3 – الأجوبة المفيدة في مسائل العقيدة (القدر)
بإشراف سيف بن دورة الكعبي
جمع واختصار حسين بن علي البلوشي
قال صاحبنا حسين: أضع كلامي بين شرطيين – … – ووضعت عناوين لكلام ابن تيمية.
—————-
جواب سيف النعيمي:
*انقسم الناس في الإيمان بالقضاء والقدر إلى ثلاثة أقسام:
قسم سلبوا العبد قدرته واختياره، (وهم الجبرية).
وقسم نفوا القدر، (وهم القدرية)
وقسم توسطوا فأثبتوا القدر وأثبتوا للعبد قدرة واختيارا، (وهم أهل السنة والجماعة)
*الجبرية
-التعريف بهم:
(الجبرية) هم الذين سلبوا العبد قدرته واختياره، فزعموا أنه لا فعل للعبد أصلا، وأن حركاته بمنزلة حركات الجماد ولا قدرة له عليها، ولا اختيار، و الأعمال تنسب للإنسان مجازا، وأن كل ما خلقه الله فقد رضيه وأحبه
وأول من قال بهذا المذهب الباطل هو الجعد بن درهم، وعن الجعد بن درهم أخذ هذا المذهب تلميذه الجهم بن صفوان وقد تبعهم على ذلك الأشاعرة.
انظر: التبصير في الدين (107)، والفصل (3/ 22)، والملل والنحل (1/ 110 – 111).
*شبهاتهم والردود عليها:
قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)
[سورة الزمر 62]
وقوله تعالى: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)
[سورة الرعد 16]
وغير ذلك من الآيات التي زعموا أنها تدل على أقوالهم الباطلة.
وقبل الرد على استدلالهم بالآيات السابقة لا بد من بيان أنهم أخطئوا في جانبين:
الأول: زعمهم أن كل ما قدره الله وأراده فإنه يحبه ويرضاه .. لأنه في زعمهم لا يخلق إلا ما يحبه ويريده، وكلامهم هذا باطل لأنهم ظنوا أن كل مخلوق لا بد أن يكون محبوبا ومرادا لله، فخلطوا بين الإرادتين؛ الإرادة الكونية والإرادة الدينية الشرعية …
الثاني: أنهم سلبوا العبد قدرته ومشيئته واختياره، وهذا الزعم في الحقيقة مخالف للشرع والعقل والحس.
والأدلة الشرعية متضافرة في نسبة أفعال العباد إليهم، وأن العبد يمدح أو يذم على ما يصدر عنه من أفعال …
ويقول ابن الوزير اليماني: (وقد تتبعت القرآن والسنة والآثار الصحابية فلم أجد لما ادعوه في ذلك أصلا، بل وجدت النصوص في جميع هذه الأصول رادة لهذه البدعة).
إيثار الحق على الخلق ص (330).
ثم ذكر كثيرا من الآيات والأحاديث والآثار الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقة، فالنصوص الشرعية متواترة في بيان أن للعبد قدرة ومشيئة، كما قال تعالى:
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)
[سورة التكوير 28]
وكما أن هذا المذهب النافي لقدرة العبد واختياره مخالف للشرع فهو مخالف للحس كذلك، فإن الشخص السوي يشعر ويعلم بأن له قدرة واختيارا، ويفرق بين أفعاله التي يفعلها باختياره كصلاته ومشيه ونحو ذلك، وبين ما يصدر عنه من أفعال لا قدرة له فيها ولا اختيار، كحركة يد المرتعش، ونبضات القلب.
فالجبر الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا عن الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار …
يقول ابن القيم: (الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه، وبقدرة العبد سببا ومباشرة، والله خالق الفعل، والعبد فعله وباشره، والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته).
شفاء العليل ص (311).
وأما استدلالهم بالآيات التي قد يفهم من ظاهرها سلب العبد قدرته واختياره، وأن الفاعل هو الله وحده، كقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ونحوها ذلك من الآيات … فيقال فيه: نعم، إن ظاهر قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)
أنه سبحانه هو الخالق وحده، وما سواه مخلوق، وهذا حق، فالله سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وكل ما عداه فهو مخلوق، ولا يخص شيء من هذا العموم، فتدخل أفعال العباد من جمله المخلوقات، ولكن لا يلزم من قولنا: إن الله خالق أفعال العباد، أن يكون العباد مجبورين ومضطرين على أفعالهم، بل لهم قدرة ومشيئة واختيار، كما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وليس في إثبات القدرة والاختيار للعبد جعل خالق مع الله، وإثبات شريك له، بل الله سبحانه هو الخالق، والعباد فاعلون مختارون حقيقة غير خالقين لأفعالهم، ولا مضطرين عليها، وهذا معلوم بالاضطرار حسا وشرعا.
