397 و 398 و 399 و 400 و 401 و 402 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
49 – باب إجراء أحكام الناس على الظاهروسرائرهم إلى الله تَعالى
قال ابن باز:” ولاة الأمور إنما يأخذون الناس بما ظهر من أعمالهم، وهكذا المعاملات بين الناس على ما ظهر من الأعمال، أما ما يتعلق بالقلوب والسرائر فهذا إلى الله عزوجل هو الذي يعلمها ويجازي عليها ” (شرح رياض الصالحين 2/ 107)
قال ابن عثيمين:” أولًا: اعلم أن العبرة في الدنيا بما في الظواهر؛ اللسان والجوارح، وأن العبرة في الآخرة بما في السرائر بالقلب، فالإنسان يوم القيامة يحاسب على ما في قلبه، وفي الدنيا على ما في لسانه وجوارحه، قال الله تبارك وتعالى: (إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ) [الطارق (8)، (9)]، تختبر السرائر والقلوب. وقال تعالى: (أفَلا يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما فِي القُبُورِ وحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات: (9) ـ (11)].
وهاهم الخوارج حدث عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنهم يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويقرؤون القرآن، ويقومون الليل، ويبكون، ويتهجدون، ويحقر الصحابي صلاته عند صلاتهم، لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم» لا يدخل الإيمان قلوبهم.
مع أنهم صالحو الظواهر، لكن ما نفعهم. فلا تغتر بصلاح جوارحك، وانظر قبل كل شيء إلى قلبك، رفع رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قد شرب الخمر فجلده، ثم رفع إليه مرة أخرى فجلده، فسبه رجل من الصحابة، وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى الرسول.
فقال له الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنه؛ فإن يحب الله ورسوله» فالقلب هو الأصل ولهذا قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة (41)].
أما في الدنيا بالنسبة لنا مع غيرنا، فالواجب إجراء الناس على ظواهرهم؛ لأننا لا نعلم الغيب، ولا نعلم ما في القلوب، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أقضي بنحو ما أسمع»، ولسنا مكلفين بأن نبحث عما في قلوب الناس. (شرح ابن عثيمين)
قالَ الله تَعالى: {فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: (5)]
قال الطبري:” (فإن تابوا)، يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد, والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (وأقاموا الصلاة)، يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها وأعطوا الزكاة التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها (فخلوا سبيلهم)، يقول: فدعوهم يتصرفون في أمصاركم، ويدخلون البيت الحرام” (تفسير الطبري)
قال ابن كثير:” ولهذا اعتمد الصديق – رضي الله عنه – في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته. ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق الله – عز وجل – وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة (تفسير ابن كثير)
قال ابن باز:” قال سبحانه: «فإن تابوا وأقاموا الصلوة واتوا الزكوة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيمة [التوبة: 5] يعني: ليس لكم حق في التنقيب عن بواطنهم، أمورهم إلى الله إذا كانوا منافقين وقالوها تقية فالله الذي يعلم ذلك، إنما على العبد الأخذ بالظاهر، فمن أظهر الإسلام قبل الإسلام وحقن دمه وماله، ولو اتهم بالنفاق ولو اتهم بغرض آخر فالأمر معلق بالظاهر؛ لقوله تعالى: «فخلوا سبيلهم، أي: لا تقتلوهم. وفي الآية الأخرى قال: «فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11] هم إخواننا في الدين على ما أظهروا، وما يتعلق بالقلوب فهو إلى الله عنه، ولهذا أقر من يتهم بالنفاق في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، جم غفير اتهموا بالنفاق؛ لأنهم لم يظهروا وهم متهمون ولم يؤخذوا به بل يؤخذون بما ظهر من أعمالهم، وهكذا في كل زمان إنما يؤخذ الناس بما ظهر من أعمالهم، فإذا تعلقت الأمور بالقلوب صار في الفساد العريض ما لا يحصيه إلا الله جل، فالقلوب ليس لأحد علم بما فيها إلا الله سبحانه وتعالى” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 108)
397 – وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى)) متفق عليه
بوب البخاري على هذا الحديث بالآية التي مرت معنا، قال:” بَابٌ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.” قال ابن حجر:” وإنما جعل الحديث تفسيرا للآية؛ لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، ففسره قوله صلى الله عليه وسلم: ” حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله “. وبين الآية والحديث مناسبة أخرى؛ لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحد (فتح الباري) قال القرطبي:” وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَانْتَظَمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَاطَّرَدَا.” (تفسير القرطبي)
