(3106) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، ومحمد البلوشي
وأحمد بن خالد وعمر الشبلي وعدنان البلوشي
وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من (٥٦) – (كِتَابُ: التفسير)، تابع: (١) – (باب في تفسير آيات متفرقة):
٢ – (٣٠١٦) حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ والحسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد (قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي. وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا) يَعْقُوبُ – يعنون ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ – حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صالح – وهو ابن كيسان – عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مالك؛ أن الله عزوجل تابع الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته. حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (“[()] – ()”).
وبوب البيهقي عفا الله عنه: “بَابُ: تَتَابُعِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ”.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[٧٤٨٥] (٣٠١٦) – الحديث
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريِّ؛ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، (أَنَّ اللهَ عزوجل تَابَعَ الْوَحْيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ) وفي رواية البخاريّ: «إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته»، قال في «الفتح»: كذا للأكثر، وفي رواية أبي ذرّ: «إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي قبل وفاته»، أي: أكثر إنزاله قرب وفاته صلى الله عليه وسلم ، والسر في ذلك: أن الوفود بعد فتح مكة كثروا، وكثر سؤالهم عن الأحكام، فكثر النزول بسبب ذلك، قال الحافظ رحمه الله: ووقع لي سبب تحديث أنس رضي الله عنه بذلك من رواية الدراورديّ، عن الإماميّ عن الزهريّ: «سألت أنس بن مالك، هل فتر الوحي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟، قال: أكثر ما كان، وأجمه». أورده ابن يونس في «تاريخ مصر» في ترجمة محمد بن سعيد بن أبي مريم. انتهى [«الفتح» ١١/ ١٦١].
[لم أعرف من هو؟! قاله الإتيوبي في حاشية البحر الثجاج]
قلنا :
هو عبد الرحمن بن عبد العزيز الأمامي
وسأتي الكلام عليه في تنبيه رقم 1 في آخر البحث
فيه إظهار ما تضمنته الغاية في قوله «حتى توفي»، وهذا الذي وقع أخيرًا على خلاف ما وقع أولًا، فإن الوحي في أول البعثة فتر فترة، ثم كثر، وفي أثناء النزول بمكة لم ينزل من السُّوَر الطوال إلا القليل، ثم بعد الهجرة نزلت السور الطوال المشتملة على غالب الأحكام، إلا أنه كان الزمن الأخير من الحياة النبوية أكثر الأزمنة نزولًا بالسبب المتقدم، والله تعالى أعلم.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
وقال ابن باز رحمة الله عليه عندما سئل عن معنى الحديث، فقال: “لإنهاء ما أراد الله من أمر ونهي سبحانه وتعالى، تابع الوحي في آخر حياته حتى تُستكمل الشريعة وتَكْمُل الأمور المطلوبة، حتى يُتَوفَّى وقد بَلَّغ كل الرسالة صلى الله عليه وسلم “. [معنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم تُوُفِّي أكثر ما كان الوحي؟، فتاوى الدروس].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ” قَوْله : ( إِنَّ اللَّه تَابَعَ عَلَى رَسُوله الْوَحْي قَبْل وَفَاته ) أَيْ أَكْثَرَ إِنْزَاله قُرْب وَفَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالسِّرّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوُفُود بَعْد فَتْح مَكَّة كَثُرُوا وَكَثُرَ سُؤَالهمْ عَنْ الْأَحْكَام فَكَثُرَ النُّزُول بِسَبَبِ ذَلِكَ . قَوْله : ( حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَر مَا كَانَ الْوَحْي ) أَيْ الزَّمَان الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ وَفَاته ، كَانَ نُزُول الْوَحْي فِيهِ أَكْثَر مِنْ غَيْره مِنْ الْأَزْمِنَة . قَوْله : ( ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ) فِيهِ إِظْهَار مَا تَضَمَّنَتْهُ الْغَايَة فِي قَوْله ” حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه ” وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ أَخِيرًا عَلَى خِلَاف مَا وَقَعَ أَوَّلًا , فَإِنَّ الْوَحْي فِي أَوَّل الْبَعْثَة فَتَرَ فَتْرَة ثُمَّ كَثُرَ , وَفِي أَثْنَاء النُّزُول بِمَكَّة لَمْ يَنْزِل مِنْ السُّوَر الطِّوَال إِلَّا الْقَلِيل , أمَّا بَعْد الْهِجْرَة فنَزَلَتْ السُّوَر الطِّوَال الْمُشْتَمِلَة عَلَى غَالِب الْأَحْكَام , إِلَّا أَنَّهُ كَانَ الزَّمَن الْأَخِير مِنْ الْحَيَاة النَّبَوِيَّة ، أَكْثَر الْأَزْمِنَة نُزُولًا بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّم ” انتهى من ” فتح الباري ” .
وقال ابن علان رحمه الله : ” ( إِنَّ اللَّه تَابَعَ عَلَى رَسُوله الْوَحْي قَبْل وَفَاته ) ؛ وذلك لتكمل الشريعة ، ولا يبقى مما يوحي إليه به شيء . ( حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَر مَا كَانَ الْوَحْي ) أي : وقت أكثريته ، ولما تكامل ما أريد إنزاله للعالم ، مما به انتظام معاشهم ومعادهم ، قال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فتوفي بعده بأشهر ” انتهى مختصرا من ” دليل الفالحين” (2/346)
ولذلك قال أبو ذر رضي الله عنه : ” تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما ” ، قال : فقال صلى الله عليه وسلم : ( ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم ) رواه الطبراني في الكبير (1647) ، وصححه الألباني في الصحيحة (1803) .
