371و 372 و 373 و 374 و 375 و 376 و 377 و 378 و 379 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
45 – باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة.
371 – وعنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «لا تُصاحبْ إلاَّ مُؤْمِنًا، ولاَ يَاكُلْ طعامَكَ إلاَّ تَقِيٌّ».
رواه أبُو داود، والترمذي بإسْنادٍ لا باس بِهِ. (حسنه الألباني في صحيح الترمذي)
(لا تصاحب إلا مؤمنا) أي: كاملا، أو المراد النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين؛ لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالمراد بالمؤمن جنس المؤمنين. (عون المعبود)
قال المناوي:” (لا تصاحب إلا مؤمنا) وكامل الإيمان أولى لأن الطباع سراقة ومن ثم قيل صحبة الأخيار تورث الخير وصحبة، الأشرار تورث الشر كالريح إذا مرت على النتن حملت نتنا وإذا مرت على الطيب حملت طيبا وقال الشافعي: ليس أحد إلا له محب ومبغض فإذن لا بد من ذلك فليكن المرجع إلى أهل طاعة الله ومن ثم قيل:
ولا يصحب الإنسان إلا نظيره … وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد
وصحبة من لا يخاف الله لا يؤمن غائلتها لتغيره بتغير الأعراض قال تعالى {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} والطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري ”
قال ابن علان:” فيه نهي عن موالاة الكفار ومودتهم ومصاحبتهم، قال تعالى: {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله} (المجادلة: (22)) الآية” (دليل الفالحين 1/ 579)
(ولا يأكل طعامك إلا تقي) أي متورع يصرف قوة الطعام إلى عبادة الله والنهي وإن نسب إلى التقي ففي الحقيقة مسند إلى صاحب الطعام، فهو من قبيل: لا أرينك هاهنا. فالمعنى لا تطعم طعامك إلا تقيا. قال الخطابي هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة وذلك أنه تعالى قال: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} ومعلوم أن أسراهم كانوا كفارا غير مؤمنين وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته لأن المطاعم توقع الألفة، والمودة في القلوب. وقال الطيبي: ولا يأكل نهي لغير التقي أن يأكل طعامه والمراد نهيه عن أن يتعرض لما لا يأكل التقي طعامه من كسب الحرام وتعاطي ما ينفر عنه التقي. فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعا، ولا تخالل إلا تقيا انتهى. قال القاري وهو في غاية من البهاء غير أنه لا يستقيم به وجه الحصر، فالصواب ما قدمناه. قلت: الأمر كما قال القاري. (تحفة الأحوذي)
قال المناوي:” (ولا يأكل طعامك إلا تقي) لأن المطاعمة توجب الألفة وتؤدي إلى الخلطة بل هي أوثق عرى المداخلة ومخالطة غير التقي يخل بالدين ويوقع في الشبه والمحظورات فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل أو مسامحة في إغضاء عن منكر فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين بل يطعمه ولا يخالطه”
قال ابن باز:” هذا عند أهل العلم، طعام الصحبة، أما طعام الضيافة فلا يشترط فيها التقي؛ لكن التزاور بين الناس والتواصل بين الناس يكون بين المؤمنين وبين الأخيار، يجتنب صحبة الأشرار والفجار، ولا يأكل طعامه إلا الأخيار والأتقياء، أما يتعلق بالضيافة، فالضيف يكون تقي وغير تقي والضيوف لهم حقوق مطلقا ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه” والنبي صلى الله عليه وسلم أكرم الضيوف الكفار و غير الكفار ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 78)
(3) 72 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «الرَّجُلُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أحَدُكمْ مَن يُخالِلُ».
