347 و 348 و 349 و 350 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
42 – باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه
347 – عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أَن النَّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “إِن أَبرَّ البرِّ أَنْ يصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيهِ”.
وعن عبدِ اللَّهِ بن دينارٍ عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أَنَّ رجُلاً مِنَ الأَعْرابِ لقِيهُ بِطرِيق مكَّة، فَسلَّم عَليْهِ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمرَ، وحملهُ عَلَى حمارٍ كَانَ يرْكَبُهُ، وأَعْطَاهُ عِمامةً كانتْ عَلَى راسِهِ، قَالَ ابنُ دِينَارٍ: فقُلنا لهُ: أَصْلَحكَ اللَّه إِنَّهمْ الأَعْرابُ وهُمْ يرْضَوْنَ بِاليسِيرِ. فَقَالَ عبدُ اللَّه بنُ عمر: إِنَّ أَبَا هَذَا كَان وُدّاً لِعُمَرَ بنِ الخطاب رضي اللَّه عنه، وإِنِّي سمِعْتُ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقول:”إِنَّ أَبرَّ البِرِّ صِلةُ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ”.
وفي روايةٍ عن ابن دينار عن ابن عُمَر أَنَّهُ كَانَ إِذا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمارٌ يَتَروَّحُ عليْهِ إِذَا ملَّ رُكُوب الرَّاحِلَةِ، وعِمامةٌ يشُدُّ بِها راسهُ، فَبيْنَا هُو يوْما عَلَى ذلِكَ الحِمَارِ إذْ مَرَّ بِهِ أَعْرابيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ فُلانَ بْنَ فُلانٍ؟ قَالَ: بلَى: فَأَعْطَاهُ الحِمَارَ، فَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا، وأَعْطاهُ العِمامةَ وَقالَ: اشْدُدْ بِهَا راسَكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحابِهِ: غَفَر اللَّه لَكَ، أَعْطَيْتَ هذَا الأَعْرابيِّ حِماراً كنْتَ تَروَّحُ عليْهِ، وعِمامَةً كُنْتَ تشُدُّ بِهَا راسَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يُقولُ: “إِنْ مِنْ أَبَرِّ البِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْد أَنْ يُولِّي” وإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقاً لِعُمر رضي اللَّه عنه، روى هذِهِ الرِّواياتِ كُلَّهَا مسلم.
قوله: (-باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه)
قال ابن علان:” جمع صديق وهو كما في «المصباح»: الصادق، وهو من الصداقة واشتقاقها من الصديق في الود والنصح والجمع أصدقاء وامرأة صديق وصديقة أيضاً (والزوجة) كذا في النسخ بالتاء وهي لغة ضعيفة والأفصح والزوجين بحذفها على أنه أولى ليعم كلاً منهما بالتصريح، وإلا فإكرام الزوجة أقرباء زوجها مقيس على إكرامه أقربائها بالأولى لتأكد حقه عليها ووجوب احترامها له (وسائر) باقي أو جميع فيكون من عطف العام على الخاص للتعميم” دليل الفالحين 1/ 544
قال ابن عثيمين:” لما ذكر المؤلف رحمه الله ـ أحكام بر الوالدين وصلة الأرحام؛ ذكر أيضاً أحكام صلة من يصل الوالدين والأرحام، وذلك للعلاقة التي بينهم وبين أقاربه، أو بينهم وبين والديه” (شرح رياض الصالحين 3/ 215)
قال النووي:” قوله: (إن أبا هذا كان ودا لعمر) قال القاضي: رويناه – بضم الواو وكسرها – أي: صديقا من أهل مودته، وهي محبته.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)، وفي رواية: ” إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن تولى “، الود هنا مضموم الواو، وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه ; لكونه بسببه، وتلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشايخ والزوج والزوجة، وقد سبقت الأحاديث في إكرامه صلى الله عليه وسلم خلائل خديجة رضي الله عنها.” شرح مسلم للنووي
قال المناوي في فيض القدير:” البر هو الإحسان، وأبر البر: أحسنه، وأفضله … وكون ذلك من البر؛ لأن الولد إذا وصل ود أبيه اقتضى ذلك الترحم عليه، والثناء الجميل، فتصل إلى روحه راحة بعد زوال المشاهدة المستوجبة للحياء، وذلك أشد من كونه بارا في حياته.