وليس المراد بالوحي هنا : خصوص القرآن ، بل المراد به كل ما أوحى الله به إلى نبيه من أمر الدين ، ولو كان قد أخبرنا بذلك في سنته ، ولم ينزل بخصوصه قرآن
وليس المراد ـ أيضا ـ بقول أنس رضي الله عنه : ( حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الوَحْيُ ..) : الخبر عن يوم وفاته صلى الله عليه وسلم خاصة ، كما فهم السائل ، بل المراد بذلك الزمان الذي توفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو آخر عمره الشريف ، وقد يكون ذلك سنة ، أو أكثر شيئا ما ، أو أقل ، فكل ذلك يصح أنه آخر عمره ، وزمان وفاته ، ولهذا قال : ( ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ ) . وقد كان عام تسع من الهجرة يسمى بعام الوفود ، فوفد كثير من قبائل العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كوفد ثقيف ووفد بني تميم ووفد نجران ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، قال ابن كثير رحمه الله : ” وَفِي سنة تسع كَانَ قَدُومُ عَامَّةِ وُفُودِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ تُسَمَّى سَنَةُ تِسْعٍ سَنَةَ الْوُفُودِ ” انتهى من “البداية والنهاية” (7/231) ، وينظر : “حدائق الأنوار ” للحضرمي (ص/365) .
ثانيًا: فقه الحديث (الأحكام والمسائل والملحقات)
أولاً: الوحي
سمى الله الطريق الذي يعلم الله به أنبياءَه ورسله وحيًا؛ قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: ١٦٣].
(المسألة الأولى): تعريف الوحي وأقسامه:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الوحي:
تمهيد: في تعريف الوحي لغة وشرعا، وبيان أنواعه التعريف اللغوي:
الوحي في اللغة: هو الإعلام السريع الخفي.
التعريف الشرعي: هو «إعلام الله أنبياءه، بما يريد أن يبلغه إليهم، من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة». [أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، (123 – 124)].
المطلب الثاني: أقسام الوحي:
أنواع الوحي: لتلقي الوحي من الله تعالى طرق بينها الله تعالى بقوله في سورة الشورى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١] (الشورى: ٥١). فأخبر الله تعالى أن تكليمه ووحيه للبشر يقع على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الوحي المجرد، وهو ما يقذفه الله في قلب الموحى إليه ومثال ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» أخرجه ابن ماجه في سننه
وألحق بعض أهل العلم بهذا القسم رؤى الأنبياء في المنام كرؤيا إبراهيم عليه السلام على ما أخبر الله عنه في قوله: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصافات: ١٠٢] (الصافات: ١٠٢) .
وكرؤى النبي صلى الله عليه وسلم في بداية البعثة على ما روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح». [صحيح البخاري برقم (٣)، وبنحوه في صحيح مسلم برقم (١٦٠)].
المرتبة الثانية: التكليم من وراء حجاب بلا واسطة؛ كما ثبت ذلك لبعض الرسل والأنبياء كتكليم الله تعالى لموسى على ما أخبر الله به في أكثر من موضع من كتابه، قال تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] (النساء: ١٦٤) .
وكتكليم الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ودليل هذه المرتبة من الآية قوله تعالى: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: ٥١] (الشورى: ٥١).
المرتبة الثالثة: الوحي بواسطة الملك؛ ودليله قوله تعالى: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: ٥١] (الشورى: ٥١) . قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ – نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ – عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٢ – ١٩٤]
ولجبريل عليه السلام في تبليغه الوحي لنبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحوال:
١ – أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلق عليها، ولم يحصل هذا إلا مرتين.
٢ – أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس فيذهب عنه وقد وعى الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال.
٣ – أن يتمثل له جبريل في صورة رجل، ويخاطبه بالوحي؛ كما مر في حديث جبريل السابق في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن مراتب الدين.
[أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، (124 – 126)].
(المسألة الثانية): أثر الملك في الرسول
من المزاعم التي يدعيها المكذبون بالرسل أن ما كان يصيب الرسول صلى الله عليه وسلم إنّما هو نوع من الصرع، أو اتصال من الشياطين به، وكذبوا في دعواهم، فالأمران مختلفان، فالذي يصيبه الصرع يصفرُّ لونه، ويخفُّ وزنه، ويفقد اتزانه، وكذلك الذي يصيبه الشيطان، وقد يتكلم الشيطان على لسانه، ويخاطب الحاضرين، وعندما يفيق من غيبوبته لا يدري ولا يذكر شيئًا ممّا خاطب به الشيطان الحاضرين على لسانه، أمّا الرسول صلى الله عليه وسلم فإن اتصال الملك به نماء في جسده، وإشراق في وجهه، ثمّ إن الجالسين لا يسمعون كلامًا، إنما يسمعون دويًا كدويّ النحل عند وجهه [ قال الحاكم: صحيح الإسناد، وحسنه البغوي في «شرح السنة» (٣/ ١٥٤)، وصححه ابن العربي في «أحكام القرآن» (٣/ ٣١١)]، ويقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وقد وعى كلّ ما أخبر به الملك، فيكون هو الذي يخبر أصحابه بما أوحي إليه.
فقد أخبرتنا عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها – «أنها رأت الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا»[رواه البخاري (٢)].
وفي رواية عنها: «إن كان لينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغداة الباردة، ثم تفيض جبهته عرقًا» [رواه مسلم (٢٣٣٣)].
وأخبرتنا «أنّ ناقته عندما كان يوحى إليه وهو فوقها يضرب حزامها وتكاد تبرك به من ثقله فوقها»[ذكره ابن حجر في «فتح الباري» (١/ ٢١) ويذكر أحد الصحابة «أنّ فخذه كانت تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل إليه، فكادت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم حين الإنزال إليه ترض فخذ الصحابي» [رواه البخاري (٢٨٣٢). من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه،
وهذا يعلى بن أمّية يحدثنا عن مشاهدة تنزُّل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان يتمنى قبل ذلك أن يراه في تلك الحال، قال: «فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمّر الوجه، وهو يغطُّ، ثمّ سُرِّي عنه» [رواه البخاري (١٥٣٦)، ومسلم (١١٨٠)].
(المسألة الثالثة): كيفية وحي الله عزوجل إلى الملائكة عليهم السلام:
ورد ذكر إيحاء الله عزوجل إلى الملائكة في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ وغير ذلك.
وعلى هذا فإن القرآن الكريم كلام الله أسمعه جبريل وبلغه جبريل عليه السلام كما سمعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وليس لجبريل ولا للرسول إلا البلاغ؛ كما دلت على ذلك النصوص القرآنية مثل قوله تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾.
