(3005 ) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من (٥٦) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، ١٦ – بابُ: قِصَّةِ أصْحابِ الأُخْدُودِ والسّاحِرِ والرّاهِبِ والغُلامِ
٧٣ – (٣٠٠٥) حَدَّثَنا هَدّابُ بْنُ خالِدٍ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنا ثابِتٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، عَنْ صُهَيْبٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «كانَ مَلِكٌ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، وكانَ لَهُ ساحِرٌ، فَلَمّا كَبِرَ، قالَ لِلْمَلِكِ: إنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فابْعَثْ إلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ، فَكانَ فِي طَرِيقِهِ، إذا سَلَكَ راهِبٌ فَقَعَدَ إلَيْهِ وسَمِعَ كَلامَهُ، فَأعْجَبَهُ فَكانَ إذا أتى السّاحِرَ مَرَّ بِالرّاهِبِ وقَعَدَ إلَيْهِ، فَإذا أتى السّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكا ذَلِكَ إلى الرّاهِبِ، فَقالَ: إذا خَشِيتَ السّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أهْلِي، وإذا خَشِيتَ أهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السّاحِرُ، فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ إذْ أتى عَلى دابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النّاسَ، فَقالَ: اليَوْمَ أعْلَمُ آلسّاحِرُ أفْضَلُ أمِ الرّاهِبُ أفْضَلُ؟ فَأخَذَ حَجَرًا، فَقالَ: اللهُمَّ إنْ كانَ أمْرُ الرّاهِبِ أحَبَّ إلَيْكَ مِن أمْرِ السّاحِرِ فاقْتُلْ هَذِهِ الدّابَّةَ، حَتّى يَمْضِيَ النّاسُ، فَرَماها فَقَتَلَها، ومَضى النّاسُ، فَأتى الرّاهِبَ فَأخْبَرَهُ، فَقالَ لَهُ الرّاهِبُ: أيْ بُنَيَّ أنْتَ اليَوْمَ أفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِن أمْرِكَ ما أرى، وإنَّكَ سَتُبْتَلى، فَإنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وكانَ الغُلامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ، ويُداوِي النّاسَ مِن سائِرِ الأدْواءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كانَ قَدْ عَمِيَ، فَأتاهُ بِهَدايا كَثِيرَةٍ، فَقالَ: ما هاهُنا لَكَ أجْمَعُ، إنْ أنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقالَ: إنِّي لا أشْفِي أحَدًا إنَّما يَشْفِي اللهُ، فَإنْ أنْتَ آمَنتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفاهُ اللهُ، فَأتى المَلِكَ فَجَلَسَ إلَيْهِ كَما كانَ يَجْلِسُ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: مَن رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قالَ: رَبِّي، قالَ: ولَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قالَ: رَبِّي ورَبُّكَ اللهُ، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتّى دَلَّ عَلى الغُلامِ، فَجِيءَ بِالغُلامِ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: أيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِن سِحْرِكَ ما تُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ، وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ، فَقالَ: إنِّي لا أشْفِي أحَدًا، إنَّما يَشْفِي اللهُ، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتّى دَلَّ عَلى الرّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبى، فَدَعا بِالمِئْشارِ، فَوَضَعَ المِئْشارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتّى وقَعَ شِقّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ المَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبى فَوَضَعَ المِئْشارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتّى وقَعَ شِقّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالغُلامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبى فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أصْحابِهِ، فَقالَ: اذْهَبُوا بِهِ إلى جَبَلِ كَذا وكَذا، فاصْعَدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَإذا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وإلّا فاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَقالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِما شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الجَبَلُ فَسَقَطُوا، وجاءَ يَمْشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: ما فَعَلَ أصْحابُكَ؟ قالَ: كَفانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أصْحابِهِ، فَقالَ: اذْهَبُوا بِهِ فاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ، فَإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وإلّا فاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِما شِئْتَ، فانْكَفَأتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وجاءَ يَمْشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: ما فَعَلَ أصْحابُكَ؟ قالَ: كَفانِيهِمُ اللهُ، فَقالَ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بِقاتِلِي حَتّى تَفْعَلَ ما آمُرُكَ بِهِ، قالَ: وما هُوَ؟ قالَ: تَجْمَعُ النّاسَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ، وتَصْلُبُنِي عَلى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِن كِنانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإنَّكَ إذا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النّاسَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ، وصَلَبَهُ عَلى جِذْعٍ، ثُمَّ أخَذَ سَهْمًا مِن كِنانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ القَوْسِ، ثُمَّ قالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ رَماهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَماتَ، فَقالَ النّاسُ: آمَنّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنّا بِرَبِّ الغُلامِ، فَأُتِيَ المَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أرَأيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ واللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النّاسُ، فَأمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أفْواهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وأضْرَمَ النِّيرانَ، وقالَ: مَن لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأحْمُوهُ فِيها، أوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتّى جاءَتِ امْرَأةٌ ومَعَها صَبِيٌّ لَها فَتَقاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فِيها، فَقالَ لَها الغُلامُ: يا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإنَّكِ عَلى الحَقِّ».
