449 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: عبدالله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند
(449) – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (4) ص (339)): حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ((إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا)).
حَدَّثَنَا هَاشِمٌ قَالَ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ يَعْنِي شَيْبَانَ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ((أَلَا إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا وَلَا [ص: (379)] تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا)) قَالَ فَمَا أَنَا بِأَشَحَّ عَلَيْهِنَّ مِنِّي إِذْ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
هذا حديث صحيحٌ. وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلمًا أن يخرجاها.
وأخرجه محمد بن نصر في “الصلاة” (ج (1) ص (485)) فقال رحمه الله حدثنا حميد بن زنجويه وأحمد بن الأزهر، قالا: ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل، عن منصور به.”
…………………………………..
من الوصايا العظيمة التي أكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم عليها في حجة هؤلاء الكبائر وهن الاشراك بالله، و قتل النفس بغير حق، الزنا، والسرقة.
اولا: أهمية التوحيد وخطورة الشرك:
فقال ” لا تشركوا بالله ” ف? يعبدوا غير الله، ? ملكا و? رسو?، و? شجرا و? حجرا، و? شمسا و? قمرا، و? غير ذلك، فالعباد ة لله وحده، وهـذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءت به الرسل كلهم، جاؤوا بهذا التوحيد قال الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إ? نوحي إليه أنه ? إله إ? أنا فاعبدون) (ا?نبياء: 25).
وقال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسو? أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل: 36)، أي: اعبدوا الله واجتنبوا الشرك.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وهـذه دعوة الرسل، فجاء النبي صلي الله عليه وسلم بما جاءت به ا?نبياء من قبله بعبادة الله وحده ? شريك له. شرح رياض الصالحين للعثيمين.
ويقول الله عز وجل: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)
يَأْمُرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جَمِيعِ الْآنَاتِ وَالْحَالَاتِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ? لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ على العبادِ؟ قال: الله ورسوله أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذلك؟ ألَّا يُعَذِّبَهُمْ.
قال ابن باز رحمه الله معلقا على التفسير: وهذا الحقُّ هو أعظم الحقوق وأوجبها، وهو توحيد الله، وإخلاص العبادة له في ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه، وصفاته؛ لأنَّه سبحانه الخلَّاق، الرَّزاق، المالك لكل شيءٍ، والقادر على كل شيءٍ، فوجب أن يُعبد وحده دون كلِّ ما سواه بالخضوع والذلِّ والخوف والرَّجاء، وصرف جميع العبادة له وحده ?، مع الإيمان بأنَّه الخلَّاق، الرَّزاق، الكامل في أسمائه وصفاته، لا شبيهَ له، ولا كفؤ له، ولا ندَّ له، كما قال جلَّ وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، خُلِقُوا لهذا الأمر العظيم، خُلِقُوا ليعبدوا الله، وذلك هو توحيده، والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، هذه هي العبادة التي خُلِقَ الناسُ لها: أن يخصُّوه بالعبادة في صلاتهم، وصومهم، وذبحهم، ونذرهم، ودُعائهم، واستغاثتهم، وغير ذلك، وخوفهم، ورجائهم، فهو المعبود بالحقِّ ?، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وقال هنا في سورة النِّساء: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
وهذه الآية يُقال لها: آية الحقوق العشرة، اشتملت على عشرة حقوق، وأهمها وأولها توحيد الله، والإخلاص له، تخصيصه بالعبادة، وترك الإشراك به.
فالواجب على أهل العلم -خلفاء الرسل- أن يُعنوا بهذا الواجب، وأن يُوضِّحوه للناس، وأن يجتهدوا في نشره بين الناس، وتعليم الصِّغار والكبار، والذكور والإناث؛ لأنَّه أهم الأمور، وأعظم الحقوق؛ ولهذا لما سُئل النبيُّ ?، سأله ابنُ مسعودٍ قال: يا رسول الله، أيُّ الذَّنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك يعني: شريكًا في العبادة، وقال ?: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وشهادة الزور، هكذا جاء في “الصحيحين” من حديث أبي بكرة ?.