قال ابن علان:” عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ قال: (أبرّ البرّ) أي أكمله وأبلغه (أن يصل الرجل) ومثله المرأة كما تقدم مراراً وإفراده بالذكر لشرفه (ودّ أبيه) بضم الواو وتشديد الدال المهملة: وهو الحب، (دليل الفالحين 1/ 546)
قوله: (كان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة) معناه: كان يستصحب حمارا ليستريح عليه إذا ضجر من ركوب البعير، والله أعلم. (شرح مسلم للنووي)
قال ابن علان:” (يتروح) بتشديد الواو أي يستريح (عليه إذا مل) أي إذا سئم وضجر (ركوب الراحلة) أي المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى. قال في «المصباح» وبعضهم يقول الناقة التي تصلح أن ترحل” (دليل الفالحين 1/ 547) قال ابن باز:” الناقة اذا مل من ذلك كان ينزل ويركب الحمار للاستراحة عليه” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 44)
قال ابن علان:” (غفر الله لك) فيه تنبيه على أدب العتاب أن يقدم الدعاء للمخاطب ثم يعاتب، وهذا أخذ من قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (التوبة: 43) قال القاضي عياض في «الشفاء»: يجب على المسلم المجاهد نفسه، الرائض بزمام الشريعة خُلُقَه أن يتأدب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته، وليتأمل هذه الملاطفة العجيبة والسؤال من رب الأرباب المنعم على الكل المستغني عن الجميع، ويتبين ما فيها من الفوائد وكيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب وآنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثمَّ ذنب (دليل الفالحين 1/ 548)
قال الأتيوبي:” قال الحافظ العراقي – رحمه الله -: إنما جعله أبر البر، أو من أبره؛ لأن الوفاء بحقوق الوالدين والأصحاب بعد موتهم أبلغ؛ لأن الحي يجامل، والميت لا يستحيى منه، ولا يجامل، إلا بحسن العهد. ويحتمل أن أصدقاء الأب كانوا مكفيين في حياته بإحسانه، وانقطع بموته، فأمر بَنِيه أن يقوموا مقامه فيه، وإنما كان هذا أبر البر؛ لاقتضائه الترحم، والثناء على أبيه، فيصل لروحه راحة بعد زوال المشاهدة المستوجبة للحياة، وذلك أشد من بره له في حياته، وكذا بعد غيبته، فإنه إذا لم يظهر له شيء يوجب ترك المودة، فكأنه حاضر، فيبقى وده كما كان، وكذا بعد المعاداة رجاء عود المودة، وزوال الوحشة، وإطلاق التولية على جميع هذه الأشياء إما حقيقة، فيكون من عموم المشترك، أو من التواطؤ، أو بعضها، فيكون من الجمع بين الحقيقة والمجاز، ونبه بالأب على بقية الأصول، وقياس تقديم الشارع الأم في البر كون وصل أهل ودها أقدم، وأهم. ومن البين أن الكلام في أصل مسلم، أما غيره فيظهر أنه أجنبي من هذا المقام، نعم إن كان حيا ورجا ببر أصدقائه تألفه للإسلام، تأكد وصله. وفي معنى الأصول: الزوجة، فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصل صويحبات خديجة – رضي الله عنها – بعد موتها، قائلا: “إن حسن العهد من الإيمان”، وألحق بعضهم بالأب الشيخ، ونحوه.” (البحر المحيط)
قال ابن عثيمين:” في هذا الحديث دليل على امتثال الصحابة، ورغبتهم في الخير ومسارعتهم إليه؛ لأن ابن عمر استفاد من هذا الحديث فائدة عظيمة، فإنه فعل هذا الإكرام بهذا الأعرابي من أجل أن أباه كان صديقاً لعمر، فما ظنك لو رأى الرجل الذي كان صديقاً لعمر؟ لأكرمه أكثر وأكثر.
