303 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
37 – باب الإِنفاق مِمَّا يحبُّ ومن الجيِّد
قَالَ الله تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوامِنْ طَيِّبَاتِ مَاكَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلاتَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267].
هذا الباب كالضابط للباب السابق وكالمبين له والشارح له.
قوله (باب الإنفاق مما يحب ومن الجيد) قال ابن علان:” أي من محبوبه طبعاً فما مصدرية أو من الذي، أو من شيء يحبه، فما موصول اسمي أو نكرة موصوفة والعائد محذوف عليهما (ومن الجيد) عادة، أو من الجيد بالنسبة للمدفوع إليه المحبوب عنده.” (دليل الفالحين 1/ 496)
قال ابن عثيمين:” قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب الإنفاق مما يحب ومن الجيد، لما ذكر رحمه الله وجوب الإنفاق على الزوجة وعلى الأقارب، ذكر أنه ينبغي للإنسان أن يكون ذا همة عالية، وأن ينفق من أطيب ماله ومما يحب من ماله، وهناك فرق بين الأطيب وبين الذي يحب، الغالب أن الإنسان لا يحب إلا أطيب ماله، لكن أحياناً يتعلق قلبه بشيء من ماله وليس أطيب ماله فإذا أنفق من الطيب الذي هو محبوب لعامة الناس ومما يحبه هو بنفسه وإن لم يكن من الطيب؛ كان ذلك دليلاً على أنه صادق فيما عامل الله به.
ولهذا سميت الصدقة صدقة لدلالتها على صدق باذلها، فالإنسان ينبغي له أن ينفق الطيب من ماله، وينبغي له أن ينفق مما يحب، حتى يصدق في تقديم ما يحبه الله عز وجل على ما تهواه نفسه.” (شرح رياض الصالحين 3/ 161)
كان ابن عمر من يعمل بهذه الآية، و كان إذا رأى من رقيقه أمراً يُعجبه أعتقه، فعرف رقيقه ذلك منه، فكانوا يحسنون العمل أمامه، فيعتقهم. فعاتبه أصحابه قائلين: «والله يا أبا عبد الرحمن ما هم إلا يخدعونك». فيقول: «من خدعنا بالله انخدعنا له. (الطبقات لابن سعد)
عن نافع، قال: ما أعجب ابن عمر شيء من ماله إلا قدمه، بينا هو يسير على ناقته، إذ أعجبته، فقال: إخ إخ. فأناخها، وقال: يا نافع، حط عنها الرحل. فجللها، وقلدها، وجعلها في بدنه. (سير أعلام النبلاء 3/ 217)
قال ابن حجر:” ممن عمل بالآية بن عمر فروى البزار من طريقه أنه قرأها قال فلم أجد شيئا أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها” (فتح الباري 8/ 224)
قال ابن تيمية:” قال الله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} فما كان أحب إلى المرء إذا تقرب به إلى الله تعالى كان أفضل له من غيره … قال بعض السلف: لا يهدي أحدكم لله تعالى ما يستحي أن يهديه لكريمه.” (مجموع الفتاوى 31/ 251)
قال القرطبي:” ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك. ألا ترى أبا طلحة حين سمع” لن تنالوا البر حتى تنفقوا” الآية، لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة.” (تفسير القرطبي)
قال ابن علان:” ({لن تنالوا البر}) أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة ({حتى تنفقوا مما تحبون}) أي من المال أو مما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الإخوان والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله، ومن للتبعيض أو للابتداء، ويؤيد الأول أنه قراء (بعض) في مكان (من).” (دليل الفالحين 1/ 497)
قال السعدي:” هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات، فقال (لن تنالوا) أي: تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة، (حتى تنفقوا مما تحبون) أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك، ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثابا عليه العبد، سواء كان قليلا أو كثيرا، محبوبا للنفس أم لا، وكان قوله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.” (تفسير السعدي)
قال فيصل آل مبارك:” يقول تعالى: لن تنالوا كمال الخير الذي يسرع بكم إلى دخول الجنة حتى تنفقوا مما تحبون من أموالكم، وقال عطاء: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، أي: شرف الدين والتقوى حتى تتصدَّقوا وأنتم أصحَّاء أشحَّاء.” (تطريز رياض الصالحين ص212)
قال ابن باز:” ينبغي للمؤمن أن ينافس في الخيرات وأن يخرج من طيب كسبه من طيب ماله، يرجو ما عند الله جل وعلا؛ لأن التقرب إلى الله يكون بما يناسبه سبحانه من الطيب؛ لا من الخبيث، فالنفقة عنده مضاعفة والأجر عنده مضاعف جل وعلا، فلا يليق بالمؤمن أن يتقرب بالردي والخبيث، بل ينبغي له أن يبادر إلى الطيب” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 566)
قال ابن عثيمين:” البر يعني الخير الكثير، ومنه سمي البر للخلاء الواسع، فالبر هو الخير الكثير، يعني لن تنال الخير الكثير ولن تنال رتبة الأبرار حتى تنفق مما تحب.
