313 و 314 و 315 و 316 و 317 و 318 و 319 و 320 و 321 و 322 و 324 و 325 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
40 – باب بر الوالدين وصلة الأرحام
قال الله تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36 [.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]
وَقالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد:21]
قوله (باب بر الوالدين وصلة الأرحام) قال ابن علان:” أي بيان ما ورد فيهما ويحصل به ذلك.” (دليل الفالحين 1/ 510)
قال ابن باز:” بر الوالدين من أهم الواجبات حقهما عظيم من جهة الإحسان إليهما والشكر لهما على جهودهما وأعمالهما وتحقيق رغباتهما المباحة والمشروعة والحذر من العقوق والإساءة إليهما” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 6)
قال ابن عثيمين:” قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب بر الوالدين وصلة الأرحام، الوالدان: هما الأب والأم، وعبر بحق الوالدين بالبر اتباعاً لما جاء في النص، وعبر عن صلة الأرحام بالصلة، لأنه هكذا جاء أيضاً بالنص، والأرحام هم القرابة.
وبر الوالدين من أفضل الأعمال؛ بل هو الحق الثاني بعد حق الله ورسوله.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 182)
الآية الأولى: مرت معنا في الباب السابق
الآية الثانية: وَقالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]
أَيْ: وَاتَّقُوا اللَّهَ بِطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أَيْ: كَمَا يُقَالُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وبالرَّحِم. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي بِهِ تَعَاقَدُونَ وَتَعَاهَدُونَ، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَلَكِنْ بِرُّوهَا وصِلُوها، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ (تفسير ابن كثير)
قال ابن عاشور:” وأعيد فعل {اتقوا}؛ لأن هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصة؛ فإنهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها؛ وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام. [ابن عاشور: (4) / (217)]
قال ابن علان:” (وقال تعالى): (واتقوا) بامتثال أوامره واجتناب منهياته: أي اجعلوا ذلك وقاية لكم من عذابه (الذي تساءلون به) بإدغام إحدى التاءين في السين وقراء بالتخفيف على حذف إحداهما أي الذي يسأل بعضكم به بعضا فيقول أحدكم أسألك بالله (والأرحام) أي واتقوا الأرحام، وقرأ حمزة {والأرحام} بالخفض عطفا على الضمير لقولهم أسألك بالله وبالرحم، قاله مجاهد” (دليل الفالحين 1/ 510)
قال السعدي:” وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم بها بالسؤال بالله. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه (تفسير السعدي)
الآية الثالثة: وَقالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد:21]
وقوله: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} قال الطبري:” يقول تعالى ذكره: والذين يصلون الرَّحم التي أمرهم الله بوصلها فلا يقطعونها ” (تفسير الطبري)
قال البغوي {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ صِلَةَ الرَّحِمِ. (تفسير البغوي)
وقال ابن كثير:” مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ” (تفسير ابن كثير)
قال القرطبي ” قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} ظَاهِرٌ فِي صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ (تفسير القرطبي)
قال ابن القيم:” يدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه وحق الله وحق خلقه فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له والقيام بطاعته والإنابة إليه والتوكل عليه وحبه وخوفه ورجائه والتوبة إليه والاستكانة له والخضوع والذلة له والاعتراف له بنعمته وشكره عليها والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها فهذه هي الوصلة بين الرب والعبد وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل وأمر أن نوصل ما بيننا وبين رسوله بالإيمان بهوتصديقه وتحكيمه في كل شيء والرضا لحكمه والتسليم له وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة فأنه أمر بيد الوالدين وصلة الأرحام وذلك مما أمر به أن يوصل وأمر ان نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأرقاء بأن نطعمهم مما نأكل ونكسوهم مما نكتسي ولا نكلفهم فوق طاقتهم وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه وحفظه في نفسه وماله وأهله بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر وأن نصل ما بيننا وبين عموم الناس بأن نأتى اليهم بما نحب أن يأتوه الينا وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحى منهم كما يستحى الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه.” (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم ص 29)
قال السعدي:” والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل، خشية الله وخوف يوم الحساب، ولهذا قال: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي: يخافونه. (تفسير السعدي)
قال ابن باز:” فالواجب على الولد أن يصل والديه وأن يكرمهما ويحسن إليهما وهكذا الجد والجدة كلهم آباء وأمهات بلين القول وقضاء الحاجة المباحة ووفاء الدين والإنفاق عليهما عند الحاجة ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 7)
وَقالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8]
قال البغوي:” نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان (الآية 15)، والأحقاف (الآية 15) في سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري، وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس – لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارا بأمه، قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، ويقال: يا قاتل أمه. ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يوما آخر لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك، فذلك قوله – عز وجل -: (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ” (تفسير البغوي)
قال ابن عطية:” ولا مِرْيَةَ أنَّها نَزَلَتْ فِيمَن كانَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ يَشْقى بِجِهادِ أبَوَيْهِ في شَانِ الإسْلامِ والهِجْرَةِ، فَكَأنَّ القَصْدَ بِهَذِهِ الآيَةِ النَهْيُ عن طاعَةِ الأبَوَيْنِ في مِثْلِ هَذا الأمْرِ العَظِيمِ، ولَمّا كانَ بِرُّ الوالِدَيْنِ وطاعَتُهُما مِنَ الأمْرِ الَّتِي قَرَّرَتْها الشَرِيعَةُ وأكَّدَتْها، وكانَ مِنَ الأمْرِ القَوِيِّ المُلْزِمْ عِنْدَهُمْ، قَدَّمَ تَعالى عَلى النَهْيِ عن طاعَتِهِما في الشِرْكِ بِاللهِ قَوْلَهُ: {وَوَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا}، عَلى مَعْنى: إنّا لا نُحِلُّ عُقُوقَ الوالِدَيْنِ، لَكِنّا لا نُسَلِّطُ عَلى طاعَةِ اللهِ تَعالى، لا سِيَّما في مَعْنى الإيمانِ والكُفْرِ” (المحرر المجيز لابن عطية)
قال ابن كثير:” يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق”
قال السعدي:” أي: وأمرنا الإنسان، ووصيناه بوالديه حسنا، أي: ببرهما والإحسان إليهما، بالقول والعمل، وأن يحافظ على ذلك، ولا يعقهما ويسيء إليهما في قوله وعمله.” (تفسير السعدي)
وَقالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيما. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23، 24]
وَقالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيما))
قال البغوي:” قوله عز وجل (وقضى ربك) وأمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن.