فيستفاد من هذا الحديث أنه إذا كان لأبيك أو أمك أحد بينهم وبينه ود فأكرمه، كذلك إذا كان هناك نسوة صديقات لأمك؛ فأكرم هؤلاء النسوة، وإذا كان رجال أصدقاء لأبيك؛ فأكرم هؤلاء الرجال، فإن هذا من البر.
وفي هذا الحديث أيضاً: سعة رحمة الله عز وجل حيث إن البر بابه واسع لا يختص بالوالد والأم فقط؛ بل حتى أصدقاء الوالد وأصدقاء الأم، إذا أحسنت إليهم فإنما بررت والديك فتثاب ثواب البار بوالديه.
وهذه من نعمة الله عز وجل، أن وسع لعباده أبواب الخير وكثرها لهم، حتى يلجوا فيها من كل جانب” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 216)
فيه عظم بر الصحابة رضي الله عنهم بآبائهم.
348 – وعن أَبي أُسَيْد بضم الهمزة وفتح السين مالكِ بنِ ربِيعَةَ السَّاعِدِيِّ رضي اللَّه عنه قَالَ: بَيْنا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إذ جاءَهُ رجُلٌ مِنْ بني سلمة فقالَ: يارسولَ اللَّه هَلْ بَقِيَ مِن بِرِّ أَبويَّ شاءٌ أَبرُّهُمَا بِهِ بَعدَ مَوْتِهِمَا؟ فَقَالَ: “نَعَمْ، الصَّلاَة علَيْهِمَا، والاسْتِغْفَارُ لَهُما، وإِنْفاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِما، وصِلةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وإِكَرَامُ صَدِيقهما” رواه أَبُو داود.
هذا الحديث ضعفه الألباني، قال الألباني في الضعيفة:” هذا إسناد ضعيف، رجاله ثقات كلهم، غير علي مولى أبي أسيد لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير ابنه أسيد”
الحديث ضعيف الإسناد لكن معناه صحيح.
قوله (بَيْنا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إذ جاءَهُ رجُلٌ مِنْ بني سَلمة) قال ابن علان:” (رجل من بني سلمة) لم أقف على من سماه (دليل الفالحين1/ 549)
(من بني سلمة) بكسر اللام بطن من الأنصار وليس في العرب سلمة غيرهم. (عون المعبود)
قوله (يارسولَ اللَّه هَلْ بَقِيَ مِن بِرِّ أَبويَّ شاءٌ أَبرُّهُمَا بِهِ بَعدَ مَوْتِهِمَا) (من بر أبوي) أي: والدي وفيه تغليب. (عون المعبود)، فيه حرص الصحابة وبرهم بالوالدين و السؤال عما أشكل وأن العبادة توقيفية.
(الصلاة عليهما) أي: الدعاء ومنه صلاة الجنازة. قاله القاري. وفي فتح الودود: والمراد بها الترحم. (عون المعبود) قال ابن علان:” أي الدعاء (لهما) كما يدل عليه قوله تعالى: {وقل ربّ ارحمها} ” (دليل الفالحين 1/ 549)
قال السندي:” قوله (الصلاة عليهما) أي الدعاء لهما بالرحمة وإن لم يكن بلفظ الصلاة لكن الظاهر شمول ما كان بلفظ الصلاة أيضا ويحتمل أن المراد صلاة الجنازة” (حاشية ابن ماجه للسندي)
قال ابن باز:” الصلاة عليهما يعني: الدعاء لهما يصلي عليهم يدعو لهم ومنها صلاة الجنازة” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 48
قال ابن عثيمين:” ليس المراد صلاة الجنازة، بل المراد الدعاء. فالصلاة هنا بمعنى الدعاء وهي كقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 103] وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته الصدقة قال: اللهم صل على آل فلان، كما قال عبد الله بن أبي أوفى أنه أتى بصدقة قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم صل على آل أبي أوفى))، فدعا لهم بالصلاة عليهم.
