342 و 343 و 344 و 345 و 346 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
41 – باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم.
هذا الباب كالتأكيد للباب السابق.
قوله (باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم) المراد من العقوق عقوق الوالدين أو أحدهما، وهو من الكبائر، مأخوذ من العق. وهو لغة القطع والمخالفة (دليل الفالحين 1/ 537)
قال ابن عثيمين:” العقوق بالنسبة للوالدين، وقطيعة الأرحام بالنسبة للأقارب غير الوالدين.
والعقوق مأخوذ من العق وهو القطع، ومنه سميت العقيقة التي تذبح عن المولود في اليوم السابع؛ لأنها تعق: يعني تقطع رقبتها عند الذبح.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 204)
قَالَ الله تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
مرت معنا في الباب السابق من حديث أبي هريرة.
وَقالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]
قال الطبري:” يقول تعالى ذكره و أما الذين ينقضون عهد الله , ونقضهم ذلك، خلافهم أمر الله, وعملهم بمعصيته (من بعد ميثاقه) يقول: من بعد ما وثّقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) يقول: ويقطعون الرحم التي أمرهم الله بوصلها (ويفسدون في الأرض)، فسادهم فيها: عملهم بمعاصي الله (أولئك لهم اللعنة)، يقول: فهؤلاء لهم اللعنة, وهي البعد من رحمته، والإقصاء من جِنانه (ولهم سوء الدار) يقول: ولهم ما يسوءهم في الدار الآخرة ”
قال البغوي:” (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) هذا في الكفار (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) أي: يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض. وقيل: يقطعون الرحم (ويفسدون في الأرض) أي: يعملون بالمعاصي (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) يعني: النار، وقيل: سوء المنقلب لأن منقلب الناس دورهم.” (تفسير البغوي)
وقال أبو العالية في قوله (والذين ينقضون عهد الله) الآية، قال: هي ست خصال في المنافقين إذا كان فيهم الظُّهرَة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت الظُّهرَة عليهم أظهروا الثلاث الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا. (تفسير ابن كثير)
قال السعدي: (يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا الحقوق، بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي، والصد عن سبيل الله وابتغائها عوجا”
قال ابن باز في تعليقه على الآية:” يدخل في هذا قطع الرحم وعقوق الوالدين، فإنه مما أمر الله بوصله البر، فمن قطع دخل في هذا العموم ولا حول ولا قوة إلا بالله” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 34)
قال ابن عثيمين:” ميثاق العهد: توكيده، فينقضون العهد، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من القرابات وغيرهم، ويفسدون في الأرض بكثرة المعاصي” (رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 205)
وَقالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماًوَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23،24]
مر بيانها في الباب السابق.
قال الطرطوشي – رحمه الله -:” فيا من أبكى أبويه وأحزنهما، وأسهر ليلهما، وحمّلهما أعباء الهموم، وجرعهما غُصص الفراق ووحشة البعاد، هل أحسنت إليهما وأجملت في معاملتهما، صغيرا يبكيان عليك إشفاقا وحذرا، وكبيرا يبكيان منك خوفا وفَرقا، فهما أليفا حُزن، وحليفا هم وغم.
فلما بلغت موضع الأمل ومحل الرجاء، قلت: أسيح في الأرض أطلب كذا وكذا، ففارقتهما – على رغمهما – باكيين، وتركتهما في وكرهما محزونين، فأثكلتهما أحب طلعة على وجه الأرض إليهما.
فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما لم يسقط ذكرك عن أفواههما.
ولطالما بكيا وحزنا إن تأخرت عن حين الرواح والمساء، فكيف اذا أغلقا بابهما دونك، وأبصرا خلو مكانك، ففقدا أنسك، ولم يجدا رائحتك، فكان ملاذهما سح الدموع، وملجأهما الاستكانة والخضوع، فصار العين أثرا وعاد الولد خبرا، فكل غريب ولدهُما، وكل ميت هو لهما، فكان كما قلته:
يتباكيان ويشكوان جواهُما
بمدامع تنهل من بر حائه
يتجاوبان إذا الرياح تناوحت
على الرياح هببن من تلقائه
كيفما توجها نظرا آثارك. وحيثما تلفتا أبصرا مواضع أخبارك، فهنالك تسكب العبرات، وتتضاعف الحسرات.
