: 403 و 404 و405 و406 و407 و408 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘-
50 – باب الخوف
روى البيهقي بسنده عن أبي عَلِيٍّ الرُّوذْبارِيَّ، يَقُولُ:» الخَوْفُ والرَّجاءُ هُما كَجَناحَيِ الطَّيِرِ إذا اسْتَوَيا اسْتَوى الطَّيْرُ وتَمَّ طَيَرانُهُ، وإذا نَقَصَ واحِدٌ مِنهُما وقَعَ منه النَّقْصُ، وإذا ذَهَبا جَمِيعًا صارَ الطّائِرُ فِي حَدِّ المَوْتِ «، لِذَلِكَ قِيلَ:» لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِنِ ورَجاؤُهُ لاعْتَدَلا ” (شعب الإيمان للبيهقي)
قال ابن تيمية:” ويَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ يَكُونَ خَوْفُهُ ورَجاؤُهُ واحِدًا، فَأيُّهُما غَلَبَ هَلَكَ صاحِبُهُ ونَصَّ عَلَيْهِ الإمامُ أحْمَدُ؛ لِأنَّ مَن غَلَبَ خَوْفُهُ وقَعَ فِي نَوْعٍ مِن اليَاسِ، ومَن غَلَبَ رَجاؤُهُ وقَعَ فِي نَوْعٍ مِن الأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ.” (الفتاوى الكبرى لابن تيمية)
قال ابن القيم:” مَنزِلَةُ الخَوْفِ، وهِيَ مِن أجَلِّ مَنازِلِ الطَّرِيقِ وأنْفَعِها لِلْقَلْبِ، وهِيَ فَرْضٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ” (المدارج)
وقال أيضا:” الخوف: أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها، وهى: الخوف، والرجاءُ، والمحبة.
وانتفاءُ الإيمان عند انتفاء الخوف: انتفاءٌ للمشروط عند انتفاءِ شرطه، وانتفاءُ الخوف عند انتفاءِ الإِيمان: انتفاءٌ للمعلول عند انتفاءِ علته.
فالخوف من لوازم الإيمان وموجباته؛ فلا يتخلف عنه، وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء/ 90 “. انتهى باختصار من “طريق الهجرتين” (ص282).
وقال أيضا:”هَذِهِ الثَّلَاثَةُ: الْحُبُّ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، هِيَ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ بِمَا هُوَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِهِ وَالْأَنْفَعُ لَهُ، وَهِيَ أَسَاسُ السُّلُوكِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّلَاثَةَ فِي قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) الإسراء/ 57، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ قُطْبُ رَحَى الْعُبُودِيَّةِ. وَعَلَيْهَا دَارَتْ رَحَى الْأَعْمَالِ ” (مدارج السالكين ” (3/ 128).*
قال كذلك:” الوَجَلُ» و «الخَوْفُ» و «الخَشْيَةُ» و «الرَّهْبَةُ» ألْفاظٌ مُتَقارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرادِفَةٍ، قالَ أبُو القاسِمِ الجُنَيْدُ: الخَوْفُ تَوَقُّعُ العُقُوبَةِ عَلى مَجارِي الأنْفاسِ.
وقِيلَ: الخَوْفُ اضْطِرابُ القَلْبِ وحَرَكَتُهُ مِن تَذَكُّرِ المَخُوفِ.
وقِيلَ: الخَوْفُ قُوَّةُ العِلْمِ بِمَجارِي الأحْكامِ، وهَذا سَبَبُ الخَوْفِ، لا أنَّهُ نَفْسُهُ
وقِيلَ: الخَوْفُ هَرَبُ القَلْبِ مِن حُلُولِ المَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعارِهِ.
و «الخَشْيَةُ» أخَصُّ مِنَ الخَوْفِ، فَإنَّ الخَشْيَةَ لِلْعُلَماءِ بِاللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى {إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ} [فاطر (28)] فَهِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ، وقالَ النَّبِيُّ ? «إنِّي أتْقاكُمْ لِلَّهِ، وأشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً».
فالخَوْفُ حَرَكَةٌ، والخَشْيَةُ انْجِماعٌ، وانْقِباضٌ وسُكُون فَإنَّ الَّذِي يَرى العَدُوَّ والسَّيْلَ ونَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حالَتانِ:
إحْداهُما: حَرَكَةٌ لِلْهَرَبِ مِنهُ، وهِيَ حالَةُ الخَوْفِ.
والثّانِيَةُ: سُكُونُهُ وقَرارُهُ فِي مَكانٍ لا يَصِلُ إلَيْهِ فِيهِ، وهِيَ الخَشْيَةُ، ومِنهُ: انْخَشى الشَّيْءُ، والمُضاعَفُ والمُعْتَلُّ أخَوانِ، كَتَقَضِّي البازِيِّ وتَقَضَّضَ.
وأمّا الرَّهْبَةُ فَهِيَ الإمْعانُ فِي الهَرَبِ مِنَ المَكْرُوهِ، وهِيَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هِيَ سَفَرُ القَلْبِ فِي طَلَبِ المَرْغُوبِ فِيهِ.
وبَيْنَ الرَّهَبِ والهَرَبِ تَناسُبٌ فِي اللَّفْظِ والمَعْنى، يَجْمَعُهُما الِاشْتِقاقُ الأوْسَطُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ تَقالِيبِ الكَلِمَةِ عَلى مَعْنًى جامِعٍ.
وأمّا الوَجَلُ فَرَجَفانُ القَلْبِ، وانْصِداعُهُ لِذِكْرِ مَن يُخافُ سُلْطانُهُ وعُقُوبَتُهُ، أوْ لِرُؤْيَتِهِ.
وأمّا الهَيْبَةُ فَخَوْفٌ مُقارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ والإجْلالِ، وأكْثَرُ ما يَكُونُ مَعَ المَحَبَّةِ والمَعْرِفَةِ. والإجْلالُ: تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالحُبِّ.
فالخَوْفُ لِعامَّةِ المُؤْمِنِينَ، والخَشْيَةُ لِلْعُلَماءِ العارِفِينَ، والهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، والإجْلالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وعَلى قَدْرِ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ يَكُونُ الخَوْفُ والخَشْيَةُ”
قال ابن قدامة المقدسي:” اعلم: أن الخوف سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى.
والخوف، له إفراط، وله اعتدال، وله قصور.
والمحمود من ذلك الاعتدال، وهو بمنزلة السوط للبهيمة فإن الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط، وليس المبالغة في الضرب محمودة ولا التقاصر عن الخوف أيضًا محمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية، أو سبب هائل، فيورث البكاء، فإذا غاب ذلك السبب عن الحس، رجع القلب إلى الغفلة، فهو خوف قاصر قليل الجدوى، ضعيف النفع، وهو كالقضيب الضعيف الذي يضرب به دابة قوية فلا يؤلمها ألمًا مبرحًا، فلا يسوقها إلى المقصد، ولا يصلح لرياضتها، وهذا هو الغالب على الناس كلهم، إلا العارفين والعلماء، أعنى العلماء بالله وبآياته، وقد عز وجودهم.” (مختصر منهاج القاصدين)
قال ابن رجب:” والقدر الواجب من الخوف، ما حمل عَلى أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد عَلى ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس عَلى التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلًا محمودًا، فإن تزايد عَلى ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عزوجل، لم يكن ذلك محمودًا” (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار لابن رجب) بعض المحققين قال لعلها التوسط بدل التبسط
ومما ورد عن السلف في الخوف، روى الطبراني بإسناده عن معاذ بن جبل:” إنَّ المُؤْمِنَ لا يَامَنُ قَلْبُهُ ولا يَسْكُنُ رَوْعَتُهُ، ولا يَامَنُ اضْطِرابُهُ حَتّى يَخْلُفَ جِسْرَ جَهَنَّمَ.” (مسند الشاميين للطبراني)
قالَ حُذَيْفَةُ: إنْ لَمْ تَخْشَ أنْ يُعَذِّبَكَ اللهُ عَلى أفْضَلِ عَمَلِكَ، فَأنْتَ هالِكٌ. (حلية الأولياء)
عن سَعِيدٌ، قالَ: نا سُفْيانُ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا}، (قالَ): سَألا القبولَ، وتَخَوَّفا أنْ يَكُونَ مِنهُ شَيْءٌ لا يُتَقَبَّلُ مِنهُما. (مسند سعيد بن منصور)
عَنْ جَسْرٍ أبِي جَعْفَرٍ، قالَ: دَخَلْتُ عَلى يُونُسَ بنِ عُبَيْدٍ أيّامَ الأضْحى، فَقالَ: خُذْ لَنا كَذا وكَذا مِن شاةٍ. ثُمَّ قالَ: واللهِ ما أُراهُ يُتَقَبَّلُ مِنِّي شَيْءٌ، قَدْ خَشِيتُ أنْ أكُونَ مِن أهْلِ النّارِ. قُلْتُ: كُلُّ مَن لَمْ يَخْشَ أنْ يَكُونَ فِي النّارِ، فَهُوَ مَغْرُورٌ، قَدْ أمِنَ مَكْرَ اللهِ بِهِ. (سير أعلام النبلاء)
قالَ المَرُّوذِيُّ: بالَ أبُو عَبْدِ اللهِ فِي مَرَضِ المَوْتِ دَمًا عَبِيطًا، فَأرَيْتُه الطَّبِيبَ، فَقالَ: هَذا رَجُلٌ قَدْ فَتَّتَ الغَمُّ – أوِ الخَوْفُ – جَوفَه.