(المسألة الرابعة): نزول القرآن الكريم منجمًا
سبق في مبحث «الوحي» بيان كيفية وحي الملك إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنواعه، وأن القرآن كله نزل بالوحي الجلي ولم ينزل منه شيء بالمنام أو الإلهام أو التكليم بلا واسطة.
والقرآن كله نزل بواسطة جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ ، وقال عزوجل: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾.
ومن الأدلة على نزول القرآن الكريم منجمًا:
١- قوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾.
٢- ما هو معلوم بالضرورة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من نزول القرآن عليه مفرقًا من بعثته إلى وفاته صلى الله عليه وسلم.
وأما مدة نزول القرآن منجمًا:
قال: «ويمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر، وهو أنه بعث على رأس الأربعين فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثم فتر الوحي، ثم تواتر وتتابع فكانت مدة تواتره وتتابعه بمكة عشر سنين من غير فترة». [فتح الباري: ابن حجر، ج٨ ص٦٢٠].
وعلى هذا يظهر أن القول: إن مدة النزول عشرون عامًا أو ثلاثة وعشرون عامًا، كالقول الواحد، وهو الصواب والله أعلم. [دراسات].
(المسألة الخامسة): كيفية نزول ألفاظ القران وتلقيها
علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم التفاصيل الدقيقة التي أحاطت بالنزول القرآني حيث بين لهم زمن النزول، ومدته، وسببه:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا (في رمضان) في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، أو أن يحدث منه في الأرض شيئا أحدثه». [الحاكم (٢/ ٢٤٠)، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»]، ومثل هذا لا يقال بمحض الرأي فله حكم الرفع، فهو تعليم منه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أضافه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مقرر في مواضعه [انظر في هذه المسألة في كتب أصول الحديث: مثل تدريب الراوي في تقريب النواوي (١/ ١٨٥)].
وعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم اليوم والشهر الذي نزل فيه القرآن ، فالشهر كما في قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: ١٨٥) واليوم وصفا كما في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} (الدخان: ٣) وقول الله عزوجل: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: ١) واليوم تحديدا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: يا رسول الله صوم يوم الاثنين؟ قال: «فيه ولدت، وفيه أنزل علي القرآن » [مسلم (٢/ ٨٢٠)، مرجع سابق].
وعلمهم صلى الله عليه وسلم متى يكثر النزول: فقد تتابع الوحي قبل وفاته مثلا، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه: «أن الله عزوجل تابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفي أكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله». [مسلم (٤/ ٢٣١٢)، مرجع سابق]، والمراد بالنسبة لما كان ينزل سابقا، فالأمر نسبي على ما هو معلوم.
كما علمهم صلى الله عليه وسلم متى يقل؛ كما في حديث عائشة: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ». [البخاري (٤/ ١٨٩٤)، مرجع سابق]، وعائشة رضي الله عنها لم تشهد ذلك، فيكون علمها بذلك عن تعليم تلقيني.
وتعلموا أماكن النزول، وهو ما يسمى بعلم المكي والمدني، وهو علم مستقل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة مكة والمدينة والشام». [مجمع الزوائد (٧/ ١٥٧)، مرجع سابق، وقال الهيثمي: «رواه الطبراني وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف»]، ولعله يعني بالشام- إن صح الحديث- أطراف الجزيرة حيث تبوك … كما ضبطوا الليلي والنهاري، والصيفي والشتائي [انظر تفاصيل ذلك في: الإتقان (١/ ٦٥)، مرجع سابق].
(المسألة السادسة): متى فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أولا:
فتر، يعني: انقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين:
مرة في أول نزول الوحي، ثم نزلت بعده سورة المدثر، ومرة بعد نزول عدة سور من القرآن، ثم نزلت بعده سورة الضحى.
فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (ثُمَّ فَتَرَ عَنِّى الْوَحْىُ فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى قِبَلَ السَّمَاءِ ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ ، حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إِلَى ( فَاهْجُرْ ). رواه البخاري (3238)، ومسلم (161) .
قال النووي رحمه الله:
“قوله (ثم تتابع الوحى) يعنى: بعد فترته، فالصواب أن أول ما نزل (اقرأ)، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحى (يا أيها المدثر) انتهى.
وروى البخاري (4953) حديث عائشة في بدء الوحي وفيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ورقة بما رأي، وقول ورقة له: “إِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا”. قالت عائشة: “ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ”.
وهذه هي المرة الأولى.
وروى البخاري (4950)، ومسلم (1797) عن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ – أَوْ ثَلاَثًا – ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ – أَوْ ثَلاَثَةٍ – فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).
وهذه هي المرة الثانية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
“الْفَتْرَة الْمَذْكُورَة فِي سَبَب نُزُول (وَالضُّحَى): غَيْر الْفَتْرَة الْمَذْكُورَة فِي اِبْتِدَاء الْوَحْي، فَإِنَّ تِلْكَ دَامَتْ أَيَّامًا، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا”. انتهى من “فتح الباري” (8/710).
وقال ابن عاشور رحمه الله:
“وَاحْتِبَاسُ الْوَحْيِ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ:
أُولَاهُمَا: قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ أَوِ الْمُزَّمِّلِ، وَتِلْكَ الْفَتْرَةُ هِيَ الَّتِي خَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ، وَهِيَ الَّتِي رَأَى عَقِبَهَا جِبْرِيلَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَثَانِيَتُهُمَا: فَتْرَةٌ بَعْدَ نُزُولِ نَحْوٍ مِنْ ثَمَانِ سُوَرٍ، أَيِ: السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْرَةِ الْأُولَى فَتَكُونُ بَعْدَ تَجَمُّعِ عَشْرِ سُوَرٍ”. انتهى من “التحرير والتنوير” (30/ 396).
ثانيا:
اختلف العلماء في مدة فترة الوحي الأولى، فقيل ثلاث سنين، وقيل قريبا من سنتين، أو سنتين ونصف، وقيل اثنا عشر يوما، وقيل خمسة عشر يوما، وقيل أربعون يوما، وقيل غير ذلك.
