39 عون الصمد شرح الذيل على الصحيح المسند
جمع نورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1،2،3 والاستفادة والمدارسة
مسند أحمد
8386 حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ، يَقُولُ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَهَلْ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ:
إِي وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا: وَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: ” تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَيَشُدُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ ” وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، لَيَكُونَنَّ مَرَّتَيْنِ ”
قلت سيف: على شرط المتمم على الذيل على الصحيح المسند
فهو في البخاري 3180 لكن في البخاري (وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة).
وليس عندغالبخاري (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، لَيَكُونَنَّ مَرَّتَيْنِ). واخترته للمتمم على الذيل وليس على الذيل، لعدم وجود معنى زائد سوى التأكيد.
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، اما بعد:
أحببت أبين بعض المسائل المتعلقة بأحكام أهل الذمة لأهميتها، فإليكم ذلك؛
مسألة: ممن تؤخذ الجزية:
قال ابن القيم: فأجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد توقف في أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر ذكره البخاري. [أحكام أهل الذمة: ص 81].
قال العثيمين: لكن الصحيح أنها تصح من كل كافر، والدليل على هذا حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم أوصاه بوصايا، منها: أنه إذا لم يسلم القوم فيدعوهم إلى أخذ الجزية فإن أبوا قاتلهم»، وهذا دليل على العموم، ويدل لذلك أيضاً: كون النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر، مع أنهم ليسوا من أهل الكتاب فيدل على أنها تؤخذ من كل كافر، والمعنى يقتضي ذلك؛ لأنه إذا جاز أخذها من أهل الكتاب والمجوس، فغيرهم مثلهم؛ لأن المقصود إقرار الكافر على دينه على وجه معين أو مخصوص وهو حاصل لكل كافر، وعلى هذا فإذا طلب أحد من المشركين أن نأخذ منه الجزية ويقر على دينه ورأينا المصلحة في ذلك فإننا نفعله.
[الشرح الممتع: 8/ 58].
مسألة: مقدار الجزية
مقدار الجزية يفرضه الإمام أو نائبه حسب العسر واليسر، وحسب اختلاف المكان والزمان والبلاد.
وتؤخذ من الذهب أو الفضة أو النقود أو غيرها من الأشياء المباحة كالثياب والطعام والحيوان وغيرها مما ينتفع به الإنسان في حياته مما أحله الله، وما بذلوه وجب قبوله، وتؤخذ من الذمي في نهاية العام.
[لا يعقدها الا إمام أو نائبه]
قال العثيمين: أما عقد الذمة، فلا بد أن يكون من إمام أو نائبه، ولأنه ـ أيضاً ـ عقد مؤبد، ليس فيه تقييد بسنة أو سنتين أو شهر أو شهرين، ولذلك صار يجب أن يتولاه الإمام أو نائبه. بخلاف الهدنة فإنها تكون مؤقتة وتصح مطلقة، ولا تصح مؤبدة؛ لأن عقد الهدنة على أن تكون مؤبدة يتضمن إلغاء الجهاد، وهذا لا يجوز؛ لأن الجهاد فرض كفاية فلا بد منه، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن عقد الذمة فيه خضوع من الكفار، وعدم اعتداء على المسلمين، والتزام لأحكام الإسلام فتصح مؤبدة. [الشرح الممتع: 8/ 59 60].
مسألة: شروط عقد الذمة
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ سِتَّةُ أَشْيَاءَ:
(1) أَلَّا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ.
(2) وَأَلَّا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ.
(3) وَأَلَّا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ.
(4) وَأَلَّا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًى وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ.
(5) وَأَلَّا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ.
(6) وَأَلَّا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يُؤْوُوا لِلْحَرْبِيَّيْنِ عَيْنًا (جَاسُوسًا).
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذِهِ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ , فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ , وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَاكِيدًا لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ , وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ. وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا الْآخَرُونَ لِدُخُولِهَا فِي شَرْطِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ [الأحكام السلطانية 145].
حقُوقُ أَهْل الذِّمَّةِ
19 الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ أَهْل الذِّمَّةِ: أَنَّ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ جَرَتْ عَلَى لِسَانِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَدُل عَلَيْهَا عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (3). وَيُؤَيِّدُهَا بَعْضُ الاثَارِ عَنِ السَّلَفِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَال: إِنَّمَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا.
لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُطَبَّقَةٍ عَلَى إِطْلاَقِهَا، فَالذِّمِّيُّونَ لَيْسُوا كَالْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الاسْلاَمِ.