رواه أبُو داود. والترمذي بإسنادٍ صحيح، وقالَ الترمذي: حديثٌ حسنٌ. (الصحيحة 927)
(الرجل على دين خليله) أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته. (عون المعبود)
(فلينظر من يخالل) من المخالة وهي المصادقة والإخاء، فمن رضي دينه وخلقه خالله ومن لا تجنبه، فإن الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده. (تحفة الأحوذي)
قال الخطابي:” مَعْناهُ لا تُخالِلْ إلّا مَن رَضِيتَ دِينَهُ وأمانَتَهُ فَإنَّكَ إذا خالَلْتَهُ قادَكَ إلى دِينِهِ ومَذْهَبِهِ، ولا تُغَرِّرْ -بِدِينِكَ، ولا تُخاطِرْ بِنَفْسِكَ، فَتُخالِلْ مَن لَيْسَ مَرْضِيًّا فِي دِينِهِ ومَذْهَبِهِ، قالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وقَدْ رُوِيَ فِي هَذا الحَدِيثِ: انْظُرُوا إلى فِرْعَوْنَ مَعَهُ هامانُ انْظُرُوا إلى الحَجّاجِ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ أبِي مُسْلِمٍ شَرٌّ مِنهُ انْظُرُوا إلى سُلَيْمانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ صَحِبَهُ رَجاءُ بْنُ حَيْوَةَ فَقَوَّمَهُ وسَدَّدَهُ ويُقالُ: إنَّ الخَلَّةَ مَاخُوذَةٌ مِن تَخَلُّلِ المَوَدَّةِ القَلْبَ وتَمَكُّنِها مِنهُ: وهِيَ أعْلى دَرَجِ الإخاءِ وذَلِكَ أنَّ النّاسَ فِي الأصْلِ أجانِبُ فَإذا تَعارَفُوا ائْتَلَفُوا فَهُمْ أوِدّاءُ وإذا تَشاكَلُوا فَهُمْ أحِبّاءُ فَإذا تَأكَّدَتِ المَحَبَّةُ صارَتْ خَلَّةً” (العزلة ص47)
قال ابن باز:” هذا يدل على أن الخليل في الغالب يؤثر على خليله في دينه وأخلاقه … فالمؤمن يختار الصحبة الطيبة والأخيار يزورهم ويستفيد منهم ويتذاكر معهم؛ لما في صحبتهم من الخير؛ ولهذا طلب موسى عليه السلام صحبة الخضر ليستفيد من علمه” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 78)
قال ابن عثيمين:” إن صاحب أهل الخير؛ صار منهم، وإن صاحب سواهم؛ صار مثلهم:” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 246)
قال ابن مسعود:”: «اعْتَبِرُوا النّاسَ بِأخْدانِهِمْ» ” (المعجم الكبير للطبراني (8919)) معناه اعرفوهم بأصحابهم
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لاتسأل وسل عن خليله
فكل قرين بالمقارن يقتدي.
قال القحطاني في نونيته:” لا يصحب البدعي إلا مثله … تحت الدخان تأجج النيران”
وعند ابن بطة في الابانة الكبرى عن ابن مسعود:” اعْتَبِرُوا النّاسَ بِأخْدانِهِمْ، المُسْلِمُ يَتْبَعُ المُسْلِمَ، والفاجِرُ يَتْبَعُ الفاجِرَ)
قال أبُو حاتم إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه هو الأعتبار بمن يحادثه ويوده لأن المرء على دين خليله وطير السماء على أشكالها تقع وما رأيت شيئا أدل على شيء ولا الدخان على النار مثل الصاحب على الصاحب (ورضة العقلاء)
وقال أيضا:” العاقل لا يواخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة ذا عقل نشأ مع الصالحين لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال” (روضة العقلاء)
وكذلك قال:” وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرا تكون مجالسة الكلب خيرا من عشرته ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم كما أن من يدخل مداخل السوء يتهم” (روضة العقلاء)
373 – وعن أبي موسى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «المَرْءُ مَعَ مَن أحَبَّ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية قال: قيل للنبي – صلى الله عليه وسلم -: الرَّجُلُ يُحبُّ القَومَ ولَمْا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قالَ: «المَرْءُ مع من أحب».
374 – -وعن أنس رضي الله عنه أن أعرابيًا قالَ لرسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: مَتى السّاعَةُ؟ قالَ رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: «ما أعْدَدْتَ لَها؟» قالَ: حُب اللَّهِ ورسولِهِ قالَ: «أنْتَ مَعَ مَن أحْبَبْتَ».متفقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلمٍ.
وفي روايةٍ لهما: ما أعْدَدْتُ لَها مِن كَثِيرِ صَوْمٍ، ولا صَلاةٍ، ولا صَدَقَةٍ، ولَكِنِّي أُحِبُّ اللَّه ورَسُولَهُ.
375 – وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – فَقالَ: يا رَسُول اللَّه كَيْفَ تَقُولُ في رَجُلٍ أحبَّ قَوْمًا ولَمْ يلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقالَ رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: «المَرْءُ مَعَ مَن أحَبَّ» متفقٌ عَلَيهِ.
فوائد هذه الأحاديث مرت معنا في باب سابق.
376 – وعن أبي هُريرة رضي الله عنه عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «النّاسُ معادِنُ كَمَعادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، خِيارُهُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإسْلامِ إذا فَقهُوا. والأرْواحُ جُنُودٌ مُجنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها، اخْتَلَفَ» رواه مسلم.
وروى البخاري قوله: «الأرْواحُ» إلخ، من رواية عائشة رضي الله عنها.