قال الربيع بن أنس: وأوجب ربك، قال مجاهد: وأوصى ربك. …
قال أبو عبيدة: أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها.
وقيل: ” الأف “: ما يكون في المغابن من الوسخ و ” التف “: ما يكون في الأصابع.
وقيل: ” الأف “: وسخ الأذن و ” التف ” وسخ الأظافر.
وقيل: ” الأف “: وسخ الظفر و ” التف “: ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير.
(ولا تنهرهما) ولا تزجرهما.
(وقل لهما قولا كريما) حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ … وقال مجاهد في هذه الآية أيضا: إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا.
(تفسير البغوي).
قال ابن كثير:” يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف) أي لا تسمعهما قولا سيئا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ (ولا تنهرهما) أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله (ولا تنهرهما) أي لا تنفض يدك على والديك
ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال (وقل لهما قولا كريما) أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم.
قال النيسابوري:” إنما جعل الإحسان إلى الوالدين تاليا لعبادة الله لوجوه منها: أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين. ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثوابا إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان: 9]. ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بار بهما، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد.
ومنها أن المناسبة والميل والمحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية، وهاهنا أسرار فليتأمل. ومنها أنه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيرا منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيرا منه. وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول” (غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري 1/ 323)
قال السعدي:” فقال (وَقَضَى رَبُّكَ) قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا (أَنْ لَا تَعْبُدُوا) أحدا من أهل الأرض والسماوات الأحياء والأموات.
ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر.
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا) أي: إذا وصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف. (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وهذا أدنى مراتب الأذى نبه به على ما سواه، والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية.
(وَلَا تَنْهَرْهُمَا) أي: تزجرهما وتتكلم لهما كلاما خشنا، (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) بلفظ يحبانه وتأدب وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان.” (تفسير السعدي)
قال ابن جزي:” وإنما خص حالة الكبر لأنهما حينئذ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما لضعفهما. [ابن جزي: (1) / (485)
قال القرطبي:” خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين، وتعبهما في التربية؛ فيزيده ذلك إشفاقاً لهما، وحنانا عليهما. [القرطبي: (13) / (60)]
(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}
قال البغوي:” (واخفض لهما جناح الذل) أي: ألن جانبك لهما واخضع. قال عروة بن الزبير: لن لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه
(من الرحمة) من الشفقة
(وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا) أراد: إذا كانا مسلمين. قال ابن عباس: هذا منسوخ بقوله: ” ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ” (التوبة – 13).
قال ابن كثير:” (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) أي تواضع لهما بفعلك (وقل رب ارحمهما) أي في كبرهما وعند وفاتهما (كما ربياني صغيرا) ” (تفسير ابن كثير)
قال السعدي:” (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي: تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد.
(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا) أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا.
وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية.” (تفسير السعدي)
وَقالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14}
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ} قال الطبري:” يقول: ضعفا على ضعف، وشدّة على شدّة، ومنه قول زهير:
فَلَنْ يَقُولُوا بِحَبْلٍ وَاهِنٍ خَلقٍ … لَوْ كانَ قَوْمُكَ فِي أسْبابِه هَلَكُوا.”
قال البغوي:” وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَرْأَةُ إِذَا حَمَلَتْ تَوَالَى عَلَيْهَا الضَّعْفُ وَالْمَشَقَّةُ. وَيُقَالُ: الْحَمْلُ ضَعْفٌ، وَالطَّلْقُ ضَعْفٌ، وَالْوَضْعُ ضَعْفٌ.” (تفسير االبغوي)
قال السعدي:” {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي: مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق، من حين يكون نطفة، من الوحم، والمرض، والضعف، والثقل، وتغير الحال، ثم وجع الولادة، ذلك الوجع الشديد.” (تفسير السعدي)
وَقَوْلُهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} قال البغوي:”وفصاله أي فطامه.” (تفسير البغوي)
فذكر في الآية حالين تنفرد به الأم عن الأب، الحمل والرضاع.
قال ابن كثير:” أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين،، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [الْبَقَرَةِ: (233)].ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه قال في الآية الأخرى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: (15)] (تفسير ابن كثير)
30 – 24 = 6 أشهر.
قال السعدي:” {فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها، أفما يحسُنُ بمن تحمل على ولده هذه الشدائد، مع شدة الحب، أن يؤكد على ولده، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه؟ (تفسير السعدي)
وقوله: {أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}
قال الطبري:” يقول: وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك، ولوالديك تربيتهما إياك، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك. (تفسير الطبري)
مثل هذا الإقتران قوله صلى الله عليه وسلم:” رضى الرب في رضى الوالد وسخط الرب في سخط الوالد ” الصحيحة (515)، وكذلك كما روى البزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”رضا الربِّ تبارَك وتعالى في رضا الوالِدَيْنِ، وسخَطُ الله تبارَكَ وتَعالى في سَخَط الوالدَيْنِ”. (صحيح الترغيب 2503)
فمن شكر والديه فقد شكر ربه، ومن أطاع والديه فقد أطاع ربه، ومن رضي الوالدين فقد أرضى ربه.
عن ابن عون: أن محمدا – أي ابن سيرين – كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه، ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها. (سير أعلام النبلاء 4/ 620)
قالت أخته: “وما رأيته رافعا صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها” (سير أعلام النبلاء 4/ 219)
قال الحكيم الترمذي:” ليس في الدنيا حمل أثقل من البر، فمن برك، فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك” (سير أعلام النبلاء 13/ 440)
318 – عن أبي عبد الرحمن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قَالَ: سأَلتُ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: أَيُّ الْعملِ أَحبُّ إِلَى اللَّهِ تَعالى؟ قَالَ: “الصَّلاةُ عَلَى وقْتِهَا”قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:”بِرُّ الْوَالِديْنِ”قلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:”الجِهَادُ في سبِيِل اللَّهِ” متفقٌ عَلَيهِ.
