416 – فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: أحمد بن علي وسلطان الحمادي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل رحمه الله:
416 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 3 ص 4): حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا يُحْسِنَانِ الثَّنَاءَ يَذْكُرَانِ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُمَا دِينَارَيْنِ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ «لَكِنَّ وَاللهِ فُلَانًا مَا هُوَ كَذَلِكَ لَقَدْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى مِائَةٍ فَمَا يَقُولُ ذَاكَ أَمَا وَاللهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُخْرِجُ مَسْأَلَتَهُ مِنْ عِنْدِي يَتَأَبَّطُهَا» يَعْنِي تَكُونُ تَحْتَ إِبْطِهِ يَعْنِي نَارًا قَالَ قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تُعْطِيهَا إِيَّاهُمْ قَالَ «فَمَا أَصْنَعُ يَابَوْنَ إِلَّا ذَاكَ وَيَابَى اللهُ لِي الْبُخْلَ».
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح.
* وأخرجه الإمام أحمد أيضًا (ص 16) فقال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ [ص: 352] قَالَ: قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ خَيْرًا ذَكَرَ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ دِينَارَيْنِ قَالَ «لَكِنْ فُلَانٌ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَلَا يُثْنِي بِهِ لَقَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ -أَوْ قَالَ: إِلَى الْمِائَتَيْنِ- وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلَّا نَارٌ» قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ «إِنَّهُمْ يَابَوْنَ إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَابَى اللهُ لِي الْبُخْلَ».
———–
لبعضه شاهد عند مسلم
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ، قَالَ: ” إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ، أَوْ يُبَخِّلُونِي، فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ “.
صحيح مسلم (1056)
قال محققو المسند:
إسناده صحيح على شرط البخاري
[مسند أحمد 17/ 199 ط الرسالة]
بوب عليه مقبل في الجامع:
13 – تحريم السؤال لغير حاجة
19 – ما جاء في ذم البخل والتحذير منه
34 – اعتماده صلى الله عليه وسلم على الله
35 – الجود بالمال
8 – المسألة من غير حاجة
قال الخطابي:
ومن باب من يعطى الصدقة وحَدّ الغنى
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خُموش أو خُدوش أوكدوح في وجهه فقيل يا رسول الله وما الغنى قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب. قال يحيى فقال عبد الله بن عثمان لسفيان حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير فقال سفيان فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
قلت الخموش هي الخدوش، يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها، والكدوح الآثار من الخدش والعض ونحوه، وإنما قيل للحمار مكدّح لما به من اثار العضاض.
وأما تحديده الغنى الذي يحرم معه الصدقة بخمسين درهما فقد ذهب إليه قوم من أهل العلم ورأوه حدا في غنى من تحرم عليه الصدقة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وأبى القول به آخرون وضعفوا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا وأما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد حسب، قالوا وليس في الحديث أن من ملك خمسين درهما لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كره له المسألة فقط وذلك أن المسألة إنما تكون مع الضرورة ولا ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة.
وقال مالك والشافعي لا حد للغنى معلوم وإنما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته فإذا اكتفى بما عنده حرمت عليه الصدقة وإذا احتاج حلت له
قال الشافعي قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
وجعل أصحاب الرأي الحد فيه مائتي درهم وهو النصاب الذي تجب فيه الزكاة وإنما أمرنا أن نأخذ الزكاة من الأغنياء وأن ندفعها إلى الفقراء وهذا إذا ثبت أنه غني يملك النصاب الذي تجب عليه فيه الزكاة فقد خرج به من حد الفقر الذي يستحق به أخذ الزكاة.
[معالم السنن 2/ 56]
قال ابن عبدالبر في شرح حديث:
“اليَدُ العُلْيا خيرٌ من اليَدِ السُّفلى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ”
وفي هذا الحديثِ من الفِقهِ: إباحَةُ الكلام للخَطيبِ بكلِّ ما يَصْلُحُ، مِمّا يكونُ مَوْعِظةً، أو عِلمًا، أو قُرْبةً إلى الله عز وجل.
وفيه: الحضُّ على الاكتِسْابِ والإنْفاقِ، ومعلُوم أنَّ الإنفاقَ لا يكونُ إلّا معَ الاكتِسابِ، وهذا كلُّهُ مُقيَّدٌ بقولِهِ صلى الله عليه وسلم: “أجْمِلُوا في الطَّلبِ، خُذُوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُمَ”.
وفيه: ذمُّ المسألةِ وعَيْبُها. وَيقْتضي ذلك حمدَ اليَأسِ، وذمَّ الطَّمَعِ فيما في أيدي الناسِ.