قوله: (أمرت) أي: أمرني الله؛ لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر؛ لأنهم من حيث إنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل، والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس. (فتح الباري)
قوله: (أن أقاتل حتى يشهدوا) جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه أن من شهد وأقام وآتى عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام، والجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: ” إلا بحق الإسلام “. يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ فالجواب أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أما العبادات البدنية والمالية. (فتح الباري)
قوله: (ويقيموا الصلاة) أي: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، من: قامت السوق إذا نفقت، وقامت الحرب إذا اشتد القتال. أو المراد بالقيام الأداء – تعبيرا عن الكل بالجزء – إذ القيام بعض أركانها، والمراد بالصلاة المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا وإن صدق اسم الصلاة عليها (فتح الباري)
قوله: (فإذا فعلوا ذلك) فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان. (فتح الباري)
قوله: (عصموا) أي: منعوا، وأصل العصمة من العصام، وهو الخيط الذي يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء. (فتح الباري)
قوله: (وحسابهم على الله) فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر (فتح الباري) قال القاضي:” وقوله: «وحسابهم على الله»: أى حساب سرائرهم إن أظَهروا ما يحقن دماءهم ويعصمهم وأبطنوا خلافه كما فعله المنافقون، فذلك إلى المطلع على السرائر، وأن حكم النبى -عليه السلام- والأئمة بعده إنما كان على الظاهر.” (إكمال المعلم للقاضي عياض)
قال القرطبي:” و (قوله: وحِسابُهُم عَلى اللهِ) أي: حسابُ سرائرهم على الله؛ لأنّه تعالى هو المُطَّلِعُ عليها؛ فَمَن أخلَصَ في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاءَ المُخلِصين، ومن لم يُخلِص في ذلك كان من المنافقين، يُحكَمُ له في الدنيا بأحكامِ المسلمين، وهو عند الله مِن أسوأ الكافرين.
ويستفادُ منه: أنّ أحكامَ الإسلامِ إنَّما تُدارُ على الظواهرِ الجليَّة، لا الأسرارِ الخفيَّة.” (المفهم للقرطبي)
الإمام ابن حبّان رحمه الله تعالى: فيه بيانٌ واضحٌ بأن الإيمان أجزاءٌ وشُعَبٌ تتباين أحوال المخاطبين فيها؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – ذَكَرَ في هذا الخبر: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله»، فهذا هو الإشارة إلى الشعبة التي هي فَرْضٌ على المخاطبين في جميع الأحوال، ثم قال: «ويقيموا الصلاة»، فذكر الشيء الذي هو فرض على المخاطبين في بعض الأحوال، ثم قال: «ويؤتوا الزكاة»، فذكر الشيء الذي هو فرض على المخاطبين في بعض الأحوال، فدل ذلك على أن كل شيء من الطاعات التي تشبه الأشياء الثلاثة التي ذكرها في هذا الخبر من الإيمان.” (الاحسان في تقريب صحيح ابن حبان)
398 – وعن أبي عبدِ اللَّه طارِقِ بن أُشَيْمٍ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «مَن قالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، وكَفَرَ بِما يُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ، حَرُمَ مالُهُ ودَمُهُ، وحِسابُهُ عَلى اللَّه تَعالى» رواه مسلم
هالحديث كسابقه أن الإنسان يحاسب بحسب الأعمال الظاهرة، والسرائر إلى الله تعالى.
الاسمين بعده، وقوله (وحسابه على الله تعالى) جملة مستأنفة مسوقة لبيان تعلق أحكام الشريعة بالظاهر دون ما يخفيه ويسره ذو العقيدة الفاسدة أو يخفيه ذو الأعمال القبيحة فيفوض أمر ذلك إلى المولى سبحانه (دليل الفالحين لابن علان)
(رواه مسلم) منفردًا به عن باقي الكتب الستة. (دليل الفالحين لابن علان)
399 – وعن أبي مَعْبدٍ المقْدادِ بنِ الأسْوَدِ -رضي الله عنه-، قالَ: قُلْتُ لرِسُولِ اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: أرَأيْتَ إنْ لَقيتُ رَجُلًا مِنَ الكُفّارِ، فاقْتَتَلْنا، فَضَرَبَ إحْدى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعها ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقالَ: أسْلَمْتُ للَّهِ، أأقْتُلُهُ يا رسولَ اللَّه بَعْدَ أنْ قالَها؟ فَقالَ:» لا تَقْتُلْهُ «، فَقُلْتُ يا رسُولَ اللَّهِ قطعَ إحدى يَدَيَّ، ثُمَّ قالَ ذلكَ بَعْدَما قَطعَها؟ فَقالَ:» لا تَقْتُلْهُ، فِإنْ قَتَلْتَهُ، فَإنَّهُ بِمنَزِلَتِكَ قَبْلَ أنْ تَقْتُلَهُ. وإنَّكَ بِمَنزِلَتِهِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي قالَ «متفقٌ عَلَيهِ.