قوله (أي العمل أحب إلى الله) في رواية مالك بن مغول ” أي العمل أفضل ” وكذا لأكثر الرواة، … ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال؛ أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال؛ لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن ” أفضل ” ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق، أو المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة. وقال ابن دقيق العيد: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان؛ لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة ” أفضل الأعمال إيمان بالله ” الحديث. وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين؛ لأنه يتوقف على إذن الوالدين فيكون برهما مقدما عليه. (فتح الباري)
فيه دلالة لعلو همة الصحابة، وسؤالهم لا يكون إلا للعمل والإجتهاد في ذلك.
قوله (الصلاة على وقتها) الصلاة أفضل الحقوق الواجبة وأحبها إلى الله عزوجل بعد توحيده، كما عند الطبراني في الأوسط، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الصلاةُ خيرُ موضوعٍ، فمَن استطاع أنْ يستكثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرْ”. (صحيح الترغيب 390)
قال النووي:” وفي هذا الحديث الحث على المحافظة على الصلاة في وقتها، ويمكن أن يؤخذ منه استحبابها في أول الوقت؛ لكونه احتياطا لها، ومبادرة إلى تحصيلها في وقتها.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن بطال فيه أن البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. قلت: وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر، قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ ” أحب ” يقتضي المشاركة في الاستحباب فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت. وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال؛ فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور كالنائم والناسي فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوبا لكن إيقاعها في الوقت أحب (فتح الباري)
قوله (بر الوالدين) قال النووي:” (بر الوالدين) فهو الإحسان وفعل الجميل معهما، وفعل ما يسرهما، ويدخل فيه الإحسان إلى صديقهما كما جاء في الصحيح: ” إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ” وضد البر العقوق، قال أهل اللغة: يقال: بررت والدي – بكسر الراء – أبره – بضمها – مع فتح الباء برا، وأنا بر به بفتح الباء، وبار وجمع البر الأبرار وجمع البار البررة. ” (شرح النووي)
قال القرطبي: معنى بر الوالدين: هو القيام بحقوقهما، والتزام طاعتهما، والرفق بهما، والتذلل لهما، ومراعاة الأدب معهما في حياتهما، والترحم عليهما، والاستغفار لهما بعد موتهما، وإيصال ما أمكنه من الخير والأجر لهما. (المفهم)
(“الجهاد في سبيل الله”) أي محاربة الكفار؛ لإعلاء كلمة الله – عز وجل -، وإظهار شعائر الإسلام بالنفس والمال.
جاء في رواية: (فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه) قال النووي:” كذا هو في الأصول: (تركت أستزيده) من غير لفظ: ” أن ” بينهما وهو صحيح وهي مرادة. وقوله: (إرعاء) هو بكسر الهمزة وإسكان الراء وبالعين المهملة ممدود، ومعناه إبقاء عليه ورفقا به والله أعلم. (شرح النووي)
قال الطبري: إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤنتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك، فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع.” (فتح الباري)
وفيه حسن المراجعة في السؤال. وفيه صبر المفتي والمعلم على من يفتيه أو يعلمه واحتمال كثرة مسائله وتقريراته. وفيه رفق المتعلم بالمعلم، ومراعاة مصالحه، والشفقة عليه لقوله: ” فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه “. وفيه جواز استعمال ” لو ” لقوله: ” ولو استزدته لزادني “. وفيه جواز إخبار الإنسان عما لم يقع أنه لو كان كذا لوقع لقوله: ” لو استزدته لزادني “. والله أعلم. (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضها على بعض. وفيه السؤال عن مسائل شتى في وقت واحد، والرفق بالعالم، والتوقف عن الإكثار عليه خشية ملاله، وما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين ولو شق عليه. … قال ابن بزيزة: الذي يقتضيه النظر تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن؛ لأن فيه بذل النفس، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها والمحافظة على بر الوالدين أمر لازم متكرر دائم لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصديقون، والله أعلم. ” (فتح الباري)
319 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا، فيشتريه فيعتقه». رواه مسلم.
جاء في الأدب المفرد عن أبى بردة؛ أنه شهد ابن عمر، ورجل يماني يطوف بالبيت – حمل أمه وراء ظهره – يقول: إني لها بعيرها المذلل … … إن أذعرت ركابها لم أذعر، ثم قال: يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة. (صحيح الأدب المفرد) الزفرة: بفتح الزاي وسكون الفاء: المرة من الزفير وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي) قال النووي:” يجزي بفتح أوله أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه. (شرح النووي) قال الأتيوبي: ” من الجزاء الذي هو بمعنى المجازاة؛ أي: لا يكافئ” (البحر المحيط الثجاج 26/ 588)
(ولد والدا) أي إحسان والد. (تحفة الأحوذي) قال الأتيوبي:” يعني أنه لا يقوم بما له عليه من الحقوق حتى يفعل معه ذلك” (البحر المحيط 26/ 588)
(إلا أن يجده مملوكا، فيشتريه فيعتقه) قال الخطابي:” قوله فيعتقه ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الملك لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال” (4/ 150) خالف أهل الظاهر، و مذهب كثير من السلف لا يعتبرون قول أهل الظاهر.