ذَكَر عبدُ الرَّزّاقِ، عن جعفرِ بن سُليمانَ، عن حُميدٍ الأعرج، عن عِكرِمَةَ بن خالدٍ، أنَّ سعدًا قال لابنِهِ حينَ حَضرهُ الموتُ: يا بُنيَّ، إنَّكَ لن تلقَى أحدًا هُو لكَ أنصَحَ مِنِّي، إذا أردتَ أن تُصلِّي، فأحسِنْ وُضُوءَكَ، ثُمَّ صلِّ صَلاةً لا تَرَى أنَّك تُصلِّي بعدَها، وإيّاكَ والطَّمعَ، فإنَّهُ فَقْر حاضِرٌ، وعليكَ باليأسِ، فإنَّهُ الغِنَى، وإيّاكَ وما تَعتذرُ منهُ من العَملِ والقولِ، ثُمَّ اعمَلْ ما بَدا لكَ.
ورَوَى العلاءُ بن عبدِ الرَّحمنِ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لا يَفْتحُ إنسان على نَفسِهِ بابَ مسألةٍ، إلّا فَتحَ اللهُ عليه بابَ فَقْرٍ، ولأنْ يأخُذَ الرَّجُلُ حَبْلًا فيَعْمِدَ إلى الجَبلِ فيَحْتطِبَ على ظهرِهِ، ويأكُلُ منهُ، خيرٌ لهُ من أن يسألَ النّاسَ مُعطًى، أو ممنُوعًا”.
وقد رُوي معنى قولِ سَعْدٍ المذكُورِ في هذا البابِ، مرفُوعًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، حدَّثناهُ سَلَمةُ بن سعيدِ بن سلمةَ بن حَفْصٍ، قال: حدَّثنا عليُّ بن عُمرَ بن أحمدَ بن مهديٍّ البَغْداديُّ، المعرُوفُ بالدّارقُطنيِّ الحافِظِ، إملاءً بمِصرَ سنةَ سِتٍّ وخمسينَ وثلاثِ مئةٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الله بن عبدِ العزيزِ البَغَويُّ، قال: حدَّثنا الحَسنُ بن
راشِدِ بن عبدِ ربِّهِ الواسِطيُّ، قال: حدَّثني أبي راشِدُ بن عبدِ ربِّهِ، قال: حدَّثنا نافعٌ، عن ابن عُمرَ، قال: جاءَ رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسُولَ الله، حدِّثني حديثًا واجعَلْهُ مُذكِّرًا لي، قال: “صلِّ صَلاةَ مُودعِّ كأنَّك تَراهُ، فإن لم تكُن تَراهُ، فإنَّهُ يراكَ، وعليكَ باليأسِ مِمّا في أيْدِي النّاسِ، تَعِشْ غنيًّا، وإيّاكَ وما تَعتذرُ منهُ”
[التمهيد – ابن عبد البر 9/ 504 ت بشار]
تنبيه حديث صل صلاة مودع هو في ضعيف الترغيب (499)
وقال انظر صحيح الترغيب لتعلم أن جله صحيح لغيره
وفي صحيح الترغيب والترهيب
(3350) – ((18)) [حسن لغيره] ورواه [يعني حديث سعد بن أبي وقاص الذي في «الضعيف»] الطبراني من حديث ابن عمر قال:
أتى رجلٌ إلى النبيِّ ? فقال: يا رسولَ الله! حدِّثْني بحديثٍ، واجْعَلْه موجَزًا؟ فقال النبيُّ ?:
«صَلِّ صَلاةَ مُودِّعٍ، فإنَّكَ إنْ كنْتَ لا تَراهُ فإنَّه يراكَ، وايْأَس مِمّا في أيْدي الناسِ تكُنْ غَنِيًَّا، وإيَّاك وما يُعْتَذرُ مِنْهُ».
قال العباد:
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يسأل الناس شيئاً، ولا يتفطنون به فيعطونه).
قوله: (ولا يفطنون به فيعطونه) ليس المقصود من هذا نفي المسكنة عن المسكين الذي يسأل الناس؛ لأن كلاً منهما مسكين، ولكن المقصود بيان صفة المسكين الأعظم، والمسكين الذي هو أهم وأشد، فليس عنده شيء ولا يسأل، وأما المسكين الذي يسأل فإنه يعطى فيأكل ويستفيد.