روى البيهقي في الشعب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال-: لو أن مؤمنًا دخل إلى مجلس فيه مئة منافق، ومؤمن واحد، لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقًا دخل إلى مجلس فيه مئة مؤمن، ومنافق واحد، لجاء حتى يجلس إليه. رواه البيهقي موقوفًا
قالَ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: (النّاسُ مَعادِنُ) جمع مَعْدن بكسر الدال، من عَدَن: إذا أقام؛ لإقامة الذهب والفضة به، أو لإقامة الناس فيها شتاءً وصيفًا (شرح الزرقاني)
وقال ابن منظور: «المعدن» بكسر الدال، هو المكان الذي يثبت فيه الناس؛ لأن أهله يقيمون فيه، ولا يتحوّلون عنه شتاءً، ولا صيفًا، ومعدن كل شيء من ذلك، ومعدن الذهب والفضة سُمِّي معدنًا؛ لإنبات الله فيه جوهرهما، وإثباته إياه في الأرض، حتى عَدَن؛ أي: ثبت فيها، وقال الليث: المعدن: مكانُ كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه، نحو معدن الذهب والفضة، والأشياء، وفي الحديث: «فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم»؛ أي: أصولها التي يُنْسَبون إليها، ويتفاخرون بها، وفلان معدن للخير والكرم: إذا جُبِل عليهما، على المَثَل (لسان العرب)
وقوله: (كَمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ) قال الرافعيّ:” وجه الشبه أن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع، كاختلاف المعادن في الجواهر، وأن رسوخ الاختلاف في النفوس، كرسوخ عروق المعادن فيها، وأن المعادن كما أن منه ما لا تتغير صفته، فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، بل من كان شريفًا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمرّ شَرَفه، فكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية، وهذا معنى قوله: (خِيارُهُمْ فِي الجاهِلِيَّةِ، خِيارُهُمْ فِي الإسْلامِ) ثم لمّا أطلق الحكم خصّه بقوله: (إذا فَقُهُوا) بضم القاف على الأجود، ذكره أبو البقاء؛ أي: صاروا فقهاء، ففيه إشارة إلى أن نوع الإنسان إنما يتميز عن بقية الحيوان بالعلم، وأن الشرف الإسلامي لا يتمّ إلا بالفقه، وأنه الفضيلة العظمى، والنعمة الكبرى، والمراد بالخيار في هذا ونحوه: من كان متصفًا بمحاسن الأخلاق، كالكرم، والفقه، والحِلم، وغيرها، متوقّيًا لمساوئها، كالبخل، والفجور، والظلم، وغيرها
وقوله: (والأرْواحُ)؛ أي: أرواح الناس، وهو مبتدأ خبره قوله: (جُنُودٌ) جَمْع جُنْد؛ أي: جُموع (مُجَنَّدَةٌ) بفتح النون المشدّدة؛ أي: مجتمعة متقابلة، أو مختلطة، منها حزب الله: {ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة (22)]، ومنها حزب الشيطان: {ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الخاسِرُونَ} [المجادلة (19)] وفي قوله تعالى: {ولِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ والأرْضِ} [الفتح (4)] إشارة إلى أن الجندين:
أحدهما علويّ الهمة، والآخر سفليّ النَّهْمة (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)
وقال النوويّ: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها، وتناسبها في شِيَمها، وقيل: لأنها خُلقت مجتمعة، ثم فُرِّقت في أجسادها، فمن وافق بشِيَمه ألِفَه، ومن باعده نافره، وخالفه، وقال الخطابيّ وغيره: تآلُفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين، متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت، واختلفت، بحسب ما خُلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم (شرح النووي)
(فَما تَعارَفَ مِنها) التعارف جَرَيان المعرفة بين اثنين، والتناكر ضدّه؛ أي: فما تعرّف بعضها من بعض قبل حلولها في الأبدان (ائْتَلَفَ) أي: حصل بينهما الألفة والرأفة حال اجتماعهما بالأجساد في الدنيا، (وما تَناكَرَ مِنها)؛ أي: في عالم الأرواح، (اخْتَلَفَ»)؛ … والمراد منه بطريق الأجمال -والله أعلم بحقية الحال- أن الأرواح البشرية مجبولة على مراتب مختلفة، وشواكل متباينة، وكل ما شاكل منها في عالم الأمر في شاكلته تعارفت في عالم الخلق، وائتلفت، واجتمعت، وكل ما كان على غير ذلك في عالم الأمر، تناكرت في عالم الخلق، فاختلفت، وافترقت، فالمراد بالتعارف ما بينهما من التناسب، والتشابه، وبالتناكر ما بينهما من التنافر، والتباين، فتارة على وجه الكمال، وتارة على وجه النقصان؛ إذ قد يوجد كل من التعارف والتناكر بأدنى مشاكلة بينهما، إما ظاهرًا، وإما باطنًا، قاله القاري ((1)). (مرقاة المفاتيح)
وقال في «النهاية»: قوله: «جنود مجندة»؛ أي: مجموعة، كما يقال: ألوفٌ مؤلّفة، وقناطيرُ مقنطرةٌ، ومعناه: الإخبار عن مبدأ كون الأرواح، وتقدمها الأجسادَ؛ أي: أنها خُلقت أول خِلقتها على قسمين، من ائتلاف واختلاف، كالجنود المجندة المجموعة، إذا تقابلت، وتواجهت، ومعنى تقابُل الأرواح ما جعلها الله عليها من السعادة والشقاوة، والأخلاق، في مبدأ الخلق، يقول: إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا، فتأتلف، وتختلف على حسب ما خُلقت عليه، ولهذا ترى الخيِّر يحبّ الأخيار، ويميل إليهم، والشِّرّير يحبّ الأشرار، ويميل إليهم. (مرقاة المفاتيح)
قال ابن الجوزيّ: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نَفْرةً ممن له فضيلة، أو صلاح، ينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك؛ ليسعى في إزالته، حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه.