ورُوِيَ عَنِ المَرُّوذِيِّ، قالَ: قُلْتُ لأحْمَدَ: كَيْفَ أصْبَحْتَ؟ قالَ: كَيْفَ أصْبَحَ مَن رَبُّهُ يُطالِبُهُ بِأداءِ الفَرائِضِ، ونَبِيُّهُ يُطالِبُهُ بِأداءِ السُّنَّةِ، والمَلَكانِ يَطْلُبانِهِ بِتَصْحِيحِ العَمَلِ، ونَفْسُهُ تُطالِبُهُ بِهَواها، وإبْلِيسُ يُطالِبُهُ بِالفَحْشاءِ، ومَلَكُ المَوْتِ يُراقِبُ قَبْضَ رُوحِهِ، وعِيالُهُ يُطالِبُونَهُ بِالنَّفَقَةِ؟! (سير أعلام النبلاء)
قالَ الخَلاَّلُ: أخْبَرَنا المَرُّوذِيُّ، سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: الخَوْفُ مَنَعَنِي أكلَ الطَّعامِ والشَّرابِ، فَما اشتَهَيتُهُ (السير للذهبي) قالَ قَبِيصَةُ: كانَ سُفْيانُ إذا نَظَرتَ إلَيْهِ، كَأنَّهُ راهِبٌ، فَإذا أخذَ فِي الحَدِيثِ، أنْكَرْتَه.
قُلْتُ: قَدْ كانَ لَحِقَ سُفْيانَ خَوْفٌ مُزعِجٌ إلى الغايَةِ.
قالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: كُنّا نَكُونُ عِنْدَهُ، فَكَأنَّما وُقِّفَ لِلْحِسابِ.
وسَمِعَهُ عَثّامُ بنُ عَلِيٍّ يَقُولُ: لَقَدْ خِفتُ اللهَ خَوْفًا، عَجَبًا لِي! كَيْفَ لاَ أمُوتُ؟ ولَكِنْ لِي أجَلٌ ودِدْتُ أنَّهُ خُفِّفَ عَنِّي، مِنَ الخَوْفِ أخافُ أنْ يَذْهَبَ عَقْلِي.
وقالَ حَمّادُ بنُ دُلَيْلٍ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: إنِّي لأسْألُ اللهَ أنْ يُذهِبَ عَنِّي مِن خَوْفِهِ.
وقالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: كُنْتُ أرمُقُ سُفْيانَ فِي اللَّيْلَةِ بَعْدَ اللَّيْلَةِ، يَنهَضُ مَرْعُوبًا يُنادِي: النّارَ النّارَ، شَغَلَنِي ذِكْرُ النّارِ عَنِ النَّوْمِ والشَّهَواتِ، وقالَ أبُو نُعَيْمٍ: كانَ سُفْيانُ إذا ذَكَرَ المَوْتَ، لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ أيّامًا. وقالَ يُوسُفُ بنُ أسْباطٍ: كانَ سُفْيانُ يَبُولُ الدَّمَ مِن طُولِ حُزنِهِ وفِكْرَتِهِ.
(سير أعلام النبلاء)
وعَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ: كُنْتُ لاَ أسْتطِيعُ سَماعَ قِراءةِ سُفْيانَ مِن كَثْرَةِ بُكائِهِ. (السير)
كانَ هِشامٌ الدَّسْتُوائِيُّ إذا فَقَدَ السِّراجَ مِن بَيْتِهِ، يَتَمَلْمَلُ عَلى فِراشِهِ، فَكانَتِ امْرَأتُهُ تَاتِيهِ بِالسِّراجِ.
فَقالَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقالَ: إنِّي إذا فَقَدتُ السِّراجَ، ذَكَرْتُ ظُلْمَةَ القَبْرِ.
وقالَ شاذُ بنُ فَيّاضٍ: بَكى هِشامٌ الدَّسْتُوائِيُّ حَتّى فَسَدَتْ عَيْنُهُ، فَكانَتْ مَفْتُوحَةً، وهُوَ لاَ يَكادُ يُبْصِرُ بِها.
وعَنْ هِشامٍ، قالَ: عَجِبْتُ لِلْعالِمِ كَيْفَ يَضْحَكُ؟!
وكانَ يَقُولُ: لَيْتَنا نَنْجُو، لاَ عَلَيْنا ولاَ لَنا. (السير للذهبي)
عن خالِدُ بْنُ خِداشٍ، قالَ: «قُرِئَ عَلى عَبْدِ اللهِ بْنِ وهْبٍ كِتابُ أهْوالِ القِيامَةِ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ حَتّى ماتَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ وذَلِكَ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعٍ وتِسْعِينَ ومِائَةٍ» (حلية الأولياء)
قالَ أبُو حَفْصٍ: الخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ، يُقَوِّمُ بِهِ الشّارِدِينَ عَنْ بابِهِ، وقالَ: الخَوْفُ سِراجٌ فِي القَلْبِ، بِهِ يُبْصَرُ ما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، وكُلُّ أحَدٍ إذا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنهُ إلّا اللَّهَ ?، فَإنَّكَ إذْ خِفْتَهُ هَرَبْتَ إلَيْهِ.
فالخائِفُ هارِبٌ مِن رَبِّهِ إلى رَبِّهِ.
قالَ أبُو سُلَيْمانَ: ما فارَقَ الخَوْفُ قَلْبًا إلّا خَرِبَ، وقالَ إبْراهِيمُ بْنُ سُفْيانَ: إذا سَكَنَ الخَوْفُ القُلُوبَ أحْرَقَ مَواضِعَ الشَّهَواتِ مِنها، وطَرَدَ الدُّنْيا عَنْها، (مدارج السالكين لابن القيم)
والمؤمن لا يُعجب بعمله وإنما يرى ذلك توفيق من الله عزوجل” وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَائِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ”
وقال الله تعالى في سورة الأعرف:” {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّ? تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ”
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم الإحزاب:” يَقُولُ: ” وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا” رواه البخاري ومسلم
روى الطبراني عن عُتْبَة بن عبد رضي الله عنه أنّ رسولَ الله – ? – قال: «لو أنّ رجلًا يَخِرُّ على وجْهِهِ مِن يومِ وُلدَ إلى يومِ يمَوتُ هَرَمًا في مَرْضاةِ الله ? لَحَقَرَهُ يومَ القِيامَةِ». (صحيح الترغيب 3596) و (الصحيحة446)
روى الحاكم عن سلمانَ -رضي الله عنه- عن النبي – ? – قال: «يوضعُ الميزانُ يومَ القيامةِ، فلو وُزِنَ فيه السموات والأرض لوُسِعَتْ، فتقول الملائكةُ: يا رب! لمن يزنُ هذا؟ فيقولُ الله تعالى: لمن شئتُ من خلقي، فيقولون: سبحانَكَ! ما عبدناك حَقَّ عبادتِكَ». (صحيح الترغيب 3626)
وفي سنن الترمذي:” عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: ” لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} “.
الحسن البصري رحمه الله قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا» الزهد لابن المبارك (985).