وقد عمَّ الشِّركُ وانتشر، ولم يسلم منه إلَّا مَن رحم الله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
فالواجب مُضاعفة الجهود في بيان هذا الحقّ العظيم، مع بيان ما نهى اللهُ عنه من سائر المعاصي، ومع بيان ما أوجب اللهُ من سائر الطَّاعات. اهـ
ثانيا: قتل النفس بغير حق:
فإن قتل النفس بغير وجه حق، من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وقد نهى الله تعالى عنه في كتابه فقال: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [الإسراء:33].
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اجتنبوا السبع الموبقات … – وعد منها- … قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
فمن قتل مسلما متعمدا قتله، فإنه ينتظره من الوعيد ما ذكره الرب عز وجل في قوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [النساء: 93].
شك أن منزلة الإنسان عند الله – عز وجل – منزلة عظيمة، كيف والله جلَّ ذكره يقول: ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ” (الإسراء، الآية: 70).
ولهذا كُتب على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا والعكس، فقال تعالى: ” مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ” (المائدة، الآية: 32)، قال سعيد بن جبير: «من اسفك دم مسلم فكأنما استحلَّ دماء الناس جميعًا، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا» قال ابن كثير: وهو الأظهر (كما في تفسير ابن كثير).
قال الله تعالى في آية الأنعام: ” وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” (الأنعام، الآية: 151) قال البغوي: «حرَّم الله تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق، إلا بما أبيح قتله، من ردة أو قصاص أو زنا بموجب الرجم» (كما في تفسيره).
وقال الشوكاني: «” وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ” اللام في النفس: للجنس التي حرم الله صفة للنفس، أي: لا تقتلوا شيئًا من الأنفس التي حرم الله إلا بالحق، أي: إلا بما يوجبه الحق» (كما في تفسيره فتح القدير).
ثالثا: حرمة الزنا:
لقد حرم الله تعالى الزنا، تحريماً قطعياً، وأوجب على من ارتكبه عقوبة تقام عليه في الدنيا، وهي الحد، و نذكر هنا بعض الحكم لتحريم الزنا.
فمن هذه الحكَم:
- موافقة هذا التحريم للفطرة التي فطر الله الناس عليها، من الغَيْرة على العِرْض، وبعض الحيوانات تغار على عرضها، فقد ثبت في صحيح البخاري (3849) عن عمرو بن ميمون الأودي قال: رأيت في الجاهلية قرداً زنا بقردة، فاجتمع القرود عليها، فرجموها حتى ماتت!.
فإذا كان القرد يغار على عرضه، ويستقبح الزنا، فكيف لا يغار الإنسان على عرضه؟
فأي رجل يقبل أن يجعل زوجته أو ابنته أو أمه أو أخته متاعاً للناس وسلعة مجانية، فقد رضي لنفسه أن ينزل عن مرتبة بعض الحيوانات، كما يوجد الآن في بعض البلاد الغربية ما يسمونه بـ “نوادي تبادل الزوجات”!!
2. المنع من اختلاط الأنساب، فمن أباح الزنا فإنما يبيح إدخال ما ليس من صلبه في أسرته وعائلته، فيشارك أفراد الأسرة في الميراث وهو ليس منهم، ويعاملهم معاملة المحارم وهو ليس محرماً لهم.
3. المحافظة على الأسرة والحياة العائلية فإن الزنا يُفسد البيوت ويدمرها، فإذا اتخذ الزوج عشيقة، أو اتخذت الزوجة عشيقاً، فلا شك أن ذلك سيدمر الأسرة ويشتتها.
4. الحماية من الأمراض، التي هي عقوبة ربانية على انتشار تلك الفاحشة، ولا يخفى ما تعانيه كثير من الشعوب الإباحية من أمراضٍ خطيرة، كالزهري والسيلان، والإيدز الذي أفنى ملايين الناس، وما يزال الملايين مصابين به، ففي عام 1427 هجري، الموافق 2006 م بلغ عدد المصابين بهذا المرض: 45 مليوناً، وقد مات بسببه: 20 مليوناً، وحوالي 301 مليوناً نتيجة لأسباب مرتبطة بذلك المرض.