وقال القرطبيّ:” معنى «أجناد مجندة»: أصناف مصنّفة، وقيل: أجناس مختلفة، ويعني بذلك أن الأرواح، وإن اتفقت في كونها أرواحًا، لكنها تتمايز بأمور وأحوال مختلفة، تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاصّ لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهد أشخاص كلِّ نوع تالَف نوعها، وتنفُر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف، وبعضها يتنافر، وذلك بحسب أمور تتشاكل فيها، وأمور تتباعد فيها، كالأرواح المجبولة على الخير، والرحمة، والشفقة، والعدل، فتجد من جُبل على الرحمة يميل بطبعه لكل من كان فيه ذلك المعنى، ويألفه، ويسكن إليه، وينفر ممن اتّصف بنقيضه، وهكذا في الجفاء والقسوة، ولذلك قد شاع في كلام الناس قولهم: المناسبة تؤلِّف بين الأشخاص، والشكل يألف شَكْله، والمِثْل يجذب مثله …
377 – وعن أُسيْرِ بْنِ عَمْرٍو ويُقالُ: ابْنُ جابِر وهُو «بضم الهمزةِ وفتح السين المهملة» قالَ: كانَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ -رضي الله عنه- إذا أتى عَلَيْهِ أمْدادُ أهْلِ اليمنِ سألَهُمْ: أّفيُكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عامِرٍ؟ حتّى أتى عَلى أُوَيْسٍ رضي الله عنه، فَقالَ لَهُ: أنْتَ أُويْس بْنُ عامِرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: مِن مُرادٍ ثُمَّ مِن قَرَنٍ؟ قالَ: نعَمْ، قالَ: فكانَ بِكَ بَرَصٌ، فَبَرَاتَ مِنهُ إلاَّ مَوْضعَ دِرْهَمٍ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: لَكَ والِدَةٌ؟ قالَ: نَعَمْ.
قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – يقول: “يَاتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عامِرٍ مَعَ أمْدادِ أهْلِ اليَمَنِ مِن مُرادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ كانَ بِهِ برصٌ، فَبَرَأ مِنهُ إلاَّ مَوْضعَ دِرْهَمٍ، لَهُ والِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ لَوْ أقْسمَ عَلى اللَّه لأبَرَّهُ، فَإن اسْتَطَعْتَ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فافْعَلْ» فاسْتَغْفِرْ لي فاسْتَغْفَرَ لَهُ.
فَقالَ لَهُ عُمَرُ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: الكُوفَةَ، قالَ: ألا أكْتُبُ لَكَ إلى عامِلها؟ قالَ: أكُونُ في غَبْراءِ النّاسِ أحبُّ إلَيَّ، فَلَمّا كانَ مِنَ العامِ المقبل حج رجل من أشرافهم فوافى عُمَرَ، فَسَألَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، فَقالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ البيت قليل المتاع، قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يقول: «يَأتِي عَلَيْكُمْ أُويْسُ بْنُ عامِرٍ مَعَ أمْدادٍ مِن أهْلِ اليَمَنِ مِن مُرادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ، كانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأ مِنهُ إلاَّ موْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ والدةٌ هُوَ بِها بَرٌّ لَوْ أقْسَمَ عَلى الله لأبَرَّهُ، فَإنِ اسْتَطْعتَ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فافْعَلْ» فَأتى أُوَيْسًا، فَقالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قالَ: أنْتَ أحْدَثُ عَهْدًا بسَفَرٍ صالِحٍ، فاسْتَغْفِرْ لي، قالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قالَ: نَعَمْ. فاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النّاسُ، فانْطَلَقَ عَلى وجْهِهِ. رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أيضًا عن أسير بن جابر رضي الله عنه: أنّ أهْلَ الكُوفَةِ وفَدُوا عَلى عُمَرَ رضي الله عنه، وفِيهمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقالَ عُمَرُ: هَلْ هاهُنا أحَدٌ مِنَ القَرَنِيِّينَ؟ فَجاءَ ذلِكَ الرَّجُلُ، فَقالَ عمرُ: إنّ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – قَدْ قالَ: «إنّ رَجُلًا يَأتِيكُمْ مِنَ اليَمَنِ يُقالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، لاَ يَدَعُ باليَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كانَ بِهِ بَياضٌ فَدَعا الله تَعالى، فَأذْهَبَهُ إلاَّ مَوضِعَ الدِّينارِ أو الدِّرْهَمِ، فَمَن لَقِيَهُ مِنكُمْ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ».
وفي رواية لَهُ عن عمر رضي الله عنه، قالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إنّ خَيْرَ التّابِعِينَ رَجُلٌ يُقالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، ولَهُ والِدَةٌ وكانَ بِهِ بَياضٌ، فَمُرُوهُ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ».
قوله: «غَبْراءِ الناس» بفتح الغين المعجمة وإسكان الباء بالمد وهم فقراؤهم وصعاليكم ومَن لا يُعْرَفُ عَيْنُهُ مِن أخلاطِهِمْ «والأمْدادُ» جَمْعُ مَدَدٍ وهُمُ الأعْوانُ، والنّاصِرُونَ الَّذِينَ كانُوا يُمدُّونَ المُسْلِمِينَ في الجهاد.
