353 و 354 و355 و 356 و357 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
44 – باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم عَلى غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم.
قال ابن علان:” باب توقير بالقاف من الوقار وهو التبجيل: أي تعظيم العلماء: أي بالعلوم الشرعية وآلاتها المطلوبة: أي وإن لم يكونوا من ذوي السن … (والكبار) بكسر القاف: أي في السن وإن لم يكونوا أهل علم (وأهل الفضل) من الكرم والمروءة والشجاعة وغيرها من خصال الكمال التي بها تتفاضل الرجال (وتقديمهم على غيرهم) ممن لم يكونوا كذلك: وظاهر تعبيره أنهم عند اجتماعهم يرتبون بترتيبهم في الذكر، فيقدم ذو العلم على ذي السن، وهو على من بعده (ورفع مجالسهم) وٌّ كانوا هم ينبغي لهم أن لا يطلبوا رفعها تواضعًا (وإظهار مرتبتهم) أداءًا لحق ذي الحق.” (دليل الفالحين لابن علان 1/ 558)
قال ابن باز:” الناس بالله، ثم بعلمائها وقرائها ودعاة الإصلاح والتوجيه” (شرح رياض الصالحين لابن باز2/ 58)
قال ابن عثيمين:” يريد المؤلف رحمه الله بالعلماء علماء الشريعة الذين هم ورثة النبي – صلى الله عليه وسلم -، فإن العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، فإن النبي صلى عليه وسلم توفي عن بنته فاطمة وعمه العباس ولم يرثوا شيئًا؛ لأن الأنبياء لا يورثون إنما ورثوا العلم.
فالعلم شريعة الله فمن أخذ بالعلم؛ أخذ بحظ وافر من ميراث العلماء.
وإذا كان الأنبياء لهم حق التبجيل والتعظيم والتكريم، فلمن ورثهم نصيب من ذلك، أن يبجل ويعظم ويكرم، فلهذا عقد المؤلف رحمه لله لهذه المسألة العظيمة بابًا؛ لأنها مسألة عظيمة ومهمة.
وبتوقير العلماء توقر الشريعة؛ لأنهم حاملوها، وبإهانة العلماء تهان الشريعة؛ لأن العلماء إذا ذلوا وسقطوا أمام أعين الناس؛ ذلت الشريعة التي يحملونها، ولم يبق لها قيمة عند الناس، وصار كل إنسان يحتقرهم ويزدريهم فتضيع الشريعة.
كما أن ولاة الأمر من الأمراء والسلاطين يجب احترامهم وتوقيرهم و تعظيمهم وطاعتهم، حسب ما جاءت به الشريعة؛ لأنهم إذا احتقروا أمام الناس، وأذلوا، وهون أمرهم؛ ضاع الأمن وصارت البلاد فوضى، ولم يكن للسلطان قوة ولا نفوذ.
فهذان الصنفان من الناس: العلماء والأمراء، إذا احتقروا أمام أعين الناس فسدت الشريعة، وفسد الأمن، وضاعت الأمور، ” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” البركة مع أكابركم ” (صحيح الترغيب 99)
ومن الآثار في ذلك، قال طاووس:” من السنة أن يوقر العالم” (جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر)
قال سهل التستري:”: لا يَزالُ النّاسُ بِخَيْرٍ ما عَظَّمُوا السُّلْطانَ والعُلَماءَ، فَإذا عَظَّمُوا هَذَيْنَ أصْلَحَ اللَّهُ دُنْياهُمْ وأُخْراهُمْ، وإذا اسْتَخَفُّوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم” (تفسير القرطبي 260/ 5)
قال ابن عبدالبر:” قالَ أيُّوبُ بْنُ القِرِّيَّةِ:» أحَقُّ النّاسِ بِالإجْلالِ ثَلاثَةٌ: العُلَماءُ، والإخْوانُ، والسُّلْطانُ، فَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالعُلَماءِ أفْسَدَ دِينَهُ، ومَنِ اسْتَخَفَّ بِالإخْوانِ أفْسَدَ مُرُوءَتَهُ، ومَنِ اسْتَخَفَّ بِالسُّلْطانِ أفْسَدَ دُنْياهُ، والعاقِلُ لا يَسْتَخِفُّ بِأحَدٍ” (جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر)
وجاء في مكارم الأخلاق للخرائطي بإسناده عن مالِكَ بْنَ مِغْوَلٍ، يَقُولُ: «مَشَيْتُ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ حَتّى انْتَهَيْنا إلى زُقاقٍ ضَيِّقٍ، فَتَخَلَّفْتُ وتَقَدَّمَ طَلْحَةُ، فالتَفَتَ إلَيَّ وقالَ: لَوْ أعْلَمُ أنَّكَ أكْبَرُ مِنِّي بِيَوْمٍ أوْ لَيْلَةٍ ما تَقَدَّمْتُ»
وجاء عنه أيضا:” قالَ أبُو الحَسَنِ المَدائِنِيُّ: «لَمّا ولِيَ زِيادٌ العِراقَ صَعِدَ المِنبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ: أيُّها النّاسُ، إنِّي قَدْ رَأيْتُ خِلالًا ثَلاثًا، نَبَذْتُ إلَيْكُمْ فِيهِنَّ النَّصِيحَةَ: رَأيْتُ إعْظامَ ذَوِي الشَّرَفِ، وإجْلالَ أهْلِ العِلْمِ، وتَوْقِيرَ ذَوِي الأسْنانِ، وإنِّي أُعاهِدُ اللَّهَ عَهْدًا، لا يَاتِينِي شَرِيفٌ بِوَضِيعٍ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ حَقَّ شَرَفِهِ إلّا عاقَبْتُهُ، ولا يَاتِينِي كَهْلٌ بِحَدَثٍ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ حَقَّ فَضْلِ سِنِّهِ عَلى حَداثَتِهِ إلّا عاقَبْتُهُ، ولا يَاتِينِي عالِمٌ بِجاهِلٍ لاحاهُ فِي عِلْمِهِ لِيُهَجِّنَهُ عَلَيْهِ إلّا عاقَبْتُهُ؛ فَإنَّما النّاسُ بِأشْرافِهِمْ، وعُلَمائِهِمْ، وذَوِي أسْنانِهُمْ»
قالَ الله تَعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوالألْبابِ} [الزمر (9)]
قال ابن جرير الطبري:” يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون بسيئها شرا؟ يقول: ما هذان بمتساويين.
وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} يقول تعالى ذكره: إنما يعتبر حجج الله، فيتعظ، ويتفكر فيها، ويتدبرها أهل العقول والحجى، لا أهل الجهل والنقص في العقول. ” (تفسر الطبري)
قال ابن كثير:” وَقَوْلُهُ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ مِمَّنْ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ؟! {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} أَيْ: إِنَّمَا يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مَنْ له لب وهو العقل.” (تفسير ابن كثير)
قال السعدي:” {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحكم {وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} شيئا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} إذا ذكروا {أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة اللّه على مخالفته، لأن لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لب له ولا عقل، فإنه يتخذ إلهه هواه.”
قال ابن باز:” لا يستوي من أعطاه الله العلم النافع مع من جهل أمر الله، فالواجب أن يعرف لأهل العلم حقهم بما شرع الله جل وعلا في تقديرهم واحترامهم وأخذ العلم عنهم وسؤالهم عما أشكل «فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» [النحل: 43] وعدم التكبر عن طلب العلم وسؤال أهله والأخذ عنهم، فإن الناس في حاجة شديدة إلى العلم ولا سبيل إلى ذلك إلا بسؤال أهل العلم والتلمذة عليهم” (شرح رياض الصالحين لابن باز2/ 58)
قال سفيان بن عيينة:” أرفعُ الناس عند الله منزلةً من كان بين الله وبين عباده، وهم الرسلُ والعلماء” (الفقيه والمتفقه للخطيب)
وقالَ أبُو إسْحاقَ: وكانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأوْقَصُ عُنُقُهُ داخِلًا فِي بُدْنِهِ، وكانَ مِنكَباهُ خارِجَيْنِ كَأنَّهُما زَجّانِ، فَقالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يا بُنَيَّ لا تَكُونُ فِي قَوْمٍ، إلّا كُنْتَ المَضْحُوكَ مِنهُ المَسْخُورَ بِهِ، فَعَلَيْكَ بِطَلَبِ العِلْمِ، فَإنَّهُ يَرْفَعُكَ قالَ: فَطَلَبَ العِلْمَ، قالَ: فَوَلِيَ قَضاءَ مَكَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً قالَ: فَكانَ الخَصْمُ إذا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَرْعَدُ حَتّى يَقُومَ (الفقيه والمتفقه للخطيب) من هيبة العلم.
الملائكة تجل أهل العلم، فينبغي للناس أن يقتدوا بالملائكة فيجلون العلماء، وعَنْ أبِي مُعاوِيَةَ الضَّرِيرِ قالَ: صَبَّ عَلى يَدَيَّ بَعْدَ الأكْلِ شَخْصٌ لاَ أعْرِفُهُ. فَقالَ الرَّشِيدُ: تَدْرِي مَن يَصُبُّ عَلَيْكَ؟ قُلْتُ: لاَ. قالَ: أنا، إجْلاَلًا لِلْعِلْمِ (سير أعلام النبلاء)
قال: «أبو قيس الأودي»: رأيت «إبراهيم النخعي» آخذا بالركاب «لعلقمة» اهـ (حلية الأولياء)
قال ابن سيرين في حديثه عن عبدالرحمن بن أبي ليلى: قال: رأيت أصحابه يعظمونه كأنه أمير. (العبر في خبر من غبر للذهبي)
وقالَ سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ: ما اجْتَمَعَ الشَّعْبِيُّ وإبْراهِيمُ، إلاَّ سَكَتَ إبْراهِيمُ (سير اعلام النبلاء)
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أبِي المُغِيرَةِ، قالَ: «كانَ ابْنُ عَبّاسٍ بَعْدَما عَمِيَ إذا أتاهُ أهْلُ الكُوفَةِ يَسْألُونَهُ قالَ: تَسْألُونِي وفِيكُمُ ابْنُ أُمِّ دَهْماءَ قالَ يَعْقُوبُ: يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ» (الطبقات الكبرى لابن سعد)
وسُئِلَ ابْنُ المُبارَكِ بِحُضُورِ سُفْيانَ بنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَسْألَةٍ، فَقالَ: إنّا نُهِينا أنْ نَتَكَلَّمَ عِنْد أكابِرِنا. (سير اعلام النبلاء)
خَلْفَ بْنَ سالِمٍ، يَقُولُ: كُنّا فِي مَجْلِسِ يَزِيدَ بْنِ هارُونَ فَمَزَحَ يَزِيدُ مَعَ مُسْتَمْلِيهِ، فَتَنَحْنَحَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ – وكانَ فِي المَجْلِسِ – فَقالَ يَزِيدُ: «مَنِ المُتَنَحْنِحُ» فَقِيلَ لَهُ: أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى جَبِينِهِ، وقالَ «ألا أعْلَمْتُمُونِي أنَّ أحْمَدَ هاهُنا حَتّى لا أمْزَحَ» (حلية الاولياء)
مُحَمَّدُ بْنُ ماجَهِ القُزْوِينِيُّ، قالَ: جاءَ يَحْيى بْنُ مَعِينٍ يَوْمًا إلى أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَبَيْنَما هُوَ عِنْدَهُ، إذْ مَرَّ الشّافِعِيُّ عَلى بَغْلَتِهِ، فَوَثَبَ أحْمَدُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وتَبِعَهُ، فَأبْطَأ، ويَحْيى جالِسٌ فَلَمّا جاءَ قالَ يَحْيى: يا أبا عَبْدِ اللَّهِ، كَمْ هَذا فَقالَ أحْمَدُ: «دَعْ هَذا عَنْكَ إنْ أرَدْتَ الفِقْهَ فالزَمْ ذَنَبَ البَغْلَةِ» (حلية الأولياء)
حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبي يقول: كان علي بن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل، وكان أحمد بن حنبل لا يسميه إنما يكنيه: أبو الحسن، تبجيلا له، وما سمعت أحمد بن حنبل سماه قط. (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم)
قالَ الزُّهْرِيُّ: «كُنْتُ أحْسَبُ بِأنِّي أصَبْتُ مِنَ العِلْمِ فَجالَسْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَكَأنِّي كُنْتُ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعابِ» (سنن الدارمي) والشعب ضيق
353 – وعن أبي مسعودٍ عُقبةَ بنِ عمرٍو البدريِّ الأنصاريِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُول اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: «يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكتابِ اللَّهِ، فَإنْ كانُوا في القِراءَةِ سَواءً، فَأعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإنْ كانُوا في السُّنَّةِ سَواءً، فَأقْدمُهُمْ هِجْرَةً، فَإنْ كانُوا في الهِجْرَةِ سَواءً، فَأقْدَمُهُمْ سِنًّا ولا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطانِهِ، ولا يَقْعُد في بيْتِهِ عَلى تَكْرِمتِهِ إلاَّ بِإذْنِهِ» رواه مسلم.