ولنعتبر في هذا الباب بحال الصحابة رضي الله عنهم خير هذه الأمة قال ابن القيم رحمه الله: «من تأمل أحوال الصحابة – رضي الله عنهم – وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن، فهذا الصديق – رضي الله عنه – يقول: “وددتُ أني شعرة في جنب عبد مؤمن”، ذكره أحمد عنه. وذكر عنه أيضا أنه كان يمسك بلسانه ويقول: “هذا الذي أوردني الموارد”، وكان يبكي كثيرا، ويقول: “ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا”. وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عودٌ من خشية الله عز وجل. وأتي بطائر فقلبه ثم قال: “ما صيد من صيد، ولا قطعت شجرة من شجرة، إلا بما ضيعت من التسبيح”، فلما احتضر، قال لعائشة: يا بنية، إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذه الحلاب وهذا العبد، فأسرعي به إلى ابن الخطاب، وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد … » الداء والدواء لابن القيم (ص93).
وروى الترمذي عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ “.
روى ابن حبان عن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبي – ? -؛ فيما يروي عن ربَّه جل وعلا؛ أنه قال: «وعزَّتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمَّنتهيوم القيامة، وإذا أمِنني في الدنيا أخفته في الآخرة». (صحيح الترغيب 3376)
أما الآيات التي ساقها النووي،
قالَ الله تَعالى: {وإيّايَ فارْهَبُونِ} [البقرة: (40)] وقالَ تَعالى: {إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}
قال القرطبي:” قوله تعالى: وإياي فارهبون أي خافون والرُهب والرَهب والرهبة الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد، وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية” تفسير القرطبي
قال الطبري:” وقوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن بطش ربك يا محمد لمن بطش به من خلقه، وهو انتقامه ممن انتقم منه لشديد، وهو تحذير من الله لقوم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن يُحلّ بهم من عذابه ونقمته، نظير الذي حلّ بأصحاب الأخدود على كفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وفتنتهم المؤمنين والمؤمنات منهم.”
قال ابن كثير:” أي إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره لشديد عظيم قوي فإنه تعالى ذو القوة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر أو هو أقرب.” (تفسير ابن كثير)
بَطَشَ) الباءُ والطّاءُ والشِّينُ أصْلٌ واحِدٌ، وهُوَ أخْذُ الشَّيْءِ بِقَهْرٍ وغَلَبَةٍ وقُوَّةٍ. قالَ اللَّهُ تَعالى: {إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج (12)]. ويَدٌ باطِشَةٌ (مقاييس اللغة)
وَقالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَاتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 102 – 106].
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
الكاذب الفاجر وإن أعطي دولة فلا بد من زوالها بالكلية، وبقاء ذمه، ولسان السوء له في العالم، وهو يظهر سريعا، ويزول سريعا. [ابن تيمية: (3) / (557)]
يقول تعالى: وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم وأشباههم وأمثالهم، (إن أخذه أليم شديد) وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ” إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته “، ثم قرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). (تفسير ابن كثير)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ ْ} المذكور، من أخذه للظالمين، بأنواع العقوبات، {لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ْ} أي: لعبرة ودليلا، على أن أهل الظلم والإجرام، لهم العقوبة الدنيوية، والعقوبة الأخروية، ثم انتقل من هذا، إلى وصف الآخرة فقال: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ْ} أي: جمعوا لأجل ذلك اليوم، للمجازاة، وليظهر لهم من عظمة الله وسلطانه وعدله العظيم، ما به يعرفونه حق المعرفة.
{وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ْ} أي: يشهده الله وملائكته، وجميع المخلوقين. (تفسير ابن سعدي)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104)
وقوله: (وما نؤخره إلا لأجل معدود) أي: ما نؤخر إقامة يوم القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله وقضاؤه وقدره، في وجود أناس معدودين من ذرية آدم، وضرب مدة معينة إذا انقضت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم من ذرية آدم، أقام الله الساعة; ولهذا قال: (وما نؤخره إلا لأجل معدود) أي: لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها (تفسير ابن كثير)
يَوْمَ يَاتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
(يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) يقول: يوم يأتي هذا اليوم وهو يوم القيامة، لا يتكلم أحد [يومئذ] إلا بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) [النبأ: 38]، وقال تعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) [طه: 108]، وفي الصحيحين عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حديث الشفاعة الطويل: ” ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم.
وقوله: (فمنهم شقي وسعيد) أي: فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد، كما قال: (فريق في الجنة وفريق في السعير) [الشورى: 7].
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا موسى بن حيان، حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا سليمان بن سفيان، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر – رضي الله عنه – قال: لما نزلت (فمنهم شقي وسعيد) سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – قلت: يا رسول الله، علام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: ” على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام، ولكن كل ميسر لما خلق له “. (تفسير ابن كثير)
قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل: الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره إذا ردده في جوفه. وقال أبو العالية: الزفير في الحلق والشهيق في الصدر. (تفسير البغوي)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا? فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}
وخص بالذّكر من أحوالهم في جهنّم الزّفير والشّهيق تنفيراً من أسباب المصير إلى النّار؛ لما في ذكر هاتين الحالتين من التّشويه بهم، وذلك أخوف لهم من الألم. [ابن عاشور: (12) / (165)]
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا? فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}
الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، أي: تنفسهم زفير، وأخذهم النفس شهيق؛ لما هم فيه من العذاب، عياذاً بالله من ذلك. [ابن كثير: (2) / (441)]
وقالَ تَعالى: {ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: (28)]
قال ابن كثير:” ثم قال تعالى: (ويحذركم الله نفسه) أي: يحذركم نقمته، أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه.” (تفسير ابن كثير) وقال السعدي:” قال تعالى: {ويحذركم الله نفسه} أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك” (تفسير السعدي)
وقالَ تَعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ وأُمِّهِ وأبِيه وصاحِبَتِهِ وبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيه} [عبس: (34) – (37) [
وقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) يقول: فإذا جاءت الصاخة في هذا اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه. ويعني بقوله: يفرّ من أخيه: يفرّ عن أخيه. (تفسير الطبري)
قال ابن كثير:” أي يراه ويفر منه ويبتعد منه لأن الهول عظيم والخطب جليل.” (تفسير ابن كثير) وقال أيضا:” قال قتادة الأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم” (تفسير ابن كثير)
قال السعدي:” {يَفِرُّ الْمَرْءُ} من أعز الناس إليه، وأشفقهم لديه، {مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ} أي: زوجته {وَبَنِيهِ} ” (تفسير السعدي)
(وَصَاحِبَتِهِ) يعني: زوجته التي كانت زوجته في الدنيا (وَبَنِيهِ) حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التَّبعات والمظالم. (تفسير الطبري)
(لكل امرئ) يعني: من الرجل وأخيه وأمه وأبيه، وسائر من ذُكر في هذه الآية (يَوْمَئِذٍ) يعني: يوم القيامة إذا جاءت الصاخَّة يوم القيامة (شَانٌ يُغْنِيهِ) يقول: أمر يغنيه، ويُشغِله عن شأن غيره. (تفسير الطبري)
قال السعدي:” {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ} أي: قد شغلته نفسه، واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها، فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء وأشقياء،”
روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا “. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: ” الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ “.
روى النسائي عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا “. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ قَالَ: ” {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ} “.
وقالَ تَعالى: {يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وتَرى النّاسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكارى ولَكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: (1) – (2)]
قال البغوي:” مكية غير آيات من قوله عز وجل (هذان خصمان) إلى قوله (وهدوا إلى صراط الحميد).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم) أي احذروا عقابه بطاعته، (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحالة الهائلة واختلفوا في هذه الزلزلة
فقال علقمة والشعبي: هي من أشراط الساعة. [وقيل قيام الساعة].
وقال الحسن والسدي: هذه الزلزلة تكون يوم القيامة.
وقال ابن عباس: زلزلة الساعة قيامها فتكون معها”
قال السعدي:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يخاطب الله الناس كافة، بأن يتقوا ربهم، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة، فحقيق بهم أن يتقوه، بترك الشرك والفسوق والعصيان، ويمتثلوا أوامره، مهما استطاعوا.
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى، ويحذرهم من تركها، وهو الإخبار بأهوال القيامة، فقال:
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} لا يقدر قدره، ولا يبلغ كنهه، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، رجفت الأرض وارتجت، وزلزلت زلزالها، وتصدعت الجبال، واندكت، وكانت كثيبا مهيلا، ثم كانت هباء منبثا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج. فهناك تنفطر السماء، وتكور الشمس والقمر، وتنتثر النجوم، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب، وتجِلِ منه الأفئدة، وتشيب منه الولدان، وتذوب له الصم الصلاب” (تفسير السعدي)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
ابن الجزي:” إنما لم يقل مرضع؛ لأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقال: {مرضعة} ليكون ذلك أعظم في الذهول؛ إذ تنزع ثديها من فم الصبي حينئذ. [ابن جزي: (2) / (48)]
وقال أيضا:” وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
تشبيه بالسكارى من شدّة الغمّ. [ابن جزي: (2) / (49).]