انظر شفاء العليل ص (118).
وأما استدلالهم بقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
فنقول: إن هذه الآية تثبيت لمشيئة الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا حق، ولكنها تدل أيضا على إثبات المشيئة للعباد، وهذا يؤيد قول أهل السنة بإثبات المشيئة للعباد ولكنها واقعة وخاضعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى،
وأما استدلالهم بقوله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)
فالجواب: أن معنى الآية: كما قال ابن كثير في تفسير الآية: ” (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَه) أي: تنبتونه (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض “.
*وانظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 157).
والجواب عن بقية الآيات التي ربما يستدل بها الجبرية ومن قاربهم لا يخرج في الغالب عن نحو الجواب عن الآيات التي سبق إيرادها …
*القدرية.
-التعريف بهم:
القدرية: القدرية اسم يطلق على من نفى القدر، يقول البغدادي: (وقد زعموا أن الناس هم الذين يقدرون أكسابهم وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم وفي أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير، ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية).
-الفرق بين الفرق ص (94).
وكان أول ظهورهم بالبصرة في العراق على يد رجل ينسب إلى الزهد، يقال له معبد الجهني، حيث قال بنفي القدر، وأن العبد حر في تصرفاته.
وكان ذلك في أواخر زمن الصحابة – رضي الله عنهم – فأنكروا ذلك عليه كما أنكره عليه عامة التابعين، جاء في صحيح الإمام مسلم عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري
حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوما … فذكر حديث جبريل.
وقد أخذ معبد هذه المقالة عن رجل نصراني أسلم ثم تنصر، قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق، يقال له: سوسن، كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني ….
فأخذت هذه المقالة المعتزلة بعد أن انضم إليها عمرو بن عبيد، فضموا إلى بدعتهم في الإيمان، ومرتكب الكبيرة إنكارهم للقدر.
*عقيدتهم في القدر: نفي القدر كانت له مرحلتان:
المرحلة الأولى: مرحلة غلاة القدرية الأوائل الذين كانوا ينكرون (العلم السابق)، وكان على هذا معبد الجهني وبعض القدرية وقد كفرهم الأئمة بهذا، وقد انقرض هذا المذهب …
وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين، فيهم كثير، حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون “.
المرحلة الثانية: من مراحل القدرية حيث إن عمرو بن عبيد – زعيم المعتزلة – أخذ بمقالة معبد الجهني في القدر وتبعه على ذلك خلق من أهل البصرة فتبنى المعتزلة هذا الرأي وقالوا: بنفي القدر وأن العبد لا يعمل ضمن حدود القدر، وإنما هو حر طليق، وفعله الشر منشؤه مشيئته واختياره هو وحده، وليس لله عليه مشيئة البتة، وقد ستروا هذا الرأي تحت كلمة العدل، وهو أحد أصولهم الخمسة التي بنوا عليها مذهبهم ……
ومنشأ ضلالهم وبدعتهم أنه لما عجزت عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه ووعده ووعيده شبهوا أفعال الله بأفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه وما يقبح من العباد يقبح منه وقالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، وهم من مشبهة الأفعال.
*شبهاتهم والردود عليها: الشبهة:
الأولى: يقول القاضي عبد الجبار: ” ومما يستدل له من جهة السمع، قوله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) الآية.
وجه الاستدلال: لا يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره.
انظر: شرح الأصول الخمسة ص (355).
نقول: إن استدلالهم بهذه الآية استدلال باطل لأن الآية وردت في خلق السماوات، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور) ٍ، وإن كان الأولى تعميم الآية لتقرر تناسب خلقه سبحانه وتعالى، وإتقانه، وتناهي حسنه، فيشمل خلق السماوات وغيرها.
انظر محاسن التأويل (16/ 5878)، وتفسير ابن كثير (4/ 396).
