(3006) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي ومحمد البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وعدنان البلوشي وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من (٥٦) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)،
(“[(١٧)] – (بَابُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ)”).
[٧٤٨١] (٣٠٠٦) – (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ – وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ – وَالسِّيَاقُ لِهَارُونَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ أَبِي حَزْرَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجْتُ أنا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ، وَمَعَافِرِيُّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ، وَمَعَافِرِيُّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سُفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ، فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ؟، فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أنَا وَاللهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ، فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ، فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكُنْتُ وَاللهِ مُعْسِرًا، قَالَ: قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ، قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ، قُلْتُ: آللهِ؟ قَالَ: اللهِ، قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ، فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ (٢) – وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ – وَسَمْعُ أُذُنَيّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، هَذَا – وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ – رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ».
(٣٠٠٧) – قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ أَنَا: يَا عَمِّ لَوْ أنَّكَ أَخَذْتَ بُرْدَةَ غُلَامِكَ، وَأَعْطَيْتَهُ مَعَافِرِيَّكَ، وَأَخَذْتَ مَعَافِرِيَّهُ، وَأَعْطَيْتَهُ بُرْدَتَكَ، فَكَانَت عَلَيْكَ حُلَّةٌ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ، يَا ابْنَ أَخِي بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ، وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا – وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ – رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ»، وَكَانَ أَنْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(٣٠٠٨) – ثُمَّ مَضَيْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مَسْجِدِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُشْتَمِلًا بِهِ، فَتَخَطَّيْتُ الْقَوْمَ، حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، أتُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَرِدَاؤُكَ إِلَى جَنْبِكَ؟، قَالَ: فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي هَكَذَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوَّسَهَا: أَرَدْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ الأَحْمَقُ مِثْلُكَ، فَيَرَانِي كيْفَ أَصْنَعُ؟ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ.
أتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ، فَرَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟»، قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ: «أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟»، قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ: «أيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟»، قُلْنَا: لَا، أيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي، فَإِنَّ اللهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ، فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا»، ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: «أَرُونِي عَبِيرًا»، فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ، ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أثَرِ النُّخَامَةِ، فَقَالَ جَابِرٌ: فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ.
(٣٠٠٩) – سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ، وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ، وَكَانَ النَّاضِحُ يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ، وَالسِّتَّةُ، وَالسَّبْعَةُ، فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَأَنَاخَهُ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ، فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ، فَقَالَ لَهُ: شَأْ لَعَنَكَ اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟»، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «انْزِلْ عَنْهُ، فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أنفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً، يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ».
(٣٠١٠) – سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى إِذَا كَانَتْ عُشَيْشِيَةٌ، وَدَنَوْنَا مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ رَجُلٌ يَتَقَدَّمُنَا، فَيَمْدُرُ الْحَوْضَ، فَيَشْرَبُ، وَيَسْقِينَا؟»، قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَيُّ رَجُلٍ مَعَ جَابِرٍ؟»، فَقَامَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى الْبِئْرِ، فَنَزَعْنَا فِي الْحَوْضِ سَجْلًا، أَوْ سَجْلَيْنِ، ثُمَّ مَدَرْنَاهُ، ثُمَّ نَزَعْنَا فِيهِ، حَتَّى أَفْهَقْنَاهُ، فَكَانَ أَوَّلَ طَالِعٍ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَتَأْذَنَانِ؟»، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَشْرَع نَاقَتَهُ، فَشَرِبَتْ، شَنَقَ لَهَا، فَشَجَتْ، فَبَالَتْ، ثُمَّ عَدَلَ بِهَا، فَأَنَاخَهَا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْحَوْضِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ، ثُمَّ قُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ مِنْ مُتَوَضَّإِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَذَهَبَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِيُصَلِّيَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، ذَهَبْتُ أَنْ أُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ لِي، وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ، فَنَكَّسْتُهَا، ثُمَّ خَالَفْتُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جِئْتُ، حَتَّى قُمْتُ، عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَدَارَنِي، حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدَيْنَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا، حَتَّى أقَامَنَا خَلْفَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَرْمُقُنِي، وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، ثُمَّ فَطِنْتُ بِهِ، فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، يَعْنِي: شُدَّ وَسَطَكَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: «يَا جَابِرُ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِذَا كَانَ وَاسِعًا، فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا، فَاشْدُدْهُ عَلَى حِقْوِكَ».
(٣٠١١) – سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٌ مِنَّا فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، فَكَانَ يَمَصُّهَا، ثُمَّ يَصُرُّهَا فِي ثَوْبِهِ، وَكُنَّا نَخْتَبِطُ بِقِسِيِّنَا، وَنَأْكُلُ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَأُقْسِمُ أُخْطِئَهَا رَجُلٌ مِنَّا يَوْمًا، فَانْطَلَقْنَا بِهِ نَنْعَشُهُ، فَشَهِدْنَا أنَّهُ لَمْ يُعْطَهَا، فَأُعْطِيَهَا، فَقَامَ، فَأَخَذَهَا.
(٣٠١٢) – سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أفيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، فَإذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ»، فَانْقَادَتْ مَعَهُ؛ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ»، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا، لأَمَ بَيْنَهُمَا – يَعْني: جَمَعَهُمَا – فَقَالَ: «الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ»، فَالْتَأَمَتَا، قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقُرْبِي، فَيَبْتَعِدَ – وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ: فَيَتَبَعَّدَ – فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ مُقْبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَفَ وَقْفَةً، فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا – وَأَشَارَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا – ثُمَّ أَقْبَلَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِليَّ، قَالَ: «يَا جَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي؟» قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ، فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، فَأَقْبِلْ بِهِمَا، حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي، فَأَرْسِلْ غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ، وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ»، قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ، فَأَخَذْتُ حَجَرًا، فَكَسَرْتُهُ، وَحَسَرْتُهُ، فَانْذَلَقَ لِي، فَأَتَيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا، حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي، وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: «إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ، يُعَذَّبَانِ، فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا، مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ».
(٣٠١٣) – قَالَ: فَأَتَيْنَا الْعَسْكَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، «يَا جَابِرُ نَادِ بِوَضُوءٍ»، فَقُلْتُ: ألَا وَضُوءَ، ألَا وَضُوءَ، ألَا وَضُوءَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا وَجَدْتُ فِي الرَّكْبِ مِنْ قَطْرَةٍ، وَكانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَاءَ فِي أَشْجَابٍ لَهُ عَلَى حِمَارَةٍ، مِنْ جَرِيدٍ، قَالَ: فَقَالَ لِيَ: “انْطَلِقْ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الأَنْصَارِيِّ، فَانْظُرْ هَلْ فِي أَشْجَابِهِ مِنْ شَىْءٍ؟»، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فِيهَا، فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، قَالَ: «اذْهَبْ، فَأْتِنِي بِهِ»، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِشَىْءٍ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَيَغْمِزُهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعْطَانِيهِ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ نَادِ بِجَفْنَةٍ»، فَقُلْتُ: يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ، فَأُتِيتُ بِهَا، تُحْمَلُ، فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ فِي الْجَفْنَةِ هَكَذَا، فَبَسَطَهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ، وَقَالَ: «خُذْ يَا جَابِرُ، فَصُبَّ عَلَيَّ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ»، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَوَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ، وَدَارَتْ، حَتَّى امْتَلأَتْ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ نَادِ مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ؟»، قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ، فَاسْتَقَوْا، حَتَّى رَوَوْا، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ مِنَ الْجَفْنَةِ، وَهِيَ مَلأَى.
(٣٠١٤) – وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الْجُوعَ، فَقَالَ: «عَسَى اللهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ»، فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ، فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً، فَأَلْقَى دَابَّةً، فَأَوْرَيْنَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ، فَاطَّبَخْنَا، وَاشْتَوَيْنَا، وَأَكَلْنَا، حَتَّى شَبِعْنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلْتُ أَنَا، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً فِي حِجَاجِ عَيْنِهَا، مَا يَرَانَا أَحَدٌ، حَتَّى خَرَجْنَا، فَأَخَذْنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَقَوَّسْنَاهُ، ثُمَّ دَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ، فَدَخَلَ تَحْتَهُ، مَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ).
——————-
(١) «المفهم» ٧/ ٤٢٦.