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (“[(١٦)] – (بَابُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الأُخْدُودِ، وَالسَّاحِرِ، وَالرَّاهِبِ، وَالْغُلَامِ)”).
“كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقُصُّ لأصحابِه رَضيَ اللهُ عنهم قَصصَ المؤمنينَ مِن الأُمَمِ السَّابقةِ، وصَبْرَهم على الأذى وشِدَّةِ العذابِ مِن المشْركين والكفَّارِ، وتَحقُّقَ نَصرِ اللهِ لهم، وكلُّ ذلك لِيتأسَّى المسْلِمون بهم ويَصبِروا حتَّى يَرسَخَ الإيمانُ في قُلوبِهم”.
وعلاقة الباب بكتاب الزهد والرقائق:
علاقة الباب: القصة توضح مقام الزهد والتضحية في سبيل الله، وهو ما يناسب مقاصد كتاب الزهد والرقائق.
و الحديث يعكس حال الزاهدين الذين صبروا على الأذى في سبيل الله وتركوا الدنيا طمعًا في الآخرة.
والغلام نموذج لمن زهد في متاع الدنيا من أجل الآخرة، وأثبت أن الإيمان يرفع صاحبه .
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[٧٤٨٠] (٣٠٠٥) – الحديث
شرح الحديث:
(عَنْ صُهَيْبِ) الروميّ رحمه الله؛ (غُلَامًا) هو عبد الله بن ثامر، قاله الدمياطيّ، وابن بشكوال. (يُعَلِّمُهُ)؛ أي: السحر، . (وَسَمِعَ كَلَامَهُ)؛ أي: كلام الراهب في عقائد التوحيد، وغيرها (فَأَعْجَبَهُ)؛ أي: أعجب ذلك الغلام كلام الراهب .
قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث جواز الكذب للضرورة، لا سيّما في الله تعالى، والدفع عن الإيمان، ومع من أراد أن يصدّ عنه، قال القرطبيّ: وجه الاستدلال به كونه صلى الله عليه وسلم ذكره في معرض الثناء على الراهب والغلام، واستحسان فِعلهما؛ إذ لو كان غير جائز لبيّنه صلى الله عليه وسلم ، والبيان لا يؤخّر عن وقت الحاجة.
وقال الأبيّ رحمه الله: ويَحْتَمِل: أن يكون ذلك تورية، لا كذبًا؛ لأن الغلام لا يصل إلى أهله إلا بعد المكث عند الساحر والراهب، والتورية في قوله: حبسني أهلي أبْيَن وأوضح؛ لأن أهله حقيقة إنما هم المرشدون له إلى السعادة، فأراد بهذا اللفظ؛ يعني: لفظ الأهل: الراهب، وكذلك قوله لأهله حبسني الساحر يُمكن تأويله بأنه لا يصل إلى أهله إلا بعد المكث عند الساحر والراهب جميعًا، فيصدق قوله: حبسني الساحر، لأنه كان أحد الحابسين له. انتهى [«شرح الأبيّ» ٧/ ٣٠٦].
(أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟) للاقتداء به، قال الأبيّ رحمه الله: ليس هذا شكًّا منه، وإنما هو استثبات، وطلب طمأنينة. (فَأَخَذَ حَجَرًا) من الأحجار (فَقَالَ) مخاطبًا، ومناجيًا ربه: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ)، أي: دينه الذي هو عليه (أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ)؛ أي: دينه، وهذه كرامة من الله تعالى للغلام، وللراهب أيضًا، (وَمَضَى النَّاسُ)؛ أي: ذهبوا، وانطلقوا إلى حوائجهم، والظاهر أن الناس ما علموا سبب موت تلك الدابّة، (أَفْضَلُ مِنِّي) درجة ومنزلة عند الله تعالى؛ لأنه تعالى استجاب دعوتك، وأظهر كرامتك، (قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ) ومنزلتك عند الله تعالى (مَا أَرَى)؛ أي: ما أعلمه، مما وقع لك من الكرامة، (وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى) بالبناء للمفعول؛ أي: سيفعل الله بك ما جرى من سنّته في أنبيائه، وأوليائه من ابتلائهم بسفهاء قومهم، (فَإِنِ ابْتُلِيتَ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: جرى لك ابتلاء من الله تعالى على ما هي سنّته في أوليائه، (فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ) بسبب شدّة الابتلاء، فإن هؤلاء الكفرة سيبتلونني. (وَكَانَ الغُلَامُ) انتشر ذِكره، واشتهر أمره بين عامّة الناس، فكان (يُبْرِئُ) بدعائه (الأَكْمَهَ)؛ أي: الذي وُلد أعمى، يقال: كَمِهَ كَمَهًا، من باب تَعِب فهو أَكمَهُ، قاله الفيّوميّ [«المصباح المنير» ٢/ ٥٤١]. (وَالأَبْرَصَ)؛ أي: من أصابه داء البرص، وهو بفتحتين: بياض يظهر في ظاهر البدن؛ لفساد المزاج، وفعله كفرِحَ [«القاموس» ص ٩٦]. (وَيُدَاوِي النَّاسَ)؛ أي: يعالجهم (مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ)؛ أي: من جميع الأمراض، وفي نسخة: «سائر الأدواء» بإسقاط «من». (رَبٌّ غَيْرِي؟) في هذا دليل على أن ذلك الملك كان يدعي الربوبيّة، ففيه: ردّ على من زعم أنه كان يهوديًّا. (فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ) ليدلّ على من علّمه هذا الدين (حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ) إنما دلّ عليه مع أنه أوصاه بأن لا يدلّ عليه؛ لشدّة العذاب الذي عذّبه به الملِك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فإن قيل: كيف يجوز في شرعنا ما فعل الغلام من دلالته على الراهب للقتل، ومن إرشاده إلى كيفية قتل نفسه؟!.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الغلام غير مكلَّف، لأنَّه لم يبلغ الحلم، ولو سُلِّم أنه مكلف لكان العذر عن ذلك أنه لم يعلم أن الراهب يُقتل، فلا يلزم من دلالته عليه قتله، وعن معونته على قتل نفسه أنه لمّا غلب على ظنه أنه مقتولٌ ولا بد، أو علم بما جعل الله في قلبه، أرشدهم إلى طريق يُظهر الله بها كرامته، وصحة الدين الذي كانا عليه، لِيُسلم الناس، وليدينوا دين الحق عند مشاهدة ذلك كما كان، وقد أسلم عثمان رضي الله عنه نفسه عند علمه بأنه يُقتل، ولا بدّ بما أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كما بيّنّاه [«المفهم» ٧/ ٤٢٥].
(فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ)؛ أي: اضطرب، وتحرّك تحرّكًا شديدًا، ومنه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ [المزمل: ١٤]. وقال القاضي عياض رحمه الله: روى هذا الحرف لنا الخشنيّ عن الطبريّ: »فزحف« بالحاء والزاي، والرواية الأولى عليها جماعة شيوخنا، وهي أصحّ، وإن كان قد يكون الزحف بمعنى الحركة والتقدّم، يقال: زحف القوم إلى عدوهم؛ أي: نهضوا. انتهى [«إكمال المعلم» ٨/ ٥٥٦].
(فِي قُرْقُورٍ) وفي نسخة: قرقورة»، والقرقور بضمّ القافين، بينهما راء ساكنة،
وقال القرطبيّ: القرقور ضرب من السفن عربيّ معروف، والمعروف عند الناس فيه استعماله فيما صَغُر منها، وخفّ للتصرّف فيه. انتهى [«المفهم» ٧/ ٤٢٧].
(فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ)؛ أي: في صدغ الغلام، والصدغ، بضم الصاد، وسكون الدال المهملتين: ما بين لَحْظ العين إلى أصل الأذن، والجمع أصداغ، مثل قُفل وأقفال [«المصباح المنير» ١/ ٣٣٥].
(فَوَضَعَ) الغلام (يَدَهُ فِي صُدْغِهِ)، وقوله: (فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ) بدل مما قبله، (فَمَاتَ) ذلك الغلام.
قال القاضي عياض: سعيه؛ أي: تسببه في قتل نفسه إنما هو لِيُشهر أمر الإيمان في الناس، ويروا برهانه، كما وقع. قال القرطبيّ: ويجاب أيضًا بأنه غير بالغ، أو علم أنه لا بدّ أن يُقتل.
وهذا كالمجاهد الذي يُقحم نفسه في معركة القتال؛ لإعلاء كلمة الله تعالى، والله تعالى أعلم
(فَأَحْمُوهُ فِيهَا) قال النوويّ تعالى: هكذا هو في عامة النسخ: «فأحموه» بهمزة قطع، بعدها حاء ساكنة، ونقل القاضي اتفاق النُّسخ على هذا، ووقع في بعض نُسخ بلادنا. «فأقحموه» بالقاف، وهذا ظاهر، ومعناه: اطرحوه فيها كُرْهًا، ومعنى الرواية الأُولى: ارموه فيها، من قولهم: حَمَيت الحديدة وغيرها: إذا أدخلتها النار؛ لتحمى. انتهى [«شرح النوويّ» ١٨/ ١٣٣].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: »فتقاعست«؛ أي: تأخرت، وامتنعت، وقد أظهر الله تعالى لهذا الملك الجبار الظالم من الآيات البيّنات ما يدلّ على القطع، والثبات أن الراهب والغلام على الدين الحقّ، والمنهج الصدق، لكن من حُرم التوفيق استدبر الطريق.