وفي روايةٍ لَهُ: «فَأقْدمهُمْ سِلْمًا» بَدل «سِنًّا»: أيْ إسْلامًا.
وفي رواية: يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤهُمْ لِكتابِ اللَّهِ، وأقْدمُهُمْ قِراءَةً، فَإنْ كانَتْ قِراءَتُهمْ سَواءً فَيَؤُمُّهم أقْدمُهُمْ هِجْرةً، فَإنْ كانوا في الهِجْرَةِ سواء، فَلْيُؤمَّهُمْ أكْبرُهُمْ سِنًا”.
والمُرادُ «بِسُلْطانِهِ» محلُّ ولايتِهِ، أوْ الموْضعُ الَّذِي يخْتَصُّ به. «وتَكْرِمتُهُ» بفتحِ التاءِ وكسر والراءِ: وهِي ما يَنْفَرِدُ بِهِ مِن فِراشٍ وسرِيرٍ ونحْوِهِما.
(يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤهُمْ لِكتابِ اللَّه)
قال الخطابيّ -رحمه الله-: وهذا هو الصحيح المستقيم في الترتيب، وذلك أنه – صلى الله عليه وسلم – جعل مِلاك الإمامة القراءة، وجعلها مُقَدَّمةً على سائر الخصال المذكورة معها، والمعنى في ذلك أنهم كانوا قومًا أُمِّيين، لا يقرؤون، فمن تَعَلَّم منهم شيئًا من القرآن كان أحق بالإمامة ممن لم يتعلم؛ لأنه لا صلاة إلا بقراءة، وإذا كانت القراءة من ضرورة الصلاة، وكانت ركنًا من أركانها صارت مقدمة في الترتيب على الأشياء الخارجة عنها.
ثم تلا القراءة العلم بالسنّة، وهي الفقه، ومعرفة أحكام الصلاة، وما سَنَه رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – فيها، وبيّنه من أمرها، فإن الإمام إذا كان جاهلًا بأحكام الصلاة، وبما يَعْرِض فيها من سهو، ويقع من زيادة ونقصان أفسدها، أو أخرجها، فكان العالم بها، والفقيه فيها مُقَدَّمًا على من لم يَجْمَع علمها، ولم يعرف أحكامها.
ومعرفةُ السنّة، وإن كانت مؤخَّرة في الذكر، وكانت القراءة مبدوءًا بذكرها، فإن الفقيه العالم بالسنّة إذا كان يقرأ من القرآن ما تجوز به الصلاة أحقّ بالإمامة من الماهر بالقراءة إذا كان متخلفًا عن درجته في علم الفقه، ومعرفة السنّة.
وإنما قُدم القارئ في الذكر؛ لأن عامة الصحابة إذا اعتَبَرْتَ أحوالَهُم وجدت أقرأهم أفقههم.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: كان أحدنا إذا حفظ سورة من القرآن لم يَخْرُج عنها إلى غيرها حتى يُحكِم علمها، أو يَعْرِف حلالها وحرامها، أو كما قال.
فأما غيرهم ممن تأخر بهم الزمان، فإن أكثرهم يقرؤون القرآن، ولا يفقهون، فقراؤهم كثير، والفقهاء منهم قليل. (معالم السنن)
(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) قال صاحب العون:” الظاهر أن المراد أكثرهم له حفظا ويدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح عن عمرو بن سلمة أنه قال: {انطلقت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام قومه، فكان فيما أوصانا ليؤمكم أكثركم قرآنا فكنت أكثرهم قرآنا فقدموني} وأخرجه أيضا البخاري وأبو داود والنسائي. وقيل: أحسنهم قراءة وإن كان أقلهم حفظا، وقيل: أعلمهم بأحكامه. (عون المعبود)
قال النووي:” فيه دليل من يقول بتقديم الأقرأ على الأفقه، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وبعض أصحابنا، وقال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما: الأفقه مُقَدَّمٌ على الأقرأ؛ لأن الذي يُحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يُحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يَعْرِض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه، قالوا: ولهذا قدم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أبا بكر -رضي الله عنه – في الصلاة على الباقين، مع أنه – صلى الله عليه وسلم – نَصَّ على أن غيره أقرأ منه.
وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه، لكن في قوله: «فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسنَّة» دليل على تقديم الأقرأ مطلقًا.