فقول النبي صلى عليه وسلم هنا: ((الصلاة عليهما)) يعني الدعاء لهما بالصلاة، فيقول: اللهم صلّ على أبوي، أو يدعو بدخول الجنة والنجاة من النار وما أشبه ذلك.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين3/ 218)
(والاستغفار لهما) أي: طلب المغفرة لهما وهو تخصيص بعد تعميم. (عون المعبود) قال ابن علان:” من عطف الخاص على العام اهتماماً: أي وتدعو بالمغفرة” (دليل الفالحين 1/ 549)
(وإنفاذ عهدهما) أي: إمضاء وصيتهما. (عون المعبود) قال ابن علان:” (عهدهما) أي من وصية وصدقة وغير ذلك” (دليل الفالحين 1/ 549)
(وصلة الرحم) أي: إحسان الأقارب. (عون المعبود)
(التي لا توصل إلا بهما) قال القاري: أي: تتعلق بالأب والأم فالموصول صفة كاشفة للرحم. قال الطيبي: الموصول ليس بصفة للمضاف إليه بل للمضاف أي: الصلة الموصوفة فإنها خالصة بحقهما ورضاهما لا لأمر آخر ونحوه. قلت: يرجع المعنى إلى الأول فتدبر. انتهى. قال في مرقاة الصعود: ولفظ البيهقي: {وصلة رحمهما التي لا رحم لك إلا من قبلهما. فقال: ما أكثر هذا وأطيبه يا رسول الله! قال: فاعمل به فإنه يصل إليهما}. (عون المعبود)
قال ابن علان:” قال العاقولي: وفي الحديث تنبيه على اغتنام فضيلة الصلة وأنها طاعة لا يكون إدراكها إلا من جهتهما، فإنه لو فرض أن إنساناً تولد من تراب مثلاً ولم يولد له لم يكن لذلك الإنسان سبيل إلى دخول الجنة من صلة الرحم، فإنه لا رحم له، فإذا كان الوالدان سبباً في مثل هذه الطاعة وجب رعايتهما وحفظهما فيه” (دليل الفالحين 1/ 549)
قال السندي:” قوله (لا توصل إلا بهما) أي بسببهما ” (حاشية ابن ماجه)
قال ابن عثيمين:” هذه خمسة أشياء: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإكرام صديقهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا صلة لك إلا بهما، هذه من بر الوالدين.
كذلك الصدقة لهما؛ فإن الصدقة تنفع الوالدين … أما قراءة القرآن لهما، أو الصلاة ـ بأن يصلي الإنسان ركعتين ويقول لوالدي ـ فهذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا أرشد إليه، بل قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) ولم يقل: ولد صالح يتصدق له، أو يصلي له، أو يحج له، أو يعتمر له، بل قال: يدعو له، فالدعاء خير من العمل الصالح للوالدين.
لكن لو فعل الإنسان ونوى بهذا العمل لوالديه؛ فإن ذلك لا بأس به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع سعد بن عبادة أن يتصدق لأمه بل أذن له، ولا الرجل الذي قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها، ولو تكلمت لتصدقت.” (شرح رياض الصالحين 3/ 219)
349 – وعن عائشة رضي اللَّه عنها قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مَا غِرْتُ عَلَى خديجةَ رضي اللَّه عنها. ومَا رَأَيْتُهَا قَطُّ، ولَكنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّما ذَبح الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاء، ثُمَّ يَبْعثُهَا في صدائِق خدِيجةَ، فَرُبَّما قلتُ لَهُ: كَأَنْ لَمْ يكُنْ في الدُّنْيَا إِلاَّ خديجةُ، فيقولُ: “إِنَّها كَانتْ وكَانَتْ وكَانَ لي مِنْهَا ولَدٌ” متفقٌ عَلَيهِ.
وفي روايةٍ وإنْ كَانَ لَيذبحُ الشَّاءَ، فَيُهْدِي في خَلائِلِهَا مِنْهَا مَا يسَعُهُنَّ.
وفي روايةٍ كَانَ إِذَا ذَبحَ الشَّاةَ يَقُولُ: “أَرْسِلُوا بِهَا إِلى أَصْدِقَاءِ خَدِيجةَ”.
وفي روايةٍ قَالَت: اسْتَاذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخُتُ خَديجَةَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَعَرفَ اسْتِئْذَانَ خَديجَةَ، فَارْتَاحَ لَذَلِكَ فقالَ: “اللَّهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خوَيْلِدٍ”.