ويعتبر الإيدز السبب الرئيس للوفاة في أفريقيا، والسبب الرابع للوفاة على مستوى العالم.
فأي عاقل يرضى بانتشار هذه الأمراض في المجتمعات؟
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا). رواه ابن ماجه (4019)، وحسنه الألباني في ” صحيح ابن ماجه “.
وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
5. المحافظة على كرامة المرأة؛ فإن إباحة الزنا يعني سلب المرأة كرامتها، وجعلها سلعة مهانة، والإسلام جاء لإكرام الناس، وبخاصة المرأة، بعد أن كانت في الجاهلية متاعاً يورَث، ومحلاًّ للإهانة والتحقير.
6. المنع من انتشار الجرائم، فالزنا من أسباب انتشار جرائم القتل وكثرتها، فقد يقتل الزوج زوجته وعشيقها، وقد يقتل الزاني زوج معشوقته أو من ينازعه عليها، وقد تقتل المرأة من زنى بها، إن كان قد زنا بها بالإكراه مثلاً.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
“ولمَّا كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه، وبنته، وأخته، وأمه، وفي ذلك خراب العالم: كانت تلي مفسدة القتل في الكبَر، ولهذا قرنها الله سبحانه بها في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سننه، قال الإمام أحمد: ” ولا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنا “، وقد أكد سبحانه حرمته بقوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما) الفرقان/68 – 70.
فقرنَ الزنا بالشرك، وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك: الخلود في النار في العذاب المضاعف المهين، ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة، والإيمان، والعمل الصالح، وقد قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا)، فأخبر عن فُحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول، حتى عند كثير من الحيوانات” انتهى.
” الجواب الكافي ” (ص 105).
رابعا: حرمة السرقة
السرقة في اللغة: يقال سرق يسرق سرقا فهو سارق، والسرقة أخذ الشيء من الغير خفية.
وفي الاصطلاح: هي أخذ مالٍ محترمٍ لغيره من حرز مثله على وجه الاختفاء.
قال ابن باز رحمه الله:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فالسرقة بيَّن الله حدَّها في كتابه الكريم في سورة المائدة، قال جلَّ وعلا: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، هذه عقوبة للسارق، وبذلك يحفظ الله أموال الناس، لولا الله ثم هذه العقوبة لأُخذت أموال الناس، وسُرقت أموال الناس، ولكن الله جعل هذا الحدَّ حمايةً لأموال المسلمين في كل مكانٍ، ولهذا تمر السنوات الكثيرة في البلد ما قُطعت يدٌ؛ لخوف الناس من هذا الحدِّ.
فالمقصود أنَّ الله حمى أموال المسلمين بهذا الحدِّ، كما حمى فروج المسلمين بحدِّ الزنا، وحماهم من الخمر بالحدِّ، فهكذا في مسألة السرقة، وهي حدٌّ عظيمٌ خطيرٌ، وهي قطع بالسيف أعظم من الجلد.
يقول النبي ?: لا تُقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا.
الرسول ? بيَّن النِّصاب، والرب جلَّ وعلا بيَّن الحدَّ، ولم يُبَيّن النصاب، والرسول ? بيَّن النصاب، والسنة تُفسِّر القرآن، وتُبين معناه، يقول الله جلَّ وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ما تُقطع اليد في الشيء اليسير: تمرات أو فاكهة لا تُساوي شيئًا، لا، لا بدّ من حدٍّ محدودٍ بيَّنه الرسولُ ?، الحد أنه ربع دينار.