إذاً: فليس المقصود من نفي المسكنة هنا نفيها على الحقيقة في المسكين الذي يسأل، لكنه وإن كان مسكيناً إلا أنه دون من لا يسأل، ولهذا نظائر وأمثلة منها قوله (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فالمسكين فهو متعفف مع شدة حاجته، وتجده صابراً غير سائل، فهذا هو الذي يستحق أن يعطى، وأما السائل الذي يسأل ويعطى فهو أخف منه؛ لأنه يجد ما يأكله
[شرح سنن أبي داود للعباد 198/ 15 بترقيم الشاملة آليا]
قال الإتيوبي:
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان معنى المسكين الذي ذكره اللَّه عز وجل بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية
(ومنها): أن المسكنة إنما تُحمد مع العفّة عن السؤال، والصبر على الحاجة (ومنها): استحباب الحياء في كلّ الأحوال (ومنها): أن فيه دليلًا لمن يقول: إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء، لكنه لا يكفيه، بخلاف الفقير فإنه الذي لا شيء له، كما سيأتي توجيهه، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): حسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يُتحرّى وضعها فيمن صفته التعفّف، دون الإلحاح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. انتهى
وقصد وجه الله كما هي صفة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت صفة لأصحابه ومنهم أبوبكر الصديق:
{وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجْزى}؛ أي: ليس لأحدٍ من الخلق على هذا الأتقى نعمةٌ تُجزى؛ إلاَّ وقد كافأه عليها، وربَّما بقي له الفضل والمنَّة على الناس، فتمحَّض عبداً للَّه؛ لأنه رقيق إحسانه وحده، وأما من بقيت عليه نعمةُ الناس فلم يجزِها ويكافئْها؛ فإنَّه لا بدَّ أن يترك للناس ويفعل لهم ما ينقص إخلاصه. وهذه الآية وإن كانت متناولةً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل قد قيل: إنها نزلت بسببه؛ فإنَّه رضي الله عنه ما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجْزى، حتى ولا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ إلاَّ نعمة الرسول، التي لا يمكن جزاؤها، وهي نعمة الدعوة إلى دين الإسلام وتعليم الهدى ودين الحقِّ؛ فإنَّ لله ورسولهِ المنَّة على كلِّ أحدٍ، منةً لا يمكنُ لها جزاء ولا مقابلة؛ فإنَّها متناولةٌ لكلِّ من اتَّصف بهذا الوصف الفاضل، فلم يبقَ لأحدٍ عليه من الخلق نعمةٌ تُجْزى، فبقيت أعمالُه خالصةً لوجه الله تعالى، ولهذا قال: {إلاَّ ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأعلى. ولَسوفَ يرضى}: هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات.
تفسير السعدي
لكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مطلوب على المسلم أن يشكر المعروف ففي الحديث لا يشكر الله من لا يشكر الناس
ولا يحسن أن تعطي الهدية للمكافأة:
عن أبى هريرةَ: أن رجلًا أهدَى إلى رسول اللَّه ? لِقْحَةً، فأثابه عليها بستِّ بَكَراتٍ، فسَخِطَها الرجلُ، فقال رسولُ اللَّه ?:» مَن يَعْذُرُني من فلانٍ؟ أهدَى إلَيَّ لِقْحَةً، فكأني أنظرُ إليها في وجه بعض أهلي، فأثبتُه منها بستِّ بَكَراتٍ فسَخِطَها، لقد هممتُ أن لا أقبلَ هديةً إلا من قُرَشيٍّ أو أنصاريٍّ أو ثَقَفيٍّ أو دَوسيٍّ «.
أخرجه التِّرْمِذي وصحَّحه
(المسألة الرابعة): اختلاف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين:
قال العلّامة القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في “تفسيره”: واختلف علماء اللغة، وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال:
(الأول): ما ذهب إليه يعقوب بن السّكّيت، والْقُتَبيّ، ويونس بن حبيب من أنّ الفقير أحسن حالًا من المسكين، قالوا: الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه، وُيقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجّوا بقول الراعي [من البسيط]:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ … وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ
وذهب إلى هذا قومٌ من أهل اللغة، والحديث، منهم أبو حنيفة، والقاضي عبد الوهّاب. والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام؛ يقال: حَلُوبته وفقَ عياله، أي لها لَبَنٌ قدرَ كفايتهم، لا فضل فيه. قاله الجوهريّ.
(الثاني): ذهب آخرون إلى أن المسكين أحسن حالًا من الفقير. واحتجّوا بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} الآية، فأخبر أنّ لهم سفينةً من سُفُن البحر، وربّما ساوت جملةً من المال، وعضدوه بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تعوّذ من الفقر. وروي عنه أنه قال: “اللَّهمّ أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا”، فلو كان المسكين أسوأ حالًا من الفقير لتناقض الخبران؛ إذ يستحيل أن يتعوّذ من الفقر، ثمّ يسأل ما هو أسوأ حالًا منه، وقد استجاب اللَّه دعاءه، وقُبِض، وله مالٌ مما أفاء اللَّه عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية؛ ولذلك رَهَنَ دِرْعَه، قالوا: وأمّا بيت الراعي، فلا حجّة فيه؛ لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حَلُوبةٌ في حالٍ. قالوا: والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نُزِعت فِقَرُهُ من ظهره من شدّة الفقر، فلا حال أشدّ من هذه، وقد أخبر اللَّه بقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}، واستشهدوا بقول الشاعر [من الكامل]:
لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورَ تَطَايَرَتْ … رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الأَعْزَلِ
أي لم يُطق الطيران، فصار بمنزلة من انقطع صلبه، ولَصِق بالأرض. ذهب إلى هذا الأصمعيّ، وغيره، وحكاه الطحاويّ عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعيّ، وأكثرِ أصحابه.