قال: ولنا وجْهٌ اختاره جماعة من أصحابنا، أن الأورع مُقَدَّم على الأفقه والأقرأ؛ لأن مقصود الإمامة يحصل من الأورع أكثر من غيره.” (شرح مسلم للنووي)
قال القرطبي:” وقوله يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، تمسك بظاهر هذا أبو حنيفة فقال: القارئ أولى من الفقيه. وقال مالك: الفقيه أولى من القارئ؛ لأن الحاجة إلى الفقه أكثر، وهو أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة. وتأول أصحاب الحديث بأن الأقرأ فيه هو الأفقه؛ لأن الأقرأ كان عندهم هو الأفقه، لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن، وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء. قلت: إن صحت غلبة العرف فالقول ما قاله مالك.” (المفهم للقرطبي 2/ 297)
قال الأتيوبي:” قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي الأرجح تفسيره بالأكثر حفظًا للقرآن؛ لحديث عمرو بن سلِمة -رضي الله عنه-؛ فإن خيرَ ما فُسِّر به الحديث ما جاء في حديث آخر، كما قال في «ألفية الحديث»:
وخَيْرُهُ ما جاءَ مِن طَرِيقٍ أوْ … عَنِ الصَّحابِيّ وراوٍ قَدْ حَكَوا” (البحر المحيط)
قال ابن عثيمين:” الأحق بالإمامة الأقرأ لكتاب الله لقوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وظاهر الحديث أنه أحق بالإمامة وإن لم يكن أفقه -حطوا بالكم- وإن لم يكن أفقه، حتى لو وجد إنسان أعلم منه بفقه الصلاة ولكن هذا أقرب يقدم من؟ الأقرأ هذا هو ظاهر الحديث. وقال بعض أهل العلم: إنه لا يراد بهذا الحديث ظاهره في كل زمان وفي كل مكان وإنما يراد ظاهره في مثل عهد الصحابة رضي الله عنهم الذين لا يتجاوزون عشر آيات إلا وقد علموها وما فيها من العلم والعمل، فيكون الأكثر قرآناً هو الأعلم بالشرع، ولهذا قيدها بعض العلماء بقوله: الأقرأ العالم فقه صلاته، فإن كان أقرأ لكن ما يعرف شيء من فقه الصلاة لا يعرف شيئًا من فقه الصلاة والثاني دونه في القرآن ولكن عنده علم بفقه الصلاة، فعلى رأي هؤلاء العلماء يقدم الأفقه، والذي يظهر لي أن الأولى الأخذ بظاهر الحديث أن الأقرأ يقدم إلا إذا علمنا أن الأقرأ ما عنده علم إطلاقاً مثل العامي مثلًا ما يدري أن أن الفاتحة ركن ولا أن التسبيح في الركوع واجب ولا أن التكبيرات واجبة يعني جاهل فهذا ينبغي أن لا يكون إماماً لجهله.” (شرح بلوغ المرام)
قال القرطبي:” وفي قوله يؤم القوم أقرؤهم حجة لنا في منع إمامة المرأة للرجال؛ لأن القوم هم الرجال، لأنهم بهم قوام الأمور، وقد قال تعالى: {آمَنُوا لا يَسخَر قَومٌ مِن قَومٍ} وقال: {ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ} وقال الشاعر:
وما أدري وسوف إخالُ أدري … أقومٌ آلُ حِصنٍ أم نساء؟
فسَمّى الرجالَ قومًا.” (المفهم
(فَإنْ كانُوا فِي القِراءَةِ سَواءً) «سواءً» خبر «كان» بمعنى مُسْتَوِين، أي إن استووا في القدر المعتبر من القراءة؛ إما في حسنها، أو في كثرتها وقلتها على القولين.
(فَأعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ) أي فيؤم أكثرهم علمًا بالسنَّة، قال السنديّ: حملوها على أحكام الصلاة. انتهى. وقال الشوكانيّ -رحمه الله-: فيه أن مزية العلم مقدَّمةٌ على غيرها من المزايا الدينية.
(فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة)، قال أصحابنا: يدخل فيه طائفتان: إحداهما: الذين يهاجرون اليوم من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة عندنا وعند جمهور العلماء، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” لا هجرة بعد الفتح “، أي: لا هجرة من مكة; لأنها صارت دار إسلام، أو: لا هجرة فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح،
الطائفة الثانية: أولاد المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استوى اثنان في الفقه والقراءة، وأحدهما من أولاد من تقدمت هجرته، والآخر من أولاد من تأخرت هجرته، قدم الأول. (شرح مسلم للنووي)
قال الأتيوبي:” وفي الاستدلال بحديث الباب على الطائفة الثانية بُعْد لا يخفى، فتأمّله بإنصاف.
قال السندي:” قُدِّمَ؛ إما لأن القِدَم في الهجرة شرفٌ يقتضي التقديم، أو لأن من تقدمت هجرته لا يخلو غالبًا عن كثرة العلم بالنسبة إلى من تأخر”
قال ابن باز:” المهاجر الأول مقدم على المهاجر المتأخر إذا استويا في العلم بالكتاب والسنة” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 59)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما)، وفي الرواية الأخرى: ” سنا “، وفي الرواية الأخرى: ” فأكبرهم سنا “، معناه: إذا استويا في الفقه والقراءة والهجرة ورجح أحدهما بتقدم إسلامه أو بكبر سنه قدم; لأنها فضيلة يرجح بها. (شرح مسلم للنووي)
قال الشوكاني:”: أي يقدَّم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام؛ لأن تلك فضيلة يُرَجَّح بها، وجعل البَغَويّ أولاد من تقدّم إسلامه أولى من أولاد من تأخر إسلامه، والحديث لا يدل عليه.” (نيل الأوطار)
قال ابن عثيمين:” وهذا يدل على تقديم الأفضل فالأفضل في الإمامة، وهذا في غير الإمام الراتب، أما الإمام الراتب فهو الإمام وإن كان في الناس من هو أقرأ منه؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: «ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه» وإمام المسجد الراتب سلطان في مسجده، حتى إن بعض العلماء يقول: لو أن أحدًا تقدم وصلى بجماعة المسجد بدون إذن الإمام فصلاتهم باطلة، وعليهم أن يعيدوا، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهي عن الإمامة، والنهي يقتضي الفساد” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 234)
: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) معناه ما ذكره أصحابنا وغيرهم: أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل منه، وصاحب المكان أحق، فإن شاء تقدم، وإن شاء قدم من يريده، وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولا بالنسبة إلى باقي الحاضرين; لأنه سلطانه فيتصرف فيه كيف شاء. قال أصحابنا: فإن حضر السلطان أو نائبه قدم على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما; لأن ولايته وسلطنته عامة. قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه. (شرح النووي)
قال الطيبي:” وتحريره أن الجماعة شُرِعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة، وتآلفهم، وتوادّهم، فإذا أمَّ الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة، وخلع رِبْقَة الطاعة، وكذلك إذا أمّه في قومه وأهله أدّى ذلك إلى التباغض، والتقاطع، وظهور الخلاف الذي شُرع لدفعه الاجتماع، فلا يتقدم رجل على ذي السلطنة، لا سيما في الأعياد والجمعات، ولا على إمام الحيّ، ورب البيت إلا بالإذن. انتهى
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)، وفي الرواية الأخرى: ” ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا أن يأذن لك “، قال العلماء: التكرمة: الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويخص به، وهي بفتح التاء وكسر الراء. (شرح النووي)
التَّكْرِمة: الموضع الخاصّ لجلوس الرجل، من فراش، أو سرير، مما يُعَدُّ لإكرامه، وهي تَفْعِلَة من الكَرامة. (لسان العرب)
قال ابن باز:” فهذا كل من آداب الشريعة ومن تنزيل الناس منازلهم، قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” أنزلوا الناس منازلهم” هذا من إنزال الناس منازلهم” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 60)
قال الأتيوبي:” وإنما نُهِي عن القعود على تكرمة الرجل؛ لأن المكان الذي يجلس فيه صاحب الدار عادةً، ويَخُصّ به نفسه، يكون محلًا لأشياء لا يحب أن يَطَّلِع عليها غيره، أو يكون مشرفًا على داره كلها، أو على ما يريده هو، فيرى منه أحوال أهل بيته، ويبلغهم ما يريد، فإذا أذن لغيره بالجلوس، عُلِم أن المكان آمن من ذلك كله، واللَّه تعالى أعلم.