القرطبي:” فائدة ذكر هول ذلك اليوم: التحريض على التأهب له، والاستعداد بالعمل الصالح”. [القرطبي: (14) / (311)]
قال السعدي:” {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، خصوصا في هذه الحال، التي لا يعيش إلا بها.
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} من شدة الفزع والهول، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي: تحسبهم -أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر، وليسوا سكارى.
{وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فلذلك أذهب عقولهم، وفرغ قلوبهم، وملأها من الفزع، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وفي ذلك اليوم، لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.” (تفسير السعدي)
وقالَ تعالى: {ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} [الرحمن: (46)]
أي: مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية والشهوة. وقيل: قيام ربه عليه، بيانه قوله: ” أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ” (الرعد – 33). وقال إبراهيم ومجاهد: هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من مخافة الله.
(جنتان) قال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم. قال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه ربه وجنة لتركه شهوته.
قال الضحاك: هذا لمن راقب الله في السر والعلانية بعلمه ما عرض له من محرم تركه من خشية الله وما عمل من خير أفضى به إلى الله، لا يحب أن يطلع عليه أحد.
وقال قتادة: إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله ودأبوا بالليل والنهار.
قال ابن شوذب، وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) في أبي بكر الصديق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بقية، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس في قوله: (ولمن خاف مقام ربه جنتان): نزلت في الذي قال: أحرقوني بالنار، لعلي أضل الله، قال: تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا، فقبل الله منه وأدخله الجنة. (تفسير البغوي)
قال ابن كثير:” والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول تعالى: ولمن خاف مقامه بين يدي الله – عز وجل – يوم القيامة، (ونهى النفس عن الهوى) [النازعات: 40]، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما قال البخاري، رحمه الله.”
قال الألوسي:” قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب؛ كاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا. [الألوسي: (14) / (115)]
وقالَ تَعالى: {وأقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إنّا كُنّا قَبْلُ فِي أهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ووَقانا عَذابَ السَّمُومِ إنّا كُنّا من قَبْلُ نَدْعُوهُ إنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: (25) – (28)]
(وأقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)
قال البغوي:” (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) يسأل بعضهم بعضا في الجنة. قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا.” (تفسير البغوي)
قال ابن كثير:” وقوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي: أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا” (تفسير ابن كثير)
قالُوا إنّا كُنّا قَبْلُ فِي أهْلِنا مُشْفِقِينَ
قال ابن كثير:” (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) أي: قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه” (تفسير ابن كثير)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ووَقانا عَذابَ السَّمُومِ
قال البغوي:” (فمن الله علينا) بالمغفرة (ووقانا عذاب السموم) قال الكلبي: عذاب النار. وقال الحسن: ” السموم ” اسم من أسماء جهنم.” (تفسير البغوي)
قال السعدي:” {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالهداية والتوفيق، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أي: العذاب الحار الشديد حره.” (تفسير السعدي)
قال الشنقيطي:” ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق -الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا- سبب للسلامة منه في الآخرة يفهم من دليل خطابه -أعني مفهوم مخالفته- أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة. [الشنقيطي: (7) / (457)]
{إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}
قال السعدي:” {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر الأوقات، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فمن بره بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.”
والآيات في الباب كثيرة جدًا معلومات، والغرض الإشارة إلى بعضها وقد حصل.
وأما الأحاديث فكثيرة جدًا، فنذكر مِنها طرفًا، وبالله التوفيق.
403 – عن ابنِ مسعودٍ، رضي الله عنه، قالَ: حدثنا رسولُ اللَّه ?، وهُوَ الصّادِقُ المصدوقُ: «إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْن أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرَّوحَ، ويُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِماتٍ: بِكَتْبِ رِزقِةِ، وأجلِهِ، وعمَلِهِ، وشَقيٌّ أوْ سعِيدٌ. فَوَ الَّذِي لا إله غَيْرُهُ إنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ حَتّى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَها إلاَّ ذِراعٌ، فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الكِتابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْل النّارِ، فَيَدْخُلُها، وإنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى ما يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَها إلاَّ ذِراعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُها» متفقٌ عَلَيهِ.
أما قوله ” الصادق المصدوق ” فمعناه: الصادق في قوله، المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم. (شرح مسلم للنووي)
قال الكرماني:” لَمّا كانَ مَضْمُونُ الخَبَرِ أمْرًا مُخالِفًا لِما عَلَيْهِ الأطِبّاءُ أشارَ بِذَلِكَ إلى بُطْلانِ ما ادَّعَوْهُ … ”
قال ابن عثيمين:” قدم هذه المقدمة؛ لأنه سيخبر عن أمر غيبي باطن يحدث في ظلمات ثلاث” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
قال ابن عثيمين:”أرْبَعِينَ يَوْمَا نُطْفَة أي قطرة من المني، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ. .. .. يتكون شيئًا فشيئًا، فيحمّارُ حتى يصل إلى الغاية في الحُمرةِ فيكون علقة، والعلقة هي: قطعة الدم الغليظ، وهي دودة معروفة ترى في المياه الراكدة، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِك أي أربعين يومًا، والمضغة: هي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان، وهذه المضغة تتطور شيئًا فشيئًا، ولهذا قال الله تعالى: (ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ) (الحج: الآية (5)).” (شرح الأربعين لابن عثيمين)
قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ” ثم يرسل الملك ” ظاهره أن إرساله يكون بعد مائة وعشرين يوما، وفي الرواية التي بعد هذه: ” يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين ليلة فيقول: يا رب، أشقي أم سعيد “، وفي الرواية الثالثة: ” إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها “، وفي رواية حذيفة بن أسيد: ” إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك “، وفي رواية: ” إن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة “، وذكر الحديث، وفي رواية أنس: ” إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب، نطفة، أي رب، علقة، أي رب، مضغة “، قال العلماء: طريق الجمع بين هذه الروايات أن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه علقة، هذه مضغة، في أوقاتها، فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى، وهو أعلم سبحانه، (شرح مسلم للنووي) قال ابن عثيمين:” أرسل الله إليها الملك الموكل بالأرحام؛ لأن الله يقول: (وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلّا هُوَ) [المدثر (31)]، فالملائكة جنود الله عزوجل، وكل منهم موكل بشيء؛ منهم الموكل بالأرحام، ومنهم الموكل بالنفوس يقبضها، ومنهم الموكل بالأعمال يكتبها، ومنهم الموكل بالأبدان يحفظها، وظائف عظيمة للملائكة، أمرهم الله عزوجل بها.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