(الثالث): أنّ الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، وإلى هذا ذهب الشافعيّ في أحد قوليه، وابن القاسم، وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
قال القرطبيّ: ظاهر اللفظ يدلّ على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أنّ أحد الصنفين، أشدّ حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفًا واحدًا. ولا حجّة في قول من احتجّ بقوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ}؛ لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم؛ كما يقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنها، وإن كانت لغيره، وقد قال اللَّه تعالى في وصف أهل النار: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}، فأضافها إليهم، وقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}، وقال صلى الله عليه وسلم: “من باع عبدًا، وله مالٌ”، وهو كثير جدًّا يُضاف الشيء إليه، وليس له، ومنه قولهم: باب الدار، وجُلُّ الدابّة، وسَرْجُ الفرس، وشبهه، ويجوز أن يُسمَّوا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف؛ كما يقال لمن امتُحِنَ بنكبة، أو دُفع إلى بليّة مسكين، وفي الحديث: “مساكين أهل النار”، وقال الشاعر [من الطويل]:
مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ … عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ
وأما ما تأوّلوه من قوله عليه السلام: “اللَّهم أحييني مسكينًا” الحديث. رواه أنس، فليس كذلك؛ وإنما المعنى ههنا التواضع للَّه الذي لا جبروت فيه، ولا نخوّة، ولا كِبْر، ولا بَطَرَ، ولا تكبّر، ولا أَشَرَ، ولقد أحسن أبو العَتَاهية، حيث قال [من البسيط]:
إِذَا أَرَدتَّ شَرِيفَ الْقَوْمِ كُلِّهِمِ … فَانْظُرْ إِلَى مَلِكِ فِي زِيِّ مِسْكِنِ
ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللَّه رَغْبَتَهُ … وَذَاكَ يَصْلُحُ لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ
وليس بالسائل؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال، ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق: “دعوها، فإنها جبّارة”.
الضعيفة (6101)
وأما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}، فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. واللَّه أعلم.
وما ذهب إليه أصحاب مالك، والشافعيّ في أنهما سواء حسن.
(الرابع): ما ذكره ابن سُحنون عن مالك، أنه قال: الفقير المحتاج المتعفّف، والمسكين السائل، وروي عن ابن عباس، وقاله الزهريّ، واختاره ابن شعبان.
(الخامس): ما قاله محمد بن مسلمة: الفقير الذي له المسكن، والخادم، والمسكين الذي لا مال له.
قال القرطبيّ: وهذا القول عكس ما ثبت في “صحيح مسلم” عن عبد اللَّه بن عمرو، وسأله رجلٌ، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد اللَّه: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإنّ لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك.
(السادس): ما روي عن ابن عبّاس – رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: الفقير من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا. وقاله الضحّاك.
(السابع): أن المسكين الذي يخشع، ويستكنّ، وان لم يسأل، والفقير: الذي يتحمّل، ويقبل الشيء سرًّا، ولا يخشع. قاله عبيد اللَّه بن الحسن.
(الثامن): المساكين الطّوّافون، والفقراء فقراء المسلمين. قاله مجاهد، وعكرمة، والزهريّ.
(التاسع): الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. قاله عكرمة.
انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف.
وقال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى- في “النهاية”: وقد تكرّر ذكر المسكين، والمساكين، والمسكنة، والتمسكن. قال: وكلّها يدور معناه على الخضوع والذلّة، وقلّة المال، والحال السيّئة. واستكان: إذا خَضَعَ، والمسكنة: فقر النفس، وتمسكن: إذا تشبّه بالمساكين، وهم جمع المسكين، وهو الذي لا شيء له. وقيل: هو الذي له بعض الشيء. وقد تقع المسكنة على الضعف. انتهى.
