326 و 327 و 328 و 329 و 330 و 331 و 332 و 333 و 334 و 335 و 336 و 337 و 338 و 339 و 340 و 341 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
40 – باب بر الوالدين وصلة الأرحام
326 – وعنه قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَة أَكْثَر الأَنصار بِالمَدينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحبُّ ّأَمْوَالِهِ بِيرْحَاءَ، وكَانتْ مُسْتقْبِلَة المَسْجِدِ، وكَان رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يدْخُلُهَا، وَيَشْرَب مِنْ ماءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلمَّا نَزَلتْ هذِهِ الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحة إِلَى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّه إِنَّ اللَّه تَبَارَك وتَعَالَى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحب مَالِي إِليَّ بِيَرْحَاءَ، وإِنَّهَا صَدقَةٌ للَّهِ تَعَالَى، أَرجُو بِرَّهَا وذُخْرهَا عِنْد اللَّه تَعَالَى، فَضَعْهَا يَا رَسُول اللَّه حيثُ أَراكَ اللَّه. فقال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “بَخٍ، ذلِكَ مالٌ رابحٌ، ذلِكَ مالٌ رابحٌ، وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلتَ، وإِنَّي أَرى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْربِين” فَقَالَ أَبُو طَلْحة: أَفعلُ يَا رَسُول اللَّه، فَقَسَمهَا أَبُو طَلْحة في أَقارِبِهِ وبَنِي عمِّهِ. متفقٌ عَلَيهِ.
وَسبق بَيَانُ أَلْفَاظِهِ في بابِ الإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِب.
الشاهد له في هذا الباب “وإِنَّي أَرى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْربِين” والصدقة على الأقارب صدقة وصلة، وتتأكد الصلة على الأقارب إذا كان بينك وبين القريب مشاحنة، حيث روى الطبراني في الكبير وابن خزيمه في صحيحه عن أم كلثوم بنتِ عُقْبَةَ رضي الله عنها؛ أنَّ النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال:”أفضلُ الصدقةِ الصدقةُ على ذي الرَّحِم الكاشح”. الكاشح: العدوّ الذي يضمر عداوته، ويطوي عليها كشْحه، أي: باطنه.
327 – وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قَالَ: أَقْبلَ رجُلٌ إِلى نَبِيِّ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَقَالَ: أُبايِعُكَ عَلَى الهِجرةِ وَالجِهَادِ أَبتَغِي الأَجرَ مِنَ اللَّه تعالى. قال: “فهَلْ مِنْ والدِيْكَ أَحدٌ حَيٌّ؟ “قَالَ: نعمْ بَلْ كِلاهُما قَالَ:”فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّه تَعَالَى؟ “قَالَ: نعمْ قَالَ:”فَارْجعْ إِلى والدِيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبتَهُما. متفقٌ عَلَيهِ. وهذا لَفْظُ مسلمٍ.
وفي روايةٍ لهُما: جاءَ رجلٌ فاسْتَاذَنُه في الجِهَادِ فقَالَ: “أَحيٌّ والِداكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:”ففِيهِما فَجاهِدْ”.
جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن عَمرٍو، قال: جاء رجل إلى رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلم-، فقال: جئتُ أُبايُعك على الهجرةِ، وتركتُ أبويَّ يبكيان، فقال: “ارجِعْ إليهما فَأضحِكْهُما كما أبكيتَهما” (صححه الألباني)
في رواية أخرى عند أبي داود عن أبي سعيد الخدري: أن رجلاً هاجَر إلى رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلم- مِن اليمنِ، فقال: “هل لك أحدٌ باليمن؟ ” قال: أبواي، قال: “أذِنا لك؟ ” قال: لا، قال: “ارجعِ إليهما فاستأذِنهما، فإن أذِنا لك فجَاهِد، وإلا فبِرَّهما”
وجاء في سنن ابن ماجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «ارْجِعْ فَبَرَّهَا» ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا» ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ» صحيح، الإرواء (5/ 20 – 21)، وصحيح الترغيب والترهيب: 2484
وأيضا عند ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُ أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَقَدْ أَتَيْتُ وَإِنَّ وَالِدَيَّ لَيَبْكِيَانِ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا»
قوله: (جاء رجل) يحتمل أن يكون هو جاهمة بن العباس بن مرداس، فقد روى النسائي وأحمد من طريق معاوية بن جاهمة: ” أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك، فقال هل لك من أم؟ قال نعم. قال الزمها ” الحديث. (فتح الباري)
(أُبايِعُكَ عَلَى الهِجرةِ) قال ابن علان:” أي مفارقة وطني وسكني المدينة. قال القرطبي: وهذا كان في زمن وجوب الهجرة” (دليل الفالحين 1/ 522)
(“فهل من والديك أحد حي؟ “) قال القرطبي -رحمه الله-: هذا يدل على أن المفتي إذا خاف على السائل الغلط، أو عدم الفهم تعين عليه الاستفصال، وعلى أن الفروض والمندوبات مهما اجتمعت قدم الأهم منها، وأن القائم على الأبوين يكون له أجر مجاهد وزيادة.” (المفهم 6/ 559)
قوله (قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) قال ابن علان:” أسقط الشارع عنه وجوب الهجرة تقديماً لحق أبويه، فإن الهجرة إن كانت واجبة عليه فقد عارضها ما هو أوجب منها وهو حق الوالدين، وإن لم تكن واجبة فالواجب أولى، لكن هذا إنما يصح ممن يسلم له دينه في موضعهما، أما لو خاف على دينه وجب عليه الفرار به وترك آبائه وأبنائه كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من العباد.” (دليل الفالحين 1/ 522)
قال النووي:” هذا كله دليل لعظم فضيلة برهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء؛ أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه، وشرطه الثوري، هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال، وإلا فحينئذ يجوز بغير إذن. وأجمع العلماء على الأمر ببر الوالدين، وأن عقوقهما حرام من الكبائر” (شرح مسلم للنووي)
قوله: (فيهما فجاهد) أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما، ويستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضده إذا فهم المعنى، لأن صيغة الأمر في قوله ” فجاهد ” ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما لهما، وليس ذلك مرادا قطعا، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن والمال، ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادا، وفيه أن بر الوالد قد يكون أفضل من الجهاد، وأن المستشار يشير بالنصيحة المحضة، وأن المكلف يستفصل عن الأفضل في أعمال الطاعة ليعمل به لأنه سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه فدل على ما هو أفضل منه في حقه، ولولا السؤال ما حصل له العلم بذلك. (فتح الباري)
قال ابن عبدالبر:” قال أبو عمر لا خلاف علمته أن الرجل لا يجوز له الغزو ووالداه كارهان أو أحدهما لأن الخلاف لهما في أداء الفرائض عقوق وهو من الكبائر” (الاستذكار لابن عبد البر 5/ 40)
قال ابن حجر:” قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما الابن من السفر بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين عليه والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن. ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو: ” جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال، قال: الصلاة. قال ثم مه قال الجهاد. قال فإن لي والدين، فقال آمرك بوالديك خيرا. فقال والذي بعثك بالحق نبيا لأجاهدن ولأتركنهما، قال فأنت أعلم “، وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الحديثين، ” (فتح الباري)
قال الألباني في حديث: لأجاهدن ولأتركنهما
منكر – «الضعيفة» ((5819)) قال بعد أن نقل التوفيق الذي ذكره ابن حجر:
قلت: التوفيق فرع التصحيح؛ كما هو معلوم، ولم يتحقق هذا في حديث الترجمة كما تقدم.
قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف. تخريج مسند أحمد (6602) وبين تراجعه عن تصحيحه قال:
إسناده ضعيف، ابن لهيعة -وإن كان سياء الحفظ-، قد توبع، وتبقى علته منحصرة في حيي بن عبد الله المعافري، وهو ضعيف.
وأخرجه ابن حبان ((1722)) من طريق عبد الله بن وهب، عن حيي بن عبد الله المعافري، بهذا الإسناد. (قال شعيب: وقد كنت حكمت على إسناده فيه بالحسن، ثم تبين لي أن حيي بن عبد الله لا يكون حديثه حسنًا إلا عند المتابعة).
قال الألباني في التعليقات الرضية:
ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين؛ أن يجعل ذلك إلى رأي الإمام أو المكلف، فإن كانت المصلحة تقضي بأحدهما؛ وجب تقديمه.
وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون، ولم نر في شيء من الروايات أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو} (ش)
الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية (3) / (440)
قال ابن علان:” وقال ابن رسلان: المراد بالجهاد فيهما جهاد النفس في وصول البرّ إليهما بالتلطف بهما وحسن الصحبة والطاعة وغير ذلك، وتقدم أن الجهاد الأكبر جهاد النفس الأمارة بالسوء ” (دليل الفالحين 1/ 523)
قال ابن قدامة:” إن خرج في جهاد تطوع بإذنهما، فمنعاه منه بعد سيره وقبل وجوبه، فعليه الرجوع” (المغني 9/ 209)
قال ابن باز:” فبرهما والإحسان إليهما مقدم على الجهاد؛ ولهذا في الحديث الصحيح لما سئل: أيُّ العملُ أفضل؟ قال:”الصلاةُ لوقتِها”.قال: قلتُ: ثم أي؟ قال:”بِرُّ الوالدين”.قلت: ثم أيُّ؟ قال:”الجهادُ في سبيل الله”. فبر الوالدين من أهم الواجبات وذلك بالإحسان إليهما والرفق بهما؛ والسمع والطاعة لهما في المعروف، والإنفاق عليهما عند الحاجة وإكرام صديقهما وإنفاذ وصيتهما من بعدهما، كل هذا من برهم.” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 17)
قال أصبغ بن زيد، قال: إنما منع أويسا أن يقدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- بره بأمه. (سير أعلام النبلاء 4/ 29
قال الطرطوشي:”
لَو كانَ يدري الابنُ أيةَ غُصْةٍ … يَتَجَرَّعُ الأبوانِ عندَ فِرَاقِهِ
أمٌ تَهِيجُ بِوَجْدِهِ حَيْرَانةً … وأبٌ يَسُحُ الدمعَ من آماقِهِ
يتجرعانِ لبِينِهِ غُصَصَ الردَى … ويبوحُ ما كتماه مِنْ أشواقِهِ
لَرَثَى لأمٍ سُلَّ من أَحْشَائِها … وبَكَى لشيخٍ هامَ في آفاقِهِ
ولبدَّلَ الخُلُقَ الأبيَّ بعَطْفِهِ … وجزاهما بالعطفِ من أخلاقِهِ
” (بر الوالدين للطرطوشي ص62)
328 – وعنه عن النَّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: لَيْسَ الْواصِلُ بِالمُكافئ وَلكِنَّ الواصِلَ الَّذي إِذا قَطَعتْ رَحِمُهُ وصلَهَا” رواه البخاري.