(بر الوالدين للطرطوشي 61 و 62)
342 – وعن أَبي بكرةَ نُفيْع بنِ الحارثِ رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “أَلا أُنَبِّئُكمْ بِأكْبَرِ الْكَبائِرِ؟ “ثلاثاً قُلنا: بلَى يَا رسولَ اللَّه: قَالَ:”الإِشْراكُ بِاللَّهِ، وعُقُوقُ الْوالِديْن”وكان مُتَّكِئاً فَجلَسَ، فَقَالَ:”أَلا وقوْلُ الزُّورِ وشهادُة الزُّورِ” فَما زَال يكَرِّرُهَا حتَّى قُلنَا: ليْتهُ سكتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله (“أَلا أُنَبِّئُكمْ بِأكْبَرِ الْكَبائِرِ؟ “ثلاثاً) قال النووي:” قال العلماء رحمهم الله: ولا انحصار للكبائر في عدد مذكور. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين، ويروى إلى سبعمائة أقرب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم ” الكبائر سبع ” فالمراد به: من الكبائر سبع. فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم فهي مخصوصة بلا شك، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع. وفي الرواية الأخرى ثلاث، وفي الأخرى أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية … ” (شرح مسلم للنووي)
قال النووي:” قد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة فجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة. وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الفقيه الشافعي الإمام في علم الأصول والفقه، وغيره. وحكى القاضي عياض رحمه الله هذا المذهب عن المحققين. واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة. وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها. قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه ” البسيط في المذهب “: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه وقد فهما من مدارك الشرع وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه. ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدا بالنسبة إلى جلال الله تعالى؛ ولكن بعضها أعظم من بعض. … وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر فقد اختلفوا في ضبطها اختلافا كثيرا منتشرا جدا؛ فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، ونحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار، أو حد في الدنيا. وقال أبو حامد الغزالي في ” البسيط “: والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها، والمتجرئ عليه اعتيادا؛ فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه الكبيرة: كل ذنب كبر وعظم عظما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير، ووصف بكونه عظيما على الإطلاق.
قال: فهذا حد الكبيرة. ثم لها أمارات؛ منها: إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا، ومنها اللعن كلعن الله سبحانه وتعالى من غير منار الأرض، قال الإمام أبو الحسن الواحدي المفسر وغيره: الصحيح أن حد الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر، والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر. قالوا: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء من الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك مما أخفي. والله أعلم. ” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن القيم:” قد دلّ القرآنُ والسنّةُ وإجماعُ الصحابةِ والتابعينَ بعدهم والأئمّةِ على أنّ من الذنوب كبائرَ وصغائرَ. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. وقال تعالى: ({الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، وفي الصحيح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ لما بينهنّ، إذا اجتُنِبَت الكبائر” (الداء والدواء لابن القيم ص289)
قال ابن حجر:” وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويؤخذ منه ثبوت الصغائر؛ لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها؛ والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور، وأكثر ما تمسك به من قال ليس في الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم المخالفة لأمر الله ونهيه، فالمخالفة بالنسبة إلى جلال الله كبيرة لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول وهي بالنسبة لما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب” (فتح الباري)
قال النووي:” قال العلماء رحمهم الله: والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة. وروي عن عمر، وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، معناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار. قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الإصرار: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك. قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر ” (شرح مسلم للنووي)
وأما قوله: (قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر) ثلاثا فمعناه: قال هذا الكلام ثلاث مرات. (شرح النووي) قال ابن حجر:” قوله: (ثلاثا) أي قال لهم ذلك ثلاث مرات، وكرره تأكيدا لينتبه السامع على إحضار فهمه، ووهم من قال: المراد بذلك عدد الكبائر وقد ترجم البخاري في العلم ” من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه ” وذكر فيه طرفا من هذا الحديث تعليقا.” (فتح الباري)
قوله (الإِشْراكُ بِاللَّهِ) قال ابن باز:” الشرك بالله: وهو أعظم الذنوب وهوذنب أهل النار الذين يخلدهم الله فيها بأسباب عبادة غير الله أو صرف بعض العبادة لغير الله من أصنام أو أشجار أو كواكب أو أموات أو جنن أو غير ذلك” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 36)
قوله (عقوق الوالدين) جاء عند البخاري في تاريخه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” من قطع رحما أو حلف على يمين فاجرة رأى وباله قبل أن يموت ” (الصحيحة 1121)
قال النووي:” فهو مأخوذ من العق وهو القطع. وذكر الأزهري أنه يقال: عق والده يعقه بضم العين، عقا وعقوقا إذا قطعه، ولم يصل رحمه. وجمع العاق عققة بفتح الحروف كلها، و عقق بضم العين والقاف. وقال صاحب المحكم: رجل عقق وعقق وعق وعاق بمعنى واحد، وهو الذي شق عصا الطاعة لوالده. هذا قول أهل اللغة. وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا فقل من ضبطه. وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله: لم أقف في عقوق الوالدين وفيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمده؛ فإنه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به، وينهيان عنه، باتفاق العلماء. وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما شق عليهما من توقع قتله، أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهما على ذلك. وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه، هذا كلام الشيخ أبي محمد. (شرح النووي)
قال القرطبي:” عُقُوقُ الوَالِدَينِ عصيانُهُمَا، وقَطعُ البِرِّ الواجبِ عنهما” (المفهم 1/ 282)
قال ابن حجر:” والعقوق بضم العين المهملة مشتق من العق وهو القطع والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد” (فتح الباري 10/ 406)
(وقوْلُ الزُّورِ وشهادُة الزُّورِ) قال ابن عثيمين:” قول الزور يعني: الكذب، وشهادة الزور أي: الذي يشهد بالكذب والعياذ بالله، وما أرخص شهادة الزور اليوم عند كثير من الناس، يظن الشاهد أنه أحسن إلى من شهد له، ولكنه أساء إلى نفسه، وأساء إلى من شهد له، وأساء إلى من شهد عليه.