وقال العلاّمة اللغويّ ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه “لسان العرب”
والْمِسْكين أي بالكسر، والْمَسْكين أي بالفتح -الأخيرة نادرة؛ – لأنه ليس في الكلام مَفْعِيلٌ-: الذي لا شيء له. وقيل: الذي لا شيء له يكفي عياله. قال أبو إسحاق: المسكين الذي أسكنه الفقر، أي قلّل حركته، وهذا بعيد؛ لأن مسكينًا في معنى فاعل. وقوله: الذي أسكنه الفقر يُخرجه إلى معنى مفعول. وهو مِفْعيل من السكون، مثلُ الْمِنْطيق من النُّطْق. قال ابن الأنباريّ: قال يونس: الفقير أحسن حالًا من المسكين، والفقير الذي له بعض ما يُقيمه. والمسكين أسوأ حالًا من الفقير، وهو قول ابن السكيت؛ قال يونس: وقلت لأعرابيّ أفقير أنت أم مسكين؟ فقال: لا واللَّه، بل مسكين، فأعلم أنه أسوأ حالا من الفقير؛ واحتجّوا على أن المسكين أسوأ حالًا من الفقير بقول الراعي [من البسيط]:
أما الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ … وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ
فأثبت أن للفقير حَلوبةً، وجعلها وَفْقًا لعياله؛ قال: وقول مالك في هذا كقول يونس. وروي عن الأصمعيّ أنه قال: المسكين أحسن حالًا من الفقير، وإليه ذهب أحمد بن عُبيد، قال: وهو القول الصحيح عندنا؛ لأن اللَّه تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فأخبر أنهم مساكين، وأن لهم سفينة، تساوي جملة، وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، فهذه الحال التي أخبر بها عن الفقراء، هي دون الحال التي أخبر بها عن المساكين. قال ابن برّيّ: وإلى هذا القول ذهب عليّ بن حمزة الأصفهانيّ اللغويّ، ويرى أنه الصواب، وما سواه خطأٌ، واستدلّ على ذلك بقوله: {مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}، فأكّد عز وجل سُوء حاله بصفة الفقر؛ لأن الْمَتْرَبة الفقر، ولا يؤكّد الشيء إلا بما هو أوكد منه، واستدلّ على ذلك بقوله عز وجل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}، فأثبت أنّ لهم سفينة يعملون عليها في البحر، واستدلّ أيضًا بقول الراجز:
هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهُ … تُغِيثُ مِسْكِينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ
عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ … قَدْ حَدَّثَ النَّفسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ
فأثبت أنّ له عشر شياه، وأراد بقوله: عسكره غنمه، وأنها قليلة، واستدلّ أيضًا ببيت الراعي، وزعم أنه أعدل شاهد على صحّة ذلك، وهو قوله:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ
لأنه قال: أما الفقير الذي كانت حَلُوبته، ولم يقل: الذي حلوبته، وقال: فلم يُترك له سَبَدٌ، فأعلمك أنه كانت له حلوبة تقوت عياله، ومن كانت هذه حاله، فليس بفقير ولكن مسكين، ثم أعلمك أنها أُخذت منه، فصار إذ ذاك فقيرًا، يعني ابنُ حمزة بهذا القول أنّ الشاعر لم يُثبت أن للفقير حَلوبة؛ لأنه قال: الذي كانت حلوبته، ولم يقل: الذي حلوبته، وهذا كما تقول: أما الفقير الذي كان له مالٌ، وثَرْوَةٌ، فإنه لم يُترك له سَبَد، فلم يُثبت بهذا أن للفقير مالًا وثروة، وإنما أثبت سُوء حاله الذي به صار فقيرًا، بعد أن كان ذا مال وثروة، وكذلك يكون المعنى في قوله:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوَبتُهُ
أنه أثبت فقره لعدم حلوبته بعد أن كان مسكينًا قبل حلوبته، ولم يُرد أنه فقير مع وجودها، فإنّ ذلك لا يصحّ كما لا يصحّ أن يكون للفقير مالٌ وثروة في قولك: أما الفقير الذي كان له مالٌ وثروة؛ لأنه لا يكون فقيرًا مع ثروته وماله.
قال: فثبت بهذا أن المسكين أصلح حالًا من الفقير. قال عليّ بن حمزة: ولذلك بدأ اللَّه تعالى بالفقير قبل من يستحقّ الصدقة من المسكين وغيره، وأنت إذا تأمّلت قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية، وجدته سبحانه قد رتّبهم، فجعل الثاني أصلح حالًا من الأول، والثالثَ أصلح حالًا من الثاني، وكذلك الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن. قال: ومما يدلّك على أن المسكين أصلح حالًا من الفقير أن العرب قد تسمّت به، ولم تتسمّ بفقير لتناهي الفقر في سوء الحال.
ألا ترى أنهم قالوا: تمسكن الرجل، فبنوا منه فعلًا على معنى التشبيه بالمسكين في زيّه، ولم يفعلوا ذلك في الفقير؛ إذ كانت حاله لا يَتزيّا بها أحد. قال: ولهذا رَغِبَ الأعرابي الذي سأله يونس عن اسم الفقير لتناهيه في سوء الحال، فآثر التسمية بالمسكنة، أو أراد أنه ذليلٌ لبعده عن قومه ووطنه. قال: ولا أظنّه أراد إلا ذلك، ووافق قولُ الأصمعيّ، وابنِ حمزة في هذا قولَ الشافعيّ. وقال قتادة: الفقير الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج. وقال زيادة اللَّه بن أحمد: الفقير القاعد في بيته، لا يسأل، والمسكين الذي يسأل. انتهى كلام ابن منظور باختصار.
قال الجامع – عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحرّر مما تقدّم أن قول الجمهور، ومنهم الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين هو الأرجح؛ لآية: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} الآية، ولحديث الباب، حيث وصفه بقوله: “الذي لا يجد غنى يُغنيه”، فإنه دالّ على أن له شيئًا من المال، لكنه لا يكفيه، ولآية الصدقة، حيث رتّبت المستحقّين لها بالترقّي من الأدنى إلى الأعلى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل
[ذخيرة العقبى في شرح المجتبى 23/ 103]
وقال الإتيوبي:
83 – (الْمَسْأَلَةُ)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على ذمّ سؤال الناس أموالهم.