قال النووي:” اختلفوا في عتق الأقارب إذا ملكوا. فقال أهل الظاهر: لا يعتق أحد منهم بمجرد الملك سواء الوالد والولد وغيرهما بل لا بد من إنشاء عتق. واحتجوا بمفهوم هذا الحديث. وقال جماهير العلماء: يحصل العتق في الآباء والأمهات والأجداد والجدات، وإن علوا وعلون، وفي الأبناء والبنات وأولادهم الذكور والإناث وإن سفلوا بمجرد الملك سواء المسلم والكافر والقريب والبعيد والوارث وغيره. ومختصره أنه يعتق عمود النسب بكل حال واختلفوا فيما وراء عمودي النسب. فقال الشافعي وأصحابه: لا يعتق غيرهما بالملك، لا الإخوة ولا غيرهم. وقال مالك: يعتق الإخوة أيضا. وعنه رواية أنه يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة، ورواية ثالثة كمذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة. وتأويل الجمهور الحديث المذكور على أنه لما تسبب في شراء الذي يترتب عليه عتقه أضيف العتق إليه والله أعلم.” (شرح النووي)
قال الجزري في النهاية: ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الشراء لأن الإجماع منعقد على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال، وإنما معناه أنه إذا اشتراه فدخل في ملكه عتق عليه، فلما كان الشراء سببا لعتقه أضيف العتق إليه وإنما كان هذا جزاء له لأن العتق أفضل ما ينعم به أحد على أحد إذا خلصه بذلك من الرق وجبر به النقص الذي فيه وتكمل له أحكام الأحرار في جميع التصرفات انتهى. قلت: في قوله لأن الإجماع منعقد على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال نظر، فإن بعض أهل الظاهر ذهبوا إلى أن الأب لا يعتق على الابن بمجرد الملك بل لا بد من إنشاء العتق واحتجوا بهذا الحديث. (تحفة الأحوذي)
قال القرطبي – رحمه الله -: ومتعلق الظاهرية من الحديث ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قد أوجب علينا الإحسان للأبوين، كما قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23]، فقد سوى بين عبادته وبين الإحسان للأبوين في الوجوب، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه، فإذا يجب عتقه، إما لأجل الملك؛ عملا بالحديث، أو لأجل الإحسان؛ عملا بالآية، والظاهرية لجهلهم بمقاصد الشرع تركوا العمل بكل واحد منهما للتمسك بظاهر لم يحيطوا بمعناه.
قال ابن باز:” هذا من الجزاء العظيم، كونه يجد والده رقيقا فيشتريه فيُعتقه يخلصه من الرق، هذا من أعظم البر” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 8)
قال ابن عثيمين في تعليقه على الحديث:” يعني يعتقه بشرائه؛ لأنه فك أباه من رق العبودية للإنسان، وهذا الحديث لا يدل على أن من ملك أباه لا يعتق عليه؛ بل نقول: إن معناه إلا أن يشتريه فيعتقه، أي فيعتقه بشرائه؛ لأن الإنسان إذا ملك أباه عتق عليه بمجرد الملك، ولا يحتاج إلى أن يقول عتقته، وكذلك إذا ملك أمه تعتق بمجرد الملك، ولا يحتاج إلى أن يقول عتقتها.”
في هذا الحديث عظم حق الوالد.
320 – وعنه أيضاً رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيوْمِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيوم الآخِر، فَلْيصلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيوْمِ الآخِرِ، فلْيقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصمُتْ” متفقٌ عليه.
مر معنا فوائد هذا الحديث في الأبواب السابقة، والشاهد من هذا الحديث وَمَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيوم الآخِر، فَلْيصلْ رَحِمَهُ.
فيه أن صلة الرحم واجبة وأنها من الإيمان.
قال القاري:” فيه إشارة إلى أن القاطع كأنه لم يؤمن بالله واليوم الآخر لعدم خوفه من شدة العقوبة المترتبة على القطيعة” (مرقاة المصابيح 7/ 2732)
قال القاضي:” لا خلاف أن صلة الرحم واجبة على الجملة، وقطعها كبيرة. والأحاديث فى هذا الباب من منعه الجنة يشهد لذلك، ولكن الصلة درجات، بعضها فوق بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها ولو بالسلام كما قال – عليه الصلاة والسلام. وهذا بحكم القدرة على الصلة وحاجتها إليها، فمنها ما يتعين ويلزم، ومنها ما يستحب ويرغب فيه، وليس من لم يبلغ أقصى الصلة يسمى قاطعًا، ولا من قصر عما ينبغى له ويقدر عليه يسمى واصلاً.” (إكمال المعلم 8/ 20) كما جاء في الحديث” بلُّوا أرحامكم ولو بالسَّلام”
قال ابن باز:”هذا يدل على أن صلة الرحم من واجبات الإيمان؛ ولهذا لعن الله من قطع الرحم، وقال فيها صلى الله عليه وسلم:” لا يدخلُ الجنة قاطع رحم”
321 – عنه قال: قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “إِنَّ اللَّه تَعَالى خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مُقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعةِ، قَالَ: نَعَمْ أَمَا تَرْضينَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قال فذلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: اقرءوا إِنْ شِئتُمْ: {فهَلِ عَسَيْتمْ إِن تَولَّيتُم أَنْ تُفسِدُوا فِي الأَرْضِ وتُقطِّعُوا أَرْحامكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعنَهُم اللَّهُ فأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22،23] متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية للبخاري: فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: “منْ وَصلَكِ، وَصلْتُهُ، ومنْ قَطَعكِ قطعتُهُ”
قوله: (خلق الله الخلق فلما فرغ منه) قال القرطبي – رحمه الله -: “خلق” هنا: بمعنى اخترع، وأصله: التقدير، والخلق هنا: بمعنى المخلوق، وأصله مصدر، يقال: خلق يخلق خلقا: إذا قدر، وإذا اخترع، (“المفهم” 6/ 524.).
(حتى إذا فرغ منهم)؛ أي: قضى خلقهم، وأتمه، وقال القرطبي: معنى “فرغ منهم”: أي: كمل خلقهم، لا أنه اشتغل بهم، ثم فرغ من شغله بهم …. {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)} [يس: 82] (المفهم
قوله: (قامت الرحم) قال ابن حجر:” يحتمل أن يكون على الحقيقة، والأعراض يجوز أن تتجسد وتتكلم بإذن الله، ويجوز أن يكون على حذف أي قام ملك فتكلم على لسانها، ويحتمل أن يكون ذلك على طريق ضرب المثل والاستعارة والمراد تعظيم شأنها وفضل واصلها وإثم قاطعها. (فتح الباري) الأول أقرب لأن الأصل الحقيقة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه لبس يفهمه كل أحد.