(٢) وفي نسخة: «بصر عيناي هاتان» و«سمع أذناي هاتان».
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (“[(١٧)] – (بَابُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ)”).
علاقة الحديث بكتاب الزهد والرقائق: الزهد يظهر بوضوح في موقف أبي اليسر بالعفو عن المدين وفي التواضع النبوي.
الرقائق تتجلى في الدعوة إلى اللين والرفق وحسن التعامل.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[٧٤٨١] (٣٠٠٦) – ( …. ).الحديث
شرح الحديث:
(عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ أَبِي حَزْرَةَ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي لقبه، وكنيته أبو يوسف، (عَنْ عُبَادَةَ بنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ) الأنصاريّ المدنيّ، أنه (قَالَ: خَرَجْتُ أنَا وَأَبِي) الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاريّ المدنيّ، أبو عبادة، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حال كوننا (نَطْلُبُ الْعِلمَ) فيه الرحلة في طلبه. (فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا)، أي: يموتوا، أو يقتلوا في الحروب التي جرت بين المسلمين.
فيه أخذ العلم من أهله. و أن ينتهز الفرصة ما دام أهل العلم موجودين؛ ؛ لأن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء، كما جاء في قوله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». [أخرجه البخاري (١٠٠)، ومسلم (٢٦٧٣)]. [توفيق الرب المنعم، (8 / 455 – 473)] بتصرف يسير .
(فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ) اسمه كعب بن عمرو بن عباد. (صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَعَهُ غُلَامٌ)؛ أي: عبد (لَهُ) وقوله: (مَعَهُ)؛ أي: مع غلامه (ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ) جملة حاليّة من «غلام»، و«الضمامة» بكسر الضاد المعجمة، وتخفيف الميم: الْحُزمة، ومجموعة الشي؛ لأنها يضمّ بعضها إلى بعض، وقد وقع في بعض النسخ: إضمامة بزيادة الهمزة المكسورة في أولها، وهو المشهور في اللغة بهذا المعنى، والحاصل: أنه كان عنده مجموعة من الصحف. [«التكملة» ٦/ ٥١١]. (وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ) كساء صغير مربّع، ويقال: كساء أسود صغير [«المصباح» ١/ ٤٣].
(وَمَعَافِرِيُّ) بفتح الميم: نوع من الثياب يُصنع بقرية في اليمن تُسمّى معافر، وذكر القاضي عياض أن أصل هذه التسمية أنها لقبيل من اليمن سُمّوا بذلك، وأراهم نزلوها، أو أصل ما سُمّوا به جبل ببلادهم، يقال له: معافر انتهى [«إكمال المعلم» ٨/ ٥٥٩].
(وَعَلَى غُلَامِهِ)؛ أي: عبد أبي اليسر (بُرْدَةٌ، وَمَعَافِرِيُّ) مماثلتان لما يلبسه أبو اليسر.
والمقصود من هذا الكلام التنبيه على أن أبا اليسر رضي الله عنه، كان يلبس ما يلبسه غلامه، وإن كان من الممكن أن يلبس معافريين، ويُلبس غلامه بُردين، أو بالعكس؛ ليصير لكل واحد منهما حُلّة متوافقة، ولكنه فعل ذلك عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم : «ألبسوهم مما تلبسون» كما سيأتي في كلامه رضي الله عنه.
(فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سُفْعةً) سواد مُشْرب بحمرة، وسَفِعَ الشيءُ، من باب تعب: إذا كان لونه كذلك. انتهى [«المصباح» ١/ ٢٧٩].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: ضبط السُّفعة بالضمّ هو الذي في كُتُب اللغة؛ كـ«المصباح»، و«القاموس»، و«اللسان»، وأما ما ذكره القاضي من جواز الفتح، وتبعه الشرّاح، فمحل نظر، والله تعالى أعلم.
(مِنْ غَضَبٍ) غضبته، فما سببها؟ (فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ) لم يُعرف اسمه، (جَفْرٌ) بفتح الجيم وسكون الفاء: هو الذي قارب البلوغ، وقيل: هو الذي قَوِيَ على الأكل، وقيل: ابن خمس سنين، قاله النوويّ، وهو في أصل اللغة:
ولد المعز الذي بلغ أربعة أشهر، وجفر جنباه، وفُصل عن أمه، وأخذ في الرعي، والمؤنّث منه جَفْرة، قاله في «اللسان» [«لسان العرب» ٤/ ١٤٢].
(فَقُلْتُ لَهُ)؛ أي: لذلك الابن (أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ، فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي) قال ثعلب: الأريكة هو السرير الذي في الحجلة، والحجلة ستارة العروس، ولا يسمى السرير أريكة إلا إذا كان في الحجلة.
(وَأَنْ أَعِدَكَ، فَأُخْلِفَكَ) (وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ)؛ يعني: أنك أرفع من أن يكذب عليك أحد حيث كنت صاحب رسول الله ﷺ، والصحابة أرفع الناس قدرًا، فلا ينبغي لي أن أعدك، ولا أفي لك، فإن هذا يحط من قدرك الرفيع، فهذا هو سبب الاختفاء، ثم ذكر سبب عدم وفائه بالوعد، فقال: (وَكُنْتُ وَاللهِ مُعْسِرًا)؛ أي: فقيرًا لا أستطيع قضاء دَينك.
” لهذا كان النبي ﷺ يستعيذ من المغرم؛ فكان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ، فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ». [أخرجه البخاري (٨٣٢)]، وكما قيل: الدين همٌّ بالليل، مذلَّةٌ بالنهار”. [توفيق المنعم].
(قَالَ) أبو اليسر: (قُلْتُ: آللهِ؟)، أي): أقسمت عليك هل أنت معسر عن قضاء دَيني؟ (قَالَ) الرجل: (اللهِ)؛ أي: والله كنت معسرًا، وكرّره ثلاث مرّات مبالغة في التأكد.
(قَالَ) عبادة بن الوليد: (فَأَتَى) أبو اليسر (بِصَحِيفَتِهِ) التي كتب فيها هذا الدَّين، (فَمَحَاهَا)؛ أي: أزال ما فيها من الكتابة (بِيَدِهِ) وإنما فعل ذلك لأنه عزم أن لا يطالبه بعد ذلك بالدَّين، إلا أن يجد سعة، فيقضيه بنفسه، كما بيّنه بقوله: (فَقَالَ) أبو اليسر: (إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً)؛ أي: شيئًا من المال تقضي به دَينك (فَاقْضِنِي، وَإِلَّا)؛ أي: وإن لم تجد ذلك فـ (أَنْتَ فِي حِلٍّ)؛ أي: في حلال، وبراءة من دَيني. وهذا فيه: فضل أبي اليسر رضي الله عنه، ومبادرته ومسارعته إلى الخير.
وفيها: أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الناس، وأنهم أسرع الناس إلى العمل بالأحاديث، والمسابقة إلى الخيرات”. [توفيق المنعم].
(إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ) بفتح الميم، وفي بعض النسخ: «نياط» بكسر النون، ومعناهما واحد، وهو عِرْقٌ معلَّقٌ بالقلب.
والمعنى على هذه الرواية: قال أبو اليسر: فأشهد على أنه بصرت عيناي هاتان، وسمِعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول …. إلخ، وقد وعا قلبي ما رأيته، وسمعته منه صلى الله عليه وسلم .
(وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا)؛ أي: أمهل، وأخّر فقيرًا، مع بقاء الدَّين على حاله، (أَوْ وَضَعَ عَنْهُ)؛ أي: حطّ، وأسقط عن المعسر بعض الديون، (أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ»)
قال الأبيّ عفا الله عنه: فإن قلت: القاعدة أن ثواب الواجب أكثر من ثواب المندوب، والأمر هنا بالعكس؛ لأن الإنظار واجب، والوضع مندوب، ومن المعلوم أن ثواب الوضع أكثر من ثواب الإنظار.
قلت: أجيب بأن ثواب المندوب هنا إنما كان أكثر لاستلزامه الواجب؛ لأن الوضع إنظار وزيادة، وإنما يكون الأمر كما ذكرت لو لم يكن يستلزمه. انتهى [«شرح الأبيّ» ٧/ ٣١٠]. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف، مع إضافة يسيرة].