2584 – (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدُكُمْ، حُزْمَةَ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ»)
والحديث دليل على ذمّ سؤال المال من الناس، والتقبيح له، والتحذير عنه غاية التحذير. واللَّه تعالى أعلم
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ذمّ المسألة
(ومنها): بيان عقوبة مَنْ أكثر من سؤال الناس، وهو أنه يأتي يوم القيامة، وليس على وجهه قطعة لحم (ومنها): أن يوم القيامة هو يوم وقوع الجزاء الأوفى، من ثواب، أو عقاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل
[ذخيرة العقبى في شرح المجتبى 23/ 161]
ملحقات:
قال ابن باز:
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ((19)) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ((20)) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: (19) – (21)]
هَلُوعًا: ضَجُورًا.
(7535) – حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ? مَالٌ، فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: «إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجَزَعِ وَالهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى وَالخَيْرِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ»، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ? حُمْرَ النَّعَمِ.
لأنه قَالَ ?: «مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» وَأنَّه لم يُعطِهِ لِمَا جَعلَ اللهُ في قَلبِهِ مِنْ الغِنَى والخَيرِ.
وفي هَذَا أنَّ الوَالِيَ يَنْظُرُ في الْمَصلحَةِ والتَّألِيفِ، وليس عَطَاؤُهُ لِقَومٍ دَلِيلًا على أَنَّهم أَحَبُّ إليه مِنْ غَيرِهِم، لا، قد يُعطِيهِم للتَّألِيفِ أو لِكَفِّ شَرِّهِم أو لِأسبَابٍ أُخرَى وغَيرُهُم أَحَبُّ إليه، وغَيرُهُم أَولَى، وغَيرُهُم أَحَقُّ، لكن
لِلمَصلَحَةِ الإِسلَامِيَّةِ والسِّيَاسَةِ الشَّرعِيَّةِ؛ فلِهذَا قد يُعطِي أَقوَامًا وغَيرُهُم أَحبُّ إِليهِ منهم، لكن لِمَا في قُلُوبِهِمْ مِنَ الهَلَعِ والجَزعِ يُعطِيهِم، وفي الحَدِيثِ الآخَرِ: «يَأَبَونَ إلا أن يُبَخِّلُونِي ويَأَبَى اللهُ لِي البُخلَ».
فالحَاصِلُ: أنَّ وَليَّ الأَمرِ عليه أن يُلَاحِظَ الْمَصَالحَ العَامَّةَ في العَطَاءِ والْمَنعِ وفي سَائِرِ شُؤونِهِ؛ لِأنَّه مُكَلَّفٌ بهَذَا، مَأمُورٌ بهَذَا، أن يَسُوسَ الأُمَّةَ بما فيه مَصلَحَتُهَا وسَعَادَتُهَا ونَجَاتُهَا. فهَذَا يُعْطَى وهَذَا لا يُعطَى، وهَذَا يُؤدَّبُ ويُزجَرُ، وهَذَا يُسجَنُ وهَذَا يُقتَلُ على حَسبِ ما تَقتَضِيهِ الأَدِلَّةُ الشَّرعِيَّةُ والمَصَالحُ الإِسلَامِيَّةُ؛ ولِهذَا جَعلَ اللهُ في الزَّكَاةِ حَقًّا لِلمُؤَلَّفةِ قُلُوبِهِم، وفي بَيتِ المَالِ أَيْضًا.
وبَعضُ النَّاسِ لو لم يُعطَ شَيْئًا مِنْ هَذَا المَالِ أو مِنْ الزَّكَاةِ لَرُّبَما كَفرَ وارْتَدَّ عنِ الِإسلَامِ، ولَرُبَّما أَسَاءَ إلى المُسْلِمِينَ بِقطِعِ الطُّرقِ وغَيرِ ذَلكَ؛ فلِهذَا كَانَ يُعطِي أَقوَامًا ويَدعُ آخَرِينَ لِمُرَاعَاةِ الْمَصَالحِ.
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري – ابن باز (1) / (386)
قال ابن القيم:
فصل
*والمسألة في الأصل حرام*، وإنَّما أبيحت للحاجة والضرورة، لأنَّها ظلم في حقِّ الربوبيَّة، وظلم في حقِّ المسؤول، وظلم في حقِّ السائل.
أمَّا الأوَّل: فلأنَّه بذَلَ سؤاله وفقره وذلَّه واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبوديَّة. فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكُّله عليه ورضاه بقَسْمه، واستغنى بسؤال الخلق عن مسألته، وذلك كلُّه هضم من التوحيد، ويطفئ نوره ويضعف قوَّته.
وأمَّا ظلمه للمسؤول: فلأنَّه سأله ما ليس له عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن عليه، وعرَّضه لمشقَّة البذل أو لؤم المنع، فإن أعطاه أعطاه على كراهةٍ، وإن منعه منعه على استحياء. هذا إذا سأله ما ليس عليه. وأمَّا إذا سأله حقًّا هو له عنده، لم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله.