وفي هذا الحديث: إثبات كرامات الأولياء، وقد تقدَّم القول فيها. انتهى [»المفهم” ٧/ ٤٢٨].
(فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ») الذي هو التوحيد، قيل: إن هذا الغلام الذي كلّم أمه أحد الستّة الذين تكلموا في المهد، كما في «شرح الأبيّ»، وكونه في المهد ليس صريحًا في رواية مسلم هنا، ولكن وقع عند النسائي في «السنن الكبرى»: «فجاءت امرأة بابن لها تُرضعه»، وهو صريح في كونه رضيعًا.
وهي في مسند أحمد – ط الرسالة ٣٩/٣٥٤ — أحمد بن حنبل (ت ٢٤١)
فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّهْ، اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ «
قال محققو المسند إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد ابن سلمة، فمن رجال مسلم. ثابت: هو ابن أسلم البُناني. وأخرجه النسائي في»الكبرى«(١١٦٦١)، والبزار في»مسنده«(٢٠٩٠) من طريق عفان بن مسلم، بهذا الإسناد.
ووقع في رواية الترمذيّ في آخر هذا الحديث زيادة، وهي، «قال: يقول الله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥)﴾ [البروج: ٤ – ٥] قال: فأما الغلام، فإنه دُفن، فيُذكر أنه أُخرج في زمن عمر بن الخطاب، وإصبعه على صدغه، كما وضعها حين قُتل».
وبرواية الترمذيّ استدلّ بعض المفسّرين أن المراد من أصحاب الأخدود في سورة البروج: هؤلاء الذين آمنوا بالله بعد شهادة الغلام، ولكن رواية الترمذيّ ليست صريحة في ذلك، أما أولًا، فلأن تلاوة آيات من سورة البروج مدرجة من أحد الرواة، وليست جزءًا من حديث مرفوع.
وأما ثانيًا، فلأن مجرّد تلاوة هذه الآيات لا يقتضي أن تكون نزلت في هذه القصّة، وربما يتلو بعض الرواة الآيات لكونها مناسبة بالقصّة، أو منطبقة عليها، كما تقرّر في أصول التفسير.
وقد ذكر ابن إسحاق قصّة لأهل نجران تشابه هذه القصّة، وذكر أنها هي القصّة المقصودة في القرآن الكريم، وراجع «تفسير ابن كثير»، قاله صاحب «التكملة» [«تكملة فتح الملهم» ٦/ ٥٠٩].
وحديث صهيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله. [البحر المحيط الثجاج (45/ 296 – 308)، بتصرف].
تنبيه : كونهم وجدوه في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
وردت في مستخرج أبي عوانه :
١٣٠١٩ – حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت ، عن ابن أبي ليلى، عن صهيب بنحوه. قال:
⦗٣٦٣⦘ فوجد الغلام في عهد عمر، وهو واضع يده على صدغه، فكتب عمر: أن اغسلوه كفنوه وواروه، فكانوا يمدون يده فإذا تركوها عادت
قال المحقق :
– الزيادة الموقوفة في آخر الحديث، وإسنادها صحيح، وقد أخرج هذه الزيادة عبد الرزاق في المصنف (٥/ ٤٢٠ – ٤٢٣)، – ومن طريقه الترمذي في جامعه (التفسير: من سورة البروج ٥/ ٤٠٧ – ٤٠٩ رقم ٣٣٤٠) – من طريق معمر، عن ثابت به.
وكذلك جاءت هذه الزيادة -بنحوها- عند ابن إسحاق في السيرة (سيرة ابن هشام ١/ ٣٦) قال حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم به .
مستخرج أبي عوانة – ط الجامعة الإسلامية ٢٢/٣٦٢ — أبو عوانة (ت ٣١٦)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
“فهذا الحديث العظيم في أخبار من قبلنا يخبر به النبي عليه الصلاة والسلام للعبرة والعظة وأن المؤمن لا بدّ أن يبتلى بهذه الدار فالواجب عليه الصبر، قد يبتلى بمرض، قد يبتلى بالفقر، قد يبتلى بالأعداء، قد يبتلى بغير ذلك فالواجب الصبر على طاعة الله، والكف عن محارم الله كما قال الله جل وعلا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]وقال جل وعلا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، ويقول جل وعلا: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127].