(إلّا بِإذْنِهِ «) قيل: الاستثناء متعلِّق بكلا الفعلين، فيجوز أن يؤم الزائر صاحب البيت، ويجلس على تكرمته بإذنه، وقيل: متعلق بالثاني فقط، والراجح الأول.” (البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج 14/ 435)
فيه أن صاحب العلم مقدم على غيره وهو الشاهد من الحديث
354 – وعنه قالَ: كانَ رسولُ اللَّه – صلى الله عليه وسلم – يمْسحُ مناكِبَنا في الصَّلاةِ ويَقُولُ: «اسْتَوُوا ولا تخْتلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِني مِنكُمْ أُولوا الأحْلامِ والنُّهى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذِينَ يلونَهم» رواه مسلم.
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لِيَلِني» هُوَ بتخفيف النُّون ولَيْسَ قَبْلَها ياءٌ، ورُوِي بتشديد النُّون مَعَ ياءٍ قَبْلَها. «والنُّهى»: العُقُول: «وأُولُوا الأحْلام» هُمْ البالِغُونَ، وقيل: أهْلُ الحِلْمِ والفَضْلِ.
355 – وعن عبد اللَّه بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم -: «لِيَلِني مِنكُمْ أُولُوا الأحْلامِ والنُّهى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ثَلاثًا «وإيّاكُم وهَيْشاتِ الأسْواقِ» رواه مسلم.
(يمسح مناكبنا) المناكب «: جمع مَنكِب -بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الكاف- وهو مُجْتَمَع رأس العضد والكَتِف (المصباح المنير)
قوله: (يمسح مناكبنا) أي: يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها. (شرح مسلم للنووي) فيه أن الأصل في تسوية الصفوف تسوية المناكب.
(اسْتَوُوا ولا تخْتلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ) فيه وجوب تسوية الصفوف لأن عدم ذلك يؤدي إلى اختلاف القلوب واختلاف القلوب محرم.
قال ابن باز:” إذا كان هذا في الصف وعدم التساوي فكيف بالاختلاف في الآراء والمقاصد والأهداف، فإن هذا من أعظم أسباب في الفرقة والاختلاف” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 60)
قال الأتيوبي:” فتختلفَ قلوبكم بالأهوية والإرادة؛ لأن اختلاف الظاهر يكون سببًا في اختلاف الباطن.
[فإن قلت]: هذا الحديث يدلّ على أن القلب تابع للأعضاء، ففسادها سببٌ لفساده، ويعارضه حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنه – المتّفق عليه: «ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»؛ لأنه يدلّ على أن الأعضاء تابعة للقلب، فصلاحها بصلاحه، وفسادها بفساده، فكيف يُجمع بينهما؟
[قلت]: يُجمع بأن الاختلاف في الظاهر ناشئ عن فساد القلب، وذلك أن عدم إقامة الصفوف يدلّ عدم الاعتناء بالسنّة، وعدم الاعتناء بها يدلّ على غفلة القلب وفساده؛ لأن من كان قلبه حيًّا صالحًا منوَّرًا بنور الإيمان يكون متّبعًا للسنّة في جميع أحواله، والعكس بالعكس، فثبت بهذا ترتّب الاختلاف الظاهريّ على الفساد الباطنيّ، ثم يَنشَأ من هذا الاختلاف الظاهريّ المتسبّب عن فساد القلب الاختلاف الباطنيّ بمعنى آخر، وهو وقوع العداوة والبغضاء والتحاسد فيما بينهم.
فظهر بهذا أن فساد القلب أوّلًا بالإعراض عن السنّة هو الأصل؛ لاختلاف الظاهر بعدم إقامة الصفوف الذي ينشأ عنه اختلاف الباطن بالعداوة والبغضاء والتحاسد ونحوها، فاختلف جهة فساد القلب، فالفساد الأول هو الغفلة عن اللَّه، والإعراض عن اتّباع السنّة، والفساد الثاني هو الفساد الذي يكون بينهم من الأشياء المذكورة، فالفساد الثاني نتيجة الفساد الأول.
وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين، وللَّه الحمد والنعمة، وله الفضل والمنّة.” (البحر المحيط الثجاج و انظر دليل الفالحين)
قوله صلى الله عليه وسلم: ” ليلني ” هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. (شرح مسلم للنووي) وقال الطيبيّ:”المعنى: ليدن منّي العلماء النجباء، أولو الأخطار، وذوو السكينة والوقار، أمرهم به؛ ليحفظوا صلاته، ويضبطوا الأحكام والسنن، فيُبلغوا مَن بَعْدهم، وفي ذلك بعد الإفصاح عن جلالة شؤونهم، ونباهة أقدارهم حثٌّ لهم على المسابقة إلى تلك الفضيلة، وفيه إرشاد لمن قصر عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحرّي ما يُزاحمهم فيها.