قلت (سيف) وانظر أيضا جوابا عن هذه الشبهة في رد الشبهة الثانية.
الشبهة الثانية: قال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
*وجه الاستدلال بالآية: يقول القاضي عبد الجبار – ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس وليس شيء من ذلك متقنا؛ فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها “.
شرح الأصول الخمسة ص (358)
نقول: أما قوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)،
فمعناها: أن الجبال صنع الله تعالى، وهو سبحانه أتقن كل شيء، أي: أتقن كل ما خلق، وأحكمه، وأودع فيه من الحكمة ما أودع، (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون) َ: تعليل لما قبلها من كونه صنع ما صنع، وأتقن كل شيء، ومعناها أنه عليم بما يفعل عباده من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
أما ما يقع من الكفر، والمعاصي، والقبائح، فقد قدرها سبحانه أزلا، ولو شاء ألا توجد لما وجدت، والعباد هم الذين يفعلونها، وتنسب إليهم، وهي من مخلوقاته تعالى، لكنه لم يجبرهم عليها، والكفر والتنصر والتمجس، وإن كان غير متقن في ذاته، بل هو من أعظم الباطل إلا أن الله شاء وجودها لحكم عظيمة، منها الامتحان لعباده، من الذي يعبده حق العبادة، ومن الذي يكفر به ويشرك معه غيره، فهم خلطوا بين ما هو خلق لله ينسب إليه، وبين ما هو من مخلوقاته، كالقبائح، والطعوم، والروائح وغيرها.
وبهذا يتبين بطلان الاستدلال بهذه الآية.
الشبهة الثالثة: يقول القاضي عبد الجبار:
“ومن الأدلة على أن العباد خالقون أفعالهم قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا).
ثم قال: فقد نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل، فلولا أن هذه القبائح وغيرها من التصرفات من جهتنا ومتعلقة بنا؛ وإلا كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله، فيكون مبطلا كاذبا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا
شرح الأصول الخمسة ص (362).
مناقشة الشبهة: إن معنى الآية أن الله – سبحانه وتعالى – ما خلق السماوات والأرض وما بينهما – عبثا ولعبا – على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب، بل خلقهما بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما؛ ومن ثم إثابة المتقين الطائعين، ومجازاة المذنبين والكافرين.
ولذا قال تعالى بعدها: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)
يعنى من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب.
التسهيل لابن جزي (3/ 400)، وانظر تفسير الطبري (2/ 173)، وتفسير القرطبي (5/ 191).
*قول أهل السنة والجماعة
قول أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر هو القول الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وهو ما كان عليه السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله عز وجل خالق كل شيء ومليكه، وأنه سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، فهو القادر على كل شيء، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، من أفعال العباد وغيرها، وأنه عز وجل قد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم فقدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم، وكتب ذلك فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون، كما يؤمنون بأن للعباد مشيئة وقدرة، يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم: إن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله كما قال تعالى: (كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة) ِ.
وأجمع السلف الصالح عليه، يقول ابن بطة: وهو يبين معتقد أهل السنة والجماعة في مسألة القضاء والقدر: ( … ثم من بعد ذلك الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، مقدور واقع من الله عز وجل على العباد في الوقت الذي أراد أن يقع، لا يتقدم الوقت ولا يتأخر على ما سبق بذلك علم الله، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما تقدم لم يكن ليتأخر، وما تأخر لم يكن ليتقدم ….
والخلق كلهم أضعف في قوتهم وأعجز في أنفسهم من أن يحدثوا بسلطان الله عز وجل شيئا يخالفون فيه مراده، ويغلبون مشيئته ويردون قضاءه، فالإيمان بهذا حق لازم فريضة من الله عز وجل على خلقه، فمن خالف ذلك أو خرج عنه أو طعن فيه ولم يثبت المقادير لله عز وجل ويضيفها ويضيف المشيئة إليه فهو أول الزنادقة) …..
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل السنة والجماعة أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، منهي عن معصيته ومعصية رسوله – صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أطاع كان ذلك نعمة، وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله تعالى، وكل ذلك كائن بقضائه وقدره ومشيئته وقدرته، لكن يحب الطاعة ويأمر بها ويثيب أهلها على فعلها، ويكرمهم، ويبغض المعصية، وينهى عنها ويعاقب أهلها ويهينهم، وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعاصيه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم) ْ
وقال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك)
َ أي: ما أصابك من خصب ونصر وهدى، فالله أنعم به عليك، وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك، وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلا بد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (8/ 63 – 64).