أما إساءته إلى نفسه فلأنه أتى كبيرة من كبائر الذنوب والعياذ بالله؛ بل من أكبر الكبائر، وأما كونه أساء إلى المشهود له فلأنه سلطه على ما لا يستحق وأكله الباطل، وأما إساءته إلى المشهود عليه فظاهرة؛ فإنه ظلمه واعتدى عليه، ولهذا كانت شهادة الزور من أكبر الكبائر والعياذ بالله.” (شرح رياض الصالحين 3/ 207)
قوله: (فكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) فجلوسه صلى الله عليه وسلم لاهتمامه بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريمه، وعظم قبحه. وأما قولهم: (ليته سكت) فإنما قالوه وتمنوه شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهة لما يزعجه ويغضبه. شرح النووي
قال ابن حجر:” قوله: (وجلس وكان متكئا) يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك فإن مفسدته قاصرة غالبا. ” (فتح الباري)
قال ابن حجر أيضا:” قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله، وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر؛ فإن الكافر شاهد بالزور، وهو ضعيف، وقيل: المراد: من يستحل شهادة الزور، وهو بعيد، والله أعلم.” (فتح الباري)
فيه أن الإشراك كبيرة في حق الله و العقوق كبيرة في حق الوالدين و شهادة الزور كبيرة في حق الناس.
343 – وعن عبد اللَّهِ بنِ عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “الْكبائرُ: الإِشْراكُ بِاللَّه، وعقُوق الْوالِديْنِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، والْيمِينُ الْغَموس” رواه البخاري.
“اليمِين الْغَمُوسُ”التي يَحْلِفُهَا كَاذِباً عامِداً، سُمِّيت غَمُوساً، لأَنَّهَا تَغْمِسُ الحالِفَ في الإِثم.
قوله: (الكبائر الإشراك بالله) قال ابن حجر:” في رواية شيبان عن فراس في أوله: ” جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ “، فذكره، ولم أقف على اسم هذا الأعرابي. (فتح الباري)
والإشراك وعقوق الوالدين تقدم في الحديث الماضي
(الكبائر) قال ابن علان:” أي منها والاقتصار عليها كأنه لاقتضاء المقام ذكرها لتقصير بعض الحاضرين في شأنها أو لكونها أعظم الكبائر إثماً وأشدها جرماً” (دليل الفالحين 1/ 540)
(وقَتْلُ النَّفْسِ) التي حرم الله قتلها عدواناً. (دليل الفالحين 1/ 540) جاء في البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ»
النفوس المحرمة أربعة: 1 – نفس المؤمن، روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ “،
وروى النسائي عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”كلّ ذنبٍ عسى الله أنْ يَغْفِرَه؛ إلا الرجلَ يموتُ كافِراً، أو الرجلَ يقتُل مؤمِناً مُتَعمِّداً (صحيح الترغيب 2445)
وروى ابن ماجه عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال:”لزَوالُ الدنيا؛ أهْوَنُ على الله مِنْ قتلِ مؤمنٍ بغيرِ حقٍّ”. (صحيح الترغيب 2438)
2 – النفس المستأمنه، في الحديث (من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا براء من القاتل، وإن كان المقتول كافرا) الصحيحة 440
3 – النفس المعاهدة، روى أبوداود عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول:”مَنْ قَتَل معاهَداً في غير كُنْهِهِ؛ حَرَّم الله عليهِ الجنَّةَ”. (صحيح الترغيب 2453)
4 – النفس الذمية. جاء في الحديث:”مَنْ قَتَل رجُلاً مِنْ أهلِ الذمَّةِ؛ لمْ يَجِدْ ريحَ الجنَّةِ، وإنَّ ريحَها لتوجَدُ مِنْ مسيرَةِ سبعينَ عاماً”. (صحيح الترغيب 2453)
(واليمين الغموس) جاء في البخاري ومسلم عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال:”مَنْ حلفَ على مالِ امْرئٍ مسلمٍ بغيرِ حقِّهِ؛ لَقيَ الله وهو عليه غضبانُ”. قال عبد الله: ثمَّ قرأ علينا رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مصداقَهُ مِنْ كتابِ الله عزَّ وجلَّ: ” {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية”.
و في رواية بمعناه قال: فَدخلَ الأشْعَثُ بن قيسٍ الكِنْديِّ فقال: ما يحدّثكُم أبو عبدِ الرحمنِ؟ فقلنا: كذا وكذا. قال: صدَق أبو عبدِ الرحمن؛ كان بيني وبينَ رجلٍ خصومَةٌ في بئرٍ؛ فاخْتَصَمْنا إلى رسولِ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “شاهِداك أو يمينُه”. قلتُ: إذاً يَحلفُ ولا يبالي. فقال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَنْ حلَف على يمينِ صبرٍ يَقْتَطعُ بها مالَ امْرئٍ مسلم هو فيها فاجِرٌ؛ لَقيَ الله وهو عليه غضبانُ. ونَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية”.