ومعنى» إنَّهُ بِمَنزِلَتِك «أيْ: مَعْصُومُ الدَّمِ مَحْكُومٌ بِإسْلامِهِ، ومعنى» إنّكَ بِمَنزِلَته «أيْ: مُباحُ الدَّمِ بِالقِصاص لِوَرَثَتِهِ، لا أنَّهُ بِمَنزِلَتِهِ في الكُفْرِ، واللَّه أعلم.
بوب القرطبي: بابٌ يُكتَفى بِظاهِرِ الإسلاَمِ، ولاَ يُبقَّرُ عَمّا فِي القُلُوبِ
(فَقُلْتُ يا رسُولَ اللَّهِ قطعَ إحدى يَدَيَّ) قال: يا رسول، فأعاد ” أنه ” لطول الكلام، ولو لم يذكرها لكان صحيحا، بل هو الأصل، ولكن لما طال الكلام جاز أو حسن ذكرها. ونظيره في كلام العرب كثير وقد جاء مثله في القرآن العزيز، والأحاديث الشريفة. ومما جاء في القرآن قوله عز وجل حكاية عن الكفار: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} فأعاد {أنكم} للطول ومثله قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}، فأعاد {لما جاءهم} (شرح مسلم للنووي)
قوله ” يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار؟ ” هكذا هو في أكثر الأصول المعتبرة. وفي بعضها: أرأيت لقيت بحذف ” إن ” والأول هو الصواب. (شرح مسلم للنووي) قال القرطبي:” (قوله: أرَأيتَ إن جاءَ رَجُلٌ مِنَ الكُفّارِ، فَقاتَلَنِي؟) دليلٌ على جوازِ السؤالِ عن أحكامِ النوازلِ قبل وقوعها. وقد رُوِيَ عن بعضِ السلف: كراهيَةُ الكلامِ في النوازلِ قبل وقوعها، وهذا إنَّما يُحمَلُ على ما إذا كانت تلك المسائلُ مما لا تقَعُ، أو تقعُ نادرًا، فأمّا ما يتكرَّر من ذلك، ويكثُرُ وقوعه: فيجبُ بيانُ أحكامِها على مَن كانت له أهليةُ ذلك، إذا خِيفَ الشُّغُور عن المجتهدين والعلماءِ في الحالِ أو في الاستقبال؛ كما قد اتَّفَقَ عليه أئمَّةِ المسلمين مِنَ السلف: لما توقَّعوا ذلك، فرَّعوا الفروعَ ودوَّنوها وأجابوا عما سُئِلُوا عنه مِن ذلك؛ حِرصًا على إظهارِ الدِّين، وتقريبًا على مَن تعذَّرَت عليه شروطُ الاجتهادِ مِنَ اللاحقين.” (المفهم)
وقوله: ” لاذ مني بشجرة ” أي اعتصم مني، وهو معنى قوله: قالها متعوذا؛ أي معتصما وهو بكسر الواو. (شرح مسلم للنووي) قال ابن حجر:” أي: التجأ إليها، وفي رواية الكشميهني: ” ثم لاذ مني بشجرة “، والشجرة مثال.” (فتح الباري)
و (قوله: أسلَمتُ لِلّهِ) قال القرطبي:” أي: دخلتُ في دينِ الإسلامِ، وتَدَيَّنتُ به. وفيه: دليلٌعلى أنَّ كلَّ مَن صدَرَ عنه أمرٌ مّا يدُلُّ على الدخولِ في دينِ الإسلامِ مِن قولٍ أو فعل، حُكِمَ له لذلك بالإسلام، وأنّ ذلك ليس مقصورًا على النطقِ بكلمتَيِ الشهادة.
وقد حكَمَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بإسلامِ بني جَذِيمة الذين قتلهم خالدُ بنُ الوليد، وهم يقولون: صَبَأنا صَبَأنا، ولم يُحسِنُوا أن يقولوا: أسلَمنا، فلمّا بلغ ذلك النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، قال: اللَّهُمَّ، إنِّي أبرَأُ إلَيكَ مِمّا صَنَعَ خالِدٌ، رافعًا يدَيهِ إلى السماء، ثم وداهُم.