والمال كله محبوب لكن بعضه أشد محبة من بعض، فإذا أنفقت مما تحب؛ كان ذلك دليلاً على أنك صادق، ثم نلت بذلك مرتبة الأبرار.” (شرح رياض الصالحين 3/ 161)
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوامِنْ طَيِّبَاتِ مَاكَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلاتَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267].
روى أبودواد عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَبِيَدِهِ عَصًا، وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ قَنًا حَشَفًا، فَطَعَنَ بِالْعَصَا فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ، وَقَالَ: ” لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا “. وَقَالَ: ” إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَاكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “. (حسنه الألباني) القنا: غصن النخلة و الحشف: التمر اليابس الفاسد
قال ابن كثير:” يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة هاهنا ; قاله ابن عباس
من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها. قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم.
وقال علي والسدي (من طيبات ما كسبتم) يعني: الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض.
قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولهذا قال: (ولا تيمموا) أي: تقصدوا (الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه) أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون.
وقيل: معناه (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه.” (تفسير ابن كثير)
قال السعدي:” يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب، ومما أخرج لهم من الأرض فكما منَّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه شكرا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرا لأموالكم، واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم، ولا تيمموا الرديء الذي لا ترغبونه ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة” (تفسير السعدي)
قال ابن عثيمين:” قال تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) [البقرة: 267]، الخبيث من كل شيء بحسبه، فالخبيث من المال يطلق على الرديء، ويطلق على الكسب الرديء، ويطلق على الحرام.
فمن إطلاقه على الرديء قوله تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) هذا بقية الآية التي أولها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) والخارج من الأرض منه الطيب ومنه الرديء، قال: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) أي: لا تقصدوا الخبيث وهو الرديء تنفقون منه، (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يعني لو كان الحق لكم ما أخذتم الرديء إلا على إغماض وعلى كره، فكيف ترضون لغيركم أن تعطوه الرديء وأنتم تأبون أن تأخذوه؟!
وهذا من باب الاستدلال على الإنسان بما يقر ويعترف به؛ لأنه لا يرضى أن يأخذ الرديء بدلاً عن الطيب فكيف يرضى أن يعطي الرديء بدلاً عن الطيب؟!
فالخبيث بمعنى الرديء ومن ذلك أيضاً تسمية النبي صلى الله عليه وسلم البصل والكراث الشجرة الخبيثة؛ لأنها رديئة منتنة كريهة، حتى إن الإنسان إذا أكل منها وبقيت رائحتها في فمه فإنه يحرم عليه أن يدخل المسجد، لا للصلاة ولا لغير الصلاة؛ لأن المسجد معمور بالملائكة فإذا دخل المسجد آذى الملائكة، والملائكة طيبون، والطيبون للطيبات، تكره الخبائث من الأعمال والأعيان، فإذا دخلت المسجد وأنت ذو رائحة كريهة آذيت الملائكة.
ومن إطلاق الخبيث على الكسب الرديء قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كسب الحجام خبيث)) الحجام الذي يخرج الدم يخرج بالحجامة، هذا كسبه خبيث، يعني رديء وليس المراد أنه حرام، قال ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه: لو كان كسب الحجام حراماً ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجرته، فقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجام أجره، ولو كانت حراماً ما أعطاه؛ لأن الرسول لا يقر على الحرام ولا يعين على الحرام، لكن هذا من باب أنه كسب رديء دنيء ينبغي للإنسان أن يتنزه عنه، وأن يحجم الناس إذا احتاجوا إلى حجامته تبرعاً وتطوعاً.
ومن إطلاق الخبيث على المحرم قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف: 157]، يعني يحرم عليهم الخبائث وهي ضد الطيبات، مثل الميتة، لحم الخنزير، المنخنقة، الخمر، وما أشبه ذلك.