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْحُقُوقِ:
أَوَّلاً حِمَايَةُ الدَّوْلَةِ لَهُمْ:
20 يُعْتَبَرُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ أَهْل دَارِ الاسْلاَمِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَعْطَوْهُمُ الذِّمَّةَ فَقَدِ الْتَزَمُوا دَفْعَ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِمْ، وَصَارُوا أَهْل دَارِ الاسْلاَمِ، كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلأَِهْل الذِّمَّةِ حَقُّ الاقَامَةِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَعَلَى الامَامِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ كُل مَنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ أَهْل الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَهْدِ حِفْظَهُمْ مِنَ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْهُمْ، وَمَنْعُ مَنْ يَقْصِدُهُمْ بِالاذَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْكُفَّارِ، وَاسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ مُنْفَرِدِينَ عَنْهُمْ فِي بَلَدٍ لَهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ.
ثَانِيًا حَقُّ الاقَامَةِ وَالتَّنَقُّل:
21 لأَِهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي دَارِ الاسْلاَمِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إِقَامَةِ الذِّمِّيِّ وَاسْتِيطَانِهِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا سِوَاهُمَا، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْضُ الْعَرَبِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجْتَمِعُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ دِينَانِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لأَُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
أَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى فِي دَارِ الاسْلاَمِ فَيَجُوزُ لأَِهْل الذِّمَّةِ أَنْ يَسْكُنُوا فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ رَفْعُ بِنَائِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَصْدِ التَّعَلِّي، وَإِذَا لَزِمَ مِنْ سُكْنَاهُمْ فِي الْمِصْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ أُمِرُوا بِالسُّكْنَى فِي نَاحِيَةٍ خَارِجَ الْمِصْرِ لَيْسَ فِيهَا جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ.
22 وَأَمَّا حَقُّ التَّنَقُّل فَيَتَمَتَّعُ أَهْل الذِّمَّةِ بِهِ فِي دَارِ الاسْلاَمِ أَيْنَمَا يَشَاءُونَ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنَّ فِي دُخُولِهِمْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَأَرْضَ الْحِجَازِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْضُ الْعَرَبِ).
ثَالِثًا عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ:
23 إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلاَّ يَتَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لأَِهْل الذِّمَّةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ دُونَ إِظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ، فَعَقْدُ الذِّمَّةِ إِقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ احْتِمَال دُخُول الذِّمِّيِّ فِي الاسْلاَمِ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ، فَهَذَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ لاَ عَنْ طَرِيقِ الاكْرَاهِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل نَجْرَانَ: وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَكُل مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ. . . وَهَذَا الاصْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
أ مَعَابِدُ أَهْل الذِّمَّةِ:
24 قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَمْصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الاوَّل: مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْشَئُوهُ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلاَ بِيعَةٍ وَلاَ مُجْتَمَعٍ لِصَلاَتِهِمْ وَلاَ صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ، وَلاَ يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الاسْلاَمِ، وَلاَ يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلأَِنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ، وَلَوْ عَاقَدَهُمُ الامَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ.
الثَّانِي: مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ إِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَل يَجِبُ هَدْمُهُ؟
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجِبُ هَدْمُهُ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنَ الْبِلاَدِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنَ الْكَنَائِسِ.
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ: أَلاَّ يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلاَ كَنِيسَةً وَلاَ بَيْتَ نَارٍ.
وَفِي الاصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ هَدْمُهُ، فَلاَ يَقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ؛ لأَِنَّهَا بِلاَدٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ، كَالْبِلاَدِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُهْدَمُ، وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ اتِّخَاذِهَا لِلْعِبَادَةِ.
الثَّالِثُ: مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا، فَإِنْ صَالَحَهُمُ الامَامُ عَلَى أَنَّ الارْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا، فَلَهُمْ إِحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهَا مِنَ الْكَنَائِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الاصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ، فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا. وَفِي مُقَابِل الاصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَنْعُ؛ لأَِنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الاسْلاَمِ.
وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا، وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ، فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَالاوْلَى أَلاَّ يُصَالِحَهُمْ إِلاَّ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَدَمِ إِحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، لاَ يَجُوزُ الاحْدَاثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)، وَيَجُوزُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلاَ يَتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالاصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مِنْ إِبْقَائِهَا كَنَائِسَ.