ثم قال بعد أن سرد القصة:
” فهذا يدل على أن الناس قد يبتلوا والواجب عند الابتلاء الصبر والاحتساب، الصبر على الحق والثبات عليه، ولو مات الإنسان ولو قتل، وإن كان في ديننا المكره له أن يترخص المكره، كما قال الله جل وعلا: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] “. [التعليق على رياض الصالحين للإمام ابن باز رحمه الله، – تعليق على قراءة الشيخ محمد إلياس 14 من حديث ( كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر..)].
ثانيًا: خلاصة فوائد الحديث:
1 – (منها): إثبات كرمات الأولياء، فقد ظهر على يدي هذا الغلام خوارق كثيرة.
2 – (ومنها): صبر أولياء الله تعالى على الابتلاء في ذات الله تعالى، وما يلزمهم من إظهار دينه، والدعاء إليه، وهو مراد الغلام بقوله للملك: لست بقاتلي حتى تصلبني … إلخ.
3 – (ومنها): أن الصبي الذي كلّم أمه، وهي ترضعه ممن تكلّم في المهد، وهم جماعة
4 – (ومنها): أن الحديث دليل على إجازة الكذب لمصلحة الدِّين، ووجه التمسك به أن نبيّنا ﷺ ذكر هذا الحديث كله في معرض الثناء على الراهب والغلام، على جهة الاستحسان لِمَا صدر عنهما، فلو كان شيء مما صدر عنهما من أفعالهما محرّمًا، أو غير جائز في شرعه لبيّنه صلى الله عليه وسلم لأمته، ولاستثناه من جملة ما صدر عنهما، ولم يفعل ذلك، فكل ما أخبر به عنهما حجَّة، ومسوغ الفعل، قاله القرطبيّ رحمه الله [«المفهم» ٧/ ٤٢٤ – ٤٢٥].
5 – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: وهذا الحديث كله إنما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليصبروا على ما يلقون من الأذى، والآلام، والمشقات التي كانوا عليها؛ ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره، وتصلّبه في الحق، وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وعظيم صبره، وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحقّ حتى نشر بالمنشار، وكذلك كثير من الناس لمّا آمنوا بالله تعالى، ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار، ولم يرجعوا عن دينهم،
على أني أقول: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم أقوى الأنبياء في الله، وأصحابه أقوى أصحاب الأنبياء في الله تعالى، فقد امتُحن كثير منهم بالقتل، وبالصلب، وبالتعذيب الشديد، ولم يلتفت إلى شيء من ذلك، وتكفيك قصّة عاصم، وخبيب، وأصحابهما، وما لقي أصحابه من الحروب، والمحن، والأسر، والحرق، وغير ذلك، فلقد بذلوا في الله نفوسهم، وأموالهم، وفارقوا ديارهم، وأولادهم، حتى أظهروا دين الله، ووفوا بما عاهدوا عليه الله، فجازاهم الله أفضل الجزاء، ووفّاهم من أجر من دخل في الإسلام بسببهم أفضل الإجزاء. انتهي [«المفهم» ٧/ ٤٢٦]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، (45/ 308 – 310)].
6 – (ومنها): “نَصْرُ مَن توكَّل على الله سُبحانه وانْتَصَر به وخرَج عن حَوْلِ نفْسِه وقُوَاها.
7 – (ومنها): بَذلُ النَّفسِ في إظهارِ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
8 – (ومنها): أهمِّيَّةُ تَربيةِ الأبناءِ، وقَصْدِهم بالعِلمِ في الصِّغرِ.
9 – (ومنها): المؤمنُ لا يُعرِّضُ نفْسَه وإيمانَه للفتنِ إذا كان ممَّن لا يَقْوى عليها”
ثالثا: الأحكام والمسائل والملحقات:
(المسألة الأولى): الفوائد السلوكية
1) التعليم في الصغر:
التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان بل أكثر:
الفائدة الأولى: أن الشاب في الغالب أسرع حفظًا من الكبير؛ لأن الشاب فارغ البال ليست عنده مشاكل توجب انشغاله.
وثانيًا: أن ما يحفظه الشاب يبقى، وما يحفظه الكبير يُنسى، ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس: “إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر”، لا يزول.
وفيه فائدة ثالثة: وهي أن الشاب إذا ثُقِّفَ العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له، وصار كأنه غريزة قد شب عليه فيشيب عليه.
و مَرَّ هذا الغلام يومًا من الأيام براهب، فسمع منه، فأعجبه كلامه؛ لأن هذا الراهب – يعني: العابد – عابد لله عز وجل، لا يتكلم إلا بالخير، وقد يكون راهبًا عالِمًا لكن تغلب عليه العبادة، فسُمِّي بما يغلب عليه من الرهبانية، فصار هذا الغلام إذا خرج من أهله جلس عند الراهب.