وَ”قَطعتْ”بِفَتْح القافِ وَالطَّاءِ. وَ”رَحِمُهُ”مَرْفُوعٌ.
(ليس الواصل بالمكافئ) قال ابن بطال:” (ليس الواصل بالمكافاء) يعنى: ليس الواصل رحمه من وصلهم مكافأة لهم على صلة تقدمت منهم إليه فكافأهم عليها بصلة مثلها.” (شرح البخاري لابن بطال 9/ 208)
قال ابن الجوزي:” اعلم أن المكافئ مقابل الفعل بمثله. والواصل للرحم لأجل الله تعالى يصلها تقربا إليه وامتثالا لأمره وإن قطعت، فأما إذا وصلها حين تصله فذاك كقضاء دين، ولهذا المعنى قال: ” أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح “، وهذا لأن الإنفاق على القريب المحبوب مشوب بالهوى , فأما على المبغض فهو الذي لا شوب فيه.” (كشف المشكل لابن الجوزي 4/ 120)
قال ابن حجر”: الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفا: ” ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك “. (فتح الباري) قال صاحب العون:” (بالمكافئ): بكسر الفاء ثم الهمزة الذي يكافئ ويجزئ إحسانا فعل به” (عون المعبود)
قوله: (ولكن) قال الطيبي: الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف. (فتح الباري)
قوله: (الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) أي: الذي إذا منع أعطى، و” قطعت ” ضبطت في بعض الروايات بضم أوله وكسر ثانيه على البناء للمجهول، وفي أكثرها بفتحتين، قال الطيبي: المعنى: ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه. وقال شيخنا في ” شرح الترمذي “: المراد بالواصل في هذا الحديث: الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة، بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل: ” ليس الشديد بالصُّرَعة، وليس الغنى عن كثرة العرض “. انتهى، وأقول: لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل: من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ: الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع: الذي يتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك يقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا، والله أعلم. (فتح الباري)
قال صاحب العون:” وهذا من باب الحث على مكارم الأخلاق كما ورد ” {صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك} ” (عون المعبود)
قال المباركفوري:” هذا من باب الحث على مكارم الأخلاق كقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} ” (تحفة الأحوذي)
قال فيصل آل مبارك:” الناس ثلاثة: واصل، ومكافئ، وقاطع، فالواصل: من يبدأ بالفضل، والمكافئ: من يرد مثله، والقاطع: من لا يتفضل ولا يكافئ، فالكامل من يصل من قطعه.” (تطريز رياض الصالحين 1/ 225)
قال ابن باز:” الواصل يعني: الكامل الذي جاهد نفسه حتى وصل رحمه مع القطيعة منهم ” (شرح رياض الصالحين 2/ 18)
329 – وعن عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “الرَّحمُ مَعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّه، وَمَن قَطَعَني، قَطَعَهُ اللَّه” متفقٌ عليه.
فيه عظم مكانة الصلة و عظم عقوبة قطعها، وتقدم بيانه في أحاديث أخر.
330 – وعن أُمِّ المُؤْمِنِينَ ميمُونَةَ بنْتِ الحارِثِ رضي اللَّه عنها أَنَّهَا أَعتَقَتْ وَليدَةً وَلَم تَستَاذِنِ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فلَمَّا كانَ يومَها الَّذي يدورُ عَلَيْهَا فِيه، قَالَتْ: أشَعَرْتَ يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أَعْتَقْتُ ولِيدتي؟ قَالَ: “أَوَ فَعلْتِ؟ ” قَالَتْ: نَعمْ قَالَ:”أَما إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيتِهَا أَخوالَكِ كَانَ أَعظَمَ لأجرِكِ” متفقٌ عَلَيهِ.
قوله: (أنها أعتقت وليدة) أي جارية، في رواية النسائي من طريق عطاء بن يسار عن ميمونة: ” أنها كانت لها جارية سوداء ” ولم أقف على اسم هذه الجارية، (فتح الباري)
(ولم تستأذن النبيّ) فيؤخذ منه صحة تصرف الزوجة مطلقاً بغير إذن زوجها خلافاً للإمام مالك حيث منعه فيما زاد على الثلث إلا بإذنه (دليل الفالحين 1/ 524)
وبعض أهل العلم يمنع لحديث (لا يحل لامرأة أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها) راجع الصحيحة ويتأول الأحاديث التي فيها الجواز
(لو أعطيتها أخوالك) أخوالها كانوا من بني هلال أيضا، واسم أمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث، ذكرها ابن سعد. (فتح الباري) واسمها ميمونة بن الحارث العامرية الهلالية.
قال النووي:” فيه: فضيلة صلة الأرحام، والإحسان إلى الأقارب وأنه أفضل من العتق، وهكذا وقعت هذه اللفظة في صحيح مسلم ” أخوالك ” باللام، ووقعت في البخاري في رواية الأصيلي: أخواتك بالتاء، قال القاضي: ولعله أصح، بدليل رواية مالك في الموطإ: أعطيتها أختك، قلت: الجميع صحيح ولا تعارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك كله. وفيه: الاعتناء بأقارب الأم إكراما بحقها وهو زيادة في برها. وفيه: جواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها. ” (شرح مسلم للنووي)
قال القرطبي:” هذا يدل على أن الصدقة على الأقارب أفضل من عتق الرقاب. وهو قول مالك، وتخصيص الأخوال؛ إما لأنهم من جهة الأم، وللأم ثلاثة أرباع البر، وإما لأنهم كانوا أحوج. وهكذا صحت الرواية في كتاب مسلم: أخوالك، ووقع في البخاري من رواية الأصيلي: أخواتك بالتاء بدل أخوالك، ولعلّه الأصحّ، بدليل رواية مالك في الموطأ: ([أعطها] لأختكِ وصِلِيها بما ترعى عليها، فهو خير لك).” (المفهم 3/ 47)
قوله: (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) قال ابن بطال: فيه أن هبة ذي الرحم أفضل من العتق، ويؤيده ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعا:” الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة “، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون هبة ذي الرحم أفضل مطلقا لاحتمال أن يكون المسكين محتاجا ونفعه بذلك متعديا والآخر بالعكس، وقد وقع في رواية النسائي المذكورة فقال: ” أفلا فديت بها بنت أخيك من رعاية الغنم “، فبين الوجه في الأولوية المذكورة وهو احتياج قرابتها إلى من يخدمها، وليس في الحديث أيضا حجة على أن صلة الرحم أفضل من العتق لأنها واقعة عين، والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال ” (فتح الباري)
قال ابن باز:” هذا يدل على الصدقة في الأخوال و الأعمام أفضل من العتق، يدل على فضل عظيم، قد يدل على أنهم محاويج، وأن الصدقة فيهم أفضل من العتق” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 20)
331 – وعن أَسْمَاءَ بنْتِ أَبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّه عنهما قَالَتْ: قَدِمتْ عليَّ أُمِّي وهِي مُشركة في عهْدِ رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَاسْتَفتَيْتُ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قلتُ: قَدِمتْ عَليَّ أُمِّى وَهِى راغبةٌ، أَفأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ:”نَعمْ صِلي أُمَّكِ” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَقَولُهَا:”راغِبةٌ”أَي: طَامِعةٌ عِندِي تَسْأَلُني شَيئاً، قِيلَ: كَانَت أُمُّهَا مِنْ النَّسبِ، وقِيل: مِن الرَّضاعةِ والصحيحُ الأَول.
قوله (قَدِمتْ عليَّ أُمِّي) قال النووي:” وأم أسماء اسمها (قيلة) وقيل: (قتيلة) بالقاف وتاء مثناة من فوق، وهي قيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية، واختلف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها، والأكثرون على موتها مشركة” (شرح مسلم للنووي) أم عائشة اختها فأمها تختلف، أمها أم رومان قرشية.
قال ابن حجر:” أخرجه بن سعد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير قال قدمت قتيلة بالقاف والمثناة مصغرة بنت عبد العزى بن سعد من بني مالك بن حسل بكسر الحاء وسكون السين المهملتين على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الهدنة وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية بهدايا زبيب وسمن وقرظ فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها وأرسلت إلى عائشة سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتدخلها الحديث” (فتح الباري 5/ 233)
قوله (وَهِى راغبةٌ) قال النووي:” قيل: معناه: راغبة عن الإسلام وكارهة له، وقيل: معناه: طامعة فيما أعطيتها. وحريصة عليه. وفي رواية أبي داود: ” قدمت عليَّ أمي راغبة في عهد قريش، وهي راغمة مشركة) فالأول: ” راغبة ” بالباء أي: طامعة طالبة صلتي. والثانية: بالميم، معناه: كارهة للإسلام ساخطته. ” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” قولها: ” راغبة ” أي في شيء تأخذه وهي على شركها، ولهذا استأذنت أسماء في أن تصلها ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن انتهى. وقيل معناه راغبة عن ديني أو راغبة في القرب مني ومجاورتي والتودد إلي، لأنها ابتدأت أسماء بالهدية التي أحضرتها، ورغبت منها في المكافأة، ولو حمل قوله: ” راغبة ” أي في الإسلام لم يستلزم إسلامها” (فتح الباري)
قال ابن باز:” أمها وفدت عليها من مكة في حال الصلح الذي بين النبي وبين أهل مكة، والهدنة، تطلب الرفق والمساعدة وكانت مشركة لم تسلم” (شرح رياض الصالحين 2/ 20)
قال ابن عثيمين:” قال بعض العلماء معناه: وهي راغبة في الإسلام؛ فيكون الأمر بصلتها من أجل تأليفها على الإسلام، وقيل: بل معنى قولها: وهي راغبة في أن أصلها، ومتطلعة إلى ذلك، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلها، وهذا هو الأقرب أنها جاءت تتشوق وتتطلع إلى أن تعطيها ابنتها ما شاء الله.