والدينار عُملة من الذهب في عهد النبي ?، صرفها اثنا عشر درهم، وزنتها مثقال، فهذا المثقال تُقطع فيه اليد صاعدًا فأكثر، إذا كان دينارين، ثلاثة من باب أولى، كلما زاد فهو من باب أولى، لكن أقلّ شيءٍ هذا حد لقلةٍ، هذا الحد الأقل، إذا كان دونه: سرق تمرات، سرق فاكهة، سرق ….. وما تبلغ، وما أشبه ذلك؛ لا تُقطع يده حتى يكون المسروقُ يبلغ ربع دينارٍ فصاعدًا، ولهذا قال: تُقطع اليد في رواية البخاري: في ربع دينار فصاعدًا، وفي رواية أحمد: اقطعوا في ربع الدينار، ولا تقطعوا بما هو أدنى من ذلك.
حديث ابن عمر: أن الرسول ? قطع في مجنٍّ ثمنه ثلاثة دراهم، يعني: قيمته ربع الدينار، ثلاث دراهم قيمة ربع الدينار، يعني: صرف الدينار في عهد النبي ? اثنا عشر درهمًا.
والحديث الآخر: لعن الله السارقَ: يسرق الحبل فتُقطع يده، ويسرق البيضةَ فتُقطع يده، قال العلماء في تفسيره: معنى ذلك أنه يسرق الحبلَ ويتساهل، فيجرّه إلى سرقة ما هو أكبر، يسرق البيضةَ فيجرّه إلى ما هو أكبر، وليس معناه أنَّ البيضة يُقطع فيها؛ لأنها ما تُساوي ربع الدينار، ولا الحبل، لكن لو سرق حبلًا يُساوي ربع الدينار قُطع، أو بيضة لها شأنٌ تبلغ ربع الدينار: تكون بيضة نعام، أو كذا، المقصود أنه إذا وجد بيضةً لشيءٍ من الحيوانات المأكولة لها قيمة فلا بأس، وإلا فالأصل ألا تُقطع.
فلهذا فُسّر الحديث بأنَّ المعنى أنه يسرق الشيء القليل فيجرّه ذلك إلى سرقة الكبير، ولهذا قال: لعن الله السارق يعني: لسقوط همَّته، يسرق الشيء القليل فيجرّه ذلك إلى الشيء الكبير الذي تُقطع فيه يده، وإذا وجد حبل يُساوي ربع الدينار، أو بيضة تُساوي ربع الدينار قطع.
وفي هذا أنَّ السرقة من الكبائر؛ ولهذا لعن الرسولُ ? صاحبَها، قال: لعن الله السارق، فدلَّ على أنها من كبائر الذنوب.
والحديث الرابع: حديث السارقة التي سرقت من بني مخزوم، امرأة من بني مخزوم سرقت، فأمر النبي ? بقطع يدها، فقال بنو مخزوم -وهم من كبار قريشٍ بعد الفتح، ومنهم أبو جهل وابن ربيعة: أتُقطع يد فلانة؟! انظروا مَن يشفع فيها؟ فقالوا: مَن يجترئ إلا أسامة بن زيد حِبّ رسول الله ?، فتقدَّم أسامةُ فقال: يا رسول الله، أشفع أنها لا تُقطع يدها، فقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! ثم خطب الناس عليه الصلاة والسلام وقال: إنما هلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليه الحدّ، وايم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بقطعها، قالت عائشة: “وكانت تأتينا بعد ذلك”، فحسُنت توبتها، وصلح حالها، كانت تأتي إليهم في المدينة ترفع حاجتها إلى النبي ? وتُقضى حاجتها.
وفي لفظٍ: “كانت تستعير المتاعَ فتجحده”، فأمر النبيُّ ? بقطع يدها، فهذا يدل على أنَّ الذي يستعير متاعًا ويجحد حكمه حكم السارق؛ إذا سرق نصابًا فأكثر يُقطع، إذا كانت المرأة والرجل يستعير ويقول: “ما أخذتُ شيئًا”، ثم يثبت عليه بالبينة يُقطع؛ سدًّا لباب التلاعب بأموال الناس، فالسارق الذي يأخذ أموالَ الناس بالخفاء، والمستعير الذي يستعير ويجحد، فإذا ثبت عليه تُقطع يده، كما قُطعت يد هذه المرأة المخزومية.