ثم قال جابر رضي الله عنه بالسند السابق: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ) قال النوويّ: هو بضم الباء الموحّدة، وفتحها، والواو مخففة، والطاء مهملة، قال القاضي رضي الله عنه: قال أهل اللغة: هو بالضم، وهي رواية أكثر المحدثين، وكذا قيّده البكريّ، وهو جبل من جبال جهينة، قال: ورواه العذريّ: بفتح الباء، وصححه ابن سراج. انتهى.
وكانت هذه الغزوة في السنة الثانية من الهجرة في شهر ربيع الأول قبل غزوة بدر يريد قريشًا، واستعمل على المدينة السائب بن مظعون، وهو أخو عثمان بن مظعون رضي الله عنه، حتى بلغ بُواط، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدًا [راجع: «سيرة ابن هشام مع الروض الأنف للسهيليّ» ٢/ ٥٧].
وذكر الواقديّ في «مغازيه» أنه ﷺ خرج يعترض لعير قريش فيها أميّة بن خلف، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، ثم رجع، ولم يلق كيدًا، فيمكن أن المجدي بن عمرو الجهنيّ المذكور في هذا الحديث من جملة أصحاب العير، والله تعالى أعلم [راجع: «سيرة ابن هشام مع الروض الأنف للسهيليّ» ٢/ ٥٧].
(وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه ﷺ (يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو) قال النوويّ رحمه الله: هو بالميم المفتوحة، وإسكان الجيم، هكذا في جميع النُّسخ عندنا، وكذا نقله القاضي عن عامة الرواة والنسخ، قال: وفي بعضها: «النجديّ» بالنون بدل الميم، قال: والمعروف الأول، وهو الذي ذكره الخطابيّ، وغيره. انتهى.
(الْجُهَنِيَّ) نسبة إلى جُهينة القبيلة المعروفة، وكان المجديّ هذا رئيس تلك القبيلة في ذلك الوقت، (وَكَانَ النَّاضِحُ) هو البعير الذي يُستقى عليه، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: نَضَحَ البعيرُ الماءَ: حمله من نهر، أو بئر، لسقي الزرع، فهو نَاضحٌ، والأنثى نَاضِحَةٌ بالهاء، سُمِّي نَاضِحًا؛ لأنّه يَنْضَحُ العطشَ؛ أي: يبلُّه بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم استُعمل النَّاضِحُ في كلّ بعير، وإن لم يحمل الماء، وفي الحديث: «أَطْعِمْهُ نَاضِحَكَ»؛ أي: بعيرك، والجمع نَوَاضِحُ. انتهى [«المصباح المنير» ٢/ ٦٠٩ – ٦١٠].
(يَعْتَقِبُهُ)؛ أي: نركبه عقبة، والعقبة بضم العين هي ركوب هذا نوبةً، وهذا نوبةً، قال صاحب «العين»: هي ركوب مقدار فرسخين [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨].
وقوله: (يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ، وَالسِّتَّةُ، وَالسَّبْعَة) وفي بعض النسخ: «يعقبه»، قال النوويّ: هكذا هو في رواية أكثرهم: «يعقبه» بفتح الياء، وضم القاف، وفي بعضها: «يعتقبه» بزيادة تاء، وكسر القاف، وكلاهما صحيح، يقال: عقبه، واعتقبه، واعتقبنا، وتعاقبنا كله من هذا. انتهى.
(فَدَارَتْ)؛ أي: وصلت (عُقْبَة)؛ أي: نوبة (رَجُلٍ مِنَ الأنصَارِ) لم يُسمَّ، (عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَأَنَاخَهُ)، أي: أبركه ليركبه باركًا، (فَرَكبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ)، أي: طلب منه أن يقوم من مبركه، (فَتَلَدَّنَ) بتشديد الدال؛ أي: تلكأ، وتوقف (عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ)، أي: بعض التوقّف، (فَقَالَ) الرجل (لَهُ)، أي: لذلك الناضح، (شَأْ) بشين معجمة، بعدها همزة، قال النوويّ: هكذا هو في نُسخ بلادنا، وذكر القاضي: أن الرواة اختلفوا فيه، فرواه بعضهم بالشين المعجمة، كما ذكرناه، وبعضهم بالمهملة، قالوا: وكلاهما كلمة زجر للبعير، يقال منهما: شأشأتُ بالبعير بالمعجمة، والمهملة: إذا زجرته، وقلت له: شأ، قال الجوهريّ: وسأسأت بالحمار بالهمز؛ أي: دعوته، وقلت له: تشؤ تشؤ، بضم التاء والشين المعجمة وبعدها همزة. انتهى [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨].
(لَعَنَكَ اللهُ)؛ أي: طردك الله تعالى من رحمته، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟»، قَالَ) الرجل: (أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ) ﷺ: («انْزِلْ عَنْهُ)، أي: بعيرك الذي لعنته، (فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ)؛ أي: ببعير ملعون، إنما قاله تعزيرًا له، ومعاقبة على اعتدائه على بعيره. (لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا)؛ أي: لكيلا توافقوا (مِنَ اللهِ سَاعَةً، يُسْأَلُ) بالبناء للمفعول، (فِيهَا)، أي: في تلك الساعة، (عَطَاءً) بالرفع على أنه نائب فاعل»يُسأل«، (فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ») بالرفع على الاستئناف، على تقدير مبتدأ؛ أي: فهو يستجيب لكم، وبالنصب بـ «أن» مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببيّة في جواب النهي، كما قال في «الخلاصة»:
وبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ … مَحْضيْنِ «أَنْ» وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
وفي هذا الحديث النهي عن لعن الدواب، وقد سبق بيان هذا مع الأمر بمفارقة البعير الذي لعنه صاحبه، وفيه أيضًا: أن لله تعالى ساعة من ليل أو نهار لا يُسأل فيها شيئًا إلا أعطي، فينبغي للعبد أن يجتنب الدعاء على نفسه، أو أهله، أو ماله في أيّ وقت من الأوقات، مخافة أن يوافق تلك الساعة، فيتضرَر بإجابة دعائه، وبالعكس ينبغي له أن يتعرض للدعاء بالخير في ساعات الليل والنهار رجاء أن يوافق تلك الساعة، فيحصل غرضه، ويسعد السعادة الأبديّة، وبالله تعالى الوفيق.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا [١٧/ ٧٤٨١] (٣٠٠٩)، و(أبو داود) في «الصلاة» (١٥٣٢)، و(ابن حبّان) في «صحيحه» (٥٧٤٢)، و(الأصفهانيّ) في «الدلائل» (١/ ٥٤)، والله تعالى أعلم.
قال جابر رحمه الله بالسند السابق: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى إِذَا كانَتْ عُشَيْشِيَةٌ) بضم العين، وفتح الشين الأولى، وكسر الثانية، وتخفيف الياء الثانية، قال النوويّ رحمه الله: هكذا الرواية فيها على التصغير، مخففة الياء الأخيرة، ساكنة الأولى، قال سيبويه: صغّروها على غير تكبيرها، وكان أصلها عُشَيّة، فأبدلوا من إحدى الياءين شينًا. انتهى [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨]. (وَدَنَوْنَا)، أي: قَرُبنا (مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ)، أي: بئرًا من آبارها، (قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ) استفهاميّة مبتدأ خبره قوله: (رَجُلٌ يَتَقَدَّمُنَا) جملة في محل رفع صفة»رجل«، (فَيَمْدُرُ الْحَوْضَ)، أي: يطيّنه، ويصلحه، يقال: مدرتُ الحوضَ مدْرًا، من باب نصل: أصلحته بالمدر، وهو الطين [«المصباح المنير» ٢/ ٥٦٦]. (فَيَشْرَبُ) هو بنفسه (وَيَسْقِينَا؟») بفتح أوله، وضمّه، من سقى ثلاثيًّا، وأسقى رباعيًّا. (قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا) القائم، يريد نفسه، (رَجُلٌ) متهيّئ لهذا الأمر (يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ) للقوم: («أَيُّ رَجُلٍ) يقوم (مَعَ جَابِرٍ؟»، فَقَامَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرِ) بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاريّ ثم السَّلميّ، يكنى أبا عبد الله، ذكره موسى بن عقبة عن ابن شهاب في أهل العقبة، وذكره أبو الأسود عن عروة، في أهل بدر، وروى الطبراني من طريق ابن إسحاق، حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: إنما خَرَص عليهم عبد الله بن رواحة عامًا واحدًا، فأصيب يوم مؤتة، فكان رسول الله ﷺ يبعث جبار بن صخر، فيخرص عليهم؛ يعني: أهل خيبر، قال ابن السكن وغيره: مات جبار بن صخر سنة ثلاثين، في خلافة عثمان رضي الله عنهم، زاد أبو نعيم: وهو ابن اثنتين وستين سنة [«الإصابة في تمييز الصحابة» ١/ ٤٤٩].