وروى الإمام أحمد عن أبي موسى رضي الله عنه قال: اخْتَصَم رجلانِ إلى النبيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في أرضٍ أحدُهما مِنْ حَضْرمَوْتَ، قال: فجَعلَ يمينَ أحَدِهِما، فضجَّ الآخَرُ وقال: إذاً يَذْهَبُ بأرضي. فقال:”إنْ هُو اقْتَطَعها بيمينِه ظُلْماً، كانَ مِمَّن لا ينظُر الله إليه يومَ القيامَة، ولا يزكِّيهِ، ولهُ عذابٌ أَليمٌ”.قال: وورِعَ الآخرُ فرَدَّها. (صحيح الترغيب 1829)
وعند الترمذي عن عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:والَّذي نفسي بِيَدِهِ لا يحْلِفُ رجلٌ على مثلِ جَناحِ بعوضَةٍ؛ إلاَّ كانَتْ نُكْتَةً في قلْبِهِ يومَ القِيامَةِ”. (صحيح الترغيب 1832)
وعند البيهقي وحسنه لغيره الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:اليمينُ الفاجِرَةُ تَدعُ الدِيارُ بلاقعَ”. صحيح الترغيب 1836
جاء عند الحاكم عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: كنَّا نَعدُّ مِنَ الذنبِ الذي ليسَ له كفَّارةٌ؛ اليمينَ الغموسَ. قيل: وما اليمينُ الغَموسُ؟ قال: الرجلُ يقْتَطعُ بيمينهِ مالَ الرجُلِ.
قال ابن حجر:” قوله: و”اليمين الغَمُوس” -بفتح المعجمة، وضم الميم الخفيفة، وآخره مهملة- قيل: سمّيت بذلك لأنها تَغمِسُ صاحبها في الإثم، ثمّ في النار، فهي فَعُول بمعنى فاعلٍ. وقيل: الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا أحضروا جَفْنَة، فجعلوا فيها طيبًا، أو دمًا، أو رَمَادًا، ثم يحلفون عند ما يُدخلون أيديهم فيها؛ ليتمّ لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا، فسُمّيت تلك اليمين إذا غدر صاحبها غَمُوسًا؛ لكونه بالغ في نقض العهد، وكأنها على هذا مأخوذةٌ من اليد المغموسة، فيكون فَعُول بمعنى مفعولة. وقال ابن التين: اليمين الغَمُوسُ التي ينغمس صاحبها في الإثم”
قال ابن حجر:” استدل به الجمهور على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها للاتفاق على أن الشرك والعقوق والقتل لا كفارة فيه، وإنما كفارتها التوبة منها والتمكين من القصاص في القتل العمد، فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه، وأجيب بأن الاستدلال بذلك ضعيف؛ لأن الجمع بين مختلف الأحكام جائز كقوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده}، والإيتاء واجب والأكل غير واجب … ونقل محمد بن نصر في اختلاف العلماء ثم ابن المنذر ثم ابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس. وروى آدم بن أبي إياس في مسند شعبة وإسماعيل القاضي في الأحكام عن ابن مسعود: ” كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس؛ أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه “، قال: ولا مخالف له من الصحابة، واحتجوا بأنها أعظم من أن تكفر، وأجاب من قال بالكفارة كالحكم وعطاء والأوزاعي ومعمر والشافعي بأنه أحوج للكفارة من غيره، وبأن الكفارة لا تزيده إلا خيرا، والذي يجب عليه الرجوع إلى الحق ورد المظلمة، فإن لم يفعل كفر، فالكفارة لا ترفع عنه حكم التعدي بل تنفعه في الجملة …
344 – وعنه أَن رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مِنَ الْكبائِرِ شتْمُ الرَّجلِ والِدَيْهِ،”قالوا: يَا رسول َاللَّه وهَلْ يشْتُمُ الرَّجُلُ والِديْهِ؟، قَالَ:”نَعمْ، يَسُبُّ أَبا الرَّجُلِ، فيسُبُّ أَباه، ويسُبُّ أُمَّهُ، فَيسُبُّ أُمَّهُ” متفقٌ عَلَيهِ.
وفي روايةٍ: “إِنَّ مِنْ أَكْبرِ الكبائِرِ أَنْ يلْعنَ الرَّجُلُ والِدَيْهِ،”قِيلَ: يَا رَسُول اللَّهِ كيْفَ يلْعنُ الرجُلُ والِديْهِ؟، قَالَ:”يسُبُّ أَبا الرَّجُل، فَيسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسبُّ أُمَّه، فيسُبُّ أُمَّهُ”.
قال: “من الكبائر) قال الأتيوبي:” قال القرطبي رحمه الله تعالى: يعني: أنه من أكبر الكبائر؛ لأن شتم المسلم الذي ليس بأب كبيرة، فشتم الآباء أكبر منه (المفهم) وتعقبه بعضهم بأنه لم يقصد شتم أبيه، وليس فعل السبب كفعل المسبب على كل حال، فالصواب كونه كبيرة، كما جعله في الحديث. انتهى (“مكمل إكمال الإكمال” 1/ 199″
قال ابن علان:” أي بعضها: ولا ينافي ما تقدم وما بعده أنه من أكبرها لأنه لا يخرج بذلك عن كونها بعضاً منها” (دليل الفالحين 1/ 540)
(شتم الرجل) أي المكلف ومثله المكلفة (دليل الفالحين 1/ 540)
هذا لا يخص الرجل، بل يعم النساء أيضا؛ لأنهن لا يتخلفن عن الرجال في هذا، فتنبه. (البحر المحيط الثجاج)
(والديه”) وللبخاري: “إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه”، وله في “الأدب المفرد”: “من الكبائر عند الله أن يسب الرجل والده”.