قال الأتيوبي:” (قامت الرحم) – بفتح الراء، وكسر الحاء المهملة -: أي: القرابة، مشتقة من الرحمة، وهي عرض جعلها الله تعالى تقوم، وتتكلم، والله – سبحانه وتعالى – على كل شيء قدير، فقيامها قيام على الحقيقة، لا على المجاز، كما ادعي؛ إذ لا مانع أن تقوم الأعراض، وتتكلم حقيقة، والله – سبحانه وتعالى – قادر على كل شيء. (البحر المحيط الثجاج 40/ 285)
وقال أيضا:” أقول: الحديث ظاهر المعني، لا يحتاج إلى هذه التكلفات، فمن الذي أحال كلام الرحم؟ فالذي أنطق الجسم العاقل قادر على جعل المعاني أجساما تتكلم، بل ثبت لدينا بالنصوص الصحيحة كلام الجمادات، كحنين الجذع، وتسبيح الحصي، وتسبيح الطعام، وهو يؤكل، فالله – سبحانه وتعالى – على كل شيء قدير، فدعوى الاستحالة باطلة، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.” (البحر المحيط الثجاج
وقال أيضا بعد مناقشة الأقوال:” خلاصة القول: أن الواجب على العاقل تجاه آيات الصفات، وأحاديثه أن يمرها، كما جاءت، ويثبتها على ظواهرها، وينزه الله – عزوجل – عن التشبيه، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تحريف، ولا تعطيل، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (البحر المحيط الثجاج 40/ 285)
وقال كذلك:” ثم رأيت لابن أبي جمرة – رحمه الله – كلاما أعجبني، قال – رحمه الله -: قوله: “قامت الرحم، فقالت”: يحتمل أن يكون بلسان الحال، ويحتمل أن يكون بلسان المقال، قولان مشهوران، والثاني أرجح، وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي، أو يخلق الله لها عند كلامها حياة، وعقلا؛ قولان أيضا مشهوران، والأول أرجح؛ لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء. انتهى كلام ابن أبي جمرة – رحمه الله -، وهو كلام نفيس ينبغي أن يكتب بماء الذهب، والله تعالى أعلم.
قوله (العائذ) والعائذ: المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء الملتجئ إليه، المستجير به” (شرح مسلم للنووي) قال ابن حجر:” قوله هذا مقام العائذ بك من القطيعة هذه الإشارة إلى المقام أي قيامي في هذا مقام العائذ بك” (فتح الباري 8/ 580)
(أَمَا تَرْضينَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قال فذلِكَ) (أما) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح، وتنبيه، مثل “ألا”، والهمزة للاستفهام، على سبيل التقرير لما بعد “لا” النافية (ترضين) خطاب للرحم، (أن) مصدرية، (أصل من وصلك) بأن أعطف عليه، وأحسن إليه، فهو كناية عن عظيم إحسانه، (وأقطع من قطعك؟) فلا أعطف عليه، فهو كناية عن حرمان إنعامه، وامتنانه. (فيض القدير للمناوي 2/ 234)
قال الأتيوبي: هكذا قيل: إنه كناية، والظاهر أن هذا من باب تأويل صفة الوصل، وفيه نظر لا يخفي، والله تعالى أعلم.
في صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ»
وروى أبوداود والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول:”قال الله عزَّ وجلَّ: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقتُ الرَّحِمَ، وشقَقْتُ لها اسْماً مِنِ اسْمي، فَمنْ وصلَها وصَلتُه، ومَنْ قطَعها قطَعْتُه -أو قال: بَتَتُّهُ-“. (2528 صحيح الترغيب)
وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “إنْ الرَّحِمَ شُجنة مِنَ الرحمن تقولُ: يا ربِّ! إنِّي قُطِعْتُ، يا ربِّ! إنِّي أُسِيء إليِّ، يا ربِّ! إنِّي ظُلِمْتُ، يا ربِّ! يا ربِّ! فيُجيبُها: ألا تَرْضِينَ أَنْ أَصلَ مَنْ وَصَلَكِ، وأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟! “. شجنة: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق.
وروى البزار عن أنسٍ رضي الله عنه عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنه قال:”الرحِمُ حَجَنَةٌ متمسَّكَةٌ بالعرْشِ، تَكَلَّمُ بِلسانٍ ذَلِقٍ: اللهم صِلْ مَنْ وصَلَني، واقْطَعْ منْ قطَعَني، فيقول الله تبارك وتعالى: أنا الرحمنُ الرحيمُ، وإنِّي شقَقْتُ لِلرحِمِ مِن اسْمي، فَمنْ وصَلَها وصَلْتُه، ومَنْ بَتَكَها بَتَكْتُهُ”. (صحيح الترغيب 2531) (الحَجَنة) بفتح الحاء المهملة والجيم وتخفيف النون: هي صنارة المغزل، وهي الحديدة العقفاء التي يعلق بها الخيط ثم يفتلُ الغزل.
قال المناوي:” وصلة الرحم بالمال ونحو عون على حاجة، ودفع ضرر، وطلاقة وجه، ودعاء، والمعنى الجامع لها: إيصال الممكن من خير، ودفع الممكن من شر، وهذا إنما يطرد إن استقام أهل الرحم، فإن كفروا، وفخروا، فقطيعتهم في الله صلتهم بشرط بذل الجهد في وعظهم، ومن ثم قتل أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح أباه يوم بدر كافرا؛ غضبا لله، ونصرة لدينه
قال الأتيوبي:” خلاصة القول: أن مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد صلة الرحم، فإنها قد استجارت بالله – سبحانه وتعالى -، فأجارها، وأدخلها في ذمته، وخفارته، وإذا كان كذلك، فجار الله تعالى غير مخذول، وعهده غير منقوض، ولذلك قال مخاطبا لها: “أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ ” وهذا كما قال – صلى الله عليه وسلم -: “من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم”، رواه مسلم، والله تعالى أعلم.