ومعنى الآية أنه لا يحرم إلا الخبائث، وليس معناها أن كل خبيث يحرمه؛ لأن المعروف أن الخبيث يطلق على أوصاف متعددة، لكن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يحرم إلا الخبائث.
فالحاصل أن الله عز وجل نهى أن يقصد الإنسان الرديء من ماله فيتصدق به، وحث على أن ينفق مما يجب ومما هو خير.” (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 161و 162 و 163 و 164)
303 – عن أَنس رضي اللَّه عنه قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ رضي اللَّه عنه أَكْثَر الأَنْصَارِ بِالمدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحاءَ، وَكانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المسْجِدِ وكانَ رسولُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يدْخُلُهَا وَيشْربُ مِنْ ماءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فلَمَّا نزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أَبُو طَلْحَةَ إِلى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقال: يارسولَ اللَّه إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْكَ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالي إِلَيَّ بَيْرَحَاءَ، وإِنَّهَا صَدقَةٌ للَّهِ تَعَالَى أَرْجُو بِرَّهَا وذُخْرهَا عِنْد اللَّه تَعَالَى، فَضَعْها يَا رَسُول اللَّه حيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فقال رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “بَخٍ، ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ، ذلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبِينَ” فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رسولَ اللَّه، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أَقَارِبِهِ، وَبَني عَمِّهِ. متفقٌ عَلَيهِ.
وقولُهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “مالٌ رَابحٌ” رُوي في الصحيحين”رَابحٌ”و”رَايحٌ”بالباءِ الموحدةِ وبالياءِ المثناةِ، أَيْ رَايحٌ عَلَيْكَ نَفْعُهُ، وَ”بَيرَحَاءُ”حَدِيِقَةُ نَخْلٍ، وروي بكسرِ الباءِ وَفتحِها.
قوله: (وكان أحب أمواله إليه بيرحاء) اختلفوا في ضبط هذه اللفظة على أوجه: قال القاضي رحمه الله: روينا هذه اللفظة عن شيوخنا بفتح الراء وضمها مع كسر الباء، وبفتح الباء والراء، … وذكر مسلم رواية حماد بن سلمة هذا الحرف (بريحاء) بفتح الباء وكسر الراء، وكذا سمعناه من أبي بحر عن العذري والسمرقندي، وكان عند ابن سعيد عن البحري من رواية حماد (بيرحاء) بكسر الباء وفتح الراء، وضبطه الحميدي من رواية حماد (بيرحاء) بفتح الباء والراء، ووقع في كتاب أبي داود: ” جعلت أرضي باريحا لله “. وأكثر رواياتهم في هذا الحرف بالقصر، ورويناه عن بعض شيوخنا بالوجهين، وبالمد وجدته بخط الأصيلي، وهو حائط يسمى بهذا الاسم، وليس اسم بئر، والحديث يدل عليه. والله أعلم. هذا آخر كلام القاضي. ” شرح النووي)
قال ابن حجر:” وقوله فيه: ” بيرحاء ” بفتح الموحدة، وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمد، وجاء في ضبطه أوجه كثيرة جمعها ابن الأثير في النهاية، فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر، فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة ” بريحا ” بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود: ” باريحا ” مثله لكن بزيادة ألف، وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور، وكذا جزم به الصغاني” (فتح الباري)
قال ابن باز:” بيرحاء نخل في مستقبل المسجد كان النبي يزوره ويشرب من ماء فيها” (شرح رياض الصالحين لابن باز1/ 567)
في رواية أخرى أن أبا طلحة قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه) إلى آخره. فيه دلالة للمذهب الصحيح، وقول الجمهور أنه يجوز أن يقال: إن الله يقول، كما يقال: إن الله قال … وقد قال الله تعالى: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة باستعمال ذلك، وقد أشرت إلى طرف منها في كتاب الأذكار (شرح النووي)
(قوله أرجوا برها وذخرها) قال القاري:” أي نتيجتها المدخرة، وفائدتها المدخرة، يعني لا أريد ثمرتها العاجلة الدنيوية الفانية، بل أطلب مثوبتها الآجلة الأخروية الباقية” (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/ 1356)