وأمَّا ظلمه لنفسه: فإنَّه أراق ماء وجهه، وذلَّ لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه وعزِّة تعفُّفِه وراحة قناعته، وباع صبرَه ورضاه وتوكُّله وقَنَعَه بما قسم له واستغناءَه عن الناس بسؤالهم. وهذا عينُ ظلمه لنفسه، إذ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزَّها، وصغَّرها وحقَّرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسؤول، ويدُه تحت يده، *ولولا الضرورة لم يُبَح ذلك في الشرع*.
وقد ثبت في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي ?: «ما يزال الرجلُ يسأل الناس حتَّى يأتي يومَ القيامة *ليس في وجهه مُزْعةُ لحمٍ*».
مدارج السالكين – ط عطاءات العلم ((2) / (568) – (569))
قال ابن تيمية:
وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعًا مأمورًا به، فقد كان رسول الله ? يُسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا، وتكون المسألة محرمة في حق السائل: حتى قال «إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا «قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال:» يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل».
وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحًا، ولا يكون عالمًا أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويُعفى عنه لعدم علمه. وهذا باب واسع.
وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها، قد يفعلها بعض الناس، ويحل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها. ثم الفاعل قد يكون متأولا، أو مخطئا مجتهدا أو مقلدا، فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع، كالمجتهد المخطئ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2) / (290)
وقال أيضا:
وَرَجُلٌ مَسْمُوعُ الْقَوْلِ عِنْدَ مَخْدُومِهِ إذَا أَعْطَوْهُ شَيْئًا لِلْأَكْلِ أَوْ هَدِيَّةً لِغَيْرِ قَضَاءِ حَاجَةٍ: فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا؟ وَإِنْ رَدَّهَا عَلَى الْمُهْدِي انْكَسَرَ خَاطِرُهُ: فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ هَذَا أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ ? أَنَّهُ قَالَ {مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا} وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ السُّحْتِ؟ فَقَالَ: هُوَ أَنْ تَشْفَعَ لِأَخِيك شَفَاعَةً فَيَهْدِيَ لَك هَدِيَّةً فَتَقْبَلَهَا. فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت إنْ كَانَتْ هَدِيَّةً فِي بَاطِلٍ؟ فَقَالَ ذَلِكَ كُفْرٌ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ مَنْ أَهْدَى هَدِيَّةً لِوَلِيِّ أَمْرٍ لِيَفْعَلَ مَعَهُ مَا لَا يَجُوزُ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمَهْدِيِّ وَالْمُهْدَى إلَيْهِ. وَهَذِهِ مِنْ الرَّشْوَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ ? {لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي} وَالرِّشْوَةُ تُسَمَّى «الْبِرْطِيلُ». «وَالْبِرْطِيلُ» فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ فَاهُ. فَأَمَّا إذَا أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ أَوْ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ: كَانَتْ هَذِهِ الْهَدِيَّةُ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ وَجَازَ لِلدَّافِعِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ كَمَا {كَانَ النَّبِيُّ ? يَقُولُ: إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ؟ يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَابَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ} وَمِثْلُ ذَلِكَ إعْطَاءُ مَنْ أَعْتَقَ وَكَتَمَ عِتْقَهُ أَوْ أَسَرَّ خَبَرًا أَوْ كَانَ ظَالِمًا لِلنَّاسِ فَإِعْطَاءُ هَؤُلَاءِ: جَائِزٌ لِلْمُعْطِي حَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَخْذُهُ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فِي الشَّفَاعَةِ:
مِثْلُ أَنْ يَشْفَعَ لِرَجُلِ عِنْدَ وَلِيِّ أَمْرٍ لِيَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلِمَةً أَوْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ حَقَّهُ أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا أَوْ يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ – وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ – أَوْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْقُرَّاءِ أَوْ النُّسَّاكِ أَوْ غَيْرِهِمْ – وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَنَحْوَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا إعَانَةٌ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُ مُحَرَّمٍ: فَهَذِهِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فِيهَا قَبُولُ الْهَدِيَّةِ وَيَجُوزُ لِلْمَهْدِيِّ أَنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ. هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ. وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ «بَابِ الْجِعَالَةِ» وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ: فَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْقِيَامُ بِهَا فَرْضًا؛ إمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ؛ وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَتَى شُرِعَ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوِلَايَةُ وَإِعْطَاءُ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا لِمَنْ يَبْذُلُ فِي ذَلِكَ وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَفُّ الظُّلْمِ عَمَّنْ يَبْذُلُ فِي ذَلِكَ وَاَلَّذِي لَا يَبْذُلُ لَا يُوَلَّى وَلَا يُعْطَى وَلَا يُكَفُّ عَنْهُ الظُّلْمُ وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ وَأَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا. وَالْمَنْفَعَةُ فِي هَذَا لَيْسَتْ لِهَذَا الْبَاذِلِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهُ الْجُعْلُ عَلَى الْآبِقِ وَالشَّارِدِ.