قوله (وشقي أو سعيد) قال ابن رجب:” وقَدْ تَكاثَرَتِ النُّصُوصُ بِذِكْرِ الكِتابِ السّابِقِ، بِالسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ ? أنَّهُ قالَ: «ما مِن نَفْسٍ مَنفُوسَةٍ إلّا وقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكانَها مِنَ الجَنَّةِ أوِ النّارِ، وإلّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أوْ سَعِيدَةً، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أفَلا نَمْكُثُ عَلى كِتابِنا، نَدَعُ العَمَلَ؟ فَقالَ: اعْمَلُوا، فَكُلُّ مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ، أمّا أهْلُ السَّعادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعادَةِ، وأمّا أهْلُ الشَّقاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقاوَةِ، ثُمَّ قَرَأ: {فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى} [الليل (5)] الآيَتَيْنِ (اللَّيْلِ: (5))». فَفِي هَذا الحَدِيثِ أنَّ السَّعادَةَ والشَّقاوَةَ قَدْ سَبَقَ الكِتابُ بِهِما، وأنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِحَسَبِ الأعْمالِ، وأنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلسَّعادَةِ أوِ الشَّقاوَةِ” (جامع العلوم والحكم)
قال ابن عثيمين:” وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ هذه النهاية، والسعيد هو الذي تم له الفرح والسرور، والشقي بالعكس، قال الله تعالى: (فَمِنهُمْ شَقِيٌّ وسَعِيدٌ* فَأمّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ إلّا ما شاءَ رَبُّكَ إنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ* وأمّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ إلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود: (105) – (108)) فالنهاية إما شقاء وإما سعادة،” (شرح الأربعين للعثيمين)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار … إلخ) المراد بالذراع: التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه، وأن تلك الدار ما بقي بينه وبين أن يصلها إلا كمن بقي بينه وبين موضع من الأرض ذراع، والمراد بهذا الحديث أن هذا قد يقع في نادر من الناس، لا أنه غالب فيهم، ثم أنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور، ونهاية القلة، وهو نحو قوله تعالى: ” إن رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي “، ويدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أو معصية، لكن يختلفان في التخليد وعدمه ; فالكافر يخلد في النار، والعاصي الذي مات موحدا لا يخلد فيها كما سبق تقريره. وفي هذا الحديث تصريح بإثبات القدر، وأن التوبة تهدم الذنوب قبلها، وأن من مات على شيء حكم له به من خير أو شر، إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة (شرح مسلم للنووي)
قال ابن رجب:” «فِيما يَبْدُو لِلنّاسِ» إشارَةٌ إلى أنَّ باطِنَ الأمْرِ يَكُونُ بِخِلافِ ذَلِكَ، وأنَّ خاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ باطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لا يَطَّلِعُ عَلَيْها النّاسُ، إمّا مِن جِهَةِ عَمَلٍ سَيِّئٍ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الخَصْلَةُ الخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الخاتِمَةِ عِنْدَ المَوْتِ، وكَذَلِكَ قَدْ يَعْمَلُ الرَّجُلُ عَمَلَ أهْلِ النّارِ وفِي باطِنِهِ خَصْلَةٌ خَفِيَّةٌ مِن خِصالِ الخَيْرِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ تِلْكَ الخَصْلَةُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ حُسْنَ الخاتِمَةِ. قالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أبِي رَوّادٍ: حَضَرْتُ رَجُلًا عِنْدَ المَوْتِ يُلَقَّنُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَقالَ فِي آخِرِ ما قالَ: هُوَ كافِرٌ بِما تَقُولُ، وماتَ عَلى ذَلِكَ، قالَ فَسَألْتُ عَنْهُ، فَإذا هُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ. فَكانَ عَبْدُ العَزِيزِ يَقُولُ: اتَّقُوا الذُّنُوبَ، فَإنَّها هِيَ الَّتِي أوْقَعَتْهُ. وفِي الجُمْلَةِ: فالخَواتِيمُ مِيراثُ السَّوابِقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي الكِتابِ السّابِقِ، ومِن هُنا كانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِن سُوءِ الخَواتِيمِ، ومِنهُمْ مَن كانَ يَقْلَقُ مِن ذِكْرِ السَّوابِقِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ قُلُوبَ الأبْرارِ مُعَلَّقَةٌ بِالخَواتِيمِ، يَقُولُونَ: بِماذا يُخْتَمُ لَنا؟ وقُلُوبُ المُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوابِقِ، يَقُولُونَ: ماذا سَبَقَ لَنا.
(جامع العلوم والحكم)
وقال أيضا:” كانَ الصَّحابَةُ ومَن بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصّالِحِ يَخافُونَ عَلى أنْفُسِهِمُ النِّفاقَ ويَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ وجَزَعُهُمْ مِنهُ، فالمُؤْمِنُ يَخافُ عَلى نَفْسِهِ النِّفاقَ الأصْغَرَ، ويَخافُ أنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الخاتِمَةِ، فَيُخْرِجُهُ إلى النِّفاقِ الأكْبَرِ، كَما تَقَدَّمَ أنَّ دَسائِسَ السُّوءِ الخَفِيَّةِ تُوجِبُ سُوءَ الخاتِمَةِ، وقَدْ كانَ النَّبِيُّ ? يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ فِي دُعائِهِ: ««يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ» فَقِيلَ لَهُ: يا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنّا بِكَ وبِما جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخافُ عَلَيْنا؟ فَقالَ: «نَعَمْ إنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِن أصابِعِ اللَّهِ عزوجل يُقَلِّبُها كَيْفَ شاءَ»» ” (جامع العلوم والحكم)
قال ابن عثيمين:” أبشروا فإن هذا الحديث مقيد، بأنه لا يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وأما الذي يعمل بعمل أهل الجنة بقلب وإخلاص فإن الله لا يخذله، والله أكرم من العبد” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
قال ابن حجر:” وقد اشتملت هذه الجملة على أنواع من التأكيد بالقسم ووصف المقسم به، وبـ ” أن ” وباللام، والأصل في التأكيد أنه يكون لمخاطبة المنكر أو المستبعد، أو من يتوهم فيه شيء من ذلك، وهنا لما كان الحكم مستبعدا، وهو دخول من عمل الطاعة طول عمره النار وبالعكس حسن المبالغة في تأكيد الخبر بذلك، والله أعلم.
قال ابن حجر:” قوله: (غير ذراع أو باع)، في رواية الكشميهني: ” غير باع أو ذراع “، وفي رواية أبي الأحوص: ” إلا ذراع “، ولم يشك، والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت، فيحال من بينه وبين المكان المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة، وضابط ذلك الحسي الغرغرة التي جعلت علامة لعدم قبول التوبة، وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفا وأهل الشر صرفا إلى الموت، ولا ذكر للذين خلطوا وماتوا على الإسلام؛ لأنه لم يقصد في الحديث تعميم أحوال المكلفين، وإنما سيق لبيان أن الاعتبار بالخاتمة. (فتح الباري)
قال القرطبي:” فيستفاد من هذا الحديث: الاجتهاد في إخلاص الأعمال لله تعالى، والتحرز من الرياء. ويستفاد من حديث ابن مسعود: ترك العجب بالأعمال، وترك الالتفات والركون إليها، والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته، والاعتراف بمنته، كما قال ?: لن ينجي أحدا منكم عمله … الحديث. (المفهم)
وفي الحديث أن خلق السمع والبصر يقع والجنين داخل بطن أمه،
وفيه أن الأعمال حسنها وسيئها أمارات وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء. قاله الخطابي، وفيه القسم على الخبر الصدق تأكيدا في نفس السامع، وفيه إشارة إلى علم المبدأ والمعاد وما يتعلق ببدن الإنسان وحاله في الشقاء والسعادة،
وفيه عدة أحكام تتعلق بالأصول والفروع والحكمة وغير ذلك،
وفيه أن السعيد قد يشقى، وأن الشقي قد يسعد، لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير.
وفيه أن الاعتبار بالخاتمة، قال ابن أبي جمرة نفع الله به: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال؛ لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم.
وفيه التنبيه على صدق البعث بعد الموت؛ لأن من قدر على خلق الشخص من ماء مهين، ثم نقله إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم ينفخ الروح فيه قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابا، ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها، ولقد كان قادرا على أن يخلقه دفعة واحدة، ولكن اقتضت الحكمة بنقله في الأطوار رفقا بالأم؛ لأنها لم تكن معتادة، فكانت المشقة تعظم عليها، فهيأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل، ومن تأمل أصل خلقه من نطفة وتنقله في تلك الأطوار إلى أن صار إنسانا جميل الصورة مفضلا بالعقل والفهم والنطق كان حقا عليه أن يشكر من أنشأه وهيأه، ويعبده حق عبادته، ويطيعه ولا يعصيه،
وفيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق: ما في علم الله تعالى، واللاحق: ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما وقع في الحديث، وهذا هو الذي يقبل النسخ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو – مرفوعا -: ” كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة “، فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى.