قوله صلى الله عليه وسلم: (بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح) قال أهل اللغة: يقال: (بخ) بإسكان الخاء وتنوينها مكسورة، وحكى القاضي الكسر بلا تنوين، وحكى الأحمر التشديد فيه … قال الداودي: بخ كلمة تقال إذا حمد الفعل، وقال غيره: تقال عند الإعجاب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: مال رابح. فضبطناه هنا بوجهين بالياء المثناة وبالموحدة، وقال القاضي: روايتنا فيه في كتاب مسلم: بالموحدة، واختلفت الرواة فيه عن مالك في البخاري والموطأ وغيرهما، فمن رواه بالموحدة فمعناه ظاهر، ومن رواه (رايح) بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخرة. (شرح مسلم)
قال القرطبي:” (ذلك مال رابح)؛ المشهور: رابح بالباء بواحدة من الربح. ووصف المال بالرابح؛ لأنه بسببه يربح، كما قال تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُم} ” (المفهم 3/ 42)
قال النووي:” في هذا الحديث من الفوائد غير ما سبق من أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين. وفيه أن القرابة يرعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع.” (شرح النووي)
الصحيح أن حسان يلتقي مع جده الثالث وهو حرام و أما أبيٌّ فيلتقي معه في جده السابع، جاء في البخاري قال أنس: فجعلها لحسان، وأبي بن كعب وكانا أقرب إليه مني «وكان قرابة حسان، وأبي من أبي طلحة واسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، فيجتمعان إلى حرام وهو الأب الثالث، وحرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، فهو يجامع حسان، وأبا طلحة وأبيا إلى ستة آباء، إلى عمرو بن مالك وهو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فعمرو بن مالك يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا. (صحيح البخاري باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه ومن الأقارب) وقال القرطبي:” إذ بين أبي طلحة وحسَّان وأُبيّ آباء كثيرة، وإنما يجتمعان مع أبي طلحة في عمرو بن مالك بن النجار، [وهو السابع من آبائهم. وقال أبو عمر: إن حسَّان يجتمع معه في حرام]، وهو الجد الثالث، وأُبيّ يجتمع معه في عمرو، وهو الجد السابع” (المفهم)
وقال أيضا:” في هذا الحديث أبواب من الفقه: منها: صحة الصدقة المطلقة، والحبس المطلق، وهو الذي لم يعين مصرفه، وبعد هذا يعين. ومنها: صحة الوكالة؛ لقوله: (ضعه حيث شئت).” (المفهم)
قال ابن حجر:” وفي قصة أبي طلحة من الفوائد غير ما تقدم أن منقطع الآخر في الوقف يصرف لأقرب الناس إلى الواقف، وأن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه … وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به، وقال لسعد بن أبي وقاص: ” الثلث كثير “. وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم، وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم ولا نقص عليه في ذلك، وقد أخبر تعالى عن الإنسان: {وإنه لحب الخير لشديد} والخير هنا المال اتفاقا، وفيه اتخاذ الحوائط والبساتين، ودخول أهل الفضل والعلم فيها، والاستظلال بظلها، والأكل من ثمرها، والراحة والتنزه فيها، وقد يكون ذلك مستحبا يترتب عليه الأجر إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها للطاعة … وفيه التمسك بالعموم؛ لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} تناول ذلك بجميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بدر إلى إنفاق ما يحبه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وفيه أن الوقف يتم بقول الواقف: جعلت هذا وقفا، … وأن الصدقة على الجهة العامة لا تحتاج إلى قبول معين بل للإمام قبولها منه ووضعها فيما يراه كما في قصة أبي طلحة. (انظر فتح الباري)
قال ابن عثيمين:” ما تتمسك به فهو إما زائل عنك وإما أن تزول عنه أنت، ولابد من أحد الأمرين، إما أن يتلف أو تتلف أنت، لكن الذي تقدمه هو الذي يبقى.
والحقيقة أن مالك الحقيقي هو ما تقدمه، وقد ذبح آل النبي صلى الله عليه وسلم شاة وتصدقوا بها إلا كتفها، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((ما بقي منها؟)) قالت عائشة رضي الله عنها: ما بقي إلا كتفها. يعني أنها تصدقت بها كلها إلا كتفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بقي كلها غير كتفها))، والمعنى أن الذي أكلتم هو الذي ذهب، وأما ما تصدقتم به فهو الذي بقي لكم.
فالحاصل أن الصحابة وذوي الهمم العالية هم الذين يعرفون قدر الدنيا وقدر المال، وأن ما قدموه هو الباقي، وما أبقوه هو الفاني. (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 166)
هذا الحديث فيه مثال عن حال الصحابة مع التعامل مع الأوامر الإلهية، والتوجيهات الربانية و كيف هم يبادرون في الخيرات ويتسابقون إلى القربات، والصحابة نزلت في إيثارهم الآيات كما قال ربنا ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))