على أنّ قوله في هذه الرواية: أسلَمتُ لِلّهِ يَحتملُ أن يكونَ ذلك نقلًا بالمعنى، فيكونُ بعض الرواة عبَّر عن قوله: لا إله إلا الله بأسلَمتُ؛ كما قد جاء مفسَّرًا في رواية أخرى قال فيها: فَلَمّا أهوَيتُ لِأقتُلَهُ، قالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ.” (المفهم للقرطبي)
فقوله صلى الله عليه وسلم في الذي قال: لا إله إلا الله: ” لا تقتله، فإن قتلته فإنه في منزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال “، اختلف في معناه؛ فأحسن ما قيل فيه وأظهره ما قاله الإمام الشافعي، وابن القصار المالكي، وغيرهما أن معناه: فإنه معصوم الدم، محرم قتله بعد قوله: لا إله إلا الله كما كنت أنت قبل أن تقتله. وإنك بعد قتله غير معصوم الدم، ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله: لا إله إلا الله. قال ابن القصار: يعني لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك. قال القاضي: وقيل: معناه إنك مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم، وإن اختلفت أنواع المخالفة والإثم فيسمى إثمه كفرا وإثمك معصية وفسقا. (شرح مسلم للنووي) رغم أنه جاء كافرا محارب و حارب وقطع اليد ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم:” لا تقتله”
قال النووي:” وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة قصاصا ولا دية ولا كفارة، فقد يستدل به لإسقاط الجميع، ولكن الكفارة واجبة، والقصاص ساقط للشبهة؛ فإنه ظنه كافرا وظن أن إظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلما. وفي وجوب الدية قولان للشافعي، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء. ويجاب عن عدم ذكر الكفارة بأنها ليست على الفور، بل هي على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول. وأما الدية على قول من أوجبها فيحتمل أن أسامة كان في ذلك الوقت معسرا بها، فأخرت إلى يساره. ” (شرح مسلم للنووي)
قوله: (فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول)، قال الخطابي: معناه: أن الكافر مباح الدم بحكم الدين قبل أن يسلم، فإذا أسلم صار مصان الدم كالمسلم، فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحا بحق القصاص كالكافر بحق الدين، وليس المراد إلحاقه في الكفر كما تقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة، وحاصله: اتحاد المنزلتين مع اختلاف المأخذ، فالأول: أنه مثلك في صون الدم، والثاني: أنك مثله في الهدر. ونقل ابن التين عن الداودي قال: معناه: إنك صرت قاتلا كما كان هو قاتلا، قال: وهذا من المعاريض؛ لأنه أراد الإغلاظ بظاهر اللفظ دون باطنه، وإنما أراد أن كلا منهما قاتل، ولم يرد أنه صار كافرا بقتله إياه. ونقل ابن بطال عن المهلب معناه فقال: أي: أنك بقصدك لقتله عمدا آثم كما كان هو بقصده لقتلك آثما، فأنتما في حالة واحدة من العصيان، وقيل: المعنى: أنت عنده حلال الدم قبل أن تسلم وكنت مثله في الكفر كما كان عندك حلال الدم قبل ذلك، وقيل: معناه: أنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنك مغفور لك بشهود بدر. ونقل ابن بطال عن ابن القصار أن معنى قوله: ” وأنت بمنزلته “، أي: في إباحة الدم، وإنما قصد بذلك ردعه وزجره عن قتله لا أن الكافر إذا قال: أسلمت حرم قتله، وتعقب بأن الكافر مباح الدم، والمسلم الذي قتله إن لم يتعمد قتله ولم يكن عرف أنه مسلم وإنما قتله متأولا فلا يكون بمنزلته في إباحته. ” ونقل احجر أقوال أُخر لعل هذه أهمها.
قال ابن عثيمين:” قال «لا تقتله»، فإن قتلته فأنت مثله قبل أن يقول هذه الكلمة، يعني تكون كافرًا، مع العلم بأني أنا وأنتم، نظن أن هذا الرجل قال أشهد أن لا إله إلا الله خوفًا من القتل، ومع ذلك يقول: لا تقتله، فعصم دمه وماله، وفي هذا الحديث أيضًا الدليل على أن ما أتلفه الكفار من أموال وما جنوه على المسلمين غير مضمون. يعني الكافر لو أتلف شيئًا للمسلمين، أو قتل نفسًا لا يضمن إذا أسلم، فالإسلام يمحو ما قبله.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
قال ابن باز:” هذا يدل على وجوب الكف على من أظهر الإسلام وعدم قتاله ولو قاتل ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 108)
400 – وعن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قالَ: بعثَنا رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – إلى الحُرَقَةِ مِن جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا القَوْمَ عَلى مِياهِهمْ، ولحِقْتُ أنا ورَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ رَجُلًا مِنهُمْ فَلَمّا غَشِيناهُ قالَ: لاَ إلهِ إلاَّ اللَّه، فَكَفَّ عَنْهُ الأنْصارِيُّ، وطَعَنْتُهُ بِرْمِحِي حَتّى قَتَلْتُهُ، فَلَمّا قَدِمْنا المَدينَةَ، بلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ لِي:» يا أُسامةُ أقَتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ: لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ؟ قلتُ: يا رسولَ اللَّه إنَّما كانَ مُتَعَوِّذًا، فَقالَ: «أقًتَلْتَهُ بَعْدَ ما قالَ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ؟،» فَما زالَ يُكَرِّرُها عَلَيَّ حَتّى تَمنَّيْتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ اليَوْمِ. متفقٌ عَلَيهِ.