” أولو الأحلام ” هم العقلاء، وقيل: البالغون، و ” النهى ” – بضم النون – العقول، فعلى قول من يقول: ” أولو الأحلام: العقلاء ” يكون اللفظان بمعنى، فلما اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيدا، وعلى الثاني معناه: البالغون العقلاء، قال أهل اللغة: واحدة ” النهى “: نهية – بضم النون – وهي العقل، ورجل نه، ونهى من قوم نهين، وسمي العقل نهية؛ لأنه ينتهي إلى ما أمر به ولا يتجاوز، وقيل: لأنه ينهى عن القبائح. قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدرا كالهدى، وأن يكون جمعا كالظلم، قال: والنهي في اللغة معناه الثبات والحبس، ومنه النهى والنهى – بكسر النون وفتحها – والنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع، قال الواحدي: فرجع القولان في اشتقاق النهية إلى قول واحد وهو الحبس، فالنهية هي التي تنهى وتحبس عن القبائح، والله أعلم. (شرح مسلم للنووي)
قال في «المرقاة»: الحِلْم بالكسر: الأناة، والتثبّت في الأمور، والسكون، والوقارُ، وضبط النفس عند هَيَجان الغضب، ويُفسّر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل، والعقلُ الراجح يتسبّب لها، وقيل: «أولو الأحلام»: البالغون، والحُلُم بضمّ الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم الذين يلونهم) معناه: الذين يقربون منهم في هذا الوصف. (شرح مسلم للنووي)
قال ابن باز:” هذا كله يدل على أنه ينبغي على أهل العلم و الإيمان وكبار الناس أن يتقدموا في الصف الأول حتى يكونوا أسوة لغيرهم ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 60)
روى ابن خزيمة بإسناد حسن قيس بن عباد أو عبادة بَيْنما أنا بالمدينةِ في المسجِدِ في الصفِّ المقدَّمِ قائمٌ أُصلِّي، فجذَبَني رجُلٌ مِن خلْفي فنحَّاني وقامَ مَقامي، فواللهِ ما عقَلتُ صلاتي، فلمَّا انصرَفَ فإذا أُبَيُّ بنُ كَعبٍ، فقال: يا فتى لا يسُؤْكَ اللهُ، إنَّ هذا عَهدٌ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلينا أنْ نلِيَه.
قال ابن عثيمين:” ليس معنى الحديث لا يلني إلا أولو الأحلام والنهي، بحيث نطرد الصبيان عن الصف الأول، فإن هذا لا يجوز. فلا يجوز طرد الصبيان عن الصف الأول إلا أن يحدث منهم أذية، فإن لم يحدث منهم أذية؛ فإن من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد أحق به.
وهناك فرق بين أن تكون العبارة النبوية: لا يلني إلا أولو الأحلام،
وبين قوله: ليلني أولو الأحلام، فالثانية تحث الكبار العقلاء على التقدم، والأولى لو قدر أنها هي نص الحديث لكان بنهى أن يلي الإمام من ليس بالغًا، أو ليس عاقلًا.
وعلى هذا فنقول: إن أولئك الذين يطردون الصبيان عن الصف الأول أخطئوا من جهة أنهم منعوا ذوي الحقوق حقوقهم؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له».
ومن جهة أخرى أنهم يكرهون الصبيان المساجد، وهذا يؤدي إلى أن ينفر الصبي عن المسجد إذا كان يطرد عنه.
ومنها أن هذه لا تزال عقدة في نفسه من الذي طرده فتجده يكرهه، ويكره ذكره، فمن أجل هذه المفاسد نقول: لا تطردوا الصبيان من أوائل الصفوف.
ثم إننا إذا طردناهم من أوائل الصفوف؛ حصل منهم لعب، لو كانوا كلهم في صف واحد كما يقوله من يقوله من أهل العلم، لحصل منهم من اللعب ما يوجب اضطراب المسجد، واضطراب أهل المسجد، ولكن إذا كانوا مع الناس في الصف الأول ومتفرقين؛ فإن ذلك أسلم من الفوضى التي تحصل بكونهم يجتمعون في صف واحد.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 236 و 237)
وقال أيضا:” إذا كان يمين الصف بعيدًا، وأيسر الصف أقرب منه بشكل واضح، فإن الصف الأيسر أفضل من الأيمن، من أجل دنوه من الإمام؛ ولأنه لما كان الناس في أول الأمر إذا كان إمامهم واثنان معه، فإنهما يكونان عن يمينه واحد، وعن شماله واحد، ولا يكون كلاهما عن اليمين، فدل هذا على مراعاة الدنو من الإمام، وتوسط الإمام من المأمومين.
ولكن هذا الأمر أي كون الإمام واثنان معه يكونان في صف واحد، هذا نسخ، وصار الإمام إذا كان معه اثنان يصفان خلفه، ولكن كونه – حين كان مشروعًا – يجعل أحدهما عن اليمين والثاني عن اليسار؛ يدل على أنه ليس الأيمن أفضل مطلقًا، بل أفضل من الأيسر إذا كان مقاربًا أو مثله، أما إذا تميز بميزة بيّنة؛ فاليسار مع الدنو من الإمام أفضل.” (المصدر السابق)
قال النووي:” في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس كمجالس العلم والقضاء والذكر والمشاورة، ومواقف القتال وإمامة الصلاة، والتدريس والإفتاء، وإسماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين، والعقل والشرف، والسن والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك، وفيه تسوية الصفوف واعتناء الإمام بها والحث عليها.” (شرح مسلم للنووي)
قوله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم وهيشات الأسواق) هي بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، أي: اختلاطها والمنازعة والخصومات، وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها. (شرح مسلم للنووي)
وقال ابن الأثير – رحمه الله -: قوله: «إياكم وهَوْشات الأسواق»، ويُروى بالياء: أي فِتَنها وهَيْجها.
وقال الخطّابيّ في «المعالم»: أصله من الهَوْش، وهو الاختلاط، يقال: تهاوش القومُ: إذا اختلطوا، ودخل بعضهم في بعض، وبينهم تهاوشٌ، واختلاف. انتهى.
وقال في «المرقاة»: «هيشات الأسواق»: جمع هَيْشَة، وهي رفع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضورٌ بين يدي الحضرة الإلهيّة، فينبغي أن يكونوا على السكوت، وآداب العبوديّة، وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يُميّز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميّز الصبيان من البالغين، ولا الذكور من الإناث.
قال ابن باز:” ما يكون في من اللغط والصياح والقيل والقال والكلام السيء، فينبغي لأهل العلم أن يجتنبوا ذك ويكون وجودهم في الإسواق وجود إصلاح ودعوة إلى الله والتوجيه إلى الخير” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 61
356 – وعن أبي يحْيى وقيل: أبي مُحمَّد سَهْلِ بن أبي حثْمة بفتح الحاءِ المهملة وإسكان الثاءِ المثلثةِ الأنصاري – رضي الله عنه – قالَ: انْطَلَقَ عبْدُ اللَّهِ بنُ سهْلٍ ومُحيِّصَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ إلى خَيْبَرَ وهِيَ يَوْمَئِذ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقا. فَأتى مُحَيِّصةُ إلى عبدِ اللَّهِ بنِ سَهلٍ وهُوَ يَتَشَحَّطُ في دمهِ قَتيلًا، فدفَنَهُ، ثمَّ قَدِمَ المدِينَةَ فانْطَلَقَ عَبْدُ الرحْمنِ بْنُ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةُ وحُوِّيصةُ ابْنا مسْعُودٍ إلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فَذَهَب عَبْدُ الرَّحْمنِ يَتَكَلَّمُ فَقالَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» وهُوَ أحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَت، فَتَكَلَّما فَقالَ: «أتَحْلِفُونَ وتسْتَحِقُّونَ قاتِلكُمْ؟» وذَكَرَ تَمامَ الحدِيث. متفقٌ عَلَيهِ.