(أفأصلها؟) أي: أحسن إليها بإعطاء ما طلبت من المال (قال) -صلى الله عليه وسلم- (“نعم”) وفي الرواية التالية: “نعم صلي أمك. (البحر المحيط الثجاج 19/ 301)
قال ابن علان:” قوله (صلي أمك) وأتى به تأكيداً واهتماماً، زاد البخاري في «الأدب»: «فأنزل الله عزّ وجل فيها {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} (الممتحنة: 8)» قال الحافظ في «الفتح»: روى ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين جانباً للمسلمين وأحسن أخلاقاً. قال الحافظ: قلت ولا منافاة بينهما، فإن السبب خاص واللفظ عام، فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء اهـ.” (دليل الفالحين 1/ 526)
قال النووي:” فيه: جواز صلة القريب المشرك ” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” قال الخطابي: فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلما انتهى. وفيه موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة، والسفر في زيارة القريب، وتحري أسماء في أمر دينها، وكيف لا وهي بنت الصديق وزوج الزبير – رضي الله عنهم -.” (فتح الباري)
قال ابن باز:” هذا يدل على أن بر الوالدين مطلوب حتى ولو كانا كافرين ولو كانا فاسقين، وهكذا صلة الرحم مطلوبة ولو كان الأقارب كفاراً، إذا كانوا ليسوا حرباً لنا وليس بينهم وبيننا حرب، بل كانوا في هدنة أو أمان أو ذمة، كما قال الله جل وعلا في كتابه الكريم: لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ([الممتحنة: 8] فالكفار المهادنون أو الذين في ذمة وعهد أو في أمان يوصلون إذا كانوا أرحاماً، ويتصدق عليهم إذا كانوا فقراء، بجامع فضل الرحمة والإحسان، ولأن ذلك من أسباب الدخول في الإسلام وتأليف القلوب.” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 21)
قال ابن عثيمين:” ففي هذا دليل على أن الإنسان يصل أقاربه ولو كانوا على غير الإسلام؛ لأن لهم حق القرابة، ويدل لهذا قوله تعالى في سورة لقمان: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) [لقمان: 15]، يعني إن أمرك والداك وألحا في الطلب على أن تشرك بالله فلا تطعهما؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، أي أعطهم من الدنيا ما يجب لهم من الصلة، ولو كانا كافرين أو فاسقين؛ لأن لهما حق القرابة.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 193)
332 – وعن زينب الثقفِيَّةِ امْرأَةِ عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي اللَّه عَنْهُ وعنها قَالَتْ: قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “تَصدَّقنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ولَو مِن حُلِيِّكُنَّ” قَالَتْ: فَرجعتُ إِلى عبدِ اللَّه ابنِ مسعودٍ فقلتُ لَهُ: إِنَّك رجُلٌ خَفِيفُ ذَات اليَدِ وإِنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قدْ أمَرَنَا بالصدقةِ، فاتِه فاسأَلْهُ، فإنْ كان ذلك يُجْزِئُ عنِّي وَإِلاَّ صَرَفُتَهَا إِلى غَيركُمْ. فَقَالَ عبدُ اللَّهِ: بَلِ ائتِيهِ أَنتِ، فانطَلَقْتُ، فَإِذا امْرأَةٌ مِن الأَنَصارِ بِبابِ رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حاجَتي حاجتُهَا، وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَدْ أُلقِيتْ علَيهِ المهابةُ. فَخَرج عَلَيْنَا بلالٌ، فقُلنَا لَهُ: ائْتِ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرأَتَيْنِ بِالبَابَ تَسأَلانِكَ: أَتُجزِئُ الصَّدَقَةُ عنْهُمَا عَلَى أزواجِهِما وَعلى أَيتَامٍ في حُجُورِهِمَا؟ وَلا تُخْبِرهُ منْ نَحنُ، فَدَخل بِلالٌ علَى رَسُولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَسأَلَهُ، فَقَالَ لهُ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم “مَنْ هُمَا؟ ” قَالَ: امْرأَةٌ مِنَ الأَنصارِ وَزَيْنبُ. فقالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم “أَيُّ الزَّيانِبِ هِي؟ ” قَالَ: امرأَةُ عبدِ اللَّهِ، فقال رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “لَهُمَا أَجْرانِ: أَجْرُ القرابةِ وَأَجْرُ الصَّدقَةِ” متفقٌ عليه.
(زينب امرأة عبد الله) هي: زينب بنت معاوية. وقيل: بنت أبي معاوية. وقيل: بنت عبد الله بن معاوية بن عتاب بن الأسعد بن غاضرة بن خطيط بن قسي – وهو ثقيف- وقيل: اسمها رائطة. (البحر المحيط الثجاج 19/ 279) قال ابن حجر:” قال في “الفتح”: ويقال لها أيضا: رائطة، وقع ذلك في “صحيح ابن حبان” في نحو هذه القصة، ويقال: هما اثنان عند الأكثرين، وممن جزم به ابن سعد، وقال الكلاباذي: رائطة هي المعروفة بزينب، وبهذا جزم الطحاوي، فقال: رائطة هي زينب، لا يعلم أن لعبد الله امرأة في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيرها.” (فتح الباري)
قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر النساء تصدقن) والمعشر: الجماعة الذين صفتهم واحدة. (شرح مسلم للنووي)
(ولَو مِن حُلِيِّكُنَّ) قال القاضي:” وَهُوَ مَا تتحلى بِهِ الْمَرْأَة وتتزين يُقَال بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون اللَّام وبضم الْحَاء وَكسرهَا مَعَ كسر اللَّام وَقد قرئَ بهما جَمِيعًا. ” (مشارق الانوار 1/ 198)
(إنك رجل خفيف ذات اليد) كناية عن الفقر، وقلة المال. (البحر المحيط الثجاج) وكانت إمرأته صانعة، تصنع وتبيع في البيت.
(فإنْ كان ذلك يُجْزِئُ عنِّي) قال الفيومي رحمه الله”: جزى الأمر يجزي جزاء، مثل قضى يقضي قضاء وزنا ومعنى، وفي التنزيل: {يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} الآية [البقرة: 48]، وفي الدعاء: “جزاه الله خيرا”؛ أي: قضاه له، وأثابه عليه، وقد يستعمل أجزأ بالألف والهمز بمعنى جزى، ونقلهما الأخفش بمعنى واحد، فقال: الثلاثي من غير همز لغة الحجاز، والرباعي المهموز لغة تميم” (المصباح المنير 1/ 100)
(فاتِه فاسأَلْهُ، فإنْ كان ذلك يُجْزِئُ عنِّي وَإِلاَّ صَرَفُتَهَا إِلى غَيركُمْ.) في رواية البخاري: “وكانت زينب تنفق على عبد الله، وأيتام في حجرها، فقالت لعبد الله: سل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيجزئ عني أن أنفق عليك، وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- … وفي رواية النسائي: “أيسعني أن أضع صدقتي فيك، وفي بني أخ لي، يتامى؟ “، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حجرها.
(بل ائتيه أنت) قيل: سبب امتناع ابن مسعود -رضي الله عنه- عن السؤال ما بين بعد هذا في قولها: “وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد ألقيت عليه المهابة”، فكما أن زينب هابت أن تسأله فكذلك عبد الله هاب أن يسأله، وقيل: لعل امتناعه لأن سؤاله ينبئ عن الطمع، والأول أظهر، والله تعالى أعلم. (البحر المحيط الثجاج 19/ 279) وقيل: ابن مسعود يُعرف والمرأة لا تعرف.
(فإذا امرأة) “إذا” هي الفجائية؛ أي: ففاجأني وجود امرأة. (البحر المحيط) وفي رواية النسائي: “فإذا امرأة من الأنصار، يقال لها: زينب، تسأل عما أسأل عنه”، وزينب هذه هي امرأة أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري -رضي الله عنه-، ففي رواية النسائي في “عشرة النساء” من طريق علقمة، عن عبد الله، قال: انطلقت امرأة عبد الله، وامرأة أبي مسعود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كل واحدة تكتم صاحبتها أمرها.
(وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَدْ أُلقِيتْ علَيهِ المهابةُ) قال الزبيدي صاحب تاج العروس:” نقل شيخُنا عن ابنِ قَيِّم الجَوْزِيَّةِ، فِي الفرْق بين المَهَابَة والكِبْر، ما نَصُّه: بانّ المَهابةَ أَثرُ امتلاءِ القلبِ بمهابةِ الرَّبّ ومحبَّته، وإِذا امتلأَ بذلك، حلَّ فيه النُّورُ، ولَبِس رِداءَ الهَيْبة، فاكتسَى وَجهُهُ الحَلاوةَ والمَهَابَةَ فحَنَّت إِليهِ الأَفئدةُ، وقَرَّتْ بها العُيُونُ. وأَمّا الكِبْرُ، فهو أَثَرُ العُجْبِ في قلْبٍ مملوءٍ جهلاً وظُلُمات، رانَ عليه المَقْتُ، فنَظَرُه شَزْرٌ، ومِشْيتُهُ تَبخْتُرٌ، لا يبْدأُ بسَلام، ولا يَرى لِأَحدٍ حَقّاً عليه، ويَرى حَقَّهُ على جميع الأَنامِ، فلا يزدادُ من اللهِ إِلّا بُعْداً، ولا من النّاس إِلا حَقاراً وبُغْضاً.” (تاج العروس 2/ 499)
قال ابن عثيمين:” كان النبي صلى الله قد أعطاه الله المهابة العظيمة، وكل من رآه هابه، لكنه من خالطه معاشرةً أحبه وزالت عنه الهيبة” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 194)
(فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أي الزيانب؟ “) وإنما لم يقل: “أية” بالتأنيث؛ لأنه يجوز التذكير والتأنيث، كما قال الله تعالى: {بأي أرض تموت} [لقمان: 34]
قال ابن علان:” (قالت: فدخل بلال على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسأله، فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله) كذا فيما وقفت عليه من نسخ الرياض، وفيه حذف، ولفظ مسلم الذي ساق المصنف الحديث بلفظه «فسأله فقال له رسول الله: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال له رسول الله: أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد ا» ولفظ البخاري «فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب فقال: أي الزيانب؟ فقيل: امرأة ابن مسعود» ” دليل الفالحين 529/ 1)
قوله: (وعلى أيتام في حجورهما) وشبه ذلك مما يكون لكل واحد من الاثنين منه واحد. (شرح مسلم للنووي) قال ابن حجر:” في رواية الطيالسي المذكورة أنهم بنو أخيها وبنو أختها وللنسائي من طريق علقمة لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها أيتام” (فتح الباري 3/ 329)
قولهما: (ولا تخبر من نحن) ثم أخبر بهما، قال النووي:” قد يقال: إنه إخلاف للوعد، وإفشاء للسر. وجوابه: أنه عارض ذلك جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم لا يجوز تأخيره، ولا يقدم عليه غيره، وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها. ” (شرح مسلم للنووي 7/ 87)
قال القرطبي رحمه الله: ليس إخبار بلال -رضي الله عنه- بالسائلتين اللتين استكتمتاه من هما بكشف أمانة سر؛ لوجهين:
[أحدهما]: أن بلالا فهم أن ذلك ليس على الإلزام، وإنما كان ذلك منهما على أنهما رأتا أنه لا ضرورة تحوج إلى ذلك.
[الثاني]: أنه إنما أخبر بهما جوابا لسؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرأى أن إجابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهم، وأوجب من كتمان ما أمرتاه به.
وهذا كله بناء على أنهما أمرتاه به، ويحتمل أن يكون سؤالا للإسراع، ولا يجب إسعاف كل سؤال.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة). فيه: الحث على الصدقة على الأقارب، وصلة الأرحام وأن فيها أجرين.
قال النووي:” وهذا المذكور في حديث امرأة ابن مسعود والمرأة الأنصارية، من النفقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما ونفقة أم سلمة على بنيها، المراد به كله صدقة تطوع، وسياق الأحاديث يدل عليه.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن عثيمين:” قال: إن صدقتهما على هؤلاء صدقة وصلة، يعني فيها أجران: أجر
الصدقة، وأجر الصلة؛ فدل ذلك على أنه يجوز للإنسان أن يتصدق على أولاده عند الحاجة، ويتصدق على زوجته، وكذلك الزوجة تتصدق على زوجها، وأن الصدقة عليهم صدقة وصلة، أما الزكاة فإن كان مما يجب على الإنسان أن يدفعه فإنه لا يصح أن يدفع إليهم الزكاة، مثل لو كانت الزكاة لدفع حاجتهما من نفقة، وهو ممن تجب عليه النفقة، وماله يتحمل، فإنه لا يجوز له أن يعطيهما من الزكاة، أما إذا كان ممن لا يجب عليه، كما لو قضى ديناً عن أبيه أو عن ابنه أو زوجته، أو قضت ديناً على زوجها فإن ذلك لا بأس به إذا كان المدين حياً، أما إذا كان المدين ميتاً فلا يقضي عنه إلا تبرعاً، أو من التركة، ولا يقضي عنه من الزكاة.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 195)
قال النووي:” فيه: أمر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفعال الخير، ووعظه النساء إذا لم يترتب عليه فتنة.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” فيه الحث على صلة الرحم وجواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها وفيه عظة النساء وترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء والتحدث مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة” (فتح الباري 3/ 330)
333 – وعن أَبي سُفْيان صخْر بنِ حربٍ رضي اللَّه عنه في حدِيثِهِ الطَّويل في قصَّةِ هِرقل أَنَّ هِرقْلَ قَالَ لأَبي سفْيان: فَماذَا يامُرُكُمْ بِهِ؟ يَعْني النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: قُلْتُ: يقولُ:”اعْبُدُوا اللَّهَ وَحدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، واتْرُكُوا مَا يقُولُ آباؤُكمْ، ويامُرُنَا بالصَّلاةِ، والصِّدْقِ، والعفَافِ، والصِّلَةِ”متفقٌ عَلَيهِ.
مر معنا هذا الحديث في باب الصدق، وفيه عظم شأن صلة الأرحام و أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى صلة الأرحام في أول دعوته، وقرن ذلك بالدعوة إلى التوحيد.
334 – وعن أَبي ذر رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “إِنَّكُم ستفْتَحُونَ أَرْضاً يُذْكَرُ فِيهَا القِيرَاطُ”.
وفي روايةٍ: “ستفْتحُونَ مصْر وهِي أَرْضٌ يُسَمَّى فِيها القِيراطُ، فَاستَوْصُوا بِأَهْلِها خيْراً، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمة ورحِماً”.
وفي روايةٍ: “فإِذا افْتتَحتُموها، فَأَحْسِنُوا إِلى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لهُم ذِمَّةً ورحِماً “أَو قَالَ “ذِمَّةً وصِهراً” رواه مسلم.
قَالَ العُلَماءُ: الرَّحِمُ الَّتي لهُمْ كَوْنُ هَاجَر أُمُّ إِسْماعِيلَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مِنْهمْ.”والصِّهْرُ”: كونُ مارِية أُمِّ إِبراهِيمَ ابنِ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم منهم.
والحديث من أفراد مسلم، وفي هذا الحديث أن الرحم لهم صلة ولو كانوا بعيدين، وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ. (الصحيحة 276)
قوله (قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “إِنَّكُم ستفْتَحُونَ أَرْضاً) قال ابن علان:” هو من الإخبار بالمغيبات، فهو من جملة الإعجاز، وقد وقع كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم” (دليل الفالحين 1/ 530)
قوله (القيراط) قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، (شرح مسلم للنووي) قال القرطبي – رحمه الله -: ومعنى يسمى فيها القيراط: يعني به: أنه يدور على ألسنتهم كثيرا، وكذلك هو؛ إذ لا ينفك متعاملات من أهل مصر عن ذكره غالبا؛ لأن أجزاء الدنيا الأربعة والعشرين يسمونها: قراريط، وقطع الدراهم يسمونها: قراريط، بخلاف غيرهم من أهل الأقاليم، فإنهم يسمون ذلك بأسماء أخر، فأهل العراق يسمون ذلك: طسوجا ورزة، وأهل الشام: قرطيس، ونحو ذلك” (المفهم)
الفدان 24 قيراط و القيراط 24 سهم
قال في “المعتصر”: ليس المراد قيراط الدرهم والمثقال المعروف في كلام الناس، ولا الذي ورد في الحديث في أجر المصلي على الجنازة المشيع لها، وفي وزر مقتني الكلاب، وإنما المراد به السب، من قولهم: أعطيت فلانا قرار يطه، إذا سمع منه ما يكره، وأجابه بما يكرهه، ويحذر بعضهم بعضا، فيقول: اذهب عني لا أعطيك قرار يطك؛ يعني: سبابك، وإسماعك المكروه، ولا يعرف هذا أهل مدينة سوى أهل مصر، فكان الإخبار بهذا علما من أعلام النبوة. (المعتصر من المختصر للملطي 1/ 218)
قوله (مصر) سميت باسم أول من سكنها وهو مصر بن بنصر بن سام بن نوح. وحدّها طولاً من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، ومسافة ذلك قريب من أربعين يوماً، وعرضاً من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوماً. (دليل الفالحين 1/ 530)
(ذِمة) وأما الذمة فهي الحرمة والحق، وهي هنا بمعنى الذمام، (شرح مسلم للنووي)
قوله (رحما) وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم. (شرح مسلم للنووي)
قال ابن الأثير: معنى قوله: “فإن لهم ذمة ورحما”: أي: أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام كانت قبطية من أهل مصر. (النهاية)
قال القرطبي:” الذمة: الحرمة. والذمام: الاحترام، وقد يكون ذلك لعهد سابق كعهد أهل الذمَّة، وقد يكون ذلك ابتداء إكرام، وهذا هو المراد بالذمة هنا، والله تعالى أعلم، إذ لم يكن لأهل مصر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد سابق، وإنما أراد: أن لهم حقًّا لرحمهم، أو صهرهم، ويحتمل أن يكون معناه: أنهم يكون لهم عهد بما يعقد لهم من ذلك حين الفتح” (المفهم)
وفيه رواية (ذمة وصهرا) الفيومي – رحمه الله -: الصهر: جمعه أصهار، قال الخليل: الصهر: أهل بيت المرأة، قال: ومن العرب من يجعل الأحماء، والأختان جميعا أصهارا، وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء، ذوي المحارم، وذوات المحارم، كالأبوين، والإخوة، وأولادهم، والأعمام، والأخوال، والخالات، فهؤلاء أصهار زوج المرأة، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضا،
قال ابن علان:” (قال العلماء: الرحم التي لهم) أي في الحديث (كون هاجر أم إسماعيل) بن إبراهيم (صلى الله عليه) وعليه (وسلم منهم) أي من مصر، لأنها أعطاها الجبار لسارة امرأة إبراهيم علي السلام لما منعته يد القدرة عنها فأعطتها سارة إبراهيم فحملت منه إسماعيل (والصهر كون مارية أم إبراهيم ابن) سيدنا وسيد الخلق أجمعين (رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منهم) لأن المقوقس صاحب مصر لما كاتبه النبيّ يدعوه إلى الإسلام لم يسلم، وأرسل بهدية إلى النبيّ منها مارية وسيرين فحملت مارية بإبراهيم، وأعطى سيرين لحسان بن ثابت الأنصاري.” (دليل الفالحين 1/ 530)
قال ابن باز:” وأراد بالصهر والرحم إبراهيم ابنه عليه الصلاة والسلام، فإن إبراهيم أمه مارية المصرية، فالمقصود أن القرابة توصل وتحسن إلى أهلها، وهكذا المعاهدون والمستأمنون من غير المسلمين لفقرهم أو لقرابتهم أو لتأليفهم يحسن إليهم” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 23)
قال ابن عثيمين:” إن لهم رحما وصهراً، وذلك أن هاجر أم إسماعيل سرية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام كانت من مصر، ولهذا قال ((إن لهم صهراً ورحماً))؛ لأنهم أخوال إسماعيل، وإسماعيل هو أبو العرب المستعربة كلها.