قال ابن عثيمين:” ولو سقط الجنين قبل تمام مائة وعشرين يومًا، فليس له حكم من جهة الصلاة عليه، بل يؤخذ ويدفن في أي حفرة من الأرض، ولا يصلى عليه، أما إذا تم مائة وعشرين يومًا، يعني أربعة أشهر، صار حينئذ إنسانًا، فإذا سقط بعد ذلك، فإنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، لو كان قدر اليد، فإنه يصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين إن كان مسلمًا.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
واستدل به على أن التخليق لا يكون إلا في الأربعين الثالثة، فأقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما، وهي ابتداء الأربعين الثالثة، وقد لا يتبين إلا في آخرها (فتح الباري)
وفيه الحث القوي على القناعة، والزجر الشديد عن الحرص; لأن الرزق إذا كان قد سبق تقديره لم يغن التعني في طلبه، وإنما شرع الاكتساب; لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا. (فتح الباري)
وفيه أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار (فتح الباري)
وفيه الحث على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف (فتح الباري)
وفي الحديث أن الأقدار غالبة، والعاقبة غائبة، فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال، ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة. (فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” ساق المؤلف هذا الحديث من أجل أن نخاف وأن نرجو، نخاف على أنفسنا من الفتنة، ولهذا ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائمًا الثبات: اللهم ثبتني بالقول الثابت، وكان النبي على الصلاة والسلام يقول: ((اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، اللهم مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك)) هذا هو النبي ?. وأيضًا نأخذ من هذا الحديث ألا نيأس، ولا نيأس من شخص نجد على الكفر أو على الفسق، ربما يهديه الله في آخر لحظة، ويموت على الإسلام.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
قال ابن باز:” المؤمن العاقل يفهم هذا الشيء ويعد له عدته ويسأل ربه دائما أن يحسن له الختام، وأن يكفيه شر نفسه وهواه … وقد قال صلى الله عليه وسلم (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) ” (انظر شرح رياض الصالحين لابن باز)
404 – وعنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ?: «يُؤْتى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها» رواه مسلم (9مليار و900 مليون ملك)
قوله: (يؤتى بجهنم) الباء للتعدية أي يؤتى بها من المكان الذي خلقها الله تعالى فيه، ويدل عليه قوله تعالى فيه {وجيء يومئذ بجهنم} (يومئذ) أي يوم القيامة (المباركفوري)
النووي:” جهنم: اسم لنار الآخرة، نسأل الله الكريم العافية منها، ومن كل بلاء. قال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال يونس وأكثر النحويين: جهنم اسم للنار التي يعاقب الله تعالى بها في الآخرة، وهي عجمية لا تنصرف للتعريف والعجمة. قال: وقال آخرون: جهنم اسم عربي، سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها، ولم تنصرف للتعريف والتأنيث، وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِها قالَ رُؤْبَةُ يُقالُ بِئْرٌ جَهَنّامٌ أيْ بَعِيدَةُ القَعْرِ وقِيلَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجُهُومَةِ وهِيَ الغِلَظُ يُقالُ جَهْمُ الوَجْهِ أيْ غَلِيظُهُ فَسُمِّيَتْ جَهَنَّمَ لِغِلَظِ أمْرِها واللَّهُ أعْلَمُ (تهذيب الأسماء)
(لها سبعون ألف زمام) بكسر الزاي وهو ما يشد به. وقال في المجمع: الزمام ما يجعل في أنف البعير دقيقا، وقيل ما يشد به رءوسها من حبل وسير انتهى (تحفة الاحوذي)
(يجرونها) بتشديد الراء أي يسحبونها. قال في اللمعات: لعل جهنم يؤتى بها في الموقف ليراها الناس ترهيبا لهم. (تحفة الاحوذي)
مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، يَجُرُّونَها»)؛ أي: يسحبونها؛ أي: إلى أن تُدار بأرض لا تبقى للجنة طريق إلا الصراط على ظهرها، وفائدة هذه الأزِمّة التي تُجرّ بها بَعد الإشارة إلى عظمتها: مَنعها من الخروج على المحشرإلا من شاء الله منهم، (مرقاة المفاتيح للقاري)
وقال القرطبيّ -رحمه الله: قوله: «يؤتى بجهنم إلخ» قد تقدَّم: أن جهنم اسم عَلَم لنار الآخرة، وكذلك: سقر، ولها أسماء كثيرة- أعاذنا الله منها-؛ يعني: أنها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله فيه، فتُدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والزمام: ما يُزمّ به الشيء؛ أي: يُشدّ، وُيربط، وهذه الأزمّة التي تساق جهنّم بها أيضًا تمنع من خروجها على أهل المحشر، فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أُمرت بأخذ من شاء الله أخذه، وملائكتها- كما وصفهم الله تعالى-: {عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [التحريم (6)]، وأما هذا العدد المحصور للملائكة فكأنه عدد رؤسائهم، وأما جملتهم، فالعبارة عنها ما قال الله تعالى: {وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلّا هُوَ} [المدثر (31)]. (المفهم) لا أحد يعبر الجنة إلى من طريق جهنم
قال ابن باز:” ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» يبرزونها يوم القيامة، كما قال تعالى: «وبرزت الجحيم للغاوين} [الشعراء: 91] وبرزت الجحيم لمن يري * [النازعات: 36] تبرز يوم القيامة ليراها الناس على عظمتها وسعتها، وما فيها من الأهوال هذا الجمع العظيم من الملائكة «كل زمام» بيد «سبعون ألف ملك» ولها سبعون ألف زمام فكم يحصيهم هذا العدد الكبير الضخم الذي يوكل بإبراز هذه النار للناس؛ ليعرفوا خطرها وعظمتها، وسوء حالها، وما فيها من الأغلال والبلاء والشر العظيم لأهلها، نسأل الله العافية” (شرح رياض الصالحين لابن باز)
روى الحاكم عن النعمان بن بشيرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله – ? – يخطبُ يقول: «أنذرْتُكم النارَ، أنذرْتُكم النارَ». حتى لو أنّ رجلًا كان بالسوقِ لسَمِعَه مِن مقامي هذا؛ حتى وقَعَتْ خميصَةٌ كانَتْ على عاتِقِه عند رِجْلَيْهِ. (صحيح الترغيب)
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله – ? -:» ما رأيتُ مثلَ النارِ نامَ هارِبُها، ولا مثلَ الجنَّةِ نامَ طالبُها «.
حسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب، أي الذي يهرب من النار كيف ينام لهولها، والذي يطلب الجنة كيف ينام لعظم نعيمها.
ورى الإمام أحمد عن أنسِ بنِ مالكٍ عن رسولِ الله – ? – أنّه قال لِجبريلَ: «ما لي لا أرى ميكائيلَ ضاحِكًا قَطُّ؟».قال: ما ضَحِكَ ميكائيلُ منذ خُلِقَتِ النارُ. (حسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب)
405 – وعن النُّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ قالَ: سمِعتُ رسولَ اللَّه ?، يقول: «إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النّارِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَة لَرَجُلٌ يُوضَعُ في أخْمَصِ قَدميْهِ جمْرَتانِ يغْلي مِنهُما دِماغُهُ ما يَرى أنَّ أحدًا أشَدُّ مِنه عَذابًا، وإنَّه لأهْونُهُمْ عذابًا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
و في رواية البخاري
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ “.
جاء في راوية مسلم:” َنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا “.”
قوله: (إن أهون أهل النار) أي أيسرهم قال ابن التين: يحتمل أن يراد به أبو طالب. قال الحافظ: وقد بينت في قصة أبي طالب من المبعث النبوي أنه وقع في حديث ابن عباس عند مسلم التصريح بذلك ولفظه ” أهون أهل النار عذابا أبو طالب ” (تحفة الأحوذي)
قال ابن باز:” منهم: أبو طالب يغلي منه دماغه، فكيف بحال من تغشاه النار يمينا و شمالا وفوقا وتحت، كيف بحال هؤلاء الذي لهم من جنهم مهاد ومن فوقهم غواش، فلحافهم من النار وفراشهم من النار … والله كتب عليهم ألا يموتوا بل في عذاب أبدا، ((لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخَفف عنهم من عذابها) وقال سبحانه ((إنه من يأت ربَّه مجرمالا فإن له جنهم َ لا يموت فيها ولا يحيى))
قوله صلى الله عليه وسلم: (يوضع في أخمص قدميه) هو بفتح الهمزة وهو المتجافي من الرجل عن الأرض. (النووي)
رجل في أخمص قدميه) بخاء معجمة وصاد مهملة وزن أحمر ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي (تحفة الأحوذي) إذا وقفت ستلاحظ أن في الوسط لا يلمس إلى الأرض.