و”الشتم”: السب، يقال: شتمه يشتمه، من بابي: ضرب، ونصر، شتما، ومشتمة بفتح التاء، ومشتمة بضمها: سبه (القاموس المحيط)
قال النووي:” و أما قوله صلى الله عليه وسلم: ” من الكبائر شتم الرجل والديه ” إلى آخره، ففيه دليل على أن من تسبب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء، وإنما جعل هذا عقوقا لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيا ليس بالهين.” (شرح النووي)
قال ابن حجر:” وإن كان التسبب إلى لعن الوالد من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنه أشد” (فتح الباري)
قوله: (قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟) قال القرطبي:” استفهام إنكار واستبعاد لوقوع ذلك من أحد من الناس، وهو دليل على ما كانوا عليه من المبالغة في بر الوالدين، ومن الملازمة لمكارم الأخلاق والآداب.” (المفهم)
قال ابن حجر:” هو استبعاد من السائل؛ لأن الطبع المستقيم يأبى ذلك، فبين في الجواب أنه وإن لم يتعاط السب بنفسه في الأغلب الأكثر لكن قد يقع منه التسبب فيه، وهو مما يمكن وقوعه كثيرا. قال ابن بطال: هذا الحديث أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في هذا الحديث قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} الآية، واستنبط منه الماوردي منع بيع الثوب الحرير ممن يتحقق أنه يلبسه، والغلام الأمرد ممن يتحقق أنه يفعل به الفاحشة، والعصير ممن يتحقق أنه يتخذه خمرا. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: فيه دليل على عظم حق الأبوين، وفيه العمل بالغالب؛ لأن الذي يسب أبا الرجل يجوز أن يسب الآخر أباه، ويجوز أن لا يفعل، لكن الغالب أن يجيبه بنحو قوله، وفيه مراجعة الطالب لشيخه فيما يقوله مما يشكل عليه، وفيه إثبات الكبائر … وفيه أن الأصل يفضل الفرع بأصل الوضع ولو فضله الفرع ببعض الصفات.” (فتح الباري)
قال القرطبي:” دليلٌ على أنَّ سبب الشيء قد ينزله الشرعُ منزلةَ الشيء في المَنع؛ فيكونُ حُجَّةً لمن منَعَ بيعَ العنبِ ممَّن يعصره خمرًا، ويمنَعَ بيعَ ثيابِ الخز ممَّن يلبسها، وهي لا تَحِلُّ له، وهو أحدُ القولَين لنا. وفيه: حُجَّةٌ لمالكٍ على القولِ بِسَدِّ الذرائع، وهو مِن نحو قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ والذريعةُ: هي الامتناعُ مما ليس ممنوعًا في نفسه؛ مخافةَ الوقوعِ في محظورٍ.” (المفهم) لذلك من شروط الفتوى معرفة مآلات الأمور، وليس كل حق يقال، وليس ما يقال في موضع، يقال في موضع آخر.
قال ابن علان:” استفهام استبعاد أن يصدر ذلك من ذي عقل ولب، فإن من كان ذلك شأنه تدعوه معرفة حقهما إلى القيام ببرّهما وشكرهما فضلاً عن الوقوع في شتمهما، فهو استبعاد لوقوع ذلك الموصوف بالرجولية المعربة عن الكمال” (دليل الفالحين 1/ 540)
قال ابن باز:” استنكر المسلمون ذلك، فأمر الوالدين مغروز في الفطر، وبرهما والإحسان إليهما وطاعتهما أمر معروف في فطر العباد، حتى لو كانوا كفارا يعرفون عظم شأن الوالدين، وإن كان المسلمون يعلمون بشرع الله أعلم منهم بذلك وأحق” (شرح رياض الصالحين لابن باز ص38)
قال ابن عثيمين:” ذلك تحذير من أن يكون الإنسان سبباً في شتم والديه بأن يأتي إلى شخص فيشتم والدي الشخص، فيقابله الشخص الآخر بالمثل ويشتم والديه، ولا يعني ذلك أنه يجوز للثاني أن يشتم والدي الرجل؛ لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولكنه في العادة والطبيعة أن الإنسان يجازي غيره بمثل ما فعل به، فإذا سبه سبه.
وذلك كما قال تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108]، لذلك لما كان سبباً في سب والديه؛ كان عليه إثم ذلك.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 210)
345 – وعن أَبي محمد جُبيْرِ بنِ مُطعِمٍ رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ”. متفقٌ عَلَيهِ.
