة من حر الرمضاء التي يسجد عليها وانفطار الأقدام من برد ماء الوضوء. (التنوير للصنعاني)
(وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى): كَإِشْقَاقِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ فِي الْبَرْدِ، وَبَقَاءِ بَلَلِ الْوُضُوءِ فِي الْحَرِّ، وَاحْتِرَاقِ الْجَبْهَةِ مِنَ الرَّمْضَاءِ، وَخُلُوفِ فَمِهِ فِي الصَّوْمِ، وَاغْبِرَارِ قَدَمِهِ فِي الْحَجِّ (مرقاة المفاتيح)
قال فيصل آل مبارك:” في هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله، والجهاد في سبيل الله، وكثرة الخطا إلى المساجد”.