في قصة أويس هذه معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أويس بن عامر، كذا رواه مسلم هنا، وهو المشهور، قال ابن ماكولا: ويقال: أويس بن عمرو. قالوا: وكنيته: أبو عمرو، قال القائل: قتل بصفين، وهو القرني من بني قرن – بفتح القاف والراء – وهي بطن من مراد؛ وهو قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، وقال الكلبي: ومراد اسمه جابر بن مالك بن أدد بن صحب بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سباد، هذا الذي ذكرناه من كونه من بطن من مراد وإليه نسب هو الصواب، ولا خلاف فيه (شرح مسلم للنووي)
قال الذهبي:” هُوَ القُدْوَةُ، الزّاهِدُ، سَيِّدُ التّابِعِينَ فِي زَمانِهِ، أبُو عَمْرٍو، أُوَيْسُ بنُ عامِرِ بنِ جَزْءِ بنِ مالِكٍ القَرَنِيُّ، المُرادِيُّ، اليَمانِيُّ.” (سير أعلام النبلاء 4/ 19)
قوله: (أمداد أهل اليمن) هم الجماعة الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم: مدد. (شرح مسلم للنووي)
(وكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم) أبقى ليذكر مكان به من هذا الداء، ثم عوفي فيبعثه ذلك على الزيادة في الشكر. (دليل الفالحين لابن علان) البرص جاء في الرواية الأخرى (فيه بياض)
قوله: (أكون في غبراء الناس أحب إلي) هو بفتح الغين المعجمة وبإسكان الموحدة وبالمد أي: ضعافهم وصعاليكهم وأخلاطهم الذين لا يؤبه لهم، وهذا من إيثار الخمول وكتم حاله. (شرح مسلم للنووي) جاء في ترجمة مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَعْدانَ، أبُو عَبْدِ اللَّهِ الأصْبِهانِيُّ، أدْرَكَ التّابِعِينَ، وكانَ لا يَشْتَرِي زادَهُ مِن خَبّازٍ واحِدٍ، ولا مِن بَقّالٍ واحِدٍ، ولا يَشْتَرِي إلّا مِمَّنْ لا يَعْرِفُهُ، يَقُولُ: أخْشى أنْ يُحابُونِي فَأكُونَ مِمَّنْ يَعِيشُ بِدِينِهِ. (البداية والنهاية 13/ 628)
قوله: (رث البيت) هو بمعنى الرواية الأخرى: ” قليل المتاع “، والرثاثة والبذاذة بمعنى، وهو حقارة المتاع وضيق العيش. وفي حديثه فضل بر الوالدين وفضل العزلة وإخفاء الأحوال. (شرح مسلم للنووي)
قوله: (وفيهم رجل يسخر بأويس) أي: يحتقره، ويستهزئ به، وهذا دليل على أنه يخفي حاله، ويكتم السر الذي بينه وبين الله عز وجل، ولا يظهر منه شيء يدل لذلك، وهذه طريق العارفين وخواص الأولياء رضي الله عنهم. (شرح مسلم للنووي)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن لقيه منكم فليستغفر لكم)، وفي الرواية الأخرى: ” قال لعمر: فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل “، هذه منقبة ظاهرة لأويس رضي الله عنه، وفيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح، وإن كان الطالب أفضل منهم. (شرح مسلم للنووي) وجه الدلالة من هذا الباب طلب الدعاء من الصالحين.
ذهب الجمهور إلى إستحباب طلب الدعاء من أهل الصلاح وإن كان الطالب أفضل منهم أو قصد نفع نفسه فقط واستدلوا بأحاديث طلب الصحابة رضي الله عنهم الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عيلهم، واستدلوا بهذا الحديث أيضا، واستدلوا بآثار عن الصاحبة وطلبهم الدعاء بعضهم من بعض،
القول الثاني الكراهة طلب الدعاء من الغير إن قصد نفع نفسه فقط، وهذا قول بعض المالكية ونصره ابن تيمية وغيره ورجحه ابن عثيمين، واستدلوا بآثار عن الصحابة والتابعين في ذم وكراهة ذلك، وكذلك بعموم ذم المسألة، وذكروا أنه تعليق القلب بالمخلوقين وكان بأخذ البيعة على بعض أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، وكان أحدهم على بعيره إذا سقط سوط لا يقول لصاحبه ناولني وإنما ينزل وينيخ البعير ثم يأخذه.
قال ابن باز:” هذا يدل على أن طلب الاستغفار من الرجل الصالح أو ممن يرجى إجابته دعوته لا بأس به” (شرح رياض الصالحين لاباز 2/ 84)
قال ابن عثيمين:” نعم أمر النبي صلى الله عليه وسلم من رأى أويسًا القرني أو القرني أن يطلب منه الدعاء. لكن هذا خاص به؛ لأنه كان رجلًا بارًا بأمه، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يرفع ذكره في هذه الدنيا قبل جزاء الآخرة.
ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أحد من أحد أن يدعو له، مع أن هناك من هو أفضل من أويس؛ فأبو بكر أفضل من أويس بلا شك، وغيره من الصحابة أفضل منه من حيث الصحبة، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا أن يطلب الدعاء من أحد.
فالصواب أنه لا ينبغي أن يطلب أحد الدعاء من غيره ولو كان رجلًا صالحًا، وذلك لأن هذا ليس من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا من هدي خلفائه الراشدين، أما إذا كان الدعاء عامًا، يعني تريد أن تطلب من هذا الرجل الصالح أن يدعو بدعاء عام، كأن تطلب منه أن يدعو الله تعالى بالغيث أو برفع الفتن عن الناس أو ما أشبه ذلك، فلا بأس؛ لأن هذا لمصلحة غيرك، كما لو سألت المال للفقير، فإنك لا تلام على هذا ولا تذم.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإن سؤال الصحابة له من خصوصياته، يسألونه أن يدعو الله لهم، كما قال الرجل حين حدث النبي – صلى الله عليه وسلم – عن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقام عكاشة ابن محصن قال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: «أنت منهم» ثم قال رجل آخر، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «سبقك بها عكاشة». وكما قالت المرأة التي كانت تصرع، حيث طلبت من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو الله لها. فقال: «إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة». فقالت: أصبر ولكن ادع الله ألا تنكشف عورتي.
فالحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم من خصوصياته أن يسأل الدعاء، أما غيره فلا.
نعم لو أراد الإنسان أن يسأل من غيره الدعاء وقصده مصلحة الغير، يعني يريد أن الله يثيب هذا الرجل على دعوته لأخيه، أو أن الله تعالى يستجيب دعوته؛ لأنه إذا دعا الإنسان لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله، فالأعمال بالنيات. فهذا لم ينو ذلك لمصلحة نفسه خاصة؛ بل لمصلحة نفسه ومصلحة أخيه الذي طلب منه الدعاء، فالأعمال بالنيات.
أما المصلحة الخاصة فهذا كما قال الشافعي رحمه الله يدخل في المسألة المذمومة، وقد بايع – صلى الله عليه وسلم – أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئًا.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس … إلى آخره) هذا صريح في أنه خير التابعين، وقد يقال: قد قال أحمد بن حنبل وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، والجواب: أن مرادهم أن سعيدا أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه ونحوها، لا في الخير عند الله تعالى، وفي هذه اللفظة معجزة ظاهرة أيضا. (شرح مسلم للنووي)
(لَهُ والدةٌ هُوَ بِها بَرٌّ لَوْ أقْسَمَ عَلى الله لأبَرَّهُ) عَنْ أصْبَغَ بنِ زَيْدٍ، قالَ: إنَّما مَنَعَ أُوَيْسًا أنْ يَقْدمَ عَلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِرُّهُ بِأُمِّهِ. (سير أعلام النبلاء 4/ 29)
قوله: «لو أقسم على الله لأبرّه»: قال القاضي في المشارق:” أي: أمضى يمينه على البرّ وصَدّقها، وقَضى بما خرجت عليه يمينه، وقد سبق ذلك في علمه، كإجابة ما دعا به، يقال: أبررت القسم: إذا لم تخالفها، وأمضيتها على البَرّ، وقيل: معناه: لو دعا الله لأجابه، ويقال في هذا أيضًا: بررت القسم، وكذلك: أبرّ الله حجه، وبرّه، وبررت في كلامك وبررت معًا.
وقال المناويّ: «لو أقسم على الله لأبره» أي: لو حلف يمينًا على أن الله يفعل كذا، أو لا يفعله، جاء الأمر فيه على ما يوافق يمينه؛ أي: صَدَق، وصَدَق يمينه، يقال: أبر الله قَسَمك إذ لم يكن حانثًا، وقيل: معنى أقسم على الله أن يقول: الفَهُمَّ إني أُقسم عليك بجلالك أن تفعل كذا، وهو غير مستقيم هنا؛ لأنه قال: لأبرّه؛ أي: صدّقه، ولا دَخْل للصدق والكذب في هذا اليمين، فيدخلها الإبرار.
(فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) لا يفهم من هذا أفضليته على عمر، ولا أن عمر غير مغفور له للإجماع على أن عمر أفضل منه لأنه تابعي والصحابي أفضل منه، إنما مضمون ذلك الإخبار بأن أويسًا ممن يستجاب له الدعاء، وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء من ترجى إجابته (دليل الفالحين لابن علان)
تنبيه: حديث أويس وأنه خير التابعين أنكره البخاري والعقيلي. (سيف)
378 – وعن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قالَ: اسْتَاذَنْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – في العُمْرَةِ، فَأذِنَ لِي، وقالَ: «لاَ تَنْسَنا يا أُخَيَّ مِن دُعائِكَ» فَقالَ كَلِمَةً ما يسُرُّني أنَّ لِي بِها الدُّنْيا.