(لا) نافية، ولذا رفع الفعل بعدها (البحر المحيط الثجاج)
قوله (قَالَ سفيان في روايته: يعْني: قاطِع رحِم) قال القرطبي – رحمه الله -: هذا التفسير صحيح؛ لكثرة مجيء لفظ “قاطع” في الشرع مضافا إلى الرحم، فإذا ورد عاريا عن الإضافة حمل على ذلك الغالب. (المفهم) قال ابن علان:” (يعني) النبي بقوله: «قاطع» المجمل المحتمل لمعان (قاطع الرحم) وكأنه لعظم إثمه ومزيد الاعتناء به لا ينصرف هذا اللفظ إلا إليه ادّعاء.” (دليل الفالحين 1/ 541)
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع) هذا الحديث يتأول تأويلين،: أحدهما: حمله على من يستحل القطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمها، فهذا كافر يخلد في النار، ولا يدخل الجنة أبدا. والثاني: معناه: ولا يدخلها في أول الأمر مع السابقين، بل يعاقب بتأخره القدر الذي يريده الله تعالى. (شرح مسلم للنووي)
قال القرطبي:” يصح أن يحمل على المستحل لقطع الرحم، فيكون القاطع كافرا، أو يخاف أن يفسد قلبه بسبب تلك المعصية فيختم عليه بالكفر، فلا يدخل الجنة، أو لا يدخل الجنة في الوقت الذي يدخلها الواصل لرحمه، لأنَّ القاطع يحبس في النار بمعصيته، ثم بعد ذلك يخلص منها بتوحيده، كل ذلك محتمل، والله ورسوله أعلم بعين المقصود.” (المفهم)
قال ابن تيمية:” كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة ولا يشم رائحة الجنة وقيل فيه: من فعله فليس منا وأن صاحبه آثم. فهذه كلها من الكبائر. كقوله صلى الله عليه وسلم {لا يدخل الجنة قاطع} ” (مجموع الفتاوى 11/ 652)
قال القرطبي:” هذا الحديث يدلّ دلالة واضحة على وجوب صلة الرحم على الجملة، وعلى تحريم قطعها، وأنه كبيرة. ولا خلاف فيه” (المفهم)
والعقوبة التي ذكرت في الحديث في الآخرة، أما في الدنيا فعقوبته معجلة حيث روى الترمذي وابن ماجه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”ما مِنْ ذَنْبٍ أجدَرُ أنْ يعجلَ الله لِصاحِبِه العقوبةَ في الدنيا -مع ما يُدَّخَرُ له في الآخِرَةِ- مِنَ البَغْيِ وقَطيعَةِ الرحِمِ”. (صحيح الترغيب 2537)
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال:”إن أعْمالَ بني آدَم تُعْرضُ كلَّ خميسٍ ليلَةَ الجمُعَةِ، فلا يُقْبَل عَمَلُ قاطعِ رَحِمٍ”. (صحيح الترغيب 2538)
وعند الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: ملعونٌ من عَقَّ والديه” وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: لعنَ الله مَنْ سبَّ والديه” (صحيح الترغيب)
والجزاء في العقوق من جنس العمل من بر والده بُر به ومن عق والدين عُق به
قال ابن باز:” هذا وعيد عظيم يجب على المسلم أن يحذره، فقطيعة الرحم من أسباب دخول النار ومن أسباب حرمان دخول الجنة، وهو من باب الوعيد وإن كان لا يكفر، ولكن من باب الوعيد يحرم دخول الجنة بسبب قطيعة الرحم والمعنى والله أعلم؛ يعني: الدخول الكامل الذي تفوز به أهل السلامة، وإلا فالعصاة لا بد لهم من دخول الجنة وإن عذبوا ما داموا موحدين مسلمين … هذه الأحاديث التي يأتي لا يدخل الجنة كذا، من فعل كذا دخل النار كله من باب الوعيد وأمرهم إلى الله ما داموا مسلمين … ومن يرضى أن يدخل النار ولو لحظة؟! فالعاقل التي تعز عليه نفسه عليه أن يحذر أسباب النار ويبتعد عنها بكل وسيلة شرعها الله ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 40)
فيه هذا الحديث خطورة عقوق الوالدين، رواه الأصبهاني وغيره. عن العوَّام بن حَوْشَبٍ قال: نزلتُ مرَّةً حياً، وإلى جانبِ ذلك الحيِّ مقبرةٌ، فلمَّا كان بعدَ العَصْرِ انشقَّ فيها قبْرٌ، فخَرج رجلٌ رأسُه رأسُ الحِمارِ، وجَسدُه جَسدُ إنسانٍ، فنهَقَ ثلاثَ نَهْقاتٍ ثُمَّ انْطبقَ عليه القبرُ، فإذا عجوزٌ تَغْزِل شَعْراً أوْ صوفاً، فقالتِ امْرأَةٌ: ترى تلكَ العجوزَ؟ قلتُ: ما لَها؟ قالتْ: تلكَ أمُّ هذا. قلتُ: وما كانَ قِصَّتُه؟ قالتْ:
كان يشرَبُ الخمرَ، فإذا راحَ تقولُ له أُمُّه: يا بنيَّ اتَّقِ الله إلى متى تَشْرَبُ هذه الخمرَ؟! فيقولُ لها: إنَّما أنْتِ تَنْهَقينَ كما يَنْهَقُ الحِمارُ! قالتْ: فماتَ بعدَ العَصْرِ. قالتْ: فهو يَنْشَقُّ عنه القبرُ بعدَ العَصْرِ، كلُّ يوم فيَنْهَقُ ثلاثَ نَهَقَاتٍ، ثمَّ ينْطَبِق عليه القبرُ.