ب إِجْرَاءُ عِبَادَاتِهِمْ:
25 الاصْل فِي أَهْل الذِّمَّةِ تَرْكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ، فَيُقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ، كَضَرْبِ النَّاقُوسِ خَفِيفًا فِي دَاخِل مَعَابِدِهِمْ، وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالانْجِيل فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُونَ بِجَوَازِهَا، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَاتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَبَيْعِهَا، أَوِ الاكْل وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ إِذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ. وَيُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ هَذَا أَلاَّ يُظْهِرُوهَا وَلاَ يَجْهَرُوا بِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلاَّ مُنِعُوا وَعُزِّرُوا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، فَقَدْ جَاءَ فِي شُرُوطِ أَهْل الذِّمَّةِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ: ” أَلاَّ نَضْرِبَ نَاقُوسًا إِلاَّ ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا، وَلاَ نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا، وَلاَ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةَ فِي كَنَائِسِنَا، وَلاَ نُظْهِرُ صَلِيبًا وَلاَ كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ ” إِلَخْ
هَذَا، وَقَدْ فَصَّل بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقُرَى، فَقَالُوا: لاَ يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْل الاسْلاَمِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالاعْيَادُ وَالْحُدُودُ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ إِظْهَارِ هَذِهِ الاشْيَاءِ لِكَوْنِهِ إِظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إِظْهَارِ شَعَائِرِ الاسْلاَمِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لإِِظْهَارِ الشَّعَائِرِ، وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ.
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقُرَى الْعَامَّةِ وَالْقُرَى الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا أَهْل الذِّمَّةِ، فَلاَ يُمْنَعُونَ فِي الاخِيرَةِ مِنْ إِظْهَارِ عِبَادَاتِهِمْ.
رَابِعًا اخْتِيَارُ الْعَمَل:
26 يَتَمَتَّعُ الذِّمِّيُّ بِاخْتِيَارِ الْعَمَل الَّذِي يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِلتَّكَسُّبِ، فَيَشْتَغِل بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ كَمَا يَشَاءُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الذِّمِّيَّ فِي الْمُعَامَلاَتِ كَالْمُسْلِمِ، هَذَا هُوَ الاصْل، وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ فِي هَذَا الْمَجَال سَتَاتِي فِي بَحْثِ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ الذِّمِّيُّونَ.
أَمَّا الاشْغَال وَالْوَظَائِفُ الْعَامَّةُ، فَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الاسْلاَمُ كَالْخِلاَفَةِ، وَالامَارَةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَالْوِزَارَةِ وَأَمْثَالِهَا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْهَدَ بِذَلِكَ إِلَى ذِمِّيٍّ، وَمَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الاسْلاَمُ كَتَعْلِيمِ الصِّغَارِ الْكِتَابَةَ، وَتَنْفِيذِ مَا يَامُرُ بِهِ الامَامُ أَوِ الامِيرُ، يَجُوزُ أَنْ يُمَارِسَهُ الذِّمِّيُّونَ.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْوَظَائِفِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. وَانْظُرْ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَ: (اسْتِعَانَةٍ). الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 127 – 131). بتصرف يسير
[شرح الحديث]
قوله: (إذا لم تجتبوا)، من الجباية، بالجيم والباء الموحدة وبعد الألف ياء آخر الحروف، يعني: إذا لم تأخذوا من الجزية والخراج
قوله: (عن قول الصادق المصدوق)، معنى الصادق ظاهر، والمصدوق هو الذي لم يقل له إلا الصدق، يعني: أن جبريل، عليه الصلاة والسلام، مثلا لم يخبره إلا بالصدق. قال الكرماني: أو المصدق، بلفظ المفعول.
قوله: (تنتهك)، بضم أوله من الانتهاك، وانتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل من الجور والظلم.
قوله: (فيمنعون ما في أيديهم)، أي: من الجزية. انظر [عمدة القاري:5 1/ 102]
قال ابن الأثير في النهاية (5/ 288):
[تُنْتَهكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رسوله] يُريد نَقْضَ العَهْد والغَدْرَ بالمُعاهَد.
و قال ابن حجر في الفتح (1/ 199): قوله تنتهك ذمة الله أي تستباح ويتناول ما لا يحل.
قال ابن بطال: ودل حديث أبى هريرة على أن الغدر لأهل الذمة لا يجوز أيضا، ألا ترى ما أوصى به النبى من الذمة والوفاء بها لأهلها من أجل إنماء معاش المسلمين، ورزق عيالهم، فأعلمهم بهذا الحديث أنهم متى ظلموا منعوا ما فى أيديهم، واشتدوا وحاربوا وأعادوا الفتنة، وخلعوا ربقة الذمة، فلم يجتب المسلمون درهما، فضاقت أحوالهم وساءت. وفيه من علامات النبوة. شرح صحيح البخاري (5/ 362).
وفي هذا الحديث التوصية بأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع المسلمين، وفيه التحذير من ظلمهم وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد فلم يجتب المسلمون منهم شيئًا فتضيق أحوالهم. شرح القسطلاني (5/ 244)
قال ابن الملقن في التوضيح: والغدر حرام بالمؤمن وأهل الذمة، وفاعله مستحق لاسم النفاق واللعنة المذكورة من الله وملائكته والناس أجمعين.