وفي روايةٍ: فَقالَ رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: «أقالَ: لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وقَتَلْتَهُ؟، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما قالَها خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قالَ:» أفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتّى تَعْلَمَ أقالَها أمْ لا؟، «فَما زالَ يُكَرِّرُها حَتّى تَمَنَّيْتُ أنِّي أسْلَمْتُ يَؤْمئذٍ.
»
الحُرَقَةُ «بضم الحاءِ المهملة وفتح الراءِ: بَطْنٌ مِن جُهَيْنَةَ القَبِيلةُ المَعْرُوفَةُ، وقوله مُتَعَوِّذًا: أيْ مُعْتَصِمًا بِها مِنَ القَتْلِ لاَ معْتَقِدًا لَها.
401 – وعن جُنْدبِ بنِ عبد اللَّه – رضي الله عنه-، أنَّ رسولَ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – بعثَ بعْثًا مِنَ المُسْلِمِينَ إلى قَوْمٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، وأنَّهُمْ التَقَوْا، فَكانَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ إذا شاءَ أنْ يَقْصِدَ إلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وأنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ فقتلَهُ، وكُنّا نَتَحَدَّثُ أنَّهُ أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَلمّا رَفَعَ عَلَيهِ السَّيْفَ، قالَ: لا إله إلاَّ اللَّهُ، فقَتَلَهُ، فَجاءَ البَشِيرُ إلى رَسُول اللَّه – صلى الله عليه وسلم -، فَسَألَهُ، وأخْبَرَهُ، حَتّى أخْبَرَهُ خَبَر الرَّجُلِ كَيْفَ صنَعَ، فَدَعاهُ فَسَألَهُ، فَقالَ:» لِمَ قَتَلْتَهُ؟ «فَقالَ: يا رسولَ اللَّهِ أوْجَعَ في المُسْلِمِينَ، وقَتلَ فُلانًا وفُلانًا وسَمّى لَهُ نَفرًا وإنِّي حَمَلتْ عَلَيْهِ، فَلَمّا رَأى السَّيْفَ قالَ: لا إله إلاَّ اللَّهُ. قالَ رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم -:» أقَتَلْتَهُ؟ «قالَ: نَعمْ، قالَ:» فَكيْفَ تَصْنَعُ بلاَ إله إلاَّ اللَّهُ، إذا جاءَت يوْمَ القيامَةِ؟ “قال يا رسولَ اللَّه اسْتَغْفِرْ لِي. قالَ:» وكيفْ تَصْنَعُ بِلا إله إلاَّ اللَّهُ، إذا جاءَت يَوْمَ القِيامَةِ؟ «فَجَعَلَ لاَ يَزيدُ عَلى أنْ يَقُولَ:» كيفَ تَصْنَعُ بِلا إلهَ إلاَّ اللَّهُ إذا جاءَتْ يَوْمَ القِيامَةِ «رواه مسلم.