(فَانْطَلَقْنَا)؛ أي: أنا وجبّار (إِلَى الْبئْرِ) التي أرادها النبيّ ﷺ، (فَنَزَعْنَا)؛ أي: أخذنا، وجبذنا (فِي الْحَوْضِ سَجْلًا، أَوْ سَجْلَيْنِ)، أي: دلوًا، أو دلوين، والسَّجل بفتح السين، وإسكان الجيم: الدلو المملوءة ماءً، وسبق بيانها مرات، قاله النوويّ، وقال المازريّ: قال ابن السكيت: يقال: نزعت الدلو: جذبتها، ونزعت في السهم: رميت به، ونزعت بآية من كتاب الله: قرأتها محتجًّا بها. (ثُمَّ مَدَرْنَاهُ)؛ أي: مدرنا الحوض، وأصلحناه، (ثُمَّ نَزَعْنَا فِيهِ)، أي: في الحوض؛ يعني: أنهما أخذا الماء من البئر، وصبّاه فيه (حَتَّى أفهَقْنَاهُ)، أي: ملأنا ذلك الحوض بالماء، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخنا، وكذا ذكره القاضي عن الجمهور، قال: وفي رواية السمرقنديّ: «أصفقناه» بالصاد، وكذا ذكره الحميديّ في «الجمع بين الصحيحين» عن رواية مسلم، ومعناهما: ملأناه. انتهى [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨].
(فَكَانَ أَوَّلَ طَالِع عَلَيْنَا) بنصب «أولَ» على أنه خبر «كان» مقدّمًا، واسمها قوله: (رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ) ﷺ: («أتَأْذَنَانِ؟») لي أن أسقيه راحلتي، هذا فيه: أدب النبيّ ﷺ، وحسن خُلُقه، فإن جابرًا وصاحبه ما تقدّم إلا له، ولراحلته، ولأصحابه الذين معه، ولكن راعى حقهما، فاستأذنهما.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا تعليم منه ﷺ لأمته الآداب الشرعية، والورع، والاحتياط، والاستئذان في مثل هذا، وإن كان يعلم أنهما راضيان، وقد أُرصدا ذلك له ﷺ، ثم لمن معه.
قال جابر: (قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ) أذنّا لك، (فَأَشْرَعَ) ﷺ (نَاقَتَهُ) معنى أشرعها: أرسل رأسها في الماء لتشرب، (فَشَرِبَتْ، شَنَقَ لَهَا)، أي: كفّها عن الشرب، يقال: شنقتها، وأشنقتها؛ أي: كففتها بزمامها، وأنت راكبها، وقال ابن دُريد: هو أن تجذب زمامها حتى تقارب رأسها قادمة الرحل، (فَشَجَتْ)، أي: فرّجت بين رجليها، وباعدت لتبول، قال النوويّ رحمه الله: «فشجت» بفاء، وشين معجمة، وجيم مفتوحات الجيم، مخففة، والفاء هنا أصلية، يقال: فشج البعير: إذا فرّج بين رجليه للبول، وفشّج بتشديد الشين أشدّ من فشج بالتخفيف، قاله الأزهريّ وغيره.
قال: هذا الذي ذكرناه من ضبطه هو الصحيح الموجود في عامة النسخ، وهو الذي ذكره الخطابيّ، والهرويّ، وغيرهما من أهل الغريب، وذكره الحميديّ في «الجمع بين الصحيحين»: فشَجّت بتشديد الجيم، وتكون الفاء زائدة للعطف، وفسَّره الحميديّ في غريب «الجمع بين الصحيحين» له، قال: معناه: قطعت الشرب، من قولهم: شججت المفازة: إذا قطعتها بالسير، وقال القاضي: وقع في رواية العذريّ: «فثجت» بالثاء المثلثة، والجيم، قال: ولا معنى لهذه الرواية، ولا لرواية الحميديّ، قال: وأنكر بعضهم اجتماع الشين والجيم، وادّعَى أن صوابه: فشَحَت بالحاء المهملة، من قولهم: شحا فاه: إذا فتحه، فيكون بمعنى تفاجت، هذا كلام القاضي، قال النوويّ: والصحيح ما قدمناه عن عامة النسخ، والذي ذكره الحميديّ أيضًا صحيح، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨].
(فَبَالَتْ، ثُمَّ عَدَلَ)؛ أي: مال النبيّ ﷺ (بهَا)؛ أي: بتلك الناقة (فَأَنَاخَهَا)؛ أي: أبركها لتستريح، (ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْحَوْضِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ)، أي: من ذلك الحوض، وفيه دليل على جواز الوضوء من الماء الذي شربت منه الإبل ونحوها من الحيوان الطاهر، وأنه لا كراهة فيه، وإن كان الماء دون قلّتين، قال النوويّ: وهكذا مذهبنا. (ثُمَّ قُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ مِنْ مُتَوَضَّإِ) بصيغة اسم المفعول، والمراد: مكان وضوء (رَسُولِ اللهِ ﷺ) إنما اختار مكانه؛ تبرّكًا بأثره ﷺ، (فَذَهَبَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ) حال كونه (يَقْضِي حَاجَتَهُ) من البول ونحوه، (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِيُصَلِّيَ، وَكَانَتْ عَلَى بُرْدَةٌ)، أي: كساء صغير مربع، (ذَهَبْتُ)؛ أي: شرعت، وأخذت (أَنْ أُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا) لئلا يكون من اشتمال الصمّاء، (فَلَمْ تَبْلُغْ لِي)؛ أي: فلم تتسع لذلك؛ لِصِغرها، (وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ)؛ أي: أهداب، وأطراف، واحدها: ذِبْذِب بكسر الذالين، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تتذبذب على صاحبها، إذا مشى، أي: تتحرك، وتضطرب. (فَنَكَّسْتُهَا) بتخفيف الكاف، وتشديدها؛ أي: قلبتها، فجعلت أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، كما يُفعل في القلب للاستسقاء، (ثُمَّ خَالَفْتُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا)، أي: أمسكت عليها بعنقي، وخبنته [أي: عطفته] عليها؛ لئلا تسقط، (ثُمَّ جِئْتُ، حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ)، أي: لكونه لا يعرف السنّة في ذلك، وهو أن المأموم إذا كان واحدًا قام عن يمين الإمام، (فَأَخَذَ) ﷺ (بِيَدِي، فأَدَارَنِي)، أي: حوّلني إلى الجهة اليمنى، (حَتَّى أقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ) هذا هو السُّنّة في اقتداء المنفرد، (ثُمَّ جَاءَ) بعد ذلك (جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ) من محلّ قضاء حاجته، (فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ)؛ أي: لكونه أيضًا لا يعرف السُّنّة في هذا، فأعلمه ﷺ بها، كما قال: (فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدَيْنَا)؛ أي: بيد جابر، وجبار (جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا)؛ أي: ردّنا، وأخّرنا إلى خلفه، (حَتَّى أَقامَنَا خَلْفَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه فوائد،
منها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه لا يكره إذا كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كُره،
ومنها: أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوّله الإمام،
ومنها: أن المأمومَين يكونان صفًّا وراء الإمام، كما لو كانوا ثلاثة، أو أكثر، هذا مذهب العلماء كافّة، إلا ابن مسعود، وصاحبيه، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه. انتهى [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨].
(فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَرْمُقُنِي)؛ أي: ينظر إليّ نظرًا متتابعًا، (وَأنَا لَا أَشْعُرُ) بضمّ العين؛ أي: لا أعلم بنظره إليّ، (ثُمَّ فَطِنْتُ) من بابي فرح، ومنع (بِهِ)؛ أي: بنظره ﷺ (فَقَالَ)؛ أي: أشار ﷺ، ففيه إطلاق القول على الفعل، وقد مرّ قريبًا أنه شائع كثير في الأحاديث، واستعمال العرب، (هَكَذَا بِيَدهِ) ﷺ (يَعْنِي)؛ أي: يقصد ﷺ بتلك الإشارة أن (شُدَّ وَسَطَكَ) قال القاضي عياض رحمه الله: فيه: جواز الإشارة في الصلاة، لا سيّما لمصلحة الصلاة، وكذلك العمل اليسير؛ لردّ جابر عن يساره إلى يمينه، وتقدّم جميع ذلك في «كتاب الصلاة». (فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ)؛ أي: سلّم من صلاته، (قَالَ: «يَا جَابِرُ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِذَا كَانَ) الثوب الذي لبسته (وَاسِعًا، فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ)؛ أي: البسه مخالفًا بين طرفيه؛ كهيئة الصبيان في بعض البلدان، (وَإِذَا كَانَ) الثوب (ضَيِّقًا) كبُردتك هذه (فَاشْدُدْهُ عَلَى حِقْوِكَ») بفتح الحاء، وكسرها، وهو معقد الإزار، والمراد هنا: أن يبلغ السرة، وفيه: جواز الصلاة في ثوب واحد، وأنه إذا شدّ المئزر، وصلّى فيه، وهو ساتر ما بين سرته وركبته صحّت صلاته، وإن كانت عورته تُرى من أسفله، لو كان على سطح ونحوه، فإن هذا لا يضره، قاله النوويّ [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨].
وهذا الحديث مناسب لِمَا سبق من أن عبادة بن الوليد رأى جابرًا يصلي في رداء واحد، فسأله عبادة عن ذلك، فقال: أردت أن يدخل عليّ الأحمق مثلك.
وقد أخرج أحمد في «مسنده» بهذا السياق عن شرحبيل أبي سعيد، أنه دخل على جابر بن عبد الله، وهو يصلي في ثوب واحد، وحوله ثياب، فلما فرغ من صلاته قال: قلت: غفر الله لك يا أبا عبد الله، تصلي في ثوب واحد، وهذه ثيابك إلى جنبك؟ قال: أردت أن يدخل عليّ الأحمق مثلك، فيراني أصلى في ثوب واحد، أَوَ كان لكل أصحاب رسول الله ﷺ ثوبان؟ قال: ثم أنشأ جابر يحدّثنا، فقال: قال رسول الله ﷺ: «إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك، ثم صلِّ، وإذا ضاق عن ذاك، فشدّ به حقويك، ثم صلِّ من غير رَدّ له». انتهى [«مسند الإمام أحمد بن حنبل» ٣/ ٣٣٥].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رضي الله عنه أخرجه هنا [١٧/ ٧٤٨١] (٣٠١٠)، و(أبو داود) في «الصلاة» (٦٣٤)، و(أحمد) في «مسنده» (٣/ ٣٣٥)، و(البيهقيّ) في «الكبرى» (٢/ ٢٣٩)، و(البغويّ) في «شرح السُّنَّة» (٣/ ٣٨٥)، والله تعالى أعلم.
ثم قال جابر رضي الله عنه: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ)؛ أي: في بعض غزواته، (وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا)، أي: معاشر الصحابة (فِي كُلِّ يَوْمِ تَمْرَةً)؛ أي: حبة واحدة من التمر، (فَكَانَ) كلّ واحد منا (يَمَصُّهَا) بفتح الميم على اللغة المشهورة، وحُكي ضمها، وسبق بيانه، وفيه ما كانوا عليه من ضيق العيش، والصبر عليه في سبيل الله، وطاعته. (ثُمَّ يَصُرُّهَما)؛ أي: يلفّها، ويربطها (في ثَوْبِهِ) أصل الصرّ هو الجمع والشدّ، والمعنى: أنه كان يعطى تمرة واحدة لليوم كله، فيمصّ شيئًا منها، ثم يربطها بطرف ثوبه احتفاظًا بها، ليمصّها في وقت آخر. (وَكنَّا نَخْتَبِطُ)، أي: نضرب الشجر (بِقِسِيِّنَا) قال النوويّ: القِسِيّ: جمع قوس، ومعنى نختبط: نضرب الشجر، ليتحاتّ ورقه، فنأكله، (وَنَأْكُلُ) ورق ذلك الشجر (حَتَّى قَرِحَتْ) بكسر الراء؛ أي: انجرحت، وورمت من خشونة الورق، وحرارته (أَشْدَاقُنَا) بالفتح: جمع شدق، جانب الفم. (فَأُقْسِمُ) بضم أوله، أي: أحلف بالله (أُخْطِئَهَا رَجُلٌ مِنَّا يَوْمًا) قال النوويّ رحمه الله: معنى «أقسم»: أحلف، وقوله: «أخطئها»؛ أي: فاتته، ومعناه أنه كان للتمر قاسم يقسمه بينهم، فيعطي كل إنسان تمرة، كلَّ يوم، فقسم في بعض الأيام، ونسي إنسانًا، فلم يعطه تمرته، وظنّ أنه أعطاه، فتنازعا في ذلك، وشهدنا له أنه لم يُعْطَها، فأُعطيها بعد الشهادة، (فَانْطَلَقْنَا بهِ نَنْعَشُهُ)؛ أي: نرفعه، ونقيمه من شدة الضعف، والجهد، وقال القاضي: الأَشبه عندي أن معناه: نشدّ جانبه في دعواه، ونشهد له، وفيه دليل لِمَا كانوا عليه من الصبر، وفيه جواز الشهادة على النفي في المحصور الذي يحاط به. (فَشَهِدْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطَهَا) بالبناء للمفعول، (فَأُعْطِيَهَا، فَقَامَ، فَأَخَذَهَا).
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، ولم يشاركه أحد في إخراجه، والله تعالى أعلم.
قال جابر رضي الله عنه: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أفْيَحَ) بالفاء؛ أي: واسعًا، وشاطئ الوادي جانبه، (فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ) حال كونه (يَقْضِي حَاجَتَهُ)؛ أي: مريدًا قضاء حاجته (فاتَّبَعْتُهُ) بتشديد التاء الأولى، من الاتباع، (بِإِدَاوَةٍ) بكسر الهمزة؛ أي: مِطهرة مملوءة (مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ) إلى الجهات لعله يجد ما يستتر به، (فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ،) عن أعين الناس، (فَإِذَا) هى الفجائيّة؛ أي: فاجأه (شَجَرَتَانِ)؛ أي: وجودهما (بِشَاطِئِ الْوَادِي)؛ أي: جانبه، (فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى إِحْدَاهُمَا)؛ أي: إحدى الشجرتين، (فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا) قال المجد: الْغُصن – أي: بضمّ، فسكون -: ما تشعّب من ساق الشجر دِقاقُها، وغِلاظها، والصغيرة بِهاء، جمعه غُصُونٌ، وغِصَنَةٌ، وأغصان. انتهى [»القاموس المحيط” ص ٩٥٠]. (فَقَالَ) ﷺ للشجرة: («انْقَادِي عَلَيَّ)؛ أي: أطيعيني فيما أريده منك (بِإِذْنِ اللهِ») تعالى (فَانْقَادَتْ) الشجرة (مَعَهُ) ﷺ؛ أي: أطاعته فيما أراد: منها، (كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ) بالخاء، والشين المعجمتين، وهو الذي يُجعل في أنفه خِشاش بكسر الخاء، وهو عُود يُجعل في أنف البعير إذا كان صَعْبًا، ويُشدّ فيه حبل؛ ليذِلّ، وينقاد، وقد يتمانع لصعوبته، فإذا اشتد عليه، وآلمه انقاد شيئًا، ولهذا قال: (الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ)؛ أي: يطيعه، وينقاد له، وهذه من المعجزات الظاهرات لرسول الله ﷺ. (حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنِ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ»، فَانْقَادَتْ) الشجرة الأخرى (مَعَهُ) ﷺ (كَذَلِكَ)؛ أي: كما انقادت الأولى له، (حَتَّى إِذَا كَانَ) النبيّ ﷺ (بِالْمَنْصَفِ) بفتح الميم، والصاد، وهو نصف المسافة، وممن صرّح بفتحه الجوهريّ وآخرون، (مِمَّا بَيْنَهُمَا)؛ أي: من المسافة التى بين الشجرتين، (لأَمَ)؛ أي: ضمّ النبيّ ﷺ (بَيْنَهُمَا) ثم فسّره بقوله: (يَعْني جَمَعِّهُمَا) وهذا التفسير مدرج من بعض الرواة، ولم نعرفه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: «لأم» بهمزة مقصورة، وممدودة، وكلاهما صحيح؛ أي: جمع بينهما، ووقع في بعض النسخ: «ألام» بالألف من غير همزة، قال القاضي وغيره: هو تصحيف.