قال ابن عثيمين:” صلتهم بما جرى به العرف واتبعه الناس؛ لأنه لم يبين في الكتاب والسنة نوعها ولا جنساها ولا مقدارها؛ لأن النبي صلى عليه الله وسلم لم يقيده بشيء معين، فلم يقيده بأن يأكلوا معك أو يشربوا معك، أو يكتسوا معك؛ أو يسكنوا معك، بل أطلق، ولذلك يرجع فيها للعرف، فما جرى به العرف أنه صلة فهو الصلة، وما تعارف عليه الناس أنه قطيعة فهو قطيعة، هذا هو الأصل.” (شرح رياض الصالحين 3/ 185)
وقال أيضا:” إذا أردت أن يصلك الله ـ وكل إنساك يريد أن يصله ربه ـ فصل رحمك، وإذا أردت أن يقطعك الله فاقطع رحمك، جزاء وفاقاً، وكلما كان الإنسان لرحمه أوصل؛ كان الله له أوصل، وكلما قصر جاءه من الثوب بقدر ما عمل، لا يظلم الله أحداً.” (شرح رياض الصالحين 3/ 186)
قال النووي:” قال القاضي عياض: واختلفوا في حد الرحم التي تجب صلتها، فقيل: هو كل رحم محرم، بحيث لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى حرمت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال، واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح ونحوه، وجواز ذلك في بنات الأعمام والأخوال، وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي المحرم وغيره، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ” ثم أدناك أدناك ” هذا كلام القاضي، وهذا القول الثاني هو الصواب، ومما يدل عليه الحديث السابق في أهل مصر: ” فإن لهم ذمة ورحما “، وحديث: ” إن أبر البر أن يصل أهل ود أبيه ” مع أنه لا محرمية، والله أعلم.” (شرح مسلم للنووي)
جاء في رواية (قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فهل عسيتم}) هذا ظاهره أن الاستشهاد موقوف، قال ابن حجر:” حاصله أن الذي وقفه سليمان بن بلال على أبي هريرة رفعه حاتم بن إسماعيل، وكذا وقع في رواية الإسماعيلي.” (فتح الباري) فهذا يروى من قول أبي هريرة و يروى مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأكثر على رفعه وهو الذي جزم به النووي في رياض الصالحين.
قوله {فهَلِ عَسَيْتمْ إِن تَولَّيتُم أَنْ تُفسِدُوا فِي الأَرْضِ وتُقطِّعُوا أَرْحامكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعنَهُم اللَّهُ فأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22،23] قال ابن كثير:” أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام، ولهذا قال تعالى: أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال” (تفسير ابن كثير) وعقوبة القطيعة معجلة روى الترمذي وابن ماجه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”ما مِنْ ذَنْبٍ أجدَرُ أنْ يعجلَ الله لِصاحِبِه العقوبةَ في الدنيا -مع ما يُدَّخَرُ له في الآخِرَةِ- مِنَ البَغْيِ وقَطيعَةِ الرحِمِ”. (صحيح الترغيب 2537)
وقال القرطبي – رحمه الله -: “عسى”: من أفعال المقاربة، ويكون رجاء، وتحقيقا، قال الجوهري: “عسى” من الله واجبة في جميع القرآن، إلا قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} [التحريم: 5]، وإذا اتصل بعسى ضمير فاعل، كان فيها لغتان: فتح السين، وكسرها، وقرئ بهما.
قال ابن حجر:” اختلف في تأويل قوله: {إن توليتم} فالأكثر على أنها من الولاية والمعنى: إن وليتم الحكم، وقيل: بمعنى الإعراض، والمعنى: لعلكم إن أعرضتم عن قبول الحكم أن يقع منكم ما ذكر، والأول أشهر.” (فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” قوله سبحانه: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) فبين سبحانه وتعالى أن الذين يفسدون في الأرض ويقطعون أرحامهم ملعونون والعياذ بالله أي: مطرودون ومبعدون عن رحمة الله، وقد أصمهم الله أي: جعلهم لا يسمعون الحق، ولو سمعوا ما انتفعوا به، وأعمى أبصارهم؛ فلا يرون الحق، ولو رأوه لم ينتفعوا به، فسد عنهم طرق الخير؛ لأن السمع والبصر يوصل المعلومات إلى القلب، فإذا انسد الطريق لم يصل إلى القلب خير، والعياذ بالله.” (شرح رياض الصالحين 3/ 186)
قال ابن باز:” الآية الكريمة والحديث وما جاء في معناها كل ذلك يحذر من قطيعة الرحم ويوجب صلة الرحم وبر الوالدين، أعظم الرحم بر الوالدين؛ يعني أقرب رحم إليك هو والدك، ثم أولادك” (شرح رياض الصالحين لاباز 2/ 11)
322 – وعنه رضي اللَّه عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقال: يارسول اللَّه مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحَابَتي؟ قَالَ: “أُمُّك”قَالَ: ثُمَّ منْ؟ قَالَ:”أُمُّكَ”قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:”أُمُّكَ”قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:”أَبُوكَ” متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: يَا رسول اللَّه مَنْ أَحَقُّ الناس بِحُسْن الصُّحْبةِ؟ قَالَ:”أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثمَّ أَباكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ”.
“والصَّحابة”بمعنى: الصُّحبةِ. وقوله:”ثُمَّ أباك”هَكَذا هُوَ منصوب بفعلٍ محذوفٍ، أي ثُمَّ برَّ أَباك وفي رواية:”ثُمَّ أَبُوكَ”وهذا واضِح.
قال ابن حجر:” (جاء رجل)، يحتمل أنه معاوية بن حيدة – بفتح المهملة وسكون التحتانية – وهو جد بهز بن حكيم، فقد أخرج المصنف في ” الأدب المفرد ” من حديثه: ” قال: قلت: يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك “، الحديث، وأخرجه أبو داود والترمذي.” فتح الباري
قال النووي:” الصحابة هنا – بفتح الصاد – بمعنى الصحبة،” (شرح مسلم للنووي)
قال أيضا:” وفيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب. قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه، وغير ذلك.”
قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر. قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين}، فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة (فتح الباري)
قال ابن باز:” فحق الوالدة عظيم فالواجب العناية ببرها والإحسان إليها وأكثر من العناية بالأب لأن تعبها أكثر وإحسانها إليك أكثر ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 11)
قال النووي:” ونقل الحارث المحاسبي إجماع العلماء على أن الأم تفضل في البر على الأب، وحكى القاضي عياض خلافا في ذلك، فقال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون برهما سواء. قال: ونسب بعضهم هذا إلى مالك، والصواب الأول؛ لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور، والله أعلم.