2) من نعم الله تعالى أن يبين له الأمور ويسأل الله تعالى فيستجيب له،
” وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالى يعطيه ما يستدل به على أن الخير في الإقدام أو الإحجام، إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا، وإما برؤيا يراها في المنام، وإما بمشورة أحد من الناس، وإما بغير ذلك.
3) أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم، وإنما ينسبونها إلى موليها عز وجل، وهو الله:
” وهذا يشبه من بعض الوجوه ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيميه – رحمة الله عليه – حينما جيء إليه برجل مصروع قد صرعه الجني، فقرأ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه لم يخرج، فجعل شيخ الإسلام يضربه على رقبته ضربًا شديدًا، حتى إن يد شيخ الإسلام أوجعته من الضرب، فتكلم الجِنِّي الذي في الرجل، وقال له: أخرج كرامة للشيخ، فقال له الشيخ رحمه الله: لا تخرج كرامة لي ولكن اخرج طاعة لله ولرسوله، لا يريد أن يكون له فضل، بل الفضل لله عز وجل أولًا وآخرًا، فخرج الجني، فلما خرج الجني استيقظ الرجل، فقال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ لأنه حينما صرع يمكن أنه كان في بيته أو سوقه، قال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ فقالوا: سبحان الله، ألم تحس بالضرب الذي كان يضربك؟ قال: ما أحسست به ولا أوجعني، فأخبروه، فبرئ الرجل!
قال ابن تيمية :
وَلِهَذَا قَدْ يَحْتَاجُ فِي إبْرَاءِ الْمَصْرُوعِ وَدَفْعِ الْجِنِّ عَنْهُ إلَى الضَّرْبِ فَيُضْرَبُ ضَرْبًا كَثِيرًا جِدًّا وَالضَّرْبُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْجِنِّيِّ وَلَا يَحُسُّ بِهِ الْمَصْرُوعُ حَتَّى يَفِيقَ الْمَصْرُوعُ وَيُخْبِرَ أَنَّهُ لَمْ يَحُسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِهِ وَيَكُونُ قَدْ ضُرِبَ بِعَصَا قَوِيَّةٍ عَلَى رِجْلَيْهِ نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعِمِائَةِ ضَرْبَةً وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ عَلَى الْإِنْسِيِّ لَقَتَلَهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِنِّيِّ وَالْجِنِّيُّ يَصِيحُ وَيَصْرُخُ وَيُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا قَدْ فَعَلْنَا نَحْنُ هَذَا وَجَرَّبْنَاهُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ وَصْفُهَا بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرِينَ.
مجموع الفتاوى ١٩/٦٠ — ابن تيمية (ت ٧٢٨)
الجزء ١٩: أصول الفقه ١: الاتباع←إيضاح الدلالة على عموم الرسالة للثقلين←ضرب المصروع إنما يكون على الجني
4) متى يجوز قول كلمة الكفر ؟
“فدُعي أن يرجع عن دينه فأبى، فَفُعِل به كما فُعِل بالراهب، ولم يرده ذلك عن دينه، وهذا يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يصبر.
ولكن هل يجب على الإنسان أن يصبر على القتل، أو يجوز أن يقول كلمة الكفر دفعًا للإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان، وإن شاء أصر وأبى ولو قُتِل ؟
هذا إذا كان الأمر عائدًا إلى الإنسان بنفسه، يعني مثلًا قيل له: اسجد للصنم، فلم يسجد، فقُتِل، أو سجد دفعًا للإكراه ولم يُقتَل،
وفي الجامع لعلوم الإمام أحمد – العقيدة ٤/٨٤ — أحمد بن حنبل (ت ٢٤١)
قال أبو الفضل صالح: قال أبي: إن امتحن فلا يجيب، ولا كراهة، فالمكره لا يكون عندي إلا أن ينال بضرب أو بتعذيب، فأما المتهدد فلا يكون عندي بالتهديد مكرها؛ لأن الآية التي قال اللَّه فيها: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] فالإيمان ، نزلت في عمار، وكان عمار عذب
قال محقق الجامع لعلوم الإمام أحمد:
روي في تعذيب المشركين عمارًا ونزول الآية المذكورة فيه بعد نطقه بكلمة الكفر والوقوع في النبي أحاديث كثيرة منها:
١ – ما رواه ابن ماجه (١٥٠) عن عبد اللَّه بن مسعود أن أول من أظهر إسلامه سبعة وعد منهم عمارًا وبلالًا، فمنهم من منعه قومه، ومنهم من عذب وألبس أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما صبر منهم على العذاب غير بلال.
قال البوصيري في «الزوائد» (٣٥): هذا إسناد رجاله ثقات. وحسنه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (١٢٢).
٢ – وما رواه عبد الرزاق في «تفسيره» ١/ ٣١١ (١٥٠٩)، وابن سعد في «طبقاته» ٣/ ٢٤٩، والطبري في «تفسيره» ٧/ ٦٥١ (٢١٩٤٦)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» ٤٣/ ٣٧٤ جميعًا من طريق عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنا بالإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فإن عادوا فعُد».