ويقول – الإمام أحمد رحمه الله – (أجمع سبعون رجلاً من التابعين, وأئمة المسلمين، وأئمة السلف, وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها الرضا بقضاء الله, والتسليم لأمر الله, والصبر تحت حكمه, والأخذ بما أمر الله به، والنهي عما نهى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين).
(مناقب الإمام أحمد) لابن الجوزي (ص: 228)
ويقول شيخ المالكية في المغرب ابن أبي زيد القيرواني:
(والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا, ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] , يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من عمله، وقدره من شقي أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، خالقاً لكل شيء, ألا هو رب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم).
(مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني) (ص: 6 – 7).
*مسألة تعليل أفعال الله
*جواب حمد الكعبي:
قال ابن القيم رحمه الله:
( …… ومن أعجب العجب أن تسمح نفس بإنكار الحكم والعلل الغائية والمصالح التي تضمنها هذه الشريعة الكاملة التي هي من أدل الدلائل على صدق من جاء بها وأنه رسول الله حقا ولو لم يأت بمعجزة سواها لكانت كافية شافية فإن ما تضمنته من الحكم والمصالح والغايات الحميدة والعواقب السديدة شاهدة بأن الذي شرعها وأنزلها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وشهود ذلك في تضاعيفها ومضمونها كشهود الحكم والمصالح والمنافع في المخلوقات العلوية والسفلية وما بينهما من الحيوان والنبات والعناصر والآثار التي بها انتظام مصالح المعاش فكيف يرضى أحد لنفسه إنكار ذلك ..
،وان تجمل واستحى من العقلاء قال ذلك أمر اتفاقي غير مقصود بالأمر والخلق،
وسبحان الله كيف يستجيز أحد أن يظن برب العالمين وأحكم الحاكمين أنه يعذب كثيرا من خلقه أشد العذاب الأبدي لغير غاية ولا حكمة ولا سبب وإنما هو محض مشيئة مجردة عن الحكمة والسبب فلا سبب هناك ولا حكمة ولا غاية وهل هذا إلا من اسوء الظن بالرب تعالى
… فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحكم والمصالح والعلل الغائية فإذا رأوا أن هذا لا يمكن القول به مع موافقة الشرائع ولا يمكنهم رفعه عن نفوسهم خلوا الشرائع وراء ظهورهم وأساؤا بها الظن وقالوا لا يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا
ورأوا أن القول بالفاعل المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحكم والقوى والطبائع ولا سبيل إلى نفيها فنفوا الفاعل
وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار ورأوا أنه لا يمكنهم إثباته مع إثبات الأسباب والحكم والقوى والعلل فنفوها …… ) شفاء العليل.
* الفرق بين القضاء والقدر.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الفرق بين القضاء والقدر فأجاب رحمه الله:..
القضاء والقدر اسمان مترادفان إن تفرقا يعني؛ أنهما إذا تفرقا فهما بمعنى واحد، وإن اجتمعا، فالقضاء لله أن يحكم به بوقوعه، والقدر ما كتبه الله تعالى في الأزل
-قلت: مسألة اقسام القضاء-
وليعلم أن القضاء ينقسم إلى قسمين:
قضاء شرعي، وقضاء كوني
فالقضاء الشرعي يتعلق بما أحبه الله ورضي به؛ لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}.
والقضاء القدري يتعلق بما قدره الله سواء كان مما يرضاه، أو مما لا يرضاه، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً}.
-*مسألة منزلة الايمان بالقدر-
والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره». وفي حقيقيته أن تؤمن بأن ما أصابك ما كان ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فما قدره الله عليك فلا بد أن يقع مهما عملت من الأسباب، ولهذا كان المؤمنون يقولون: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت نعم
نور على الدرب بشئ من الإختصار
-*الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي-
قال شيخ الإسلام إبن تيميه رحمه الله:
( …………
ويقولون الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بضرورة العقل فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا فإن كان القدر حجة لهذا فهو حجة لهذا وإلا فلا والأولون أيضا يمنعون الاحتجاج بالقدر فإن الاحتجاج به باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول
وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا يعاقب أحد أحدا فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه والمحتجون على المعاصي بالقدر أعظم بدعة وأنكر قولا وأقبح طريقا من المنكرين للقدر …..