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «كَبِّرْ كَبِّرْ» معناهُ: يَتَكلَّمُ الأكْبَرُ.
(حويصة ومحيصة) فبتشديد الياء فيهما وبتخفيفها لغتان مشهورتان، وقد ذكرهما القاضي، أشهرهما: التشديد. (شرح مسلم للنووي)
(خَيْبَرَ وهِيَ يَوْمَئِذ صُلْحٌ) قال ابن باز:” كانت اليهود تسكن خيبر بعدما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزاهم النبي في خيبر وحاصرهم مدة ثم فتح بلادهم وأخذها عنوة وصالحهم على شيء منها وأبقاهم فيها فلاحين عمالا، وكان بينهم وبين المسلمين عدواة شديدة” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2//63)
قوله (يتشحط): يتخبط و يضطرب. (دليل الفالحين 1/ 563)
قوله كبر كبر: قال ابن باز:” الشاهد قوله: كبر كبر هذا يدل على أن في الدعاوي التي يتقدم بها الجماعة؛ ينبغي أن يقدم أكبرهم حتى يتحدث عنهم، وإذا كان أهلا لذلك ولو كان الأصغر أقرب إلى القتيل” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 63 فيه توقير الكبار، وتقديم الكبير في التكلم.
جاءت رواية في الصحيحن: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ: ” كَبِّرْ كَبِّرْ “. يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ.
قال النووي:” قوله: (فذهب عبد الرحمن يتكلم قبل صاحبه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر الكبر في السن فصمت وتكلم صاحباه وتكلم معهما) معنى هذا: أن المقتول هو عبد الله وله أخ اسمه عبد الرحمن ولهما ابنا عم، وهما محيصة وحويصة، وهما أكبر سنا من عبد الرحمن، فلما أراد عبد الرحمن أخو القتيل أن يتكلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ” كبر ” أي يتكلم أكبر منك. واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن لا حق فيها لابني عمه، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر، وهو حويصة، لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى؛ بل سماع صورة القصة، وكيف جرت، فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها، ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ومساعدته، أو أمر بتوكيله، وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل، ولهذا نظائر فإنه يقدم بها في الإمامة وفي ولاية النكاح ندبا وغير ذلك (شرح النووي لمسلم)
قال القرطبي:” ففيه من الفقه: أن المشتركين في طلب حقّ ينبغي لهم أن يقدِّموا للكلام واحدًا منهم، وأحقهم لذلك أسنُّهم؛ إذا كانت له أهلية القيام بذلك. وهذا كما قال في الإمام: فإن كانوا في الفقه سواءً فأقدمهم سنًّا. وقد قدَّمنا أنّ كبر السنِّ لم يستحق التقديمَ إلا من حيث القدم في الإسلام، والسبق إليه، والعلم به، وممارسة أعماله وأحواله، والفقه فيه، ولو كان الشيخُ عَرِيًّا عن ذلك لاستحق التأخير، ولكان المتصفُ بذلك هو المستحق للتقديم – وإن كان شابا –” (المفهم للقرطبي)
هذا الحديث يذكره العلماء بباب من الفقه عظيم، متعلق بالدماء، ويدلكم على عظم الدماء في الإسلام، يسمى بباب القسامة، والقسامة من الإقسام، قال ابن قدامة: القَسامَةُ: مَصْدَرُ أقْسَمَ قَسَمًا وقَسامَةً. ومَعْناهُ حَلَفَ حَلِفًا. والمُرادُ بِالقَسامَةِ هاهُنا الأيْمانُ المُكَرَّرَةُ فِي دَعْوى القَتْلِ. (المغنى) يكون بخمسين يمين
صورتها بُينت في الصحيح ففي رواية أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ، وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ، أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ. قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ: ” كَبِّرْ، كَبِّرْ ” – يُرِيدُ: السِّنَّ – فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ “. فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: ” أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ ” قَالُوا: لَا. قَالَ: ” فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ “. قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ. فَوَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ.
وفي رواية في صحيح مسلم فَقَالَ لَهُمْ: ” أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ؟ ” أَوْ ” قَاتِلَكُمْ “. قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ؟ قَالَ: ” فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا “. قَالُوا: وَكَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عَقْلَهُ.
قال القاضي: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم رحمهم الله تعالى وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به. (شرح مسلم للنووي)
وعدة شروط للقسامة أهمها الشروط أن يكون هناك لوث واللوث قرينة تفيد الظن وتوقع في القلب صدق المدعي، فادعى أن اليهود قتلوه و كان عنده.
والشرط الثاني: أن يكون المدعى عليه معينا، على رجل واحد منهم، فلان هو الذي قتله، إذا اختلف أولياء المقتول فلا قسامة.
الشرط الثالث: أن لا تتناقض دعوى المدعي.
فيه جواز الهدنة مع الأعداء للمصلحة.
راجع شرح مسلم للنووي لمزيد من التفاصيل
باب توقير العلماء والكبار و أهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم
357 – وعن جابرٍ رضي الله عن أنَّ النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – كانَ يَجْمَعُ بيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِن قَتْلى أُحُدٍ يَعْني في القَبْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: «أيُّهُما أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ؟» فَإذا أُشِيرَ لَهُ إلى أحَدِهِما قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ. رواه البخاريُّ
ورواية أخرى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ: ” أَيُّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ” فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ، وَقَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ.