وقال الفيّوميّ: خَمِصَ القدمُ خَمَصًا، من باب تَعِبَ: ارتفعت عن الأرض، فلم تمسّها، فالرجل أخمصُ القدم، والمرأةُ خَمْصاء، والجمعُ خُمْصٌ، مثلُ أحمر، وحَمْراء، وحُمْر؛ لأنه صفة
جمرتان) تثنية جمرة بفتح الجيم وسكون الميم: وهي قطعة من نار ملتهبة. (تحفة الأحوذي)
قال الفيّوميّ: جَمْرة النار: القِطعة المُلْتَهِبة، والجمعُ جَمْرٌ، مثلُ تمرة وتمر، وجمع الجمرة جَمَرات، وجِمار. انتهى
والغليان معروف وهو شدة اضطراب الماء ونحوه على النار لشدة اتقادها، يقال: غلت القدر تغلي غليا وغليانا وأغليتها أا. (شرح مسلم
اما ما جاء في راوية البخاري، قوله: (كما يغلي المرجل بالقمقم) وأما ” المرجل ” فبكسر الميم وفتح الجيم وهو قدر معروف سواء كان من حديد أو نحاس أو حجارة أو خزف، هذا هو الأصح، وقال صاحب ” المطالع “: وقيل: هو القدر من النحاس – يعني – خاصة، والأول أعرف والميم فيه زائدة. (شرح النووي)
النووي:” والمرجل بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم بعدها لام قدر من نحاس ويقال أيضا لكل إناء يغلي فيه الماء من أي صنف كان (فتح الباري)
والقمقم معروف من آنية العطار ويقال هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره فارسي ويقال رومي وهو معرب وقد يؤنث فيقال قمقمة.
قال ابن التين: في هذا التركيب نظر وقال عياض: الصواب ” كما يغلي المرجل والقمقم ” بواو العطف لا بالباء وجوز غيره أن تكون الباء بمعنى مع ووقع في رواية الإسماعيلي: ” كما يغلي المرجل أو القمقم “. (فتح الباري)
أما ” الشراك ” فبكسر الشين وهو أحد سيور النعل، وهو الذي يكون على وجهها وعلى ظهر القدم. (شرح مسلم)
وفي هذا الحديث وما أشبهه تصريح بتفاوت عذاب أهل النار، كما أن نعيم أهل الجنة متفاوت. والله أعلم.
فيه شدة عذاب النار، وعذاب النار مما يخوف الله به عباده كما يخوفهم بناره ((لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ))
406 – وعن سمُرةَ بنِ جُنْدبٍ – رضي الله عنه- أن نبيَّ اللَّه ? قالَ: «مِنهُمْ مَن تَاخُذهُ النّارُ إلى كَعْبَيهِ، ومِنهُمْ منْ تاخُذُهُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنهُمْ منْ تَاخُذُهُ إلى حُجْزتِهِ، وِمِنهُمْ منْ تَاخُذُهُ إلى تَرْقُوَتِهِ» رواه مسلم.
«الحُجْزَةُ»: مَعْقِدُ الإزارِ تحْتَ السُّرَّةِ. و «التَّرْقُوَةُ» بفتحِ التاءِ وضم القاف: هِي العظْمُ الذِي عِندَ ثُغْرةِ النَّحْرِ، وللإنْسانِ ترْقُوَتانِ في جانِبَي النَّحْرِ.
وفي رواية: ” حقويه ” – بفتح الحاء وكسرها – وهما معقد الإزار، والمراد هنا: ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه.
(مَن تَاخُذُهُ النّارُ إلى كَعْبَيْهِ) تثنية كعب، قال الفيّوميّ: الكَعبُ من الإنسان اختَلف فيه أئمة اللغة، فقال أبو عمرو بن العلاء، والأصمعيّ، وجماعة: هو العظم الناشز في جانب القدم، عند ملتقى الساق والقدم، فيكون لكلّ قدم كَعبان، عن يمنتها، ويسرتها، وقد صرح بهذا الأزهريّ، وغيره، وقال ابن الأعرابيّ وجماعة: الكَعْب هو المَفْصِل بين الساق والقدم، والجمع كُعُوب، وأكعُبٌ، وكِعاب، قال الأزهريّ: الكَعْبانِ الناتئان في منتهى الساق مع القدم عن يمنة القدم وُيسْرتها، وذهبت الشّيعة إلى أن الكَعبَ في ظهر القدم، وأنكره أئمة اللغة كالأصمعيّ، وغيره.
هي العظم الذي عند ثغرة النحر) الثغرة بضم المثلثة وسكون المعجمة بعدها راء مهملة التي في وسطه قال في «شرح مسلم»: الترقوة بين ثغرة النحر والعاتق (وللإنسان ترقوتان في جانبي النحر) قال في «المصباح»: قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان خاصة.
قال القرطبيّ: هذا الحديث أيضًا يدلّ على أن أهل النار يتفاوتون فيها، ويصحّ مثل هذا في الكفار، كما قلناه في حديث أبي طالب، ويصحّ أن يكون ذلك فيمن يعذَّب من الموحّدين، إلا أن الله تعالى يُميتهم إماتة، كما صحّ في الحديث
وفيه: أنّ عذاب بعضهم أشد من بعض، قال الله تعالى: {ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِّمّا عَمِلُوا ولِيُوَفِّيَهُمْ أعْمالَهُمْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف
407 – وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما أنّ رسولَ اللَّه ? قالَ: «يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالمِينَ حَتّى يَغِيب أحدُهُمْ في رَشْحِهِ إلى أنْصافِ أُذُنَيه» متفقٌ عَلَيهِ.
وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعودٍ عن النبي – ? – قال: «يجمعُ الله الأوَّلين والآخِرينَ لميقاتِ يوم معلومٍ قيامًا أرْبعينَ سنةً، شاخِصةً أبْصارُهم، ينتظرون فصل القضاء» (صحيح الترغيب 3704)
في رواية البخاري: قوله: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}: زاد في رواية ابن وهب: ” يوم القيامة “. (فتح الباري)
قوله: (في رشحه) بفتحتين أي عرقه؛ لأنه يخرج من البدن شيئا بعد شيء كما يرشح الإناء المتحلل الأجزاء. ووقع في رواية سعيد بن داود: ” حتى إن العرق يلجم أحدهم إلى أنصاف أذنيه “. (فتح الباري)
قوله: (إلى أنصاف أذنيه) هو من إضافة الجميع إلى الجميع حقيقة ومعنى؛ لأن لكل واحد أذنين. وقد روى مسلم من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما “. (فتح الباري)
وقال ابن حجر:” الرشح بفتح الراء وسكون الشين المعجمة بعدهما مهملة هو العرق شبه برشح الإناء لكونه يخرج من البدن شيئا فشيئا وهذا ظاهر في أن العرق يحصل لكل شخص من نفسه وفيه تعقب على من جوز أن يكون من عرقه فقط أو من عرقه وعرق غيره، وقال عياض: يحتمل أن يريد عرق الإنسان نفسه بقدر خوفه مما يشاهده من الأهوال، ويحتمل أن يريد عرقه وعرق غيره فيشدد على بعض ويخفف على بعض وهذا كله بتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض حتى صار العرق يجري سائحا في وجه الأرض كالماء في الوادي بعد أن شربت منه الأرض وغاص فيها سبعين ذراعا. (فتح الباري)
وعن المقداد رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله – ? – يقولُ: «تدنو الشمسُ يومَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حتّى تكونَ مِنهُم كمقدْارِ ميلِ. -قال سُلَيمِ بن عامر: فوالله ما أدْري ما يَعني بالمِيل؟ مسافةَ الَأرْضِ أوَ المَيلَ التي تُكْحَلُ به العينُ؟ قال:- فَيكونُ الناسُ على قدرِ أعْمالِهِم في العَرقِ، فمنْهُم مَن يكونُ إلى كَعْبَيْه، ومنهُمْ مَن يكونُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومنْهُمْ مَن يكونُ إلى حَقْوَيهِ، ومنهم مَن يُلْجِمُهَ العَرقُ إلْجامًا»، وأشارَ رسولُ الله – ? – بيده إلى فِيهِ. رواه مسلم. وسيأتي شرحه في هذا الباب.