وَإِنَّمَا الْمَنْفَعَةُ لِعُمُومِ النَّاسِ: أَعْنِي الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلِّيَ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَأَنْ يُرْزَقَ مِنْ رِزْقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَنْفَعُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُعَاوِنُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْذُ جُعْلٍ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عَلَى ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ تُطْلَبَ هَذِهِ
الْأُمُورُ بِالْعِوَضِ وَنَفْسُ طَلَبِ الْوِلَايَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَكَيْفَ بِالْعِوَضِ؟ وَلَزِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُمْكِنًا فِيهَا يُوَلَّى وَيُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحَقَّ وَأَوْلَى؛ بَلْ يَلْزَمُ تَوْلِيَةُ الْجَاهِلِ وَالْفَاسِقِ وَالْفَاجِرِ وَتَرْكُ الْعَالِمِ الْعَادِلِ الْقَادِرِ؛ وَأَنْ يُرْزَقَ فِي دِيوَانِ الْمُقَاتِلَةِ الْفَاسِقُ وَالْجَبَانُ الْعَاجِزُ عَنْ الْقِتَالِ وَتَرْكُ الْعَدْلِ الشُّجَاعِ النَّافِعِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَفَسَادُ مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ. وَإِذَا أَخَذَ وَشَفَعَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَغَيْرُهُ أَوْلَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَاخُذَ وَلَا يَشْفَعَ؛ وَتَرْكُهُمَا خَيْرٌ. وَإِذَا أَخَذَ وَشَفَعَ لِمَنْ هُوَ الْأَحَقُّ الْأُولَى وَتَرَكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ فَحِينَئِذٍ تَرْكُ الشَّفَاعَةِ وَالْأَخْذُ أَضَرُّ مِنْ الشَّفَاعَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ. وَيُقَالُ لِهَذَا الشَّافِعِ الَّذِي لَهُ الْحَاجَةُ الَّتِي تُقْبَلُ بِهَا الشَّفَاعَةُ: يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَكُونَ نَاصِحًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ فَأَنْتَ عَلَيْك أَنْ تَنْصَحَ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ فَتُبَيِّنُ لَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ وَالِاسْتِخْدَامَ وَالْعَطَاءَ. وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؛ وَتَنْصَحُ لِلْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ وَتَنْصَحُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِطَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ طَاعَتِهِ وَتَنْفَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا عَلَيْك أَنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ وَتُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمَسْمُوعُ الْكَلَامِ فَإِذَا أَكَلَ قَدْرًا زَائِدًا عَنْ الضِّيَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُكَافِئَ الْمُطْعِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ لَا يَاكُلُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ؛ وَإِلَّا فَقَبُولُهُ الضِّيَافَةَ الزَّائِدَةَ مِثْلَ قَبُولِهِ لِلْهَدِيَّةِ؛ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الشَّاهِدِ وَالشَّافِعِ إذَا أَدَّى الشَّهَادَةَ وَقَامَ بِالشَّفَاعَةِ؛ لِضِيَافَةِ أَوْ جُعْلٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَسَادِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مجموع الفتاوى (31) / (286) – (288) — ابن تيمية (ت (728))
وقال أيضا:
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ مِلْكَهُ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْغَاصِبِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ مِلْكِهِ وَلَا بَذْلُ مَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجُوزُ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ لَا لِمَنْعِ الْحَقِّ وَإِرْشَاؤُهُ حَرَامٌ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ الْمُعْتَقُ. إذَا أَنْكَرَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَخْذُهُ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا جَحَدَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا فَافْتَدَتْ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْخُلْعِ فِي الظَّاهِرِ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ مَا بَذَلَتْهُ وَيُخَلِّصُهَا مِنْ رِقِّ اسْتِيلَائِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ? {إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يتلظاها نَارًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَابَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ}. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ}. فَلَو
أَعْطَى الرَّجُلُ شَاعِرًا أَوْ غَيْرَ شَاعِرٍ؛ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَيْهِ بِهَجْوٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِئَلَّا يَقُولَ فِي عِرْضِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَانَ بَذْلُهُ لِذَلِكَ جَائِزًا وَكَانَ مَا أَخَذَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْلِمَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ظُلْمِهِ. وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ بِالْهَجْوِ مِنْ جِنْسِ تَسْمِيَةِ الْعَامَّةِ: «قَطَعَ مَصَانِعَهُ» وَهُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُعْطُوهُ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَوْ بِأَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَكُلُّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَى النَّاسِ أَوْ لِئَلَّا يَظْلِمَهُمْ كَانَ ذَلِكَ خَبِيثًا سُحْتًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلَا عِوَضٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَظْلُومِ فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا بِالْعِوَضِ كَانَ سُحْتًا.
مجموع الفتاوى (29) / (258) — ابن تيمية (ت (728))