(فَقَالَ) ﷺ للشجرتين: («الْتَئِمَا)؛ أي: التصقا (عَلَيَّ) حتى أستتر بكما عن أعين الناس (بِإِذْنِ اللهِ»، فَالْتَأَمَتَا)؛ أي: التصقتا (قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَخَرَجْتُ) من ذلك المكان (أُحْضِرُ) بضم أوله؛ أي: حال كوني مسرعًا في ذهابي، وقال النوويّ: «أحضر» هو بضم الهمزة، وإسكان الحاء، وكسر الضاد المعجمة، أي: أعدو، وأسعى سعيًا شديدًا.
(مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ) بضمّ أوله؛ أي: يعلم (رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقُرْبِي) منه (فَيَبْتَعِدَ)؛ أي: يذهب من ذلك المكان الذي أحسّ بحضوري فيه إلى مكان آخر طلبًا للبعد عن الناس. (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ) شيخ المصنّف الثاني في هذا الحديث؛ أي: قال في روايته: (فَيَتَبَعَّدَ) مصدر تبعّد؛ كتعلّم؛ أي: قال بدل قول هاررن بن معروف: «فيبتعد» من الابتعاد، قال: يتبعّد، من التبعّد، ولا اختلاف في المعنى. (فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي)؛ أي: تعجّبًا مما رأيت من معجزة النبيّ ﷺ في هاتين الشجرتين، (فَحَانَتْ)؛ أي: وقعت (مِنِّي لَفْتَةٌ) اللفتة: النظرة إلى جانب، وهي بفتح اللام، ووقع لبعض الرواة: «فحالت» باللام، والمشهور بالنون، وهما بمعنى، فالحين، والحال: الوقت؛ أي: وقعت، واتفقت، وكانت، (فَإِذَا أنَا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ) «إذا» هي الفجائيّة؛ أي: ففجأني رؤية رسول الله ﷺ، حال كونه (مُقْبِلًا) إليّ بعد قضاء حاجته، (وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا)؛ أي: وفاجأني أيضًا افتراق الشجرتين، (فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ)؛ أي: على أصلها.
وحاصل الكلام أن النبيّ ﷺ كان يريد التستّر لقضاء حاجته بما تيسّر له، وما كان تيسّر له ذلك بشجرة واحدة، فأمر الشجرتين حتى انتقلتا إلى مكان متوسّط بينهما، ثم أمرهما، فالتأمتا بحيث صارا كشجرة واحدة، فتستّر بهما، وقضى حاجته، ثم عادت الشجرتان إلى هيئتهما المستقلّة، ورجعت كلّ واحدة منهما إلى مكانها، وهي معجزة من معجزات النبيّ ﷺ [«تكملة فتح الملهم» ٦/ ٥٢٣ – ٥٢٤].
قال جابر رضي الله عنه: (فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَفَ وَقْفَةً) يسيرة، وإنما وقف لِمَا سيأتي، أنه شعر بأن هناك قبرين يعذّبان، فأراد لشدّة رأفته أن يشفع لهما، (فَقَالَ)، أي: أشار ﷺ (بِرَأْسِهِ هَكَذَا) قال المصنّف نقلًا عن شيخيه: (وَأَشَارَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ) هو حاتم بن إسماعيل شيخ شيخيه، ووقع في بعض النسخ: «ابن إسماعيل»، وكلاهما صحيح، هو حاتم بن إسماعيل، وكنيته أبو إسماعيل. (بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا) مفسّرًا قوله: «فقال برأسه هكذا»، (ثُمَّ أَقْبَلَ) النبيّ ﷺ (فَلَمَّا انْتَهَى)؛ أي: وصل (إِلَيَّ قَالَ: «يَا جَابِرُ هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي؟»)؛ أي: موقفي الذي وقفت فيه وقفةً، (قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ) رأيته، (قَالَ) ﷺ: («فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ) اللتين رأيت ما صنعت بهما من خوارف العادات، (فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، فَأَقْبِلْ) بقطع الهمزة، من الإقبال؛ أي: توجه (بِهِمَا)؛ أي: بالقطعتين اللتين قطعتهما من الشجرتين، (حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي) الذي وقفت فيه وقفة (فَأَرْسِلْ)؛ أي: ارم (غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ)؛ أي: إلى جهة يمينك، (وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ»، قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَقُمْتُ، فَأَخَذْتُ حَجَرًا، فَكَسَرْتُهُ، وَحَسَرْتُهُ) بحاء، وسين مهملتين، والسين مخففة؛ أي: أحْدَدته، ونحّيت عنه ما يمنع حِدّته، بحيث صار مما يمكن قطعي الأغصان به، وهو معنى قوله: (فَانْذَلَقَ لِي) قال النوويّ: هو بالذال المعجمة؛ أي: صار حادًّا، وقال الهرويّ ومن تابعه: الضمير في «حسرته» عائد على الغصن؛ أي: خسرت غصنًا من أغصان الشجرة؛ أي: قشرته بالحجر، وأنكر القاضي عياض هذا على الهرويّ ومتابعيه، وقال: سياق الكلام يأبى هذا؛ لأنه حسره، ثم أتى الشجرة، فقطع الغصنين، وهذا صريح في لفظه، ولأنه قال: «فحسرته، فانذلق» والذي يوسف بالانذلاق الحجر، لا الغصن، والصواب أنه إنما حسر الحجر، وبه قال الخطابيّ.
[واعلم]: أن قوله: «فحسرته» بالسين المهملة، هكذا هو في جميع النسخ، وكذا هو في «الجمع بين الصحيحين»، وفي كتاب الخطابيّ، والهرويّ، وجميع كتب الغريب، وادعى القاضي روايته عن جميع شيوخهم لهذا الحرف بالشين المعجمة، وادعى أنه أصحّ، وليس كما قال، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى. [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٤٤].
قال جابر: (فَأَتيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا)؛ أي: أجُرّ الغصنين (حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي)؛ أي: جهة يميني (وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقْتُهُ) بكسر الحاء، أي: أدركته، ووصلت إليه، (فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: ما أمرتني به (فَعَمَّ ذَاكَ؟)؛ أي: فما السبب في هذا الذي أمرتني به؟ (قَالَ) ﷺ: («إِنِّي مَرَوْتُ بِقَبْرَيْنِ، يُعَذَّبَانِ)، أي: يُعذّب من فيهما من الناس، (فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي) فيه دليل واضح أن التخفيف عنهما بشفاعته ﷺ، لا بوضع الغصنين، فدلّ على أنه من خصائصه ﷺ، فلا يقاس عليه غيره، فتنبّه [»تكملة فتح الملهم” ٦/ ٥٢٣ – ٥٢٤]. (أَنْ يرَفَّهَ) بتشديد الفاء؛ أي: يخفّف (عَنْهُمَا، مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ»)؛ أي: مدّة دوام الغصنين حال كونهما رطبين، وكون التخفيف عنهما مغيًّا بكونهما رطبين، لا يُعلم إلا من جهة الوحي، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذه القصّة غير القصّة التي سبقت في «كتاب الطهارة» من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: «أنه ﷺ مرّ على قبرين، فقال: يعذّبان، وما يعذبان في كبير. . .» الحديث، وفيه: «ثم دعا بعسيب رطب، فشقّه باثنين، ثم غرس على هذا واحدًا، وعلى هذا واحدًا. . .»، وقد تقدّم وجوه المغايرة بين حديث جابر وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(قَالَ) جابر رضي الله عنه: (فَأتيْنَا الْعَسْكَرَ)، أي: لحقنا الجيش الذي تقدّم علينا، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «يَا جَابِرُ نَادِ بِوَضُوءٍ») بفتح الواو؛ أي: ماء يُتوضّأ به، (فَقُلْتُ: أَلَا وَضُوءَ، أَلَا وَضُوءَ، أَلَا وَضُوءَ) بالتكرار ثلاثًا للتأكيد؛ أي: ألا يوجد عندكم ماء يُتوضّأ به؟ (قَالَ) جابر: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَما وَجَدْتُ فِي الرَّكْبِ) بفتح، فسكون، أي: الجماعة، (مِنْ قَطْرَةٍ) «من» زائدة للتأكيد، (وَكَانَ رَجُلٌ) لم يُذكر اسمه، (مِنَ الأَنْصَارِ، يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَاءَ فِي أَشْجَابٍ) جمع شجب؛ أي: في سقاء (لَهُ عَلَى حِمَارةٍ)؛ أي: أعواد (مِنْ جَرِيدٍ) قال النوويّ رحمه الله تعالى: أما الأشجاب هنا فجمع شجب بإسكان الجيم، وهو السقاء الذي قد أَخْلَق، وبلي، وصار شَنًّا، يقال: شاجب؛ أي: يابس، وهو من الشجب الذي هو الهلاك، ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قام إلى شجب، فصب منه الماء، وتوضأ»، ومثله قوله ﷺ: «فانظر هل في أشجابه من شيء؟» وأما قول المازريّ وغيره: إن المراد بالأشجاب هنا: الأعواد التي تُعلَّق عليها القِرابة، فغلط؛ لقوله: يبرد فيها على حِمارة من جريد، وأما الحمارة فبكسر الحاء، وتخفيف الميم والراء، وهي أعواد تُعلَّق عليها أسقية الماء، قال القاضي: ووقع لبعض الرواة: حمار بحذف الهاء، ورواية الجمهور: حمارة بالهاء، وكلاهما صحيح، ومعناهما ما ذكرنا. انتهى.