قال الحافظ رحمه الله:
“وَقَعَ فِي تَارِيخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُدَّةَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَانَت ثَلَاث سِنِين، وَبِه جزم ابن إِسْحَاقَ”. انتهى من “فتح الباري” (1/ 27).
وقال ابن كثير رحمه الله:
“قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ مُدَّةُ الْفَتْرَةِ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ”. انتهى من “البداية والنهاية” (4/ 42).
وقال الرازي:
“وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مُدَّةِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا”. انتهى من “تفسير الرازي” (31/ 192).
أما فترة الوحي الثانية فكانت ليلتين أو ثلاثا، كما تقدم في حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه.
وقال ابن كثير رحمه الله:
“نَزَلَتْ سُورَةُ وَالضُّحَى بَعْدَ فَتْرَةٍ أُخْرَى، كَانَتْ لَيَالِيَ يَسِيرَةً، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا”. انتهى من “البداية والنهاية” (4/ 41).
ثالثا :
كانت الحكمة من فتور الوحي مدة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
“وَفُتُورُ الْوَحْيِ: عِبَارَةٌ عَنْ تَأَخُّرِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِيَذْهَبَ مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُ مِنَ الرَّوْعِ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ”. انتهى من “فتح الباري” (1/ 27).
وقال مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ: “وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَتَتَابَعَ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَلَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَالضُّحَى) وَ (أَلَمْ نَشْرَحْ) بِكَمَالِهِمَا”. انتهى من “فتح الباري” (8/ 710).
رابعا :
لا يعرف على وجه التحديد ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم خلال فترة انقطاع الوحي، إلا أن المقطوع به أنه أحزنه ذلك، وأنه تشوف إلى عودته، ورغب في الأنس به بعد الذي أصابه من الفزع أول الأمر.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ رحمه الله:
“ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتْرةً مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى شقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَحْزَنَهُ، فَجَاءَهُ جبريلُ بِسُورَةِ الضُّحَى، يُقسم لَهُ رُّبه، وَهُوَ الَّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ، مَا ودَّعه وَمَا قَلاَه”. انتهى من “سيرة ابن هشام” (1/ 225). [لماذا فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم].
ثانيًا: الرد على بعض الشبهات في الباب:
(المسألة الأولى): وفي الرد على من يشكك في نسبة القرآن إلى الله تعالى:
من الأدلة على أن القرآن ليس من النبي صلى الله عليه وسلم – وتصل الأدلة إلى أربعة عشر دليلا عموما – :
أوقات نزوله ؛ فليس للنبي صلى الله عليه وسلم اختيار فيما ينزل أو متى ينزل، فقد يأتيه وهو في الفراش مع أهله، أو وهو نائم، أو مع أصحابه، أو وهو سائر، أو على البعير [انظر فتح الباري (١/٣٠)، فقد ذكر أن عند البيهقي حديث (وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها الأرض من ثقل ما يوحى إليه)]، وقد يتتابع الوحي ويحمى حتى يشعر بكثرته عليه له، وقد يفتر عنه حتى يشتاق إليه، بل قد يمرض من تأخره عليه؛ فقد روي عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ (الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْد) [متفق عليه].
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنا أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ، فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم … الحديث وفيه فَقَالَ: «لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ» … الحديث) [البخاري، رقم:٢٥٨١].
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» . فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ …» [أخرجه مسلم، رقم:٤٠٠].
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ: «أَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا»، قَالَ: فَنَزَلَتْ (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ([الْآيَةَ] [البخاري: كتاب بدأ الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم:٣٢١٨].
وعن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزوجل (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى. [متفق عليه].
فهذا دليل على أن القرآن ليس من النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعضها كافٍ في ذلك، ولكني جمعتها كلها حتى لا يكون للمعترض حجة.
(المسألة الثانية): شبهة: ادعاؤهم انقطاع الوحي بسبب جرو.
نص الشبهة: انقطاع الوحي بسبب جرو فأنزلت الآية ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)﴾
فجوابه من وجوه:
الوجه الأول: بيان ضعف حديث الجرو الذي ذكر أنه سبب في نزول هذه الآية
عن خولة، وكانت خادمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن جروًا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله صلى الله عليه وسلم أيامًا لا ينزل عليه الوحي… فأخذته فألقيته – يعني الجرو – خلف الجدار، فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه، وكان إذا نزل الوحي استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة دثريني، فأنزل الله تعالى: ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)﴾. [ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (٣٤٤٣)، وغيره كلهم من طريق حفص بن سعيد القرشي الأعور، قال: حدثتني أمي عن أمها خولة. . . به. قلت: وفي الحديث أم حفص وهي مجهولة؛ قال ابن عبد البر في الاستيعاب ٤/ ٣٩٣، وليس إسناد حديثها في ذلك مما يحتج به، قال الهيثمي في المجمع ٧/ ١٤١: رواه الطبراني، وأم حفص لم أعرفها. وقال البوصيري في الزوائد: ٨/ ١٩٨ وهذا إسناد ضعيف].
قال ابن حجر: وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب بل شاذ مردود بما في الصحيح والله أعلم. [فتح الباري ٨/ ٧١٠]
الوجه الثاني: بيان السبب الصحيح للآية
– عن جندب البجلي قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقل ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله عزوجل: ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾. [البخاري (٤٦٩٨)، ومسلم (١٧٩٧)].
الوجه الثالث: بيان أن الوحي تأخر ولم ينقطع مع ذكر سبب تأخره.
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ عليه السلام في سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ، وَفي يَدِهِ عَصًا فَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِه،ِ وَقَالَ: «مَا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَا رُسُلُهُ»، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ هَا هُنَا؟»، فَقَالَتْ: وَالله مَا دَرَيْتُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ؛ فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «وَاعَدْتَنِى فَجَلَسْتُ لَكَ فَلَمْ تَأْتِ». فَقَالَ: منعني الْكَلْبُ الذي كَانَ في بَيْتِكَ، إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ. [مسلم (٢١٠٤)]
قال النووي: قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى.
وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب؛ لكثرة أكله النجاسات، ولأن بعضها يسمى شيطانا كما جاء به الحديث، والملائكة ضد الشياطين، ولقبح رائحة الكلب والملائكة تكره الرائحة القبيحة، ولأنها منهي عن اتخاذها؛ فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته، وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبريكها عليه وفي بيته، ودفعها أذى للشيطان.
وأما هؤلاء الملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال… والأظهر أنه عام في كل كلب، وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث، ولأن الجرو الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير كان له فيه عذر ظاهر؛ فإنه لم يعلم به، ومع هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت، وعلل بالجرو، فلو كان العذر في وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل. والله أعلم [شرح النووي ١٤/ ٨٤]. [موسوعة محاسن الإسلام].
المسألة الثالثة : شبهة أن ما يصيبه نوبات صرع :
قال أبو شامة المقدسي – رحمه الله – : وهذا العرق الذي كان يغشاه صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث ، واحمرار الوجه ، والغطيط ، المذكوران في حديث يعلى بن أمية ، وثقله على الراحلة ، وعلى فخذ زيد بن ثابت كما ورد في حديثين آخرين : إنما كانت لثقل الوحي عليه كما أخبره سبحانه في ابتداء أمره بقوله ( إنِّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ، وذلك لضعف القوة البشرية عن تحمل مثل ذلك الوارد العظيم من ذلك الجناب الجليل ، وللوجل من توقع تقصير فيما يخاطب به من قول أو فعل . قال ابن إسحاق : ” وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملهما ولا يستطيع لها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله عز وجل ” . ” شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى ” ( ص 73 ، 74 ).
رابعاً: لم يثبت فيما وقفنا عليه من أحاديث أنه كان صلى الله عليه وسلم : يحنق عند فمه ، ولا أنه يتمدد على الأرض عندما يأتيه الوحي ، ولا أنه كان يعض على شفتيه ، ولا أنه يغلق عينيه . ويمكن لمن شاء أن يقول ما يشاء ، لكن ليس يستطيع أن يثبت ما يقول إلا القليل ، وها نحن أوردنا جميع ما وقفنا عليه من حالٍ للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه .
وبخصوص قول الصحابي إنه كان يُسمع للنبي صلى الله عليه وسلم غطيط كغطيط البَكر : فلنا معه وقفات :
- أن الواصف لهذا الصوت هو محب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بمبغض له ، ولو كان فيه إساءة له صلى الله عليه وسلم فما يحمله على إخبار الأرض به ؟! ولو كان في ذلك أدنى منقصة أو مذمة لتكلمت بها العرب ، ولذموا صاحبهم بذلك ، وهيهات !!
- أن التشبيه بالإبل في أصواتها وهيئاتها وبروكها وتحملها وحقدها وغير ذلك : أمرٌ معروف عند العرب قديماً وحديثاً ، وليس فيه ما يعيب ؛ لأن المقصود ضرب المثل ، وتقريب الصورة ، وأكثر ما يرونه ويعرفونه هو الإبل ، فكان التشبيه بها لمناسبة حال المتكلم والسامع .
خامساً: وأما اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يصيبه الصرع ، وأنه ليس ثمة وحي من الله إنما هي أعراض مرض الصرع : فكلام ساقط ، يغني نقله عن نقده ، لكن لا مانع أن نبين للناس فساده لأجل أن يعلموا أن أولئك القوم إنما يسوِّقون الأكاذيب لنشر دينهم ، وليس عندهم في دينهم ما يدعو الناس للدخول فيه ، إنما هي الوثنية ، والأكاذيب ، واستغلال حاجة الناس وفقرهم ، وقد ساءهم أن الدين الإسلامي برغم كل المؤامرات عليه من أهله ومن أعدائه لا يزال هو الدين الأسرع والأكثر انتشاراً في الأرض .
قال ابن تيمية :
وأما ما كان يعتريه عند نزول الوحي، فلم يكن في ذلك تغيّب عقله، فإنه صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، ولهذا لم يكن يتوضأ من النوم، ولمن يكن يغتسل ويتوضأ بعد نزول الوحي…
وقال : وإذا كان في منامه لا ينام قلبه مع أن غيبه الظاهر هو فيه كغيره في المنام، فكيف ينام قلبه عند نزول الوحي عليه، وبه يتلقّى الوحي النازل عليه.
جامع المسائل – ابن تيمية – ط عطاءات العلم ٧/١٨٧
ومما يبين فساد ادعائهم أن النبي صلى الله عليه وسلم مصاب بداء الصرع وأن ما كان يعانيه من الشدة والأحوال التي ذكرناه سابقاً ليست بسبب الوحي من الله ، أمور كثيرة ، منها :
- أن الصرع كان معروفاً عند العرب ، وكانوا يميزون المصروعين من غيرهم ، فلو رأوا آثار الصرع عليه صلى الله عليه وسلم لما وفَّروا تلك التهمة .
- بل إن الذين كانوا يبتلون بداء الصرع – بل بعموم الأمراض حتى لو كان مرض العمى – كانوا يأتون للنبي صلى الله عليه وسلم ليدعوَ الله لهم أن يشفيهم من مرضهم ذاك ، فكيف لا يدعو لنفسه ويدعو للآخرين وهو يعلم من نفسه منزلته عند ربِّه وأن دعاءه مظنة الاستجابة ؟. ومما يدل على كلا المسألتين السابقتين : عن عَطَاء بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ ( إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ ) قَالَتْ : أَصْبِرُ ، قَالَتْ : فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا . رواه البخاري ( 5328 ) ومسلم ( 2576 ) .
- ومن علامات كذب أولئك القوم من المستشرقين وأتباعهم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنهم ربطوا كذبهم عليه بإصابته بمرض الصرع بوقت النبوة ! فأين كان هذا المرض قبل ذلك لو كانوا صادقين ؟! .
- ثم إننا تعمدنا ذِكر أنواع الوحي وطرقه لنبين للناس كذبهم ودجلهم ؛ فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني من شدة الوحي في بعض الصور فالأمر ليس كذلك في بعضها الآخر ، فماذا هم قائلون عن تلك الصور الأخرى كالنفث في الروع والرؤيا ومجيء جبريل بصور رجل من البشر ؟! .