قوْلُهَا:”فَارتَاحَ”هُوَ بِالحاءِ، وفي الجمْعِ بَيْنَ الصحيحين لَلْحُمَيْدِي:”فَارْتَاعَ”بِالعينِ ومعناه: اهْتَمَّ بِهِ.
(ما غرت على امرأة) قال النووي:” قال القاضي: قال المصري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها، لا عقوبة عليهن فيها؛ لما جبلن عليه من ذلك، ولهذا لم تزجر عائشة عنها، قال القاضي: وعندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها، وأول شبيبتها، ولعلها لم تكن بلغت حينئذ.” (شرح النووي)
قال ابن حجر:” (ما غرت على امرأة) بينت سبب ذلك، وأنه كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، وهي وإن لم تكن موجودة وقد أمنت مشاركتها لها فيه لكن ذلك يقتضي ترجيحها عنده، فهو الذي هيج الغضب الذي يثير الغيرة بحيث قالت ما تقدم في مناقب خديجة: ” أبدلك الله خيرا منها. فقال: ما أبدلني الله خيرا منها “، ومع ذلك فلم ينقل أنه واخذ عائشة لقيام معذرتها بالغيرة التي جبل عليها النساء (فتح الباري)
قال ابن علان:” ذلك لما رأت لها عنده من مزيد المكانة الدالّ عليه إكثار ذكرها والتنويه بشكرها بعد فقدها،” (دليل الفالحين 1/ 549)
قال ابن عثيمين:” الغيرة انفعال يكون في الإنسان؛ يحب أن يختص صاحبه به دون غيره، ولهذا سميت غيرة؛ لأنه يكره أن يكون الغير حبيباً لحبيبه، والنساء الضرات هن أشد بني آدم غيرة.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 220)
قوله: (وما رأيتها) في رواية مسلم من هذا الوجه: ” ولم أدركها … ورؤية عائشة لخديجة كانت ممكنة، وأما إدراكها لها فلا نزاع فيه؛ لأنه كان لها عند موتها ست سنين، كأنها أرادت بنفي الرؤية والإدراك النفي بقيد اجتماعهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لم أرها وأنا عنده ولا أدركتها كذلك. (فتح الباري)
أو لم ترها حقيقة لأن ذوات الخدور الصغيرات لا يكثرن الزيارات (سيف)
(كان يكثر ذكرها) أي وفيه دليل المحبة، قال صلى الله عليه وسلم ” من أحب شيئاً أكثر من ذكره” (دليل الفالحين 1/ 550) وهذا سبب الغيرة، أنه يكثر ذكرها.
(وَرُبَّما ذَبح الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاء، ثُمَّ يَبْعثُهَا في صدائِق خدِيجةَ) قال المباركفوري:” في إهداء النبي صلى الله عليه وسلم اللحم لأصدقاء خديجة وخلائلها رعيا منه لذمامها وحفظا لعهدها. وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ” جاءت عجوز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنتم كيف حالكم كيف كنتم بعدنا “، قالت بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؛ فقال: ” يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة وإن حسن العهد من الإيمان ” (تحفة الأحوذي) “.