وحديث جندب في بدايتها قصة حيث روى مسلم بإسناده عن عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلَامَةَ زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: اجْمَعْ لِي نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِكَ حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ، فَبَعَثَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ، وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ: تَحَدَّثُوا بِمَا كُنْتُمْ تَحَدَّثُونَ بِهِ حَتَّى دَارَ الْحَدِيثُ، فَلَمَّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ حَسَرَ الْبُرْنُسَ عَنْ رَاسِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُكُمْ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا الحديث، قال النووي معلقا:” وأما ما فعله جندب بن عبد الله رضي الله عنه من جمع النفر ووعظهم ففيه أنه ينبغي للعالم والرجل العظيم المطاع وذي الشهرة أن يسكن الناس عند الفتن ويعظهم ويوضح لهم الدلائل ” (شرح مسلم للنووي)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ معناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان وقال: أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها؟ وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت لست بقادر على هذا، فاقتصر على اللسان فحسب يعني ولا تطلب غيره. (شرح مسلم للنووي)
قال القرطبي:” وفيه: دليلٌ على ترتيبِ الأحكامِ على الأسبابِ الظاهرة الجليَّة، دون الباطنةِ الخفيَّة” (المفهم)
قوله: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة) – بضم المهملة وبالراء ثم قاف – وهم بطن من جهينة، … قال ابن الكلبي: سموا بذلك لوقعة كانت بينهم وبين بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان فأحرقوهم بالسهام لكثرة من قتلوا منهم. وهذه السرية يقال لها: سرية غالب بن عبيد الله الليثي، وكانت في رمضان سنة سبع فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي: ” حدثني شيخ من أسلم عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبيد الله الكلبي ثم الليثي إلى أرض بني مرة وبها مرداس بن نهيك حليف لهم من بني الحرقة، فقتله أسامة ”
قوله: (فصبحنا القوم) أي: هجموا عليهم صباحا قبل أن يشعروا بهم، يقال: صبحته: أتيته صباحا بغتة، ومنه قوله: {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر}. (فتح الباري)
قوله: (ولحقت أنا ورجل من الأنصار)، لم أقف على اسم الأنصاري المذكور في هذه القصة. (فتح الباري)
قوله: (فلما قدمنا) أي: المدينة (بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم)، في رواية الأعمش: ” فوقع في نفسي من ذلك شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم “، ولا منافاة بينهما؛ لأنه يحمل على أن ذلك بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من أسامة لا من غيره، فتقديره الأول: بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مني. (فتح الباري)
قوله: (أقتلته بعد ما قال) قال القرطبي:” قوله – رضي الله عنه- لأسامة: أقالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وقَتَلتَهُ؟!، وتكرارُ ذلك القولِ: إنكارٌ شديد، وزجرٌ وكيد، وإعراضٌ عن قبول عذر أسامة الذي أبداه بقوله: إنَّما قالَها خَوفًا مِنَ السِّلاَحِ.” (المفهم)
قال ابن حجر:” في رواية الكشميهني: ” بعد أن قال “، قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد (فتح الباري (
قوله: (إنما كان متعوذا)، في رواية الأعمش: ” قالها خوفا من السلاح “، وفي رواية ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أسامة: ” إنما فعل ذلك ليحرز دمه “. (فتح الباري)
قوله: (حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) قال القرطبي:” وإنّما تمنّى أسامةُ أن يتأخَّر إسلامُهُ إلى يوم المعاتبة؛ لِيَسلَمَ من تلك الجناية السابقة، وكأنّه استصغَرَ ما كان منه مِنَ الإسلامِ والعملِ الصالح قبل ذلك، في جَنب ما ارتكَبَه من تلك الجناية؛ لِما حصَلَ في نفسه من شدَّةِ إنكارِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لذلك، وعِظَمِهِ.” (المفهم)
قال ابن حجر:” أي: أن إسلامي كان ذلك اليوم؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فتمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام ليأمن من جريرة تلك الفعلة، ولم يرد أنه تمنى أن لا يكون مسلما قبل ذلك (فتح الباري)
ثم نقل ابن حجر كلام الخطابي فقال:” قال الخطابي: لعل أسامة تأول قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}، ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا غيرها. قلت: كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعا مقيدا بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالصا من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد من الآية، وأما كونه لم يلزمه دية ولا كفارة فتوقف فيه الداودي وقال: لعله سكت عنه لعلم السامع، أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة. وقال القرطبي: لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بعد؛ لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال: فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء؛ لأنه كان مأذونا له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس ولا مال كالخاتن والطبيب، أو؛ لأن المقتول كان من العدو، ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته. قال: وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو؛ لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة، فلم تلزم العاقلة الدية، وفيه نظر.
قال ابن بطال: كانت هذه القصة سبب حلف أسامة أن لا يقاتل مسلما بعد ذلك، ومن ثم تخلف عن علي في الجمل وصفين (فتح الباري)
قال ابن باز:” المقصود: ان من أظهر الإسلام يكف عنه حتى ولو في حال القتال ولو بين الصفين، وهذا كله مما يدل على أنه ينبغي الترغيب في الإسلام وينبعي حث الناس على الإسلام، والكف عنهم إذا أظهروه ترغيباً لهم الإسلام، ليس المقصود قتالهم، المقصود دعوتهم إلى الله، المقصود إخراجهم من الظلمات إلى النور، فإذا أظهروا الإسلام وجب الكف عنهم سواء كان قبل القتال أو في حال القتال، وإنما يكف عمن قال: لا إله إلا الله إذا كان لا يقولها قبل ذلك؛ كعباد الأوثان في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقولونها، إذا قالوها فهو علامة إسلامهم، أما كفار اليوم يقولونها وهم كفار وهم يعبدون غير الله، فلا يكف عنهم إلا إذا قالوا: تبنا إلى الله من ذلك، أو رجعنا عما نحن عليه من تعلق بالقبور وعبادة الأوثان، حتى يصرحوا بشيء يدل على توبتهم مما هم فيه.