روى الإمام أحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم، عن عقبة بن عامرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: «تَدْنو الشمسُ مِنَ الأرْضِ فيعْرَقُ الناسُ، فمِنَ الناسِ مَن يبلُغ عَرَقُه عَقِبَيْهِ، ومنهم مَن يبلُغُ [إلى] نصْفِ السّاقِ، ومنهم مَن يبلُغُ إلى رُكْبتَيْه، ومنهم مَن يبلُغ العَجُزَ، ومنهم مَن يبلُغُ الخاصِرَةَ، ومنهم مَن يبلُغ منْكِبيْهِ، ومنهم مَن يبلغٌ عُنُقَهُ، ومنهم مَن يبلُغُ وسطَ فيهِ، -وأشار بيده فألْجَمها فاهُ، رأيْتُ رسولَ الله – ? – يُشيرُ هكذا-، ومنهم مَن يغَطِّيه عَرقُه»، وضرَب بيده إشارةً فأمَرَّ يدَه فَوقْ راسِه مِن غَيْرِ أنْ يصيبَ الراسَ، دَوَّرَ راحَتَه يَمينًا وشِمالًا.” (صحيح الترغيب 3590)
قال ابن باز:” الناس يوم القيامة يعظم عليهم الكرب ويشتد بهم الكرب حتى يلجمهم العرق من شدة الأمر، وحتى يغيب عرقه في الأرض سبعين ذراعاً من شدة الأهوال والكروب، ومنهم من يصل العرق إلى كعبه، إلى ركبته، إلى حجزته، ومنهم من يلجمهم إلجاماً إلى أنصاف أذنيه يخوضه خوضاً، ـ نعوذ بالله من ذلك ـ من شدة الأهوال والكروب، ولكنه يُيسر على المؤمن الذي اتقى الله، وهو يوم عسير لكنه على الكافرين، أما على المؤمن ميسر الذي اتقى الله وعظم حرماته واستقام على أمره فالله ييسر عليه هذه الكربات ولا تضره هذه الكربات وهذه الأهوال؛ لأنه أعد لها العدة من طاعة الله في حياته واستقام على أمره فوقاه الله شر ذلك اليوم، كما قال ? عن المؤمنين: إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) ” شرح رياض الصالحين لابن باز
408 – وعن أنس قالَ: خَطَبَنا رَسول اللَّه ?، خُطْبَةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قَطُّ، فَقالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قلِيلا ولبَكيْتمْ كَثِيرًا» فَغَطّى أصْحابُ رسولِ اللَّهِ ? وجُوهَهمْ، ولهُمْ خَنينٌ. متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: بَلَغَ رسولَ اللَّه ? عَنْ أصْحابِهِ شَيءٌ فَخَطَبَ، فَقالَ: «عُرضَتْ عَلَيَّ الجنَّةُ والنّارُ، فَلَمْ أر كاليَوْمِ في الخَيْر والشَّرِّ، ولَوْ تَعْلَمُونَ ما أعلَمُ لَضحِكْتُمْ قلِيلًا، ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» فَما أتى عَلى أصْحابِ رَسُول اللَّه ? يوْمٌ أشَدُّ مِنهُ غَطَّوْا رُؤُسهُمْ ولَهُمْ خَنِينٌ.
«الخَنِينُ» بِالخاءِ المعجمة: هُوَ البُكاءُ مَعَ غُنَّةٍ وانْتِشاقُ الصَّوتِ مِنَ الأنْفِ.
جاء في رواية عند البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَقَا الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدَيْهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ: ” لَقَدْ رَأَيْتُ الْآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبْلَةِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ” ثَلَاثًا.
قال ابن رجب:” الظاهر: أن هذه الصلاة كانَتْ غير صلاة الكسوف وأن الجنة والنار مثلتا لهُ في هذه الصلاة في جدار القبلة تمثيلًا، وأما إدناء الجنة والنار في صلاة الكسوف، فكان حقيقة. والله أعلم” (فتح الباري لابن رجب)
وقال المناويّ قوله: «لو تعلمون ما أعلم»؛ أي: من عِظَم انتقام الله من أهل الجرائم، وأهوال القيامة، وأحوالها ما علمته، لَما ضحكتم أصلًا المعبَّر عنه بقوله: «لضحكتم قليلًا»؛ إذ القليل بمعنى: العديم على ما يقتضيه السياق؛ لأنّ «لو» حرف امتناع لامتناع، وقيل: معناه: لو تعلمون ما أعلم مما أُعِدّ في الجَنَّة من النعيم، وما حُفَّت به من الحُجُب، لَسَهُل عليكم ما كُلِّفتم به، ثم إذا تأملتم ما وراء ذلك من الأمور الخطرات، وانكشاف المعظمات يوم العرض على فاطر السماوات، لاشتد خوفكم، ولبكيتم كثيرًا، فالمعنى مع البكاء لامتناع عِلْمكم بالذي أعلم، وقدَّم الضحك لكونه من المسرة، وفيه من أنواع البديع مقابلة الضحك بالبكاء، والقلة بالكثرة، ومطابقة كلّ منهما بالآخر، قيل: الخطاب إن كان للكفار فليس لهم ما يوجب ضحكًا أصلًا، أو للمؤمنين فعاقبتهم الجَنَّة، وإن دخلوا النار فما يوجب البكاء؟ فالجواب أن الخطاب للمؤمن، لكن خرج الخبر في مقام ترجيح الخوف على الرجاء. (فيض القدير للمناوي)
قوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا)، فيه أن الجنة والنار مخلوقتان. ومعنى الحديث: لم أر خيرا أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولا شرا أكثر مما رأيته اليوم في النار، ولو رأيتم ما رأيت، وعلمتم ما علمت مما رأيته اليوم وقبل اليوم لأشفقتم إشفاقا بليغا، ولقل ضحككم، وكثر بكاؤكم، وفيه دليل على أنه لا كراهة في استعمال لفظة ” لو ” في مثل هذا، والله أعلم. (شرح النووي)
وقال في «الفتح»: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا» دلالة على اختصاصه بمعارف بصرية، وقلبية، وقد يُطلِع الله عليها غيره من المخلصين من أمته، لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختُصّ بها النبيّ – ? -، فقد جَمَع الله له بين علم اليقين، وعين اليقين، مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية، على وجه لَمْ يجتمع لغيره، ويشير إلى ذلك قوله – ? -: في حديث عائشة -رضي الله عنها- «إن أتقاكم، وأعلمكم بالله لأنا». (فتح الباري)
قال القرطبي:” قوله – ? -: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا: يعني ما يعلم هو من أمور الآخرة وشدة أهوالها، ومما أُعِدّ في النار من عذابها وأنكالها، ومما أُعِدّ في الجنة من نعيمها وثوابها، فإنه – ? – قد كان رأى كل ذلك مشاهدة وتحقيقًا، ولذلك كان – ? – متواصل الأحزان، قليل الضحك؛ جلّه التبسم.” (المفهم)
قوله: (غطوا رءوسهم ولهم خنين) هو بالخاء المعجمة، هكذا هو في معظم النسخ، ولمعظم الرواة، ولبعضهم بالحاء المهملة، وممن ذكر الوجهين القاضي وصاحب التحرير وآخرون، قالوا: ومعناه بالمعجمة: صوت البكاء، وهو نوع من البكاء دون الانتحاب، قالوا: وأصل الخنين خروج الصوت من الأنف كالحنين بالمهملة من الفم، وقال الخليل: هو صوت فيه غنة، وقال الأصمعي: إذا تردد بكاؤه، فصار في كونه غنة فهو خنين. وقال أبو زيد: الخنين مثل الحنين، وهو شديد البكاء. (شرح النووي)
قال ابن حجر:” لَهُمْ حَنِينٌ بِالحاءِ المُهْمَلَةِ لِلْأكْثَرِ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالخاءِ المُعْجَمَةِ والأوَّلُ الصَّوْتُ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِالبُكاءِ مِنَ الصَّدْرِ والثّانِي مِنَ الأنْفِ وقالَ الخَطّابِيُّ الحَنِينُ بُكاءٌ دُونَ الِانْتِحابِ وقَدْ يَجْعَلُونَ الحَنِينَ والخَنِينَ واحِدًا إلّا أنَّ الحَنِينَ مِنَ الصَّدْرِ أي بِالمُهْمَلَةِ والخنين من الأنف بِالمُعْجَمَةِ”
جاء في بعض الروايات تكملة للحديث
قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. قَالَ: فَقَامَ ذَاكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: ” أَبُوكَ فُلَانٌ “. فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
(فقال: رضينا بالله ربا) قال ابن بطال: فهم عمر منه أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنت أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك فقال: رضينا بالله ربا … إلخ، فرضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فسكت. (فتح الباري)
قال الإمام ابن كثير في «تفسيره»: نَهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبيِّ – ? – عن الأشياء قبل كونها، وقوله: {وإنْ تَسْألُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة (101)]؛ أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تُبَيَّن لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعله أن يُحَرَّم من أجل تلك المسألة
قال ابن حجر:” وفي الحديث إيثار الستر على المسلمين، وكراهة التشديد عليهم، وكراهة التنقيب عما لم يقع، وتكلف الأجوبة لمن يقصد بذلك التمرن على التفقه،” (فتح الباري)