(قَالَ) جابر: (فَقَالَ) النبيّ ﷺ (لِيَ: «انْطَلِقْ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الأَنْصَارِيِّ) هو هذا الرجل المذكور، (فَانْظُرْ هَلْ فِي أَشْجَابِهِ مِنْ شَيْءٍ؟) (، قَالَ) جابر: (فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فِيهَا)؛ أي: في أشجابه (فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً)؛ أي: يسيرًا (فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا) العزلاء بفتح العين المهملة، وبإسكان الزاي، وبالمدّ، وهي فم القربة، (لَوْ أَنِّي أفرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ) معناه أنه قليل جدًّا، فلقلّته مع شدّة يُبْس باقي الشجب، وهو السقاء، لو أفرغته لأنشفه اليابس منه، ولم ينزل منه شيء. (فَأَتيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهَا)؛ أي: في تلك الأشجاب (إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابسُهُ)؛ أي: يابس الشجب، وجافّه. (قَالَ) ﷺ. (»اذْهَبْ، فَأْتِنِي بِهِ«، فَأَتَيْتَهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ) ﷺ (بِيَدِهِ) المباركة (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع ﷺ، وأخذ (يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟) هل هو دعاء، أم غيره؟ (وَيَغْمِزُهُ)؛ أي: يعصره، ويحركه (بِيَدَيْهِ) وفي نسخة:»بيده” بالإفراد، (ثُمَّ أَعْطَانِيهِ)؛ أي: ذلك الشجب، (فَقَالَ: يَا جَابِرُ نَادِ بِجَفْنَةٍ، فَقُلْتُ: يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ)؛ أي: يا صاحب جفنة الركب، فحُذف المضاف؛ للعلم بأنه المراد، وأن الجفنة لا تنادى، ومعناه: يا صاحب جفنة الركب التي تُشبعهم أَحْضِرها؛ أي: من كان عنده جفنة بهذه الصفة، فليحضرها، والجفنة بفتح الجيم. (فَأُتِيتُ بِهَا)؛ أي: بالجفنة، حال كونها (تُحْمَلُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يحملها الناس، (فَوَضَعْتُهَا)؛ أي: تلك الجفنة (بَيْنَ يَدَيْهِ) ﷺ (فَقَالَ)؛ أي: وضع، ففيه إطلاق القول على الفعل، (رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ فِي الْجَفْنَةِ)؛ أي: في أعاليها، (هَكَذَا) ثم فسّر الإشارة بقوله (فَبَسَطَهَا)؛ أي: بسط يده (وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا)؛ أي: وضع يده مفرّقة الأصابع (فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ)؛ أي: في أسفلها، (وَقَالَ: «خُذْ) هذا الشجب (يَا جَابِرُ، فَصُبَّ عَلَي)؛ أي: على يدي التي في قعر الجفنة، (وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ») قال جابر: (فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَوَّرُ)؛ أي: يخرج بقوة (مِنْ بَيْنِ أَصَابعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ فَارَتِ)؛ أي: نبعت (الْجَفْنَةُ، وَدَارَتْ)؛ أي: دار الماء في جوفها، وجوانبها (حَتَّى امْتَلأَتْ) الجفنة بالماء، (فَقَالَ: «يَا جَابِرُ نَادِ مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ؟») فليأتنا ليأخذه. (قَالَ) جابر: (فَأَتَى النَّاسُ) كلّهم؛ لأنهم جميعًا محتاجون إلى الماء، (فَاسْتَقَوْا)؛ أي: أخذوا الماء في أوانيهم، وشربوا (حَتَّى رَوَوْا)؛ أي: ذهب عنهم العطش. (قَالَ) جابر: (فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟) إلى الماء، فسكتوا (فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ) الشريفة المباركة (مِنَ الْجَفْنَةِ، وَهِيَ)؛ أي: والحال أن تلك (الجفنة مَلأَى)؛ أي: ممتلئة ماء.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: هذه من باهر معجزاته ﷺ، وقد روينا عنه هذه في مواطن متفقة المعنى، وكذلك في معجزاته ﷺ ما تقدّم من أمر الشجرتين، وكذلك اكتفاؤهم بالتمرة الواحدة ببركته ﷺ، وكذلك الدابّة التي ألقاها البحر، وتقدّمت في «كتاب الجهاد» في غزوة أبي عبيدة، ويظهر أنها قضيّة أخرى غير القضيّة الآتية؛ لأن هذه حضرها رسول الله ﷺ، ويَحْتمل أن هذه الآتية تلك السابقة، وأوردها جابر بعد ذِكره ما شاهده مع رسول الله ﷺ، وعطف هذه القضيّة عليها. انتهى [«إكمال المعلم» ٨/ ٥٧٣].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله لم أر من أخرجه غيره، والله تعالى أعلم.
ثم قال جابر رضي الله عنه: (وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الْجُوعَ)؛ أي: أخبروه أنهم جائعون، (فَقَالَ) ﷺ: («عَسَى اللهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ»)؛ أي: يسوق إليكم رزقًا من عنده يزيل جوعكم، (فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ) بكسر السين، وإسكان المثناة تحتُ هو ساحله، (فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً) بالخاء المعجمة، أي: علا موجه، (فَأَلْقَى) البحر (دَابَّةٌ) من دوابّه إلى الساحل، وتقدّم في «كتاب الصيد» أنه كان حوتًا عظيمًا، يقال له: العنبر، (فَأَوْريْنَا)؛ أي: أوقدنا (عَلَى شِقِّهَا)؛ أي: على جنبها (النَّارَ، فَاطَّبَخْنَا) بتشديد الطاء افتعال من الطبخ، (وَاشْتَوينَا)؛ أي: شويناه على الحديدة المحماة (وَأَكَلْنَا، حَتَّى شَبِعْنَا، قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه: (فَدَخَلْتُ أنا، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ) لأناس سمّاهم، (حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً) من الرجال (فِي حِجَاج عَيْنِهَا) بكسر الحاء، وفتحها، وهو عَظْمها المستدير بها، والحال أنه (مَا يَرَانَا أَحَدٌ، حَتَّى خَرَجْنَا) منها (فَأَخَذْنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الضِّلُعُ من الحيوان بكسر الضاد، وأما اللام فتفتح في لغة الحجاز، وتسكن في لغة تميم، وهي أنثى، وجمعها أَضْلُعٌ، وأَضْلَاعٌ، وضُلُوعٌ، وهي عظام الجنبين. انتهى [«المصباح المنير» ٢/ ٣٦٣].