والخلاصة: أن الواجب الكف عمن أظهر الإسلام بأي لغة أظهرها بأي معنى أظهرها، إذا أظهرها بالمقابل أنه أظهر الإسلام بلغته أو بعلامة عرفها منه فإنه يكف عنه، فإن الناس يختلفون، ليس كلهم عرباً، قد يكون أعاجم لا يعرفون أن يقولوا: لا إله إلا الله، ولكن متى أظهر منهم الإسلام بطريقة عرفها منه فإنه يكف عنه، ثم ينظر في أمره فإن استقام على الإسلام فالحمد الله، وإن رجع إلى كفره صار مرتداً يقتل لردته، «من بدل دينه فاقتلوه» (شرح رياض الصالحين لابن باز)
الدماء أمرها عظيم، وفي صحيح مسلم – أوَّلُ ما يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ يَومَ القِيامَةِ في الدِّماءِ. [وفي رواية]:يُحْكَمُ بيْنَ النَّاسِ.
وروى الإمام أحمد بإسناده في فضائل الصاحبة عن الحَسَنَ قالَ: لَمّا كانَ مِن عُثْمانَ ما كانَ، واخْتِلاطِ النّاسِ أتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقالُوا: أنْتَ سَيِّدُنا، وابْنُ سَيِّدِنا، اخْرُجْ يُبايِعْكَ النّاسُ، وكُلُّهُمْ بِكَ راضٍ، فَقالَ: «لا واللَّهِ لا يُهْراقُ فِي سَبَبِي مِحْجَمَةٌ مِن دَمٍ، ما كانَ فِيَّ رُوحٌ»، ثُمَّ عادُوا إلَيْهِ فَخَوَّفُوهُ فَقالُوا: لَتُخْرُجَنَّ أوْ لَتُقْتَلَنَّ عَلى فِراشِكَ، فَقالَ: مِثْلَها، فَأطْمَعُ وأُخِيفُ، قالَ: فَواللَّهِ ما اسْتَقَلُّوا مِنهُ بِشَيْءٍ حَتّى لَحِقَ بِاللَّهِ. (فضائل الصحابة للإمام أحمد رقم 1702)
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده في الإشراف منازل الأشراف عن عاصِمٌ، قالَ: قالَ مَرْوانُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما -: هَلُمَّ نُبايِعُكَ، فَإنَّكَ سَيِّدُ العَرَبِ وابْنُ سَيِّدِها، فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكَيْفَ أصْنَعُ بِأهْلِ المَشْرِقِ؟ قالَ: نُقاتِلُهُمْ، قالَ: واللَّهِ ما يَسُرُّنِي أنَّ العَرَبَ دانَتْ لِي سَبْعِينَ عامًا وأنَّهُ قُتِلَ فِي سَبَبِي رَجُلٌ واحِدٌ.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «لنْ يزالَ المؤمن في فُسْحَةٍ من دينِه ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حرامًا». وقال ابن عمر: مِن ورْطاتِ الأمورِ التي لا مَخْرَج لِمَن أوْقَعَ نَفْسَه فيها؛ سَفْكُ الدمِ الحَرامِ بغيرِ حِلِّهِ.
(الورْطات): جمع ورطة بسكون الراء: وهي الهلكة، وكل أمر تعسر النجاة منه.
روى ابن ماجه عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه؛ أنّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لزَوالُ الدنيا؛ أهْوَنُ على الله مِن قتلِ مؤمنٍ بغيرِ حقٍّ».رواه ابن ماجه بإسناد حسن، ورواه البيهقي والأصبهاني، وزاد فيه: «ولوْ أنَّ أهلَ سماواتِه وأهلَ أرضهِ اشْتَركوا في دَمِ مؤْمِنٍ؛ لأدْخَلَهُم الله النارَ».
وعن أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنه عن رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لو أنّ أهلَ السماءِ وأهل الأرضِ اشْتَركوا في دَمِ مؤْمنٍ؛ لأكبَّهُم الله في النارِ». رواه الترمذي وقال: «حديث حسن غريب».