قال الحافظ في «الفتح» ١٢٥/ ٣١٢: هو مرسل ورجاله ثقات.
٣ – وما رواه ابن سعد في «الطبقات» ٣/ ٢٥٠، وابن أبي شيبة ٦/ ٣٨٩ (٣٢٢٤٤) والطبري في «تفسيره» ٧/ ٦٥٢ عن أبي مالك في قوله ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] قال: نزلت في عمار بن ياسر.
٤ – وما رواه الطبري في «تفسيره» عن ابن عباس. قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] وذلك أن المشركين أصابوا عمار فعذبوه ثم تركوه فنزلت الآية.
قال الحافظ في «الفتح» ١٢/ ٣١٢: وفي سنده ضعيف ثم قال بعد ما ذكر مراسيل أُخَر: وهذه المراسيل يقوي بعضها بعضًا.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالدين، بمعنى أنه لو كفر ولو ظاهرًا أمام الناس لكفر الناس، فإنه لا يجوز له أن يقول كلمة الكفر، بل يجب أن يصبر ولو قُتِل، كالجهاد في سبيل الله، المجاهد يقدم على القتل ولو قُتِل؛ لأنه يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا كان إمامًا للناس، وأُجْبِر على أن يقول كلمة الكفر، فإنه لا يجوز أن يقول كلمة الكفر، لا سيما في زمن الفتنة، بل عليه أن يصبر ولو قُتِل.
ومثل ذلك ما وقع للإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – حين امتُحِن المحنة العظيمة المشهورة، على أن يقول: إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، فأبى، فأوذي وعُزِّرَ، حتى إنه يُجَرُّ بالبغلة بالأسواق، إمام أهل السنة يُجَرُّ بالبغلة بالأسواق، ويُضْرَب بالسوط حتى يُغشى عليه، ولكنه كلما أفاق قال: القرآن كلام ربي غير مخلوق.
وإنما لم يُجِزْ لنفسه أن يقول كلمة الكفر مع الإكراه؛ لأن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فلو قال: القرآن مخلوق، لصار كل الناس يقولون: القرآن مخلوق، وفسد الدين.
ولكنه – رضي الله عنه – جعل نفسه فداءً للدين، ومع هذا صبر واحتسب، وكانت العاقبة له ولله الحمد، مات الخليفة، ومات الخليفة الثاني الذي بعده، وأتى الله بخليفة صالح أكرم الإمام أحمد إكرامًا عظيمًا، فما مات الإمام أحمد حتى أقَرَّ الله عينه بأن يقول الحق عاليًا مرتفع الصوت، ويقول الناسُ الحقَّ معه.
وخُذِل أعداؤه الذين كانوا يُحدِّثون الخلفاء عليه، ولله الحمد، وهذا دليل على أن العاقبة للصابرين، وهو كذلك، والله الموفق.
5) فوائد من قصة قتل الغلام
ففي هذه القطعة من الحديث دليل على مسائل:
أولًا: قوة إيمان هذا الغلام، وأنه لم يتزحزح عن إيمانه ولم يتحول.
ثانيًا: فيه آية من آيات الله؛ حيث أكرمه الله عز وجل بقبول دعوته، فزلزل الجبل بالقوم الذين يريدون أن يطرحوه من رأس الجبل حتى سقطوا.
ثالثًا: أن الله عز وجل يجيب دعوة المضطر
رابعًا: أن الإنسان يجوز أن يُغَرِّر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين،
قال شيخ الإسلام: «لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئًا؛ لأنه مات وسيموت إن آجلًا أو عاجلًا»؛ فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله؛ ومن قتل نفسه فجاء عليه الوعيج كما جاء في الحديث عن النبي – عليه الصلاة والسلام – لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام؛ لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مئة أو مئتين، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، فإن فيها إسلام كثير من الناس، لكن الذي فجر نفسه إذا فعل الإنسان هذا متأولًا ظانًّا أنه جائز، فإننا نرجو أن يسلم من الإثم، وأما أن تُكتب له الشهادة فلا؛ لأنه لم يسلك طريقة الشهادة، لكنه يسلم من الإثم لأنه متأول، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر.
6)وفي هذه القصص وأمثالها دليل على أن الله – سبحانه وتعالى – برحمته ينجي كل مؤمن في مفازته، وكل متق في مفازته؛ يعني: في موطن يكون فيه هلاكه، ولكن الله تعالى ينقذه لما سبق له من التقوى، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»، والله الموفق. ذكرها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى. [شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/ 210 – 225)، بتصرف].
(المسألة الثانية): تتمة:
“الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّحْرَ بِالتَّعَلُّمِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ.