(فَقَوَّسْنَاهُ)، أي: جعلناه على صورة القوس، (ثُمَّ دَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ) بالجيم، في رواية الأكثرين، وهو الأصح، ورواه بعضهم بالحاء، وكذا وقع لرواة البخاري بالوجهين. (فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ جَمَلِ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ) الكِفْل هنا بكسر الكاف، وإسكان الفاءَ، قال الجمهور: والمراد بالكفل هنا: الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه؛ لئلا يسقط، فيحفظ الكفل الراكب، قال الهرويّ: قال الأزهري: ومنه اشتقاق قوله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: ٢٨]؛ أي: نصيبين يحفظانكم من الهلكة، كما يحفظ الكِفْل الراكب، يقال منه: تكفلت البعير، وأكفلته: إذا أدرت ذلك الكساء حول سنامه، ثم ركبته، وهذا الكساء كِفْل بكسر الكاف، وسكون الفاء، وقال القاضي عياض: وضبطه بعض الرواة بفتح الكاف والفاء، والصحيح الأول (فَدَخَلَ تَحْتَهُ)؛ أي: تحت ذلك الضلع، ومرّ، والحال أنه (مَا يُطَأْطئُ)؛ أي: يخفض (رَأْسَهُ)، أي: لم يحتج هذا الراكب إلى أن يخفض رأسه لِعَظْمه المقوّس، والله تعالى أعلم.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، بناء على اتحاد القصّة، وإلا فمن أفراد المصنّف رحمه الله. أخرجه هنا [١٧/ ٧٤٨١] (٣٠١٤)، و(البخاريّ) في «المغازي» (٤٣٦٠).
[تنبيه]: هذه السريّة تسمّى سريّة سِيف البحر، وتسمى أيضًا سريّة خبط؛ لأن الصحابة رضي الله عنه اضطرّوا فيها إلى أكل الخبط، وهو ورق الشجر، وقد مضت قصّة هذه السريّة مبسوطة في «كتاب الصيد والذبائح»، وذكرنا هناك أنها كانت سنة ستّ من الهجرة، أو قبلها، وكان أميرهم أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، خرجوا يتلقون عِيرًا لقريش، ويسيرون إلى جهينة.
ثم الذي يظهر من سياق الحديث هنا أنهم كانوا مع النبيّ ﷺ، ولكن سياق حديث جابر في «كتاب الصيد» أن النبيّ ﷺ لم يكن معهم في سريّة سيف البحر، حيث قال: «بعثنا رسول الله ﷺ، وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجرّاح»، وكذلك وقع في روايات البخاريّ في «المغازي».
ومن أجل هذا الاختلاف مال بعض العلماء، كالقاضي عياض رحمه الله تعالى إلى أنهما قصّتان، فما تقدّم في «كتاب الصيد» سريّة لم يكن معها رسول الله ﷺ، وهذه غزوة شهدها رسول الله ﷺ بنفسه، ولكن هذا بعيد بالنظر إلى موافقة الحديثين في أكثر أجزاء القصّة، فالراجح ما ذكره القاضي احتمالًا، وهو أن القصة واحدة، ولكن أوردها جابر هنا بعد ذكر ما شاهده مع رسول الله ﷺ، وعطف هذه القصّة عليها، وشرحه الحافظ في «الفتح» بقوله: يمكن حمل قوله: «فأتينا سِيف البحر» على أنه معطوف على شيء محذوف، تقديره: فبعثنا النبيّ ﷺ في سفر، فأتينا. . . إلخ.
والحاصل: أن قوله: «شكا الناس إلى رسول الله ﷺ الجوع، فقال: عسى الله أن يُطعمكم» منفصل عما بعده، والأسلوب الذي سُردت به أحاديث مختلفة في هذا الحديث الطويل لا يأبى هذا التقدير، والله تعالى أعلم [«تكملة فتح الملهم» ٦/ ٥٢٧ – ٥٢٨].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هكذا قرّر صاحب «التكملة» هذه المسألة، مرجحًا كون القصّة واحدة، وعندي أنهما قصّتان، وذلك واضح لمن تأمله، فكل الأوجه التي ذكروها لتوحيد القصّة تكلّفات، وتعسّفات، فتأملها بالإنصاف، يتبيّن لك ما قلته.
والحاصل: أن جابرًا رضي الله عنه شهد الواقعتين، واقعة مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وواقعة مع رسول الله ﷺ، وهما متشابهتان، فحدّث بكلّ منهما، هذا والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
خلاصة فوائد الحديث:
1 – (منها): حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة.
2 – (ومنها): تقدير التابعين لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 – (ومنها): أدب من أداب السؤال: فَقُلْتُ: (يَرْحَمُكَ اللهُ) هذا تمهيد، ومفاتحة للسؤال.
4 – (ومنها): جواز الصلاة في ثوب واحد، مع وجود الثياب، لكن الأفضل أن يزيد على ثوب عند الإمكان، وإنما فعل جابر هذا؛ للتعليم، كما قال.
5 – (ومنها): إطلاق القول على الفعل.
6 – (ومنها): “تعظيم المساجد، وتنزيهها من الأوساخ، ونحوها،
7 – (ومنها): إزالة المنكر باليد لمن قدر، وتقبيح ذلك الفعل باللسان” [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٧ – ١٣٨].
8 – (ومنها): النهي عن لعن الدواب، وقد سبق بيان هذا مع الأمر بمفارقة البعير الذي لعنه صاحبه.
9 – (ومنها): أن لله تعالى ساعة من ليل أو نهار لا يُسأل فيها شيئًا إلا أعطي، فينبغي للعبد أن يجتنب الدعاء على نفسه، أو أهله، أو ماله في أيّ وقت من الأوقات، مخافة أن يوافق تلك الساعة، فيتضرَر بإجابة دعائه، وبالعكس ينبغي له أن يتعرض للدعاء بالخير في ساعات الليل والنهار رجاء أن يوافق تلك الساعة، فيحصل غرضه، ويسعد السعادة الأبديّة.
10 – (ومنها): أدب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وحسن خُلُقه، فإن جابرًا وصاحبه ما تقدّم إلا له، ولراحلته، ولأصحابه الذين معه، ولكن راعى حقهما، فاستأذنهما.
11 – (ومنها): جواز الوضوء من الماء الذي شربت منه الإبل ونحوها من الحيوان الطاهر، وأنه لا كراهة فيه، وإن كان الماء دون قلّتين، قال النوويّ: وهكذا مذهبنا.
12 – (ومنها): “جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه لا يكره إذا كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كُره،
13 – (ومنها): أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوّله الإمام،
14- (ومنها): أن المأمومَين يكونان صفًّا وراء الإمام، كما لو كانوا ثلاثة، أو أكثر، هذا مذهب العلماء كافّة، إلا ابن مسعود، وصاحبيه، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه”. انتهى [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٨].
15 – (ومنها): قال القاضي عياض رحمه الله: فيه جواز الإشارة في الصلاة، لا سيّما لمصلحة الصلاة، وكذلك العمل اليسير؛ لردّ جابر عن يساره إلى يمينه.
16 – (ومنها): ما كانوا عليه من ضيق العيش،
17 – (ومنها): دليل لِمَا كانوا عليه من الصبر في سبيل الله، وطاعته.
18 – (ومنها): جواز الشهادة على النفي في المحصور الذي يحاط به.
19 – (ومنها): أن التخفيف عنهما بشفاعته صلى الله عليه وسلم ، لا بوضع الغصنين، فدلّ على أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، فلا يقاس عليه غيره، فتنبّه [»تكملة فتح الملهم” ٦/ ٥٢٣ – ٥٢٤].
20 – (ومنها): أهمية الاستئذان، وأنه لا يجوز التهاون فيه.
21 – (ومنها): الأحاديث تعكس جوانب مختلفة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم، من التعاون الجماعي، وتحمل المشاق، إلى الإيمان بالمعجزات والحرص على حسن الأدب.
22 – قال ابن عثيمين في بيان فوائد سورة الفاتحة والبقرة :
ومنها: الآية العظيمة في عصا موسى، حيث يضرب به الحجر، فيتفجر عيونًا مع أن الحجر صلب، ويابس؛ وقد وقع لرسول الله ﷺ ما هو أعظم، حيث أُتي إليه بإناء فيه ماء، فوضع يده فيه، فصار يفور من بين أصابعه كالعيون ؛ ووجه كونه أعظم: أنه ليس من عادة الإناء أن يتفجر عيونًا بخلاف الحجارة؛ فقد قال الله تعالى: ﴿وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار﴾ [البقرة: ٧٤]؛ ووجه آخر: أن الإناء منفصل عن الأرض لا صلة له بها بخلاف الحجارة ..
تفسير الفاتحة والبقرة- ابن العثيمين- ج1 ص208
23 – تكرر آية تحرك الشجرة في قصص أخرى .