وقال الأصبهاني:”حدَّث به أبو العباس الأصم إملاءً بنيسابور بمشهد من الحفاظ فلم ينكروه”. (صحيح الترغيب 2517)
346 – وعن أَبي عِيسى المُغِيرة بنِ شُعْبةَ رضي اللَّه عنه عن النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “إِنَّ اللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمهَاتِ، ومنْعاً وهاتِ، ووادَ البنَاتِ، وكَرَهَ لكُمْ قِيل وقالَ، وَكَثْرَةَ السَؤالِ، وإِضَاعة المالِ “متفقٌ عليه.
قولُهُ:”مَنْعاً”معنَاهُ: منعُ مَا وجَبَ عَلَيْهِ وَ”هَاتِ”: طَلَبُ مَا لَيسَ لَهُ وَ”وَادَ البنَاتِ”معْنَاه: دَفْنُهُنَّ في الحَياةِ، وَ”قِيلَ وقَالَ”مَعْنَاهُ: الحدِيثُ بِكُلِّ مَا يَسمعُهُ، فيقُولُ: قيلَ كَذَا، وقَالَ فُلانٌ كَذَا مِمَّا لا يَعلَمُ صِحَّتَهُ، وَلا يَظُنُّهَا، وكَفى بالمرْءِ كذِباً أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ. وَ”إِضَاعَةُ المَال”: تَبذِيرُهُ وصرفُهُ في غَيْرِ الوُجُوهِ الماذُون فِيهَا مِنْ مَقَاصِدِ الآخِرِةِ والدُّنيا، وتَرْكُ حِفْظِهِ مَعَ إِمْكَانِ الحفْظِ. وَ”كثرةُ السُّؤَالِ”الإِلحاحُ فِيمَا لا حاجةَ إِلَيْهِ.
وفي الباب أَحادِيثُ سبقَتْ في البابِ قبله كَحَدِيثَ”وأَقْطعُ مَنْ قَطَعكِ”وحديث”مَن قطَعني قَطَعهُ اللَّه”.
قوله (“إِنَّ اللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمهَاتِ) قال النووي:” عقوق الأمهات ” فحرام، وهو من الكبائر بإجماع العلماء، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على عده من الكبائر، وكذلك عقوق الآباء من الكبائر، وإنما اقتصر هنا على الأمهات لأن حرمتهن آكد من حرمة الآباء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حين قال له السائل: ” من أبر؟ قال: ” أمك ثم أمك – ثلاثا – ثم قال في الرابعة: ثم أباك “. ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات، ويطمع الأولاد فيهن” (شرح مسلم للنووي) قال ابن حجر:” قوله: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) قيل: خص الأمهات بالذكر؛ لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك” (فتح الباري).
(ومنْعاً وهاتِ) قال النووي ” في الرواية الأخرى: ” ولا وهات ” فهو بكسر التاء من ” هات. ومعنى الحديث: أنه نهى أن يمنع الرجل ما توجه عليه من الحقوق أو يطلب ما لا يستحقه، ” (شرح مسلم للنووي) قال ابن حجر:” قال الخليل: أصل ” هات “: ” آت “، فقلبت الألف هاء. والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا … ويكون ذكره هنا مع ضده ثم أعيد تأكيدا للنهي عنه، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابا لاثنين كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه، وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه على الإثم.
قال ابن عثيمين:” ومنعاً وهات يعني أن يكون الإنسان جموعاً منوعاً؛ يمنع ما يجب عليه بذله من المال، ويطلب ما ليس له، فهات: يعني أعطوني المال، ومنعاً: أي يمنع ما يجب عليه، فإن هذا أيضاً مما حرمه الله عز وجل؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يمنع ما يجب عليه بذله من الله، ولا يجوز أن يسأل ما لا يستحق، فكلاهما حرام” (شرح رياض الصالحين 3/ 211)
(ووادَ البنَاتِ) قال النووي:” وأد البنات ” بالهمز، فهو دفنهن في حياتهن؛ فيمتن تحت التراب، وهو من الكبائر الموبقات، لأنه قتل نفس بغير حق، ويتضمن أيضا قطيعة الرحم، وإنما اقتصر على البنات، لأنه المعتاد الذي كانت الجاهلية تفعله.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهة فيهن، ويقال: إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه، ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، وكان من العرب فريق ثان يقتلون أولادهم مطلقا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه، وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضا – وهو جد الفرزدق: همام بن غالب بن صعصعة – أول من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد، وهذا محمول على الفريق الثاني وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الإسلام ولهما صحبة وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب وكانوا في صفة الوأد على طريقين أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة وهذا أليق بالفريق الأول ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لأمها طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها وهذا اللائق بالفريق الثاني والله أعلم (فتح الباري)
قال الطيبي – رحمه الله -: قيل: قدم عقوق الأمهات؛ لأنهن الأصول، وعقبه بوأد البنات؛ لأنهن الفروع، وكان ذلك تنبيها على أن أكبر الكبائر هو قطع النسل الذي هو موجب لخراب العالم.” (الكاشف عن حقائق السنن)