فدل ذلك على أن الرحم لها صلة ولو كانت بعيدة. ما دمت تعرف أن هؤلاء من قبيلتك فلهم الصلة ولو كانوا بعداء.
ودل أيضاً على أن صلة القرابة من جهة الأم كصلة القرابة من جهة الأب.
قال القرطبي:” فيه من الفقه: الأمر بالرفق بأهل أرياف مصر، وصعيدها، والإحسان إليهم” (المفهم)
335 – وعن أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه قَالَ: لما نزلَتْ هذِهِ الآيَةُ: {وَأَنْذِرعشِيرتكَ الأَقربِينَ} [الشعراء: 214] دعا رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قُرَيْشَا فاجْتَمعُوا فَعَمَّ، وخَصَّ وَقالَ: “يَا بَني عبدِ شَمسٍ، يا بَنِي كَعْب بنِ لُؤَي، أَنقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كْعبٍ، أَنْقِذُوا أَنفُسَكُمْ مِن النَّار، يَا بَنِي عبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَني هاشِمٍ أَنقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بني عبْدِ المطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِن النَّارِ، يَا فاطِمَة أَنْقِذي نفْسَكَ منَ النَّار، فَإِني لا أَمْلِكُ لَكُمْ منَ اللَّه شيْئاً، غَيْر أَنَّ لَكُمْ رحِماً سأَبلُّهَا بِبِلالِها” رواه مسلم.
قوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:”بِبِلالِهَا”هُوَ بفتحِ الباءِ الثَّانِيةِ وكَسرهَا”والبِلالُ”الماءُ. ومعنى الحديث: سأَصِلُهَا، شبَّهَ قَطِيعَتَهَا بالحرارةِ تُطْفَأُ بالماءِ وهذِهِ تُبَرَّدُ بالصِّلةِ.
قوله (عن أبي هريرة) وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، قال ابن حجر”: هذا يعتبر من مراسيل الصحابة، وبذلك جزم الإسماعيلي؛ لأن أبا هريرة – رضي الله عنه – إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصة وقعت بمكة، وابن عباس كان حينئذ إما لم يولد، وإما طفلا، ويؤيد الثاني نداء فاطمة، فإنه يشعر بأنها كانت حينئذ بحيث تخاطب بالأحكام، يحتمل أن تكون هذه القصة وقعت مرتين … ” (فتح الباري) ثم ذكر روايات في ذلك.
قوله (لما نزلَتْ هذِهِ الآيَةُ: {وَأَنْذِرعشِيرتكَ الأَقربِينَ}) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:” قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ، أَيِ: الْأَدْنَيْنَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلِّص أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا إيمانهُ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ” (تفسير ابن كثير)
قوله (دعا رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قُرَيْشَا) قال ابن علان:” هم ولد النضر بن كنانة على الصحيح (دليل الفالحين 1/ 531) قال ابن حجر “: نداؤه – صلى الله عليه وسلم – قبائل قريش قبل عشيرته الأدنين؛ ليكرر إنذار عشيرته، ولدخول قريش كلها في أقاربه، ولأن إنذار العشيرة يقع بالطبع، وإنذار غيرهم يكون بطريق الأولى.” (فتح الباري)
قوله (فاجْتَمعُوا فَعَمَّ، وخَصَّ) (فاجتمعوا، فعم) أي عمهم بالإنذار، يقال: عمهم بكذا: أي شملهم (وخص) أي خص من كان أهلا لذلك بالخطاب والنداء، والمعنى: أنه – صلى الله عليه وسلم – عم قريشا بالدعوة وشملها، فقال: يا معشر قريش، وخص بعض بطونها، فقال: يا بني كعب … إلخ، فالفاء في قوله: “فعم” للتفصيل، مثلها قوله: “توضأ، فغسل وجهه … إلخ”. (فتح الباري)
قوله صلى الله عليه وسلم: (يا بني كعب بن لؤي) قال صاحب ” المطالع “: لؤي يهمز ولا يهمز، والهمز أكثر. (شرح مسلم للنووي) وهو ابن غالب بن فهر
(يَا بَنِي عبْدِ مَنَافٍ) ” قال ابن علان:” بكسر دال عبد لأنه مركب إضافي ومناف محول عن منات اسم لصنم. قال السهيلي في «الروض الأنف»: كانت أمه قد أخدمته منات وكان صنماً عظيماً لهم وكان يسمى عبد منات، ثم نظر قصيّ فرآه يوافق عبد مناف بن كنانة فحوله عبد مناف. ذكره البرقي والزبير” (دليل الفالحين 1/ 532)
(يا بني هاشم) لقب به لهشمه الثريد لقومه، واسمه عمرو (دليل الفالحين)
(يَا بني عبْدِ المطَّلِبِ) قال ابن علان:” المطلب جد الإمام الشافعي لما جاء به من المدينة مردفاً له على راحلته وعليه ثياب بذلة، فكان إذا سئل عنه يقول: عبدي، حتى ألبسه، قال ابن أخي؛ فغلب عليه ذلك، واسمه كما قال السهيلي: شيبة.” (دليل الفالحين 1/ 532)
(أنقذوا أنفسكم) من الإنقاذ أي خلصوها (تحفة الأحوذي) قال الأتيوبي:” (أنقذوا أنفسكم من النار) أمر من الإنقاذ رباعيا: أي خلصوها من النار بترك أسبابها، والاشتغال بأسباب الجنة.
وفي الرواية الآتية: “اشتروا أنفسكم من الله”: أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة، وأما قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} الآية [التوبة: 111]، فهناك المؤمن بائع، باعتبار تحصيل الثواب، والثمن الجنة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حق طاعته في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وفى ما عليه من الثمن، وبالله تعالى التوفيق.” (البحر المحيط الثجاج 5/ 415)
قوله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة، أنقذي نفسك) هكذا وقع في بعض الأصول ” فاطمة ” وفي بعضها أو أكثرها: ” يا فاطم ” بحذف الهاء على الترخيم، وعلى هذا يجوز ضم الميم وفتحها كما عرف في نظائره. (شرح مسلم للنووي) قال ابن عثيمين:” يعدهم أفخاذاً أفخاذاً حتى وصل إلى ابنته فاطمة، قال: ((يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئاً)) وهذا من الصلة.” (شرح رياض الصالحين 3/ 198)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإني لا أملك لكم من الله شيئا) أي: لا أقدر على دفع عذابه عن أحد، ولا على جلب ثواب لأحد، أي: فلا ينفع القرب في الأنساب مع البعد في الأسباب. (المفهم)
قال النووي:” معناه: لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم. (شرح مسلم للنووي) قال المباركفوري:” (فإني لا أملك لكم) أي لجميعكم خاصكم وعامكم” (تحفة الأحوذي) وفي رواية الترمذي (فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا) أي من غير إذنه تعالى، قال ترهيبا وإنذارا وإلا فقد ثبت فضل بعض هؤلاء المذكورين ودخولهم الجنة وشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل بيته وللعرب عموما ولأمته عامة وقبول شفاعته فيهم بالأحاديث الصحيحة، ويمكن أن يكون ورود تلك الأحاديث بعد هذه القضية. قاله الطيبي (تحفة الأحوذي)
قال ابن باز:” أوضح لهم عليه الصلاة والسلام أنه لا يغني عنهم من الله شيئا وإن كانوا أقارب، وأمرهم بأن يشتروا أنفسم من الله بالدخول في الإسلام والإستقامة على أمر الله وقبول الحق، هذا هو طريق النجاة وهذا هو طريق السعادة ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 23)
وفي الحديث (من بطّأ به عملُهُ، لم يُسرِعْ به نَسبُه)
قوله صلى الله عليه وسلم: (غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) ضبطناه بفتح الباء الثانية وكسرها، وهما وجهان مشهوران ذكرهما جماعات من العلماء، قال القاضي عياض: رويناه بالكسر، قال: ورأيت للخطابي أنه بالفتح، وقال صاحب ” المطالع “: رويناه بكسر الباء وفتحها من بله يبله، والبلال الماء، ومعنى الحديث: سأصلها، شبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه: ” بلوا أرحامكم ” أي: صلوها. (شرح مسلم للنووي) البلال جمع البلل والعرب يطلقون النداوة على الصلة كما يطلق اليبس على القطيعة؛ لأنهم لما رأوا أن بعض الأشياء يتصل بالنداوة ويحصل بينها التجافي والتفريق باليبس استعاروا البلل لمعنى الوصل واليبس لمعنى القطيعة، والمعنى أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا. (تحفة الأحوذي نقلا عن صاحب النهاية)
قال ابن عثيمين:” بين أن لهم رحماً سيبلها ببلالها، أي سيبلها بالماء؛ وذلك لأن قطيعة الرحم نار والماء يطفئ النار، وقطيعة الرحم موت والماء به الحياة، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ) [الأنبياء: 30]، فشبه الرسول صلى الله عليه وسلم صلة الرحم بالماء الذي يبل به الشيء.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 198)
(غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) يعني: قرابة سوف أصلها؛ لأن صلة الرحم بلال لها والقطيعة لها حرارة ولها آلام والصلة تبلها تطفئ الحرارة وتقرب القلوب ويحصل بها من الترغيب في الإسلام والدعوة إليه ما هو معلوم عند كل من عقل ذلك؛ ولهذا فرض الله سبحانه للمؤلفة قلوبهم حقاً في الزكاة؛ لأن المال له شأنه في تأليف القلوب وتقريبها وترغيبها في الإسلام، وأعظم ذلك أنه أوصاهم بالحق وبلغهم الرسالة، هذا من النصح لهم ووصيتهم بالحق وأمرهم بالحق، هذا من أعظم الصلة ومن أعظم الإحسان أن الله أوصاهم بالحق وأمرهم به، وأخبرهم بأن قرابتهم منه لا تنفعهم ولا تغني عنهم من الله شيئاً إذا لم يسلموا وينقادوا للحق.