كَأَنْ لَمْ يكُنْ في الدُّنْيَا إِلاَّ خديجةُ) قال ابن باز:” من شأن الضرائر يغرن حتى زوجة قبلهم طبيعة النساء” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 48)
قوله: (إنها كانت وكانت) أي: كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك، وعند أحمد من حديث مسروق عن عائشة: ” آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء “. (فتح الباري)
قوله: (وكان لي منها ولد) وكان جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة، إلا إبراهيم فإنه كان من جاريته مارية، والمتفق عليه من أولاده منها القاسم وبه كان يكنى، مات صغيرا قبل المبعث أو بعده، وبناته الأربع: زينب، ثم رقية ثم، أم كلثوم، ثم فاطمة، وقيل: كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة، وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له: الطاهر والطيب، ويقال: هما أخوان له، وماتت الذكور صغارا باتفاق. (فتح الباري)
قال ابن حجر:” دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها؛ لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاما، وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها، ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهن، لما ثبت: ” أن من سن سنة حسنة … ” وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل” (فتح الباري)
قولها (يهديها إلى خلائلها) قال النووي أي: صدائقها جمع خليلة وهي الصديقة
قولها: (فارتاح لذلك) أي: هش لمجيئها، وسر بها؛ لتذكره بها خديجة وأيامها، وفي هذا كله دليل لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب” (شرح النووي)
فقالَ: “اللَّهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خوَيْلِدٍ”.، قال ابن باز:” هذا فيه إكرام الزوجة وإكرام أصدقاء الزوجة الطيبة المؤمنة الخيرة، إكرامها وإكرام أصدقائها في الله وأحبائها في الله، هذا من الوفاء لها ومن برها ومن كمال العشرة لها.” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 48)
قال ابن عثيمين:” الشاهد من هذا الحديث: أن إكرام صديق الإنسان بعد موته يعتبر إكراماً له، وبراً به، سواء كان من الوالدين، أو من الأزواج، أو من الأصدقاء، أو من الأقارب، فإن إكرام صديق الميت يعتبر إكراماً له.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 220)
350 – وعن أَنس بن مالكٍ رضي اللَّه عنه قَالَ: خَرجْتُ معَ جرير بن عبدِ اللَّه الْبَجَليِّ رضي اللَّه عنه في سَفَرٍ، فَكَانَ يَخْدُمُني فقلتُ لَهُ: لاَ تَفْعلْ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيتُ الأَنصارَ تَصْنَعُ برسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم شَيْئاً آلَيْتُ عَلى نَفْسي أَنْ لا أَصْحبَ أَحداً مِنْهُمْ إِلاَّ خَدمْتُهُ. متفقٌ عَلَيهِ.
(وعن أنس رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه … )
يحتمل أن يكون من قول أنس فيكون فيه أداء الفضل لأهله من أهله، ويحتمل أن يكون ممن بعده. (دليل الفالحين لابن علان .. ) وجرير رضي الله عنه جاء من اليمن وهو أكبر من أنس و كان سيدا في قومه.
(إني قد رأيت الأنصار)؛ أي: القبيلة المشهورة، وهي قبيلة أنس. (البحر المحيط الثجاج 39/ 717)
(تصنع برسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئا)؛ أي: من خدمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما ينبغي، ومن تعظيمهم إياه غاية ما يكون، وأبهم ذلك مبالغة في تكثير ذلك. (البحر المحيط الثجاج
(آليت) بالمد أي أقسمت من الألِيَّة، وهي اليمين. (دليل الفالحين)
(أن لا أصحب أحدا منهم إلا خدمته)؛ أي: إكراما لأنصار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل النصرة له – صلى الله عليه وسلم -. (البحر المحيط الثجاج)
قال النووي:” وفي حديث جرير بن عبد الله وخدمته لأنس إكراما للأنصار دليل لإكرام المحسن والمنتسب إليه، وإن كان أصغر سنا، وفيه تواضع جرير وفضيلته وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم وإحسانه إلى من انتسب إلى من أحسن إليه صلى الله عليه وسلم.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” وفي هذا الحديث فضل الأنصار وفضل جرير وتواضعه ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم (فتح الباري)
قال ابن باز:” يدل على أن خدمة الأحباب والأقرباء والأصدقاء خدمة للمحبوب، إذا خدمت حبيب أبيك و أمك وخليلهما و صديقهما فهو خدمة لهما، وهكذا الترضي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم والوفاء لهم هي من الوفاء للنبي صلى الله عليه وسلم ومن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه والترضي عنهم معرفة منازلهم وأقدارهم هو في الحقيقة أيضا خدمة للنبي عليه الصلاة والسلام لأنهم أحبابه وأولياؤه وأنصاره رضي الله عنهم وأرضاهم جميعا (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 49
قال ابن عثيمين:” إكرام أصحاب الرجل إكرام للرجل، واحترامهم احترام له، ولهذا جعل رضي الله عنه إكرام هؤلاء من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 221)