- وقد تعمدنا ذِكر الأحوال التي يكون عليها النبي صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه في صوره المشهورة لنبين للناس – أيضاً – نفي تلك التهمة الساذجة الممجوجة عنه ، فثمة علامات للمصاب بمرض الصرع وجدنا عكسها في حال النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :
أ. أن المريض بالصرع يبرد جسمه أثناء الصرع ، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم عكس ذلك فقد كان يصاب بالبُرَحاء ، وكان يعرق شديداً حتى في اليوم الشديد البرد ! .
ب. أن المصروع يتخبط ويتمايل ويُلقى على الأرض ويتمدد ولا يملك نفسه ، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك ، فهو ثابت القلب ، قوي البدن ، وهو إما يكون قائماً على منبره ، أو جالساً على دابته ، أو بين أصحابه ، ويبقى هكذا حين نزول الوحي عليه لا يميل يميناً ولا شمالاً ، ولا يُلقى على الأرض ولا يتمدد ، وليس يظهر عليه أي أثر من أولئك المصابين بالصرع ، والأدلة السابقة خير شاهد على هذا . وها هو دليل آخر أخَّرناه لمناسبة وضعه هنا : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً جَسِيمَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا سَوْدَةُ أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ ؟! قَالَتْ : فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ ، فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا ؟! قَالَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ ، فَقَالَ : ( إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ ) . رواه البخاري ( 4517 ) ومسلم ( 2170 ) . ( عَرْق ) هو العظم الذي أخذ عنه أكثر اللحم . قال ابن كثير – رحمه الله – : فدلَّ هذا على أنه لم يكن الوحي يغيِّب عنه إحساسه بالكلية ، بدليل أنه جالس ولم يسقط العَرْق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائماً عليه . ” السيرة النبوية ” ( 1 / 423 ) . ولعلَّ هذا الحديث وحده كافٍ لأن يكون سبباً في إصابة أولئك المفترين بالصرع ! .
ج. المصروع لا يذكر ما حصل معه أثناء صرعه ، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك ، فهو يأتي بما يسمعه على أتم وجه ، ويسأل عن الذي كان الوحي السبب في نزوله ، كما سأل عن صاحب الجبَّة في العمرة ، كما في حديث يعلى بن أمية ، وغيره من المواضع .
د. المصروع يأتي بالهذيان والكلام الذي لا معنى له أثناء صرعه ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بالحكَم الجليلة والمواعظ الحسنة والأحكام العظيمة ، فأين هذا من ذاك ؟! .
هـ. والمصروع يحتاج بعد نوبة صرعه إلى فترة راحة ؛ لشدة ما عاناه من تعب وألم ، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك ، فبعد انتهاء مهمة الوحي يسرَّى عنه ، ويكون على حاله الذي كان عليه من قبل في قوة بدنه وعظمة فكره .
و. والمصروع يسقط ما يكون قابضاً عليه في يده ، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك ، وسيأتي بعد قليل الدليل على ذلك .
ز. والمصروع يحزن على حاله ويتأسف عليها ، بل وكثيرون انتحروا أو حاولوا الانتحار بسبب إصابتهم بذلك المرض ، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم على العكس من هذا ؛ فإنه لما انقطع عنه الوحي لفترة ” حزن حزناً شديداً ” ! فأين هذا من ذاك ؟! .
ح. والمصاب بالصرع يصفر وجهه ، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتغير بالحمرة ، والمصاب بالصرع يصيح صيحات عالية ، وليس هذا واقع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكثيراً ما يُغمى على المصروع ، وليس هذا واقعه صلى الله عليه وسلم ، ويؤذي المصروع نفسه بجرحها أو تقريب بدنه من نار ، ولم يكن شيء من هذا في واقع النبي صلى الله عليه وسلم ، والمصروع يعض لسانه ويمتزج لعابه بالدم ، وليس هذا واقع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل ما يُذكر في آثار الصرع على المصابين به لا تجده عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا شيئاً يسيراً منه .
فتبين بذلك كذبهم وافتراؤهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والويل لهم مما يصفون .
- كان المشركون في جاهليتهم يأتمنون النبي صلى الله عليه وسلم على أغراضهم ، وبقي الأمر على ذلك حتى بعد أن دعاهم إلى الإسلام ، وقد أوصى بإرجاعها قبل أن يهاجر إلى المدينة ، أفيمكن أن يكون مصاباً بذلك المرض ثم يأتمنه أهله وأقرباؤه وجيرانه ؟! إنهم أعلم به من هؤلاء المستشرقين الكذبة ، ولو كان ما افتروه عليه صحيحاً لكان للكفار شأن آخر معه فيما يختص بأغراضهم التي ائتمنوه عليها .
- وكيف يقود هذا المصاب بالصرع – حاشاه – أمة كاملة ، ويقود الجيوش ، ويحارب الكفار ، ويراسل الملوك ، ويصلح بين الناس ؟!