الثَّانِي: إِمْكَانُ اجْتِمَاعِ الْخَيْرِ مَعَ الشَّرِّ، إِذَا كَانَ الشَّخْصُ جَاهِلًا بِحَالِ الشَّرِّ، كَاجْتِمَاعِ الْإِيمَانِ مَعَ الرَّاهِبِ مَعَ تَعَلُّمِ السِّحْرِ مِنَ السَّاحِرِ.
[وليحذر العبد من مقولة: “أخذ الخير وأترك الشر” يقصد أهل البدع ومن لم يعرفوا بالسنة والتمسك بها!، وفيه: التحذير من وسائل التواصل الحديث والسماع من المجاهيل].
الثالث: أَنَّهُ كَانَ أَمْيَلَ بِقَلْبِهِ إِلَى أَمْرِ الرَّاهِبِ، إِذْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ، فَسَأَلَ عَنْ أَمْرِ الرَّاهِبِ وَلَمْ يَسَلْ عَنْ أَمْرِ السَّاحِرِ؟
الْخَامِسُ: اعْتِرَافُ الْعَالِمِ بِالْفَضْلِ لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَاعْتِرَافِ الرَّاهِبِ لِلْغُلَامِ.
الخامس : رَفْضُ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ الْأَجْرَ عَلَى عَمَلِهِ وَهِدَايَتِهِ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا.
التَّاسِعُ: بَيَانُ رُكْنٍ أَصِيلٍ فِي قَضِيَّةِ التَّوَسُّلِ، وَهُوَ أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ الدُّعَاءِ وَسُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى.
السادس : اللُّجُوءُ إِلَى الْعُنْفِ وَالْبَطْشِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِقْنَاعِ وَالْإِفْهَامِ أُسْلُوبُ الْجَهَلَةِ وَالْجَبَابِرَةِ.
السَّابِعَ : إِثْبَاتُ دَلَالَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ لِوُجُودِ الدَّمِ وَعَوْدَةِ الْيَدِ مَكَانَهَا بِحَرَكَةٍ مَقْصُودَةٍ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ تِلْكَ الْقِصَّةِ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ حُدِّثُوا بِهَا تَخْوِيفًا مِنْ عَوَاقِبِ أَفْعَالِهِمْ بِضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا هُوَ مُوَضَّحٌ فِي تَمَامِ الْقِصَّةِ.
ذكرها الشيخ عطية سالم رحمه الله في تتمته لأضواء البيان. [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (8/ 483 – 484)].
—-
س ٤٣: سئل فضيلة الشيخ- : استحلَّ بعضُ الناس جواز قتل النفس، أو ما يسمونه بالعمليات الانتحارية بحديث ذكره مسلم في «صحيحه» في قصة الغلام ، فهل استدلالهم هذا
صحيح؟
فأجاب بقوله: هذا صحيحٌ في موضعه، يعني إذا وُجِدَ أنَّ قتل هذا الإنسان نفسه يحصل به إيمان أُمة من الناس، فلا بأس؛ لأن هذا الغلام لما قال للملك: خذ سهمًا من كِنانتي ثم قل: باسم رب هذا
الغلام، فإنك سوف تصيب، ففعل الملك، ماذا صار مقام الناس؟ آمنوا كلهم، هذا لا بأس.
لكن الانتحاريين اليوم لا يحصل من هذا شيء، بل ضد هذا، إذا قُدِّر أنه انتحر، أول من يقتل نفسه ثم قد يقتل واحدًا أو اثنين وقد لا يَقتُل، لكن ماذا يكون انتقام العدو؟ كم يقتل؟ يقتل الضِّعف، أو
أكثر، ولا يحصل لا إيمان ولا كفٌّ عن القتل، هذا هو الرد عليهم نقول: إذا وجد حالة مثل هذه الحالة، فإنَّ النبي ﷺ لم يقصَّها علينا لنسمعها كأنها أساطير الأولين، وإنما قصَّها علينا لنعتبر، فإذا وجد مثل هذه الحالة فلا بأس.
وبعضهم يستدل بقصَّة البراء ابن مالك- في غزوة اليمامة، حيث حاصروا حديقة مُسيِلمة والباب مغلق وعجزوا، فقال البراء: أَلقُوني من وراء السور وأفتح لكم، فألقوه
وفتح. (١) هذا ليس فيه دليل، لأنَّ موته غير مؤكد، ولهذا لم يقتل وفتح لهم الباب، لكن المنتحر الذي يربط نفسه بالرصاص والقنابل هل ينجو أم لا ينجو؟ قطعًا لا ينجو، ولولا حُسنُ نيتهم لقلنا: إنهم في النار، يُعذَّبون بما قتلوا به أنفسهم. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، (25/ 359 – 360)].