402 – وعن عبدِ اللَّه بنِ عتبة بن مسعودٍ قالَ: سمِعْتُ عُمَر بْنَ الخَطّابِ، رضي الله عنه يقولُ:» إنَّ ناسًا كانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْي في عَهْدِ رَسُول اللَّه – صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإنَّما نَاخُذُكُمُ الآنَ بِما ظَهَرَ لَنا مِن أعْمالِكُمْ، فَمَن أظْهَرَ لَنا خَيْرًا، أمَّنّاهُ، وقرَّبناه ولَيْس لنا مِن سَرِيرَتِهِ شيءٌ، اللَّهُ يُحاسِبُهُ فِي سرِيرَتِهِ، ومَن أظْهَرَ لَنا سُوءًا، لَمْ نامنْهُ، ولَمْ نُصَدِّقْهُ وإنْ قالَ إنَّ سَرِيرَتَه حَسنَةٌ”رواه البخاري.
قال ابن بطال:” قال أبو الحسن بن القابسى: ينبغى لكل من سمع هذا الحديث أن يحفظه ويتأدب به. والمرفوع من هذا الحديث إخبار عمر عما كان الناس يؤخذون به على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبقية الخبر بيان لما يستعمله الناس بعد انقطاع الوحى بوفاة النبى- صلى الله عليه وسلم – .” (شرح صحيح البخاري لابن بطال 8/ 23)
(وعن عبدِ اللَّه بنِ عتبة بن مسعودٍ) قَوْلُهُ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ أي بن مَسْعُود وهُوَ بن أخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ سَمِعَ مِن كبار الصَّحابَة وله رُؤْيَة وحَدِيثُهُ هَذا عَنْ عُمَرَ أغْفَلَهُ المِزِّيُّ فِي الأطْرافِ والمَرْفُوعُ مِنهُ ما أشارَ إلَيْهِ مِمّا كانَ النّاسُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – (فتح الباري)
قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إن ناسًا) أصله أناس على الصحيح فحذف فاؤه. تخفيفًا (دليل الفالحين)
قوله: (وإن الوحي قد انقطع) أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والمراد انقطاع أخبار الملك عن الله تعالى لبعض الآدميين بالأمر في اليقظة، وفي رواية أبي فراس عن عمر عند الحاكم: ” إنا كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ الوحي ينزل وإذ يأتينا من أخباركم ” وأراد أن النبي قد انطلق ورفع الوحي. (فتح الباري)
قوله: (فمن أظهر لنا خيرا أمناه) بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أمينا، وفي رواية أبي فراس: ” ألا ومن يظهر منكم خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه “. (فتح الباري)
قوله: (سوءا) في رواية الكشميهني ” شرا ” وفي رواية أبي فراس: ” ومن يظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه؛ سرائركم فيما بينكم وبين ربكم ” قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه الريبة، وهو قول أحمد وإسحاق كذا قال، وهذا إنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلا. (فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: إنا نعلم يعني عمن أسر سريرة باطلة في وقت الوحي بما بنزل من الوحي؛ لأن أناسًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا منافقين يظهرون الخير ويبطنون الشر، ولكن الله تعالى كان يفضحهم بما ينزل من الوحي على رسوله – صلى الله عليه وسلم -، يفضحهم لا بأسمائهم، ولن بأوصافهم التي تحدد أعيانهم.
والحكمة من ذكرهم بالأوصاف دون الأعيان؛ أن ذلك يكون للعموم، يعني لكل من اتصف بهذه الصفات، مثل قوله تعالى: (ومِنهُمْ مَن عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ فَلَمّا آتاهُمْ مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ فَأعْقَبَهُم نِفاقًا فِي قُلُوبِهِم إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أخْلَفُوا اللَّهَ ما وعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكَذِبُونَ [التوبة (75)، (77)]
ومثل قوله تعالى: (ومِنهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإنْ أُعْطُوا مِنها رَضُوا وإنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنها إذا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة (58)]
ومثل قوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ والَّذِينَ لا يَجِدُونَ إلّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنهُمْ) [التوبة (79)]
وهذا كثير في سورة التوبة التي سماها بعض السلف: الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين.
لكن لما انقطع الوحي صار الناس لا يعلمون من المنافق؛ لأن النفاق في القلب والعياذ بالله.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
قال ابن عثيمين:” من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا ألا نحكم إلا بالظاهر؛ لأن الحكم على الباطن من الأمور الشاقة، والله عزوجل لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
فمن أبدى خيرًا؛ عاملناه بخيره الذي أبداه لنا، ومن أبدى شرًا؛ عاملناه بشره الذي أبداه لنا، وليس لنا من نيته مسؤولية، النية موكولة إلى رب العالمين عزوجل، الذي يعلم ما توسوس به نفس الإنسان
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)