- ونختم بذكر شهادات مضادة لأولئك الكذبة من المستشرقين ، ليست شهادات من أئمة الإسلام وعلماء ، بل هي شهادات لكتاب ومؤرخين غربيين ، من بلدان مختلفة :
أ. قال الكاتب والمؤرخ الإنجليزي السير “توماس كارليل” : ” لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمدا خَدَّاع مُزَوِّر ؛ وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ؛ فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا [ توفي كارليل (1881م) ] ، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا ، خلقهم الله الذي خلقنا ؛ أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين من الفائتة الحصر والإحصار أكذوبة وخدعة ؟! أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا ، ولو كان الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ، ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول : فما الناس إلا بُلْهٌ ومجانين ، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة ، كان الأولى بها ألا تخلق !! فوا أسفاه ؛ ما أسوأ مثل هذا الزعم ، وما أضعف أهله ، وأحقهم بالرثاء والمرحمة !! وبعد ؛ فعلى من أراد أن يبلغ منزلةً ما في علوم الكائنات أن يصدق شيئا ألبتة من أقوال أولئك السفهاء ؛ فإنها نتائج جيل كفر ، وعصر جحود وإلحاد ؛ وهي دليل على خبث القلوب ، وفساد الضمائر ، وموت الأرواح في حياة الأبدان ، ولعل العالم لم ير قط رأيا أكفر من هذا ولا ألأم!!” . انتهى . ”الأبطال” (45-55)
.ب. ويقول الكاتب والمؤرخ الأمريكي ” ول ديورانت ” : ولم يكن المحيطون بالنبي في هذه الأوقات يرون جبريل أو يسمعونه ، وقد يكون ارتجافه ناشئاً من نوبات صرع فقد كان يصحبه في بعض الأحيان صوت وصفه بأنه يشبه صلصلة الجرس ، وتلك حال كثيراً ما تحدث مع هذه النوبات ، ولكننا لا نسمع أنه عض في خلالها لسانه ، أو حدث ارتخاء في عضلاته كما يحدث عادة في نوبات الصرع , وليس في تاريخ محمَّد ما يدل على انحطاط قوة العقل التي يؤدي إليها الصرع عادة ، بل نراه على العكس يزداد ذهنه صفاء ، ويزداد قدرة على التفكير ، وثقة بالنفس ، وقوة بالجسم والروح والزعامة ، كلما تقدمت به السن ، حتى بلغ الستين من العمر . وقصارى القول : أنا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن ما كان يحدث للنبي كان من قبيل الصرع ، ومهما يكن ذلك الدليل : فإنه لا يقنع أي مسلم مستمسك بدينه . ” قصة الحضارة ” ( 13/26 ) ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
ج. ويقول المستشرق الألماني ” ماكس مايرهوف ” : لقد أراد بعضهم أن يَرى في محمَّد رجلاً مصاباً بمرض عصبي ، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره ليس فيه شيء يدل على هذا ، كما أن ما جاء به فيما بعدُ من أمور التشريع والإدارة يناقض هذا القول ” . بواسطة ” آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره ” ( 1 / 403 ) للدكتور عمر بن إبراهيم رضوان ، وفيه نقض لتلك الشبهة .
هذا ما تيسر ذِكره لنقض تلك المفتريات على نبي الأمَّة صلى الله عليه وسلم ، وإننا لنزداد قناعة كل مرة نشهد كذب المفترين عليه أنهم أهل أهواء وضلالة ، ونزداد حبّاً وتعظيماً لذلك النبي الكريم ، وكل كذب وافتراء عليه يكشف لنا جوانب خفية عنه تُعلم بالبحث والدراسة ، وهذا من العجائب أن تزيدنا تلك الشبهات والافتراءات قناعة بصحة ديننا وعظمة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وتزيدنا قناعة بإفلاس أولئك الخصوم ، فلا دين عندهم ولا دنيا ! بل خرافات وضلالات مع جهل وكذب وافتراء . ونسأل الله تعالى أن يهدي ضالَّ المسلمين ، وأن يعلي قدر نبيه في الدارين ، وأن يتوفنا على الإيمان .
المسألة الرابعة :
نزول جبريل بعد وفاة الرسول…بين الإمكان وعدمه؟
فإن كان المقصود بنزول جبريل عليه السلام نزوله بالوحي، فهذا غير صحيح، لأن الوحي قد انقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه، لعمر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟! ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي، أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها.
وإن كان المقصود بذلك نزوله بغير الوحي فإن هذا ممكن في أي زمان، كما ورد عن بعض المفسرين من تفسير الروح بجبريل عليه السلام في قوله تعالى عن ليلة القدر: تنزل الملائكة والروح [القدر:4].
وكذا في قوله تعالى: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [المعارج:4].
وهو تفسير يؤيده قوله تعالى: نزل به الروح الأمين [الشعراء:193].
وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة.
فوائد الحديث:
1 – (منها): اكتمال الدين قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، مما يدل على حفظ الله لشريعته.
2 – (ومنها): تأكيد عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم حتى آخر لحظات حياته.
3 – (ومنها): فضل الوحي وأثره العظيم في حياة المسلمين.
4 – (ومنها): بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش مع الوحي حتى آخر لحظة من حياته.
5 – (ومنها): عناية الله بالأمة، بتتابع الوحي حتى اكتمال التشريع.
6 – (ومنها): إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، باستمرار الوحي حتى وفاته.
7 – (ومنها): بيان منزلة السنة، كون الوحي يشمل السنة القولية والفعلية.
8 – (ومنها): التأكيد على اكتمال الدين؛ كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3].
9 – (ومنها): بعد فتح مكة، كثرت الوفود والأسئلة عن الأحكام، فكثُر نزول الوحي لتوضيحها.
10 – (ومنها): حكمة الله تعالى في كثرة الوحي قبل الوفاة؛ لبيان ما يحتاجه المسلمون بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم .
تنبيه رقم ١ :
قال باحث :
عبدالرحمن بن عبدالعزيز الأمامي
من ذرية أبي أمامة بن سهل، ويغلب على ظني أنهما واحد» (التعجيل ٦٣٦).
أي أَنَّ البخاري قد فرق (١) بين الراوي عن يعلى وبين الأمامي – وهو ابن حنيف -، ويراهما ابن حجر رجلًا واحدًا، مع أنه قد فرق بينهما أيضًا أبو حاتم الرازي، وأقره ابنه عبد الرحمن في (الجرح والتعديل ٥/ ٢٦٠)، ومع ذلك فقد عمل ابن حجر بظنه ذاك في ترجمة الأمامي من (تهذيب التهذيب ٦/ ٢٢٠)، فذكر كلام ابن معين ضمن كلام النقاد في ابن حنيف الأمامي، وكذا خلط بينهما الذهبي في (الميزان ٢/ ٥٧٧).