قال ابن حجر:” ورَوى أصْحابُ السُّنَنِ عَنْ هِشامِ بْنِ عامِرٍ الأنْصارِيِّ قالَ جاءَتِ الأنْصارُ إلى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَوْمَ أُحُدٍ فَقالُوا أصابَنا قَرْحٌ وجَهْدٌ قالَ احْفِرُوا وأوْسِعُوا واجْعَلُوا الرَّجُلَيْنِ والثَّلاثَةَ فِي القَبْرِ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ” (صحيح الإرواء 743
قوله: (كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد) قال ابن حجر:” وفِيهِ جَوازُ تَكْفِينِ الرَّجُلَيْنِ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ لِأجْلِ الضَّرُورَةِ إمّا بِجَمْعِهِما فِيهِ وإمّا بِقَطْعِهِ بَيْنَهُما”
قال المباركفوري: أي للضرورة ولا يلزم منه تلاقي بشرتهما إذ يمكن حيلولتهما بنحو إذخر مع احتمال أن الثوب كان طويلا فأدرجا فيه ولم يفصل بينهما لكونهما في قبر واحد. (تحفة الأحوذي)
قال الألباني:” وإذا قلت الاكفان، وكثرت الموتى، جاز تكفين الجماعة منهم في الكفن الواحد، ويقدم أكثرهم قرآنا إلى القبلة، لحديث أنس رضي الله عنه، قال: “لما كان يوم أحد، مر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحمزة بن عبد المطلب، وقد جدع ومثل به، فقال: لولا أن صفية (في نفسها ل) تركته (حتى تأكله العافية)، حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع، فكفنه في نمرة، (وكانت) إذا خمرت رأسه بدت رجلاه وإذا خمرت رجلاه بدا رأسه، فخمر رأسه، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره، وقال: أنا شاهد عليكم اليوم، (قال: وكثرت القتلى، وقلت الثياب، قال:) وكان يجمع الثلاثة والاثنين في قبر واحد، ويسأل أيهم أكثر قرآنا، فيقدم في اللحد، وكفن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحد» ” (أحكام الجنائز ص59) الخطابي: العافية: السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها، ويجمع على العوافي. قال المباركفوري:” (حتى تأكله العافية) قال الخطابي: هي السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها وتجمع على العوافي (حتى يحشر يوم القيامة من بطونها) إنما أراد ذلك ليتم له به الأجر ويكمل ويكون كل البدن مصروفا في سبيله تعالى إلى البعث أو البيان أنه ليس عليه فيما فعلوا به من المثلة تعذيب حتى إن دفنه وتركه سواء قاله أبو الطيب ” (تحفة الأحوذي)
قال ابن تيمية:”معنى الحديث أنه كان يقسم الثوب الواحد بين الجماعة، فيكفن كل واحد ببعضه للضرورة، وإن لم يستر إلا بعض بدنه، يدل عليه تمام الحديث أنه كان يسأل عن أكثرهم قرآنا فيقدمه في اللحد، فلو أنهم في ثوب واحد جملة لسأل عن أفضلهم قبل ذلك كي لا يؤدي إلى نقض التكفين وإعادته” قال الألباني:” وهذا التفسير هو الصواب، وأما قول من فسره على ظاهره فخطأ مخالف لسياق القصة كما بينه ابن تيمية، وأبعد منه عن الصواب من قال: معنى ثوب واحد قبر واحد! لأن هذا منصوص عليه في الحديث فلا معنى لاعادته”
(أيُّهُما أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ؟» فَإذا أُشِيرَ لَهُ إلى أحَدِهِما قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ.) قال الحافظ: أصل الإلحاد: الميل والعدول عن الشيء، وقيل للمائل عن الدين: ملحد، وسمي اللحد؛ لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسط القبر إلى جانبه بحيث يسع الميت، فيوضع فيه ويطبق عليه اللبن. انتهى. وقال القاري: هو بفتح اللام وبضم وسكون الحاء. (عون المعبود)
قال ابن علان:” (قدمه في اللحد) إلى جهة القبلة من غيره ولو أسن منه تعظيمًا له أو تشريفًا لما خص به من أكثرية الأخذ للقرآن، وظاهر منه بالأولى تقديم الآخذ لشيء من القرآن على من لم يأخذ بالمرة” (دليل الفالحين 1/ 564)
قال ابن باز:” جواز دفن اثنين في قبر واحد إذا دعت الحاجة … يقدم الأفضل فالأفضل الأكثر علما على من دونه والعالم من دونه وحافظ القرآن على من دونه” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 62)
فيه توقير أهل العلم أحياء وأمواتا.
(206) – وأخرج البخاري حديث الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر كان يجمع بين قتلي أحد، ويقدم أقرأهم، قال: رواه ابن المبارك عن الأوزاعي مرسلًا عن جابر وقال سليمان بن كثير عن الزهري حدثني من سمع جابرًا. وقال معمر عن الزهري عن ابن أبي صغيرة عن جابر وهو مضطرب. (الالزامات والتتبع للدارقطني)
وفي سنن الترمذي:
(1016) – حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو صَفْوانَ، عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: أتى رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – -[(327)]- عَلى حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَرَأَىهُ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقالَ: «لَوْلا أنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ فِي نَفْسِها، لَتَرَكْتُهُ حَتّى تَاكُلَهُ العافِيَةُ، حَتّى يُحْشَرَ يَوْمَ القِيامَةِ مِن بُطُونِها»، قالَ: ثُمَّ دَعا بِنَمِرَةٍ، فَكَفَّنَهُ فِيها، فَكانَتْ إذا مُدَّتْ عَلى رَاسِهِ بَدَتْ رِجْلاهُ، وإذا مُدَّتْ عَلى رِجْلَيْهِ بَدا رَاسُهُ، قالَ: فَكَثُرَ القَتْلى، وقَلَّتِ الثِّيابُ، قالَ: فَكُفِّنَ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والثَّلاثَةُ فِي الثَّوْبِ الواحِدِ، ثُمَّ يُدْفَنُونَ فِي قَبْرٍ واحِدٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَسْألُ عَنْهُمْ: «أيُّهُمْ أكْثَرُ قُرْآنًا»، فَيُقَدِّمُهُ إلى القِبْلَةِ، قالَ: فَدَفَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ولَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ: «حَدِيثُ أنَسٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ مِن حَدِيثِ أنَسٍ إلّا مِن هَذا الوَجْهِ»، «النَّمِرَةُ: الكِساءُ الخَلَقُ»، وقَدْ خُولِفَ أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ فِي رِوايَةِ هَذا الحَدِيثِ، فَرَوى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، ورَوى مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنْ جابِرٍ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا ذَكَرَهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أنَسٍ إلّا أُسامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وسَألْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذا الحَدِيثِ، فَقالَ: «حَدِيثُ اللَّيْثِ، عَنْ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ، عَنْ جابِرٍ أصَحُّ»
(49) – أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، قال: أنا شهيد على هؤلاء، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم، ولم يغسلهم»