قال النووي:” قال القاضي: وأجمعوا على أن الأم والأب آكد حرمة في البر ممن سواهما. قال: وتردد بعضهم بين الأجداد والإخوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ثم أدناك أدناك، قال أصحابنا: يستحب أن تقدم في البر الأم، ثم الأب، ثم الأولاد، ثم الأجداد والجدات، ثم الإخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام كالأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ويقدم الأقرب فالأقرب، ويقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بأحدهما، ثم بذي الرحم غير المحرم كابن العم وبنته، وأولاد الأخوال والخالات وغيرهم، ثم بالمصاهرة، ثم بالمولى من أعلى وأسفل، ثم الجار، ويقدم القريب البعيد الدار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخر قدم على الجار الأجنبي، وألحقوا الزوج والزوجة بالمحارم، والله أعلم.
قال القرطبي:” (قوله: أمك ثلاث مرات، وفي الرابعة: أبوك) يدلّ على صحَّة قول من قال: إن للأم ثلاثة أرباع البر، وللأب ربعه، ومعنى ذلك: أن حقهما – وإن كان واجبا – فالأم تستحق الحظ الأوفر من ذلك، وفائدة ذلك المبالغة في القيام بحق الأم، وأن حقها مقدم عند تزاحم حقها وحقه. (المفهم 6/ 508)
قال ابن باز:” فالوالدان والأولاد، والإخوة، وأولادهم، ثم الأب هو الآخر، الأقرب، فالأقرب يصلهم بالكلام الطيب، بالمال إن كانوا فقراء مواساتهم بالمال، مكالمتهم بالهاتف، مكاتبتهم إذا كانوا بعيدين، المتيسر حسب الطاقة، بالشيء الذي يجمع بين القلوب، ويطيبها، ويحصل به التواصل، وعدم الهجران، سواء كان ذلك بالزيارة، أو بالمكاتبة، أو بالمكالمة الهاتفية، على حسب الاستطاعة مع صلة الرحم بالمال إذا كانوا فقراء، فإن من أعظم الصلة مؤاساتهم والإحسان إليهم” (شرح رياض الصالحين 2/ 11)
324 – وعنه رضي اللَّه عنه أَن رجلاً قَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي قَرابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحسِنُ إِلَيْهِمِ وَيُسيئُونَ إِليَّ، وأَحْلُمُ عنهُمْ وَيجْهلُونَ علَيَّ، فَقَالَ: “لَئِنْ كُنْت كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلاَ يَزَالُ معكَ مِنَ اللَّهِ ظهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دمْتَ عَلَى ذَلكَ” رواه مسلم.
“وتسِفُّهُمْ”بضم التاءِ وكسرِ السين المهملةِ وتشديد الفاءِ.”والمَلُّ”بفتحِ الميم، وتشديد اللام وَهُوَ الرَّماد الحارُّ: أَيْ كأَنَّمَا تُطْعِمُهُمْ الرَّماد الحارَّ وهُو تَشبِيهٌ لِما يلْحَقُهمْ مِنَ الإِثم بِما يَلْحقُ آكِلَ الرَّمادِ مِنَ الألم، ولا شئَ على المُحْسِنِ إِلَيْهِمْ، لَكِنْ يَنَالهُمْ إِثْمٌ عَظَيمٌ بَتَقْصيِرهِم في حَقِه، وإِدخَالِهِمُ الأَذَى عَلَيْهِ، واللَّه أعلم.
(قال: يا رسول الله، إن لي قرابة)؛ أي: ذوي قرابة (أصلهم)؛ أي: أحسن إليهم، قال ابن الأثير رحمه الله: صلة الرحم: كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب، والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بعدوا، أو أساؤوا، وقطع الرحم ضد ذلك كله، يقال: وصل رحمه يصلها وصلا، وصلة، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة، فكانه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم، من علاقة القرابة، والصهر.” (النهاية لابن الأثير)
قوله (تُسِفُّهُمُ المَلَّ) ابن الأثير رحمه الله: المل، والملة: الرماد الحار الذي يحمى ليدفن فيه الخبز؛ لينضج، أراد: إنما تجعل الملة لهم سفوفا يستفونه؛ يعني: أن عطاءك إياهم حرام عليهم، ونار في بطونهم. (النهاية لابن الأثير)
وقال القرطبي رحمه الله: الرواية: بضم تاء “تسفهم”، وكسر السين، وضم الفاء: أي: تجعلهم يسفونه من السف، وهو شرب كل دواء يؤخذ غير ملتوت، تقول: سففت الدواء وغيره مما يؤخذ غير معجون، وأسففته غيري؛ أي: جعلته يسفه، والمل: الرماد الحار، يقال: أطعمنا خبز ملة، ومعنى ذلك: أن إحسانك إليهم مع إساءتهم لك، يتنزل في قلوبهم منزلة النار المحرقة؛ لما يجدون من ألم الخزي، والفضيحة، والعار الناشئ في قلب من قابل الإحسان بالإساءة. (المفهم)
ملتوت: مطحون.
قال ابن عثيمين:” الملّ: هو الرماد الحار، وتسفهم: يعني تجعله في أفواههم، والمعنى: أنك كأنما ترغمهم بهذا الرماد الحار عقوبة لهم” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 191)
قوله وَلاَ يَزَالُ معكَ مِنَ اللَّهِ ظهِيرٌ عَلَيْهِمْ، الظهير: المعين والدافع لأذاهم. (شرح مسلم للنووي)
قال القرطبي:” الظهير: المعين، ومعناه: أن الله تعالى يؤيدك بالصبر على جفائهم، وحسن الخلق معهم، ويعليك عليهم في الدنيا والآخرة مدة دوامك على معاملتك لهم بما ذكرت.” (المفهم)
قوله (وَيجْهلُونَ علَيَّ) ” ويجهلون ” أي: يسيئون، والجهل هنا: القبيح من القول (شرح مسلم للنووي)
قال النووي بعد ذكره القول الأول كما مر معنا:” وقيل: معناه: إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم؛ لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف المل، وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم، والله أعلم.”
قال ابن باز في تعليقه على الحديث:” هذا يفيد الحذر، بعض الناس قد يتساهل في الصلة إذا رأى من أقاربه جفوة فلا ينبغي ذلك، لا ينبغي أن يقابلهم بالجفوة بل يكون خيرا منهم إذا أساؤوا لا يسيء وإذا جفوا لا يجفو بل يقابلهم بالإحسان” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 12)
روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال: ثُمَّ لقيتُ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأخذتُ بيدهِ فقلتُ: يا رسول الله! أخْبِرْني بفَواضِلِ الأعْمالِ. قال: “يا عقبةُ! صِلْ مَنْ قَطَعكَ، وأَعْطِ مَنْ حَرمَك، وأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمك”. (صحيح الترغيب2536)
325 – وعن أَنسٍ رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مَنْ أَحبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزقِهِ، ويُنْسأَ لَهُ في أَثرِهِ، فَلْيصِلْ رحِمهُ” متفقٌ عَلَيهِ.