والصواب التفرقة بينهما كما ذهب إليه البخاري وأبو حاتم وابنه، ويؤيده عدة أمور:
أولها: أنهم لم يذكروا يعلى بن مرة في شيوخ ابن حنيف، ولا ذكروا عثمان بن حكيم في تلاميذه، ومن عادتهم أنهم يحرصون على أَنْ يذكروا في شيوخ الرجل أقدمهم وأجلهم، ولاسيما الصحابة، وكذا يذكرون في من روى عنه من هو أكبر منه، وليس في من ذكر من شيوخ ابن حنيف من هو أقدم وأجل من يعلى، فلو كان صاحبنا هو ابن حنيف لحرصوا على ذكر يعلى في شيوخه، وكذلك لحرصوا على ذكر عثمان في تلاميذه، لكونه أعلى من ابن حنيف كما سيأتي.
الثاني: أَنَّ صاحبنا قال فيه ابن معين: «مجهول»، وأقره ابن عدي،
وابن حنيف الأمامي مشهور معروف، وإن اختلف فيه النقاد، فقد روى له مسلم، ووثقه يعقوب بن شيبة.
وقال ابن سعد: «كان عالما بالسيرة وغيرها، وكان كثير الحديث» (الطبقات الكبرى ٧/ ٥٨٧)، وذكره ابن حبان في (الثقات ٧/ ٧٥) وقال: «من جلة أهل المدينة» (المشاهير ١٠١١)، وقال أبو حاتم: «شيخ مضطرب الحديث»، وقال الأزدي: «ليس بالقوي عندهم» (تهذيب التهذيب ٦/ ٢٢٠).
الثالث: أَنَّ صاحبنا إنما روى عنه عثمان بن حكيم المتوفي (١٣٨ هـ)، وهو من الطبقة الخامسة، فهو أعلى من ابن حنيف المتوفي (١٦٢ هـ)، وهو من الطبقة الثامنة، فلو كان صاحبنا هو ابن حنيف، فيكون عثمان قد روى عمن هو أصغر منه بطبقتين، والأصل خلافه، حتى يثبت العكس، ولا دليل عليه، ولا حاجة إليه، وعلى فرض صحة ما ظنه
ابن حجر، فيكون الإسناد منقطعًا بين ابن حنيف ويعلى، إذ لا سماع لهذه الطبقة من الصحابة بل ولا إدراك، فالإسناد معلول على أية حال.
التنبيه الثاني:
قول ابن معين في عبد الرحمن بن عبد العزيز: «شيخ مجهول»، قد جاء في سياق أحدث اختلافًا في فهمه، حيث قال الدارمي سائلا ابن معين: «فعثمان بن حكيم عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، من هذا؟ فقال:»شيخ مجهول«، قال: فقلت: فعبد الله بن حفص الذي يروي عنه؟ قال:»شيخ لا أعرفه«(التاريخ ٤٦٣، ٤٦٤).
ففهم الحافظ ابن عدي أَنَّ قول ابن معين:»شيخ مجهول”، إنما هو في عبد الرحمن بن عبد العزيز، وهو الصواب، فذكره في ترجمته من (الكامل)، وأقره كما سبق.
بينما فهم ابن أبي حاتم من ذلك أَنَّ قوله: «شيخ مجهول» إنما هو في عثمان، فترجم لعثمان بن حكيم أبي سهل الأنصاري الثقة، ثم ترجم لعثمان بن حكيم الأودي، ثم ترجم لثالث، فقال: «عثمان بن حكيم روى عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، روى عنه عبد الله بن حفص»!، ثم أسند عن الدارمي ما ذكرناه آنفًا (الجرح والتعديل ٦/ ١٤٧).
وتبعه على ذلك الذهبي في (المغني ٤٠١٤) و(الميزان ٣/ ٣٢)، ولم يعلق عليه ابن حجر في (اللسان ٥١٠٧)، مع أنه قد ذكر كلام ابن معين نقلا عن الدارمي في ترجمة عبد الرحمن بن عبد العزيز الأمامي! كما سبق، وكذا ذكره الذهبي مع كلام ابن عدي أيضًا في ترجمة الأمامي! (الميزان ٢/ ٥٧٧).
وصنيع ابن أبي حاتم مجانب للصواب، لعدة أمور:
الأول: أَنَّ عبد الله بن حفص الذي سأل عنه الدارمي لا يروي عن عثمان بن حكيم أصلا، وإنما يروي عن يعلى بن مرة كما تراه في ترجمته من كتب التراجم، ولا تعرف له رواية عن غيره، فهو أعلى طبقة من عثمان الذي يروي عن رجل عن يعلى! .
الثاني: أَنَّ عثمان بن حكيم المذكور في كلام الدارمي بأنه يروي عن عبد الرحمن بن عبد العزيز هو نفسه أبو سهل الأنصاري الثقة، وليس آخرًا مجهولًا كما زعم ابن أبي حاتم، فقد روى عنه عبد الله بن نمير، وهو معدود في تلاميذ أبي سهل الأنصاري.
الثالث: أنه قبل هذه الترجمة -التي اختلف في فهمها- بأربع تراجم سأل الدارمي ابن معين عن عثمان بن حكيم، فقال: «ثقة» (التاريخ ٤٥٨)، فلو كان المراد من الموضع الثاني: هو ما فهمه ابن أبي حاتم؛ لكان الأنسب والأولى أَنْ يذكر عقب هذه الترجمة مباشرة دون فصل للتمييز بينهما.
إذن فالسؤال في قول الدارمي: «من هذا» إنما هو عن عبدالرحمن بن عبدالعزيز كما فهم ابن عدي، وليس عن عثمان بن حكيم كما فهم ابن أبي حاتم، فأما عن سبب هذا الإشكال وهو الضمير في قوله: «فعبد الله بن حفص الذي يروي عنه»، فله احتمالان:
أولهما: أَنْ يكون صواب العبارة: «الذي يُرْوى عنه» بالبناء للمجهول.
الثاني: أَنَّ الضمير في قوله: «عنه» يعود على يعلى بن مرة، وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن رواية عثمان بن حكيم عن عبد الرحمن بن عبد العزيز إنما هي لحديث يعلى هذا فقط، ونفس هذا الحديث قد رواه عبد الله بن حفص عن يعلى وإن خالف في متنه، فطالب العلم الذي يعرف المتن المروي عن عثمان عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، وأن كلا من عبد الرحمن وعبد الله بن حفص قد رويا هذا المتن عن يعلى، يعرف مرجع الضمير دون عناء، والله أعلم.