وفي روايةٍ قالَ: «أشْرِكْنا يا أُخَيَّ في دُعائِكَ»، حديثٌ صحيحٌ رواه أبو داود، والترمذي وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
الحديث ضعفه أهل العلم، فيه عاصم بن عبيدالله بن عاصم، تكلم فيه غير واحد من الأئمة، قال أبو حاتم منكر الحديث، مضطرب الحديث، ليس له حديث يعتمد عليه.
قال الدارقطني: قال البرقاني عنه: مديني يترك، هو مغفل.
قال ابن باز:” قال ابن باز:” في سنده عند أهل العلم لين؛ لكن يتقوى بحديث أويس،” (شرح رياض الصالحين)
قال ابن عثيمين:” وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أراد أن يعتمر فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – «لا تنسنا من دعائك – أو – أشركنا في دعائك» فهذا حديث ضعيف وإن صححه المؤلف، فطريقة المؤلف رحمه الله له أنه يتساهل في الحكم على الحديث إذا كان في فضائل الأعمال.
وهذا وإن كان يصدر عن حسن نية، لكن الواجب اتباع الحق؛ فالصحيح صحيح، والضعيف ضعيف، وفضائل الأعمال تدرك بغير تصحيح الأحاديث الضعيفة.” (شرح رياض الصالحين 3/ 252)
(استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة) أي: من المدينة في قضاء عمرة كان نذرها في الجاهلية (عون المعبود) هذا هدي الصحابة رضي الله عنهم، كانوا إذا أردوا شيئا استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم.
(يا أخي) بصيغة التصغير وهو تصغير تلطف وتعطف لا تحقير ويروى بلفظ التكبير (عون المعبود)
(من دعائك) فيه إظهار الخضوع والمسكنة في مقام العبودية بالتماس الدعاء ممن عرف له الهداية وحث للأمة على الرغبة في دعاء الصالحين وأهل العبادة، وتنبيه لهم على أن لا يخضعوا أنفسهم بالدعاء ولا يشاركوا فيه أقاربهم وأحباءهم لا سيما في مظان الإجابة، وتفخيم لشأن عمر وإرشاد إلى ما يحمي دعاءه من الرد (عون المعبود)
(فقال كلمة) وهي لا تنسنا (ما يسرني أن لي بها الدنيا) أي: لا يعجبني ولا يفرحني كون جميع الدنيا لي بدلها. كذا في المرقاة. (عون المعبود) عندما قال له لا تنسنا يا أخي من دعائك، حيث جعله أخا، ففيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه.
قال ابن باز:” فالتحاب في الله، كون الإنسان يقول لأخيه: استغفر لي أو: ادعوا لي لا بأس به ولا حرج في ذلك؛ لكن ينبغي أن يراعي عدم الإكثار الذي يمل أخاه ويؤذي أخاه” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 85)
فيه طلب الدعاء من الرجل الصالح وطلب الفاضل من المفضول أن يدعو له.
ذكر بعض الشراح أن النووي أخر حديث عمر عن حديث أويس لأن لأن الأول قول و وهذا الحديث فعل ومنهج النووي يقدم القول على الفعل، لأن الفعل قد يدل على الخصوصية أم القول فيدل على العموم.
379 – وعن ابن عُمرَ – رضي الله عنهما- قالَ: كانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَزُورُ قُباءَ راكِبًا وماشِيًا، فَيُصلِّي فِيهِ رَكْعتَيْنِ متفقٌ عَلَيهِ.
وفي روايةٍ: كانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَاتي مَسْجِدَ قُباءَ كُلَّ سبْتٍ راكِبًا وماشِيًا وكانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
قال النووي:” (قباء) فالصحيح المشهور فيه المد والتذكير والصرف، وفي لغة مقصور، وفي لغة مؤنث، وفي لغة مذكر غير مصروف، وهو قريب من المدينة من عواليها. (شرح مسلم للنووي)
قال فيصل آل مبارك:” مسافة ما بين مسجد قباء ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فرسخ، وهو ثلاث أميال” (تطريز رياض الصالحين 1/ 254)
وفي هذه الأحاديث: بيان فضله وفضل مسجده والصلاة فيه، وفضيلة زيارته، وأنه تجوز زيارته راكبا وماشيا، وهكذا جميع المواضع الفاضلة تجوز زيارتها راكبا وماشيا. وفيه: أنه يستحب أن تكون صلاة النفل بالنهار ركعتين كصلاة الليل، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وفيه خلاف أبي حنيفة، (شرح مسلم للنووي)
وقوله: (كل سبت) فيه: جواز تخصيص بعض الأيام بالزيارة، وهذا هو الصواب وقول الجمهور، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك، قالوا: لعله لم تبلغه هذه الأحاديث، والله أعلم. (شرح مسلم) قال القرطبي:” وفي إتيانه – صلى الله عليه وسلم – قباء كل سبت دليل على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك، وأصل مذهب مالك كراهة تخصيص شيء من الأوقات بشيء من القُرب إلا ما ثبت به توقيف، وقباء بينها وبين المدينة نحو الثلاثة أميال، فليست مما تشدُّ الرِّحال إليها،” (المفهم) وهذا هو الراجح.