فهذا عمه أبو لهب مات على دين قومه وصار إلى النار هو وزوجته، وكذلك عمه أبو طالب، وهذا أبو إبراهيم ? آزر صار إلى النار لم تنفعه قرابته من ابنه إبراهيم عليه السلام لما مات على الكفر بالله، وهذا ولد نوح كذلك هلك مع الغارقين إلى النار لم تنفعه قرابته من نوح عليه السلام فالنجاة والسعادة والقربة من الله بطاعته واتباع شريعته، لا بالقرابات والصحبة والصداقة. (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 24)
336 – وعن أَبي عبد اللَّه عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قَالَ: سمعتُ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم جِهاراً غيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: “إِنَّ آلَ بَني فُلانٍ لَيُسُوا بأَوْلِيائي إِنَّما وَلِيِّي اللَّهُ وصالحُ المؤْمِنِين، ولَكِنْ لَهُمْ رحِمٌ أَبُلُّها بِبِلالِها” مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. واللَّفظُ للبخاري.
قوله: (جهارا غير سر) فمعناه علانية لم يخفه بل باح به وأظهره وأشاعه، ففيه التبرؤ من المخالفين وموالاة الصالحين والإعلان بذلك ما لم يخف ترتب فتنة عليه (شرح مسلم للنووي) قال ابن حجر:” يحتمل أن يتعلق بالمفعول، أي: كان المسموع في حالة الجهر، ويحتمل أن يتعلق بالفاعل، أي: أقول ذلك جهارا. وقوله: (غير سر “، تأكيد لذلك لدفع توهم أنه جهر به مرة وأخفاه أخرى، والمراد: أنه لم يقل ذلك خفية، بل جهر به وأشاعه. (فتح الباري)
قوله (إِنَّ آلَ بَني فُلانٍ) قال القرطبي:” هذا كناية عن قومٍ معينين كره الراوي تسميتهم؛ لما يُخاف ممّا يقع في نفوس ذراريهم المؤمنين.” (المفهم 1/ 461)
قال النووي:” هذه الكناية بقوله: يعني فلانا، هي من بعض الرواة خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة إما في حق نفسه، وإما في حقه وحق غيره، فكنى عنه، والغرض إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: ” إنما وليي الله وصالح المؤمنين “، ومعناه: إنما وليي من كان صالحا وإن بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وإن كان نسبه قريبا، قال القاضي عياض رضي الله عنه: قيل: إن المكنى عنه ههنا هو ” الحكم بن أبي العاص “. والله أعلم. (شرح مسلم للنووي) قال ابن حجر سياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قريش، بل فيه إشعار بأنهم أخص من ذلك؛ لقوله: ” إن لهم رحما ” (فتح الباري)
وقال ايضا:” قلت: قال أبو بكر بن العربي في ” سراج المريدين “: كان في أصل حديث عمرو بن العاص: ” أن آل أبي طالب “، فغير: ” آل أبي فلان “، كذا جزم به، وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع عليه ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب، ولم يصب هذا المنكر؛ فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في ” مستخرج أبي نعيم ” من طريق الفضل بن الموفق، عن عنبسة بن عبد الواحد، بسند البخاري عن بيان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن عمرو بن العاص، رفعه: “إن لبني أبي طالب رحما أبلها ببلالها”، وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضا، لكن أبهم لفظ “طالب”، وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل أبي طالب، وليس كما توهموه. (فتح الباري)
قال الأتيوبي: حمله على آل أبي طالب، كما يراه الحافظ عندي محل نظر؛ إذ الدليل الذي استدل به عليه ليس واضحا في هذا، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال ابن حجر:” قوله: (ليسوا بأوليائي)، كذا للأكثر، وفي نسخة من رواية أبي ذر: ” بأولياء “، فنقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم، أي: فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا: المجموع لا الجميع. وقال الخطابي: الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين. ورجح ابن التين الأول، وهو الراجح فإن من جملة آل أبي طالب عليا وجعفرا، وهما من أخص الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين،
قال ابن باز:” إِنَّ آلَ بَني فُلانٍ لَيُسُوا بأَوْلِيائي ” لكفرهم.
قال القاضي عياض – رحمه الله -: دل الحديث على أن الولاية في الإسلام إنما هي بالموافقة فيه بخصال الديانة، وزمام الشريعة، لا بامتشاج النسب، وشجنة الرحم. (اكمال المعلم)
وقال القرطبي – رحمه الله -: فائدة الحديث انقطاع الولاية في الدين بين المسلم والكافر، ولو كان قريبا حميما.
هذا الذي قالاه أصل عظيم من أصول الدين، وهو من لوازم كلمة التوحيد، وهو المعبر عنه بالولاء والبراء، أو الموالاة والمعاداة في الله – عز وجل -، وأصل الموالاة المحبة والقرب، وأصل المعاداة البغض والبعد، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح أمور كثيرة من صميم هذا الدين، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، والإكرام، والاحترام، والكره، والعداوة، فيجب على المؤمن محبة الله، ورسله، وأتباعهم، وبغض أعداء الله، وأعداء الرسل، وأتباعهم، وقد تجتمع في المؤمن أسباب المحبة والبغض بقدر ما فيه من خصال الخير والشر.
ومسمى الموالاة لأعداء الله تعالى يقع على شعب كثيرة متفاوتة الأحكام، فمنها ما يوجب الردة، وذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما دون ذلك، من الكبائر والمحرمات، وكذا معاداة المؤمنين المستقيمين على دين الله تعالى.
قوله (ولَكِنْ لَهُمْ رحِمٌ أَبُلُّها بِبِلالِها) ذكرنا معناه في الحديث السابق
قال ابن باز:” القرابة توصل وإن كانت من كافر إذا لم يمكن حربا لنا، إذا كان في عهد أمن وفي عهد ذمة يوصل ترغيبا له في الإسلام ودعوة إلى الإسلام كما سمعتم في قوله جل وعلا ((لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) أما الحربيون فلا يوصلون بشيء أبدا حتى يسلموا ليس بيننا وبينهم إلا السيف والقتال حتى يسلموا
337 – وعن أَبي أَيُّوب خالدِ بن زيدٍ الأنصاري رضي اللَّه عنه أَن رجلاً قَالَ: يَا رسولَ اللَّه أَخْبِرْني بِعملٍ يُدْخِلُني الجنَّةَ، وَيُبَاعِدني مِنَ النَّارِفقال النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:”تعبُدُ اللَّه، وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وتَصِلُ الرَّحِم” متفقٌ عَلَيهِ.
جاء في رواية مسلم عن مُوسَى بْن طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ – أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ – أَوْ يَا مُحَمَّدُ – أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ»، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعِ النَّاقَةَ»
(قوله: أَن رجلاً)، و جاء في رواية مسلم كما مر (أن أعرابيا) قال ابن الأثير: هم ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار، ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية، أو المدن، والنسب إليهما: أعرابي، وعربي.”
قال ابن حجر:” قوله: (أن رجلا) هذا الرجل حكى ابن قتيبة في ” غريب الحديث ” له أنه أبو أيوب الراوي، وغلطه بعضهم في ذلك فقال: إنما هو راوي الحديث. وفي التغليط نظر، إذ لا مانع أن يبهم الراوي نفسه لغرض له، ولا يقال يبعد، لوصفه في رواية أبي هريرة التي بعد هذه بكونه أعرابيا، لأنا نقول: لا مانع من تعدد القصة فيكون السائل في حديث أبي أيوب هو نفسه لقوله أن رجلا، والسائل في حديث أبي هريرة أعرابي”
(أَخْبِرْني بِعملٍ يُدْخِلُني الجنَّةَ، وَيُبَاعِدني مِنَ النَّارِ) سؤال عظيم، قال الأتبوبي:” فيه ما كان عليه الصحابة – رضي الله عنهم – من شدة الحرص والرغبة إلى الجنة، والبحث عما يكون سببا في دخولها، وهذا هو اللائق بالعاقل، فلا ينبغي له أن يشغل نفسه بغير ذلك من الزخارف الفانية، فدخول الجنة هو الفوز العظيم، كما قال الله عز وجل: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [آل عمران: 185]. (البحر المحيط)
قوله (تعبد الله) قال العيني رحمه الله تعالى: قوله: “تعبد الله” أي توحده، وفسره بقوله: “لا تشرك به شيئا”، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)} [الذاريات: 56]، أي ليوحدوني.
قال الأتيوبي:” والتحقيق هنا أن العبادة: الطاعة مع الخضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى، والإقرار بوحدانيته، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وما بعدها لإدخالها في الإسلام، وإنما لم تكن دخلت في العبادة، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة مطلق الطاعة، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وما بعدها من باب عطف الخاص على العام؛ تنبيها على شرف هذه الأشياء، ومزيتها.” (البحر المحيط)
وقوله: (لا تشرك به شيئا) جملة في محل نصب على الحال من فاعل “تعبد”، وإنما أتى به بعد ذكر العبادة؛ لأن عبادة الكفار كانت مع عبادة الأوثان والأصنام، يزعمون أنها شركاء، فنفى ذلك.