قال ابن عثيمين:” قال الله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) [التكوير: 8، 9]، فحرم الله ذلك، وهو لاشك من أكبر الكبائر، وإذا كان قتل الأجنبي المؤمن سبباً للخلود في النار كما قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93]، فالقرابة أشد وأشد.” (شرح رياض الصالحين 3/ 210)
جاء في رواية حرم ثلاثا وكره ثلاثا قال النووي:” وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ” حرم ثلاثا وكره ثلاثا ” دليل على أن الكراهة في هذه الثلاثة الأخيرة للتنزيه، لا للتحريم. والله أعلم ” (شرح مسلم للنووي)
قال القرطبي:” عدل عن لفظ هذا الحديث عن لفظ (حرَّم) الذي ذكره قبل هذا اللفظ؛ لأنَّ تلك الأمور التي قرن بها لفظ (حرم) أفحش وأكبر من هذه الأمور التي قرن بها لفظ (كره). وقد قيل: إن الكراهة هنا من باب التنزيه. وفيه بُعدٌ لما بيَّنَّاه في إضاعة المال.” (المفهم 5/ 166)
(وكَرَهَ لكُمْ قِيل وقالَ) قال ابن عثيمين:” كره وحرم ليس بينهما فرق؛ لأن الكراهة في لسان الشارع معناها التحريم، ولكن هذا والله أعلم من باب اختلاف التعبير فقط.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 211)
قال ابن حجر:” وقال المحب الطبري: في قيل وقال ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما مصدران للقول، تقول: قلت قولا وقيلا وقالا، والمراد في الأحاديث: الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام؛ لأنها تئول إلى الخطأ، قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه. ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر عنها، فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكي عنه. ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له. قلت: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح: ” كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع “، أخرجه مسلم
قال ابن باز:” من كثر كلامه كثر سقطه ووقع فيما لا ينبغي من الغيبة والنميمة والكذب وغير ذلك” (شرح رياض الصالحين لابن باز 3/ 42)
قال ابن عثيمين:” ((كره لكم قيل وقال)) يعني نقل الكلام، وكثرة ما يتكلم الإنسان ويثرثر به، وأن يكون ليس له هم إلا الكلام في الناس، قالوا كذا وقيل كذا، ولا سيما إذا كان هذا في أعراض أهل العلم وأعراض ولاة الأمور، فإنه يكون أشد وأشد كراهة عند الله عز وجل.
والإنسان المؤمن هو الذي لا يقول إلا خيراً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيراً أو ليصمت)).” (شرح رياض الصالحين 3/ 211)
قوله (وكثرة السؤال) قال ابن عثيمين:” كثرة السؤال يحتمل أن يكون المراد السؤال عن العلم، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المال.
أما الأول: وهو كثرة السؤال عن العلم فهذا إنما يكره إذا كان الإنسان لا يريد إلا إعنات المسؤول، والإشقاق عليه، وإدخال السآمة والملل عليه، أما إذا كان يريد العلم فإنه لا ينهى عن ذلك، ولا يكره ذلك، وقد كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كثير السؤال، فقد قيل له: بم أدركت العلم؟ قال: أدركت العلم بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول.
لكن إذا كان قصد السائل الإشقاق على المسؤول والإعنات عليه، وإلحاق السآمة به، أو تلقط زلاته لعله يزل فيكون في ذلك قدح فيه، فإن هذا المكروه.
وأما الثاني: وهو سؤال المال فإن كثرة السؤال قد تلحق الإنسان بأصحاب الشح والطمع، ولهذا لا يجوز للإنسان سؤال المال إلا عند الحاجة، أو إذا كان يرى أن المسؤول يمن عليه أن يسأله، كما لو كان صديقاً لك قوي الصداقة، قريباً جداً، فسألته حاجة وأنت تعرف أنه يكون بذلك ممنوناً، فهذا لا بأس به، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك:؛ فلا يجوز أن تسأل إلا عند الضرورة.
قوله (وإضاعة المال) قال ابن حجر:” قوله: (وإضاعة المال)، تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه؛ لأن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح؛ إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه. والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه. والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشرط المذكور. والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك، فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف، قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له.
قال ابن عثيمين:” إضاعة المال فهو بذله في غير فائدة لا دينية ولا دنيوية؛ لأن هذا أيضاً إضاعة له لأن الله تعالى قال: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) [النساء: 5]، فالمال قيام للناس؛ تقوم به مصالح دينهم ودنياهم، فإذا بذله الإنسان في غير ذلك فهذا إضاعة له، وأقبح من ذلك أن يبذله في محرم، فيرتكب في هذا محظورين: المحظور الأول: إضاعة المال.
والمحظور الثاني: ارتكاب المحرم.
فالأموال يجب أن يحافظ عليها الإنسان، وألا يضعها وألا يبذلها إلا فيما فيه مصلحة له دينية أو دنيوية.” (شرح رياض الصالحين 3/ 213)