: قوله: (ماشيا وراكبا) أي بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو. (فتح الباري)
قال ابن حجر:” وفي هذا الحديث على اختلاف طرقه دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك ” قال الأتيوبي:” يعني إلا ما ورد النهي عنه؛ كالنهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وليله بالقيام” (البحر المحيط
قال ابن حجر:” فيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم. لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكبا، وتعقب بأن مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء إنما كان لمواصلة الأنصار وتفقد حالهم، وحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه، وهذا هو السر في تخصيص ذلك بالسبت.” (فتح الباري)
قال ابن تيمية:” نص عامة العلماء على أنه لو نذر السفر إلى مسجد قباء، لم يوف بنذره، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وأتباعهم، لكن فيه نزاع شاذ في مذهب مالك؛ لأنه نهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وإنما يستحب إتيانه من قريب، مثل أن يكون بالمدينة، فيذهب إليه، كما ثبت في الصحيح عن ابن عمر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يأتي قباء كل سبت راكبًا، وماشيًا.
وكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويقوم في قباء يوم السبت؛ لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ}
وهذا يتناول مسجده، ومسجد قباء، ومسجده أحق بذلك من مسجد قباء. (قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان)
قال الباجي:” وقَوْلُهُ كانَ يَاتِي قُباءَ راكِبًا وماشِيًا لَيْسَ بِمُخالِفٍ لِما نُهِيَ عَنْهُ مِن أنْ تُعْمَلَ المَطِيُّ إلّا إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ مَسْجِدِهِ – صلى الله عليه وسلم – والمَسْجِدِ الحَرامِ ومَسْجِدِ إيلِياءَ لِأنَّ إتْيانَ قُباءَ مِن المَدِينَةِ لَيْسَ مِن بابِ إعْمالِ المَطِيِّ لِأنَّ إعْمالَ المَطِيِّ مِن صِفاتِ الأسْفارِ البَعِيدَةِ وقَطْعِ المَسافاتِ الطِّوالِ ولا يُقالُ لِمَن خَرَجَ إلى المَسْجِدِ مِن دارِهِ راكِبًا أنَّهُ أعْمَلَ المَطِيَّ وإنَّما يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلى عُرْفِ الِاسْتِعْمالِ فِي كَلامِ العَرَبِ ولا يَدْخُلُ تَحْتَ المَنعِ مِن إعْمالِ المَطِيِّ أنْ يَرْكَبَ إنْسانٌ إلى مَسْجِدٍ مِن المَساجِدِ القَرِيبَةِ مِنهُ فِي جُمُعَةٍ أوْ غَيْرِها لِأنَّهُ لا خِلافَ فِي جَوازِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ واجِبٌ فِي أوْقاتٍ كَثِيرَةٍ فَإنَّ الَّذِي مُنِعَ مِنهُ أنْ يُسافِرَ السَّفَرَ البَعِيدَ إلى غَيْرِ الثَّلاثَةِ المَساجِدِ ولَوْ أنَّ آتِيًا أتى قُباءَ وقَصَدَ مِن بَلَدٍ بَعِيدٍ وتَكَلَّفَ فِيهِ مِن السَّفَرِ ما يُوصَفُ مِن إعْمالِ المَطِيِّ لَكانَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ عَلى هَذا القَوْلِ وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي المَبْسُوطِ مَن قَدَرَ أنْ يَاتِيَ مَسْجِدَ قُباءَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ والقَوْلُ الأوَّلُ أظْهَرُ وأكْثَرُ.” (المنتقى شرح الموطأ (1/ 298 (
قال ابن باز:” كان النبي صلى الله عليه وسلم بزور قباء هذا يدل على زياة الأماكن الفاضلة الذي شرع الله زيارتها؛ كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء لمن كان في المدينة، كان يزوره كل سبت عليه الصلاة والسلام راكبا وماشيا؛ لكن لا يشد الرحل إليه إنما يزوره من في المدينة، الراحلة لا تشد إلا للمساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم المسحد الأقصى؛ لكن إذا كان في المدينة شرع له أن يزور قباء ويصلي فيه، الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان به أجر عمرة” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 85)
قال ابن بطال عن المهلب: المراد من هذا الحديث معاينة النبي صلى الله عليه وسلم ماشيا وراكبا في قصده مسجد قباء، وهو مشهد من مشاهده صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بغير المدينة.
ومما جاء في فضل مسجد قباء، جاء في مسند الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي عن سهل بن حنين قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ “.
قال ابن تيمية:” قال بعض العلماء: قوله: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء» تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال، بل إنما يأتيه الرجل من بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه، ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها.” (اقتضاء الصراط المستقيم
روى الترمذي وابن ماجه أُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّ – وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ.
الأماكن التي تزار في المدينة خمسة 1 – مسجد النبي صلى الله عليه وسلم 2 – قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام عليه 3 – مسجد قباء 4 – شهداء أحد 5 – البقيع.