(وتقيم الصلاة) أي تديم فعلها، وتحافظ عليها على الوجه المطلوب، قال الراغب الأصبهاني رحمه الله تعالى: إقامة الشيء: إدامة فعله، والمحافظة عليه، وتوفية حقه، قال الله تعالى: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 68]، أي: توفون حقوقهما بالعلم والعمل، وكذلك قوله تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} الآية [المائدة: 66]، ولم يأمر الله تعالى بالصلاة حيثما أمر، ولا مدح حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة؛ تنبيها أن المقصود منها توفية شرائطها، لا الإتيان بهيئتها، نحو قوله تعالى: {أقيموا الصلاة} [الأنعام: 72] في غير موضع، {والمقيمين الصلاة}
(وتوتي الزكاة) أي تعطي الزكاة مستحقها، فالمفعول الثاني محذوف، والمراد بالزكاة المفروضة؛ لما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الآتي: “وتؤدي الزكاة المفروضة”. (البحر المحيط)
قوله صلى الله عليه وسلم: (وتصل الرحم) هذا الشاهد، قال النووي:” أي تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من إنفاق، أو سلام أو زيارة أو طاعتهم أو غير ذلك. وفي الرواية الأخرى: ” وتصل ذا رحمك ” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” وخص هذه الخصلة من بين خلال الخير نظرا إلى حال السائل، كأنه كان لا يصل رحمه، فأمره به؛ لأنه المهم بالنسبة إليه. ويؤخذ منه تخصيص بعض الأعمال بالحض عليها بحسب حال المخاطب وافتقاره للتنبيه عليها أكثر مما سواها، إما لمشقتها عليه، وإما لتسهيله في أمرها.” (فتح الباري)
قال ابن باز:” جعل صلة الرحم قرينة لهذه الأمور العظيمة، فدل ذلك على عظم شأنها وأن الواجب على المؤمن أن يصلها ولا يقطعها كما قال الله عزوجل:” فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23).
وفي الصلة فوائد كثيرة: من التحاب والتآخي والمواساة وتآلف القلوب والتعاون على الخير (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 26)
قال ابن عثيمين:” جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الرحم من الأسباب التي تدخل الإنسان الجنة وتباعده عن النار” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 202)
وقال أيضا:” تصل الرحم؛ بأن تؤتيهم حقهم بالصلة حسب ما يتعارف الناس، فما أعده الناس صلة فهو صلة، وما لم يعدوه صلة فليس بصلة، إلا إذا كان الإنسان في مجتمع لا يبالون بالقرابات، ولا يهتمون بها، فالعبرة بالصلة نفسها المعتبرة شرعاً.” (شرح رياض الصالحين لابن عيثيمن 3/ 202)
338 – وعن سلْمان بن عامرٍ رضي اللَّه عنه، عن النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “إِذا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمرٍ، فَإِنَّهُ بركَةٌ، فَإِنْ لَمْ يجِد تَمْراً، فَالماءُ، فَإِنَّهُ طُهُورٌ” وَقالَ:” الصَّدقَةُ عَلَى المِسكِينِ صدقَةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وصِلَةٌ”.
رواه الترمذي وَقالَ: حديث حسن.
الشطر الأول من الحديث ضعفه العلماء، و الصحيح أنه من فعله وليس من قوله، قال النسائي:” هذا الحرف – فإنه بركة –لا نعلم أن أحد ذكره غير ابن عيينة ولا أحسبه بمحفوظ” وقال الألباني:” ضعيف، والصحيح من فعله صلى الله عليه وسلم” راجع الضعيفة (6383)
وأما فعله فصحيح جاء فيه حديث أنس عند الترمذي وأبوداود وأحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ.
وفي رواية ” كان إذا كان الرطب لم يفطر إلا على الرطب وإذ لم يكن الرطب لم يفطر إلا على التمر” (صحيح الجامع4770)
أما الشطر الثاني فقد مرَّ معنا، ” أَما إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيتِهَا أَخوالَكِ كَانَ أَعظَمَ لأجرِكِ ” وكذلك مرَّ معنا” أَعْظمُهَا أَجْراً الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ”
(فليفطر على تمر) اسم جنس جمعي فأقله ثلاثة، وهذا عند فقد الرطب، وإلا فهو مقدم عليه كما جاء من فعله ذلك. (دليل الفالحين لابن علان)
قال ابن باز:” السنة أن تفطر على رطبات إن تيسرت كما كان النبي يفعل، وإن لم تتيسر الرطب فالتمر، وإن لم تيسر فالماء، وإذا أفطر على شيء آخر مباح فلا بأس به لكن هذا أفضل” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 28)
(بركة) أي ذو بركة وخير كثير، أو أريد به المبالغة. قال الطيبي: أي فإن الإفطار على التمر فيه ثواب كثير وبركة. وفيه أنه يرد على عدم حسن المقابلة بقوله: (فإنه طهور)، قاله القاري. (تحفة الأحوذي المباركفوري)
قال ابن علان:” لما فيه من حفظ البصر وجمع ما تفرّق منه بالصوم، ومن أنه إذا وصل المعدة فإن وجد فيها فضلة من بقايا الطعام أخرجها وإلا كان غذاء. وقول الأطباء: يضعف البصر محمول على كثيره المضرّ دون قليله” (دليل الفالحين لابن علان 1/ 534)
(فإن لم يجد تمرا فالماء) أي فالماء كاف للإفطار أو مجزئ عن أصل السنة (تحفة الأحوذي للمباركفوري)
(فإنه طهور) أي بالغ في الطهارة فيبتدأ به تفاؤلا بطهارة الظاهر والباطن. قال الطيبي: لأنه مزيل المانع من أداء العبادة ولذا من الله تعالى على عباده (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) وقال ابن الملك: يزيل العطش عن النفس انتهى. ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام عند الإفطار، ذهب الظمأ. (تحفة الأحوذي)
قال ابن علان:” (فإنه طهور) أي مزيل للخبائث المعنوية والحسية. وأخذ من هذا الحديث لإطلاق الماء فيه ردّ ما قيل من تقديم زمزم لمن بمكة على التمر، فإن جمع بينهما فحسن، والترتيب المذكور للاستحباب، فلو أفطر بالماء مع وجود التمر حصل أصل سنة الإفطار على الماء” (دليل الفالحين لابن علان 1/ 535)
(الصدقة على المسكين صدقة) أي صدقة واحدة. (تحفة الأحوذي للمباركفوري)
(وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) يعني أن الصدقة على الأقارب أفضل لأنه خيران ولا شك أنهما أفضل من واحد. (تحفة الأحوذي للمباركفوري)
قال ابن علان:” أي فيها ثوابان جليلان، ثواب الصدقة وثواب صلة الرحم” (دليل الفالحين 1/ 535)
قال ابن باز:” الصدقات على الفقراء فيها فضل عظيم وأجر كبير، وإذا كان الفقراء من الأقارب صارت مضاعفة؛ يكون صاحبها له أجران: أجر الصدقة وأجر الصلة … فالمؤمن يتحرى في هذه الأمور ويتحرى ما هو أقرب إلى مرضاة الله – عزوجل – وما هو أكثر أجرا” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 28)
قال ابن عثيمين:” لهذا قال العلماء: إذا اجتمع فقيران أحدهما من قرابتك والثاني من غير قرابتك، فالذي من قرابتك أولى؛ لأنه أحق بالصلة.” (شرح رياض الصالحين 3/ 202)
339 – وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قَالَ: كَانَتْ تَحتي امْرأَةٌ، وكُنْتُ أُحِبُّها، وَكَانَ عُمرُ يكْرهُهَا، فَقَالَ لي: طَلِّقْها فأبيْتُ، فَأَتَى عَمرُ رضي اللَّه عنه النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَذَكر ذلكَ لَهُ، فَقَالَ النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:”طَلِّقْهَا “رواه أَبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث حسن، قال الألباني في الصحيحة:” قال الترمذي: ” حسن صحيح “. وأقول: بل هو حسن فقط … ” (الصحيحة 919)
340 – وعن أبي الدَّرْادءِ رضي اللَّه عنه أَن رَجُلاً أَتَاهُ فقال: إِنَّ لي امْرَأَةً وإِن أُمِّي تَامُرُني بِطَلاَقِها؟ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقولُ “الْوالِدُ أَوْسطُ أَبْوابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذلِك الْبابَ، أَوِ احفظْهُ” رواه الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيح. (الصحيحة 914)
ورواه ابن حبان في “صحيحه”، ولفظه: أنَّ رجلاً أتى أبا الدرداء فقال: إنَّ أبي لَمْ يَزلْ بي حتّى زوَّجني، وإنَّه الآن يأمُرني بِطَلاقِها. قال: ما أنا بالَّذي آمُرك أنْ تَعُقَّ والديك، ولا بالَّذي آمُركَ أَنْ تُطلِّقَ امرأَتَك، غيرَ أنَّك إنْ شئتَ حدَّثتُك بما سمعتُ مِنْ رسولِ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سمعتُه يقول:”الوالِدُ أوْسَطُ أبْوابِ الجنَّةِ”.
فحافظْ على ذلك البابِ إنْ شئْتَ، أوْ دَع، قالَ: فأحْسِبُ عطاءً قال: فَطَلَّقَها. (صحيح الترغيب)
روى الإمام أحمد عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: أوْصاني رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بعَشْرِ كلِماتٍ قال:”لا تُشْرِكْ بالله شيْئاً وإنْ قُتِلْتَ وحُرِّقْتَ، ولا تَعُقَّنَّ والديْكَ؛ وإنْ أَمراك أنْ تَخْرُجَ مِنْ أهْلِكَ ومَالِكَ” الحديث. (صحيح الترغيب2561)
وجاء في البخاري جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا.
ذهب الجمهور أنه مستحب، بشرط أن لا يكون عن تعنت أو اتباع هوى، وبه قال الشافعية والمعتمد عن الحنابلة وبعض الحنفية وبعض المالكية، معللين أنه حق خاص بالولد،
وقوله “ولا تَعُقَّنَّ والديْكَ؛ وإنْ أَمراك أنْ تَخْرُجَ مِنْ أهْلِكَ ومَالِكَ” حملوه على تأكيد حقهم والمبالغة فيه، ليس المقصود يطلق وإنما يكثر من إكرامهم،
وقالوا أن حديث أبي الدرداء فيه استحباب في قوله ” ولا بالَّذي آمُركَ أَنْ تُطلِّقَ امرأَتَك”
وقالوا أن الطلاق فيه ضرر ولا يجوز إلا بوجه حق.