ومعْنى”ينسأَ لَهُ في أَثَرِه”: أَيْ: يؤخر له في أَجلهِ وعُمُرِهِ.
روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ. (الصحيحة 276)
وعند أحمد عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: ” إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ ” (الصحيحة 519)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إنَّ أَعْجَلَ البِرِّ ثواباً بالصلة الرحِمُ، حتَّى إن أَهْلَ البَيْتِ ليكونون فَجَرَةً، فتنموا أمْوالُهم، ويكثُر عَدَدُهم إذا تَواصَلُوا». (2537صحيح الترغيب)
وجاء في الأدب المفرد عن ابن عمر قال: ” من اتقى ربه ووصل رحمه نُسِاءَ في أجله وَثَرى ماله وأَحَبَّه أهلُهُ “. (صحيح الأدب المفرد)
قوله: (وينسأ) قال ابن الأثير: النَّسْءُ: التَّاخِيرُ. يُقَالُ: نَسَاتُ الشيءَ نَسْأً، وأَنْسَاتُهُ إِنْسَاءً، إِذَا أخَّرْتَه. والنَّسَاءُ: الاسمُ، وَيَكُونُ فِي العُمْر وَالدِّينِ. (النهاية لابن الأثير 5/ 44)
وقال الخطابي: يؤخر في أجله يقال لرجل نسأ الله في عمرك وأنسأ عمرك” (عون المعبود)
قال النووي:” ” ينسأ ” – مهموز – أي: يؤخر، و ” الأثر “: الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي: يؤخر له، والأثر هنا بقية العمر قال زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهي الطرف حتى ينتهي الأثر.” (فتح الباري)
قوله (أن يبسط) قال النووي:” توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه، وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}، وأجاب العلماء بأجوبة الصحيح منها أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. والثاني: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ، ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك، وهو من معنى قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}، فيه النسبة إلى علم الله تعالى، وما سبق به قدره ولا زيادة، بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة، وهو مراد الحديث. والثالث: أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده، فكأنه لم يمت، حكاه القاضي، وهو ضعيف أو باطل، والله أعلم.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:”قال العلماء: معنى البسط في الرزق في صلة الرحم البركة فيه، وفي العمر حصول القوة في الجسد؛ لأن صلة أقاربه صدقة والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو؛ لأن رزق الإنسان يكتب وهو في بطن أمه فلذلك احتيج إلى هذا التأويل، أو المعنى أنه يكتب مقيدا بشرط كأن يقال: إن وصل رحمه فله كذا وإلا فكذا، أو المعنى بقاء ذكره الجميل بعد الموت. (فتح الباري)
قال أيضا:” وقال ابن قتيبة: يحتمل أن يكتب أجل العبد مائة سنة وتزكيته عشرين فإن وصل رحمه زاد التزكية. وقال غيره: المكتوب عند الملك الموكل به غير المعلوم عند الله عز وجل، فالأول يدخل فيه التغيير. وتوجيهه أن المعاملات على الظواهر والمعلوم والباطن خفي لا يعلق عليه الحكم، فذلك الظاهر الذي اطلع عليه الملك هو الذي يدخله الزيادة والنقص والمحو والإثبات، والحكمة فيه إبلاغ ذلك إلى المكلف ليعلم فضل البر وشؤم القطيعة” (فتح الباري)
قال ابن التين رحمه الله: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34]، والجمع بينهما من وجهين: أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر. وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة، والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يمت. ومن جملة ما يحصل له من التوفيق: العلم الذي ينتفع به من بعده، والصدقة الجارية عليه، والخلف الصالح. ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية، فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله تعالى أنه يصل، أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم، ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)} [الرعد: 39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى، فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلق، والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور.
قال الأتيوبي:” الحق عندي قول من قال: إن الزيادة في الأجل، والرزق زيادة حقيقية على ظاهرها؛ لظاهر النص” (البحر المحيط الثجاج 40/ 306)
قال ابن عثيمين:” هذا من الأحاديث التي فيها الحث على صلة الرحم. وأن صلة الرحم سبب لأمرين مهمين: الأمر الأول: البسط في الرزق يعني توسيع الرزق. والثاني: التمديد في الأجل. وهذا لا إشكال فيه. فكما أن الرزق مكتوب ومقدر. ومع ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن صلة الرحم سبب لزيادته. وكذلك الأجل مكتوب ومقدر. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن صلة الرحم سبب لزيادته. ولا فرق بين هذا وهذا. فالكل مكتوب. لكن نحن نعلم أن الرزق إذا كان واسعا إذا قدر الله أنه واسع بسبب صلة الرحم نعلم أنه سيكون الرزق واسعا بصلة الرحم. ونعلم أن الأجل إذا كان ممدودا بصلة الرحم فإن هذا سوف يصل رحمه. ويكون أجله ممدودا كما لو قلت مثلا: من أحب يولد له ولد فليتزوج. الإنسان مقدر أن له أولاد أو ليس له أولاد. فهو يسعى في الزواج لأجل يأتيه الولد. كذلك يسعى في صلة الرحم لأجل أن يزيد عمره أو يزيد ماله. فلا فرق ولا إشكال. وأما من قال إن المراد بالزيادة أو بالإنساء المراد بذلك البركة فهذا ليس بصواب. بل المراد الزيادة. لكن هذه الزيادة كانت مكتوبة عند الله في الأصل على سبب وهو صلة الرحم.” (فتاوى الحرم النبوي)
قال ابن باز:” الأعمار لها حد محدود بشروطها التي قدرها الله، فمن أسباب طول العمر وحبس الأجل صلة الرحم وبر الوالدين والإحسان والجود ومن أسباب نزعة بركة العمر وقصره قطيعة الرحم وسوء العمل” (شرح رياض الصالحين لابن باز 2/ 14)