جاء في طبقات الحنابلة أن رجلا سأل الإمام أحمد ” قَالَ: إن أبي يأمرني أن أطلق أمرأتي قَالَ: لا تطلقها قَالَ: أليس عُمَر أمر ابنه عَبْد اللَّهِ أن يطلق امرأته قَالَ: حتى يكون أبوك مثل عُمَر رضي الله عنه.” (طبقات الحنابلة 1/ 171)
سئل ابن تيمية في رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها؟ الجواب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها والله أعلم. (الفتاوى الكبرى 3/ 331)
وهناك قول أنه يطاع الأب دون الأم وهو رواية عن أحمد واختارها الخلال، قالوا لأن حديث ابن عمر في الأب، والأم قد يغلب عليها العاطفة، و الأم قد تنزل الزوجة منزلة الضرة وتغار منها.
القول الثالث الوجوب مطلقا، وبه قال الطحاوي والقرطبي والسكبي و الشوكاني والمباركفوري واستدول بحديث ابن عمر.
(كانت تحتي امرأة) قال ابن علان:” لم أقف على من سماها” (دليل الفالحين)
(فقال لي: طلقها. فأبيت) أي: امتنعت لأجل محبتي فيها. (عون المعبود)
قال المباركفوري:” فيه دليل صريح يقتضي أنه يجب على الرجل إذا أمره أبوه بطلاق زوجته أن يطلقها، وإن كان يحبها فليس ذلك عذرا له في الإمساك، ويلحق بالأب الأم لأن النبي قد بين أن لها من الحق على الولد ما يزيد على حق الأب. كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله من أبر؟ قال: ” أمك ” قلت ثم من؟ قال: ” أمك ” قلت ثم من؟ قال ” أمك ” قلت ثم من؟ قال ” أباك “. الحديث ” (تحفة الأحوذي للمباركفوري
قال ابن علان:” أمره بذلك لكراهته لها، والظاهر أنها دينية، أو خشي أن تجره إلى ضرر في دينه (فأبيت) أي لما لها من الحبّ عندي ” (دليل الفالحين)
(فقال النبيّ) من باب زيادة البر بالوالد (طلقها) والظاهر أنه طلقها لأنه لا يتخلف عن امتثال أمر النبيّ، وكأن السكوت على ذلك للعلم به من أحواله وكمال اتباعه المانع ذلك من خطور البال لمخالفة أمره. (دليل الفالحين)
قال ابن باز:” فإذا كان الأب جيداً خيراً صالحاً فإنه لا يأمره بطلاقها إلا لعلة، إذا أمره أبوه وأمه وهما طيبان او يعرف من المرأة إيذاؤهما وسوء الحال معهما؛ فالواجب طاعتهما في ذلك، أما إذا كان الأب ليس بذلك أو الأم ليست بذلك كرهاها لطاعتها واستقامتها فلا يطاعان في ذلك، إنما الطاعة في في المعروف» كما قال النبي ?: «إنما الطاعة في المعروف» وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله، فطلاق المرأة وتفريق البيت وترك الرجل من دون زوجة أمره عظيم، فلا يطع والديه في ذلك، إلا إذا كان الوالدان معروفين بالخير والاستقامة،” (شرح رياض الصالحين لاباز 2/ 27)
قال ابن عثيمين:” ليس كل والد يأمر ابنه بطلاق زوجته تجب طاعته؛ فإن رجلاً سأل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قال إن أبي يقول: طلق امرأتك، وأنا أحبها، قال: لا تطلقها، قال: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ابن عمر أن يطلق زوجته لما أمره عمر، فقال له الإمام أحمد: وهل أبوك عمر؟ لأن عمر نعلم علم اليقين أنه لن يأمر عبد الله بطلاق زوجته إلا لسبب شرعي، وقد يكون ابن عمر لم يعلمه؛ لأنه من المستحيل أن عمر بأمر ابنه بطلاق زوجته ليفرق بينه وبين زوجته بدون سبب شرعي. فهذا بعيد.
وعلى هذا فإذا أمرك أبوك أو أمك بأن تطلق امرأتك، وأنت تحبها ولم تجد عليها مأخذاً شرعياًَ، فلا تطلقها؛ لأن هذه من الحاجات الخاصة التي لا يتدخل أحد فيها بين الإنسان وبين زوجته.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 202)
أما الحديث الآخر فقوله (الوالد أوسط أبواب الجنة) قال القاضي أي خير الأبواب وأعلاها والمعنى أن أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنة ويتوسل به إلى وصول درجتها العالية مطاوعة الوالد ومراعاة جانبه، وقال غيره إن للجنة أبوابا وأحسنها دخولا أوسطها وإن سبب دخول ذلك الباب الأوسط هو محافظة حقوق الوالد انتهى. (تحفة الأحوذي)
قال السندي:” قوله (الوالد أوسط) أي سبب لدخول الولد من أحسن أبواب الجنة وقال السيوطي أوسط الأبواب أي خيرها” (حاشية ابن ماجه)
فالمراد بالوالد الجنس أو إذا كان حكم الوالد هذا فحكم الوالدة أقوى وبالاعتبار أولى (فأضع) فعل أمر من الإضاعة (ذلك الباب) بترك المحافظة عليه (أو احفظه) أي داوم على تحصيله. (تحفة الأحوذي)
قال السندي:” (فأضع) من الإضاعة وليس المراد التخيير بين الأمرين بل المراد التوبيخ على الإضاعة والحث على الحفظ مثل فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (حاشية ابن ماجه)
341 – وعن البراءِ بن عازبٍ رضي اللَّه عنهما، عن النَّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “الخَالَةُ بِمَنْزِلَة الأُمِّ” رواه الترمذي: وَقالَ حديثٌ حسن صحيح.
وفي الباب أَحاديث كِثيرة في الصحيح مشهورة، مِنْهَا حديث أَصحابِ الغارِ، وحديث جُرَيْجٍ وقَدْ سَبَقَا، وأَحاديث مشهورة في الصحيح حَذَفْتُهَا اخْتِصاراً، وَمِنْ أَهَمِّهَا حديثُ عمْرو بن عَبسَةَ رضي اللَّه عنه الطَّوِيلُ المُشْتَمِلُ عَلَى جُمَلٍ كَثيرةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الإِسْلامِ وآدابِهِ وَسَأَذْكُرُهُ بِتَمَامِهِ إِن شَاءَ اللَّه تَعَالَى في بابِ الرَّجَاءِ، قَالَ فِيهِ.
دَخَلْتُ عَلى النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِمَكَّةَ، يَعْني في أَوَّل النُبُوَّةِ، فقلتُ له: ما أَنتَ؟ قال: “نَبيٌّ”فقلتُ: ومانبيٌّ؟ قَالَ:”أَرسلَني اللَّهُ تَعَالَى، فقلتُ: بِأَيِّ شَيءٍ أَرْسلَك؟ قَالَ:”أَرْسلَني بِصِلةِ الأَرْحامِ، وكَسْرِ الأوثَانِ، وأَنْ يُوحَّدَ اللَّه لاَ يُشرَكُ بِهِ شَيءٌ” وذكر تَمامَ الحديث. واللَّه أعلم.
أصل الحديث في الصحيحين، فعَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. . . فَلَمَّا دَخَلَهَا، وَمَضَى الْأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ: اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ، يَا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ. حَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي. وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي. وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: ” الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ “.
روى الترمذي عن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رجلٌ، فقال: إني أذْنَبْتُ ذنْباً عظيماً، فهلْ لي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقال:”هل لك مِنْ أمٍّ؟ “. قال: لا. قال:”فهل لك مِنْ خالة؟ “. قال: نَعمْ. قال: “فَبِرَّها”. (صحيح الترغيب 2504) فيه أن صلة الرحم تكفر السيئات.
الترمذي بوب باب بر الخالة.
(وقال: الخالة بمنزلة الأم) قال الذهبي:” الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم أَي فِي الْبر وَالْإِكْرَام والصلة وَالْإِحْسَان” (الكبائر للذهبي ص43)
من جانبها في الشفقة والإكرام والرحمة والصلة ومن جانبك بالبر والإحسان والصلة كما تبر أمك.
قال ابن حجر:” أي في هذا الحكم الخاص؛ لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد لما دل عليه السياق، فلا حجة فيه لمن زعم أن الخالة ترث لأن الأم ترث، وفي حديث علي وفي مرسل الباقر ” الخالة والدة، وإنما الخالة أم ” وهي بمعنى قوله: بمنزلة الأم لا أنها أم حقيقية. ويؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء فهي مقدمة على غيرها، ويؤخذ منه تقديم أقارب الأم على أقارب الأب. وعن أحمد رواية أن العمة مقدمة في الحضانة على الخالة، وأجيب عن هذه القصة بأن العمة لم تطلب، فإن قيل: والخالة لم تطلب، قيل: قد طلب لها زوجها، فكما أن للقريب المحضون أن يمنع الحاضنة إذا تزوجت فللزوج أيضا أن يمنعها من أخذه، فإذا وقع الرضا سقط الحرج. (فتح الباري)
قال المباركفوي:” له (الخالَةُ بِمَنزِلَةِ الأُمِّ) فِي الحَضانَةِ عِنْدَ فَقْدِ الأُمِّ وأُمّاتِها لِأنَّها تَقْرُبُ مِنها فِي الحُنُوِّ والِاهْتِداءِ إلى ما يُصْلِحُ الوَلَدَ.” (تحفة الأحوذي)
قال ابن علان:” والمصنف أورده في الباب اعتباراً بعموم لفظه في طلب أنواع البرّ وإسداء المعروف لها كما تسدى ذلك للأم مطلب البرّ لها” (دليل الفالحين 1/ 536)
قال ابن باز” الخالة بمنزلة الأم والمعنى: أنه يجب برها والإحسان إليهاوصلتها، لأن حقها عظيم، كم أن العم بمنزلة الأب، فالعم صنو الأب والخالة صنوة الأم والواجب برهما والإحسان إليهما والرفق بهما وصلتهما” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 30)
(وفي الباب أَحاديث كِثيرة في الصحيح مشهورة، مِنْهَا حديث أَصحابِ الغارِ) مر معنا في باب الإخلاص، و فيه الصلة من جهتين، في الرجل الذي كان يرعى أبويه ولا يقدم عليها أحد في الغبوق، و الرجل الذي ترك المال لبنت عمه.
وحديث جريج مر معنا في باب فضل ضعفة المسلمين و الشاهد منه عندما عندما كانت أمه تناديه.