-*سبب تكذيب الناس بالقدر-
وأكثر ما أوقع الناس في التكذيب بالقدر احتجاج هؤلاء به –
قلت حسين: هذا تكملة للكلام الماضي-
-*براءة بعض الأئمة من مذهب القدرية وسبب الاتهام-
ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر كما قيل للإمام أحمد كان ابن أبي ذئب قدريا فقال الناس كل من شدد عليهم المعاصي قالوا هذا قدري وقد قيل إنه بهذا السبب نسب إلى الحسن القدر لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيا عنها
-*مسألة احتجاج آدم على موسى-
. ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب-قلت حسين تكملة للكلام السابق- وهذا جهل عظيم فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ونهيا عما نهى الله عنه وذما لمن ذمه الله وإنما بعثوا بالأمر بالطاعة لله والنهي عن معصية الله فكيف يسوغ أحد منهم أن يعصي عاص لله محتجا بالقدر
ولأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له
ولأنه لو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وسائر الكفار
ولكن كان ملام موسى لآدم عليهما السلام لأجل المصيبة التي لحقتهم بسبب أكله ولهذا قال له لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة والمؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعاصي فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك (سورة غافر). ….
——–
*جواب بسام عمر:
* فائدة في الإيمان بالقدر خيره وشره
«وقوله: ((خيره وشره)): أما وصف القدر بالخير؛ فالأمر فيه ظاهر.
وأما وصف القدر بالشر؛ فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله؛ فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، لكن الشر في مفعولاته ومقدوراته؛ فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل؛ فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك).
فمثلا؛ نحن نجد في بعض المخلوقات المقدورات شرا؛ ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر؛ لأنها لا تلائمه، وفيها أيضا المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير؛ لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة عظيمة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن نعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله.
ثم اعلم أيضا أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شرا في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى؛ قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} – سورة الروم – النتيجة طيبة، و على هذا؛ فيكون الشر في هذا المقدور شرا إضافيا؛ يعني: لا شرا حقيقيا؛ لأن هذا ستكون نتيجته خيرا ……..
[المصدر / شرح العقيدة الواسطية لفضيلة الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله ص 46 و47 طبعه دار ابن الجوزي]
——————
جواب حسين بن علي البلوشي:
*حكم الكلام في القدر:
إن كان الكلام في هذا الباب بالادلة الثابتة بلا تنطع فجائز.
*تعريف القدر:
والقدر في الشرع: هو تقدير الله للأشياء في القِدَم وعلمه أنها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفات مخصوصة وكتابته لذلك ومشيئته له ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها.
*أدلة الإيمان بالقضاء والقدر
قال سبحانه: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}
وقال سبحانه: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}.
أما من السنة: فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) رواه مسلم (8)
*أنواع التقدير
1 – التقدير المذكور في اللوح المحفوظ هو تقدير عام: شامل لكل كائن
2 – وتقدير خاص: وهو تفصيل للقدر العام وهو ثلاثة أنواع:
تقدير عمري وتقدير حولي وتقدير يومي
– فالتقدير العمري: هو ما جاء في حديث ابن مسعود في شأن ما يكتب على الجنين في بطن أمه من أربع كلمات: رزقه وأجله وعلمه وشقاوته أو سعادته.
– تقدير حولي: وهو ما يقدّر في ليلة القدر من وقائع العام كما في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم}
-تقدير يومي: وهو ما يقدّر من حوادث اليوم من حياة وموت وعز وذل إلى غير ذلك كما في قوله تعالى: {كل يوم هو في شأن}.
*ثمرة الإيمان بالقدر
1_ به يتحقق التوكل على الله وتفويض الأمر إليه مع القيام بالأسباب الصحيحة النافعة.
2_ به اطمئنان الإنسان في حياته حيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
3_ به ينتفي الإعجاب بالنفس عند حصول المراد لأنه يعلم أن حصوله بقدر الله وإن عمله الذي حصل به مراده ليس إلا مجرد سبب يسره الله له.
4_ به يزول القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه لأنه يعلم أن الأمر كله لله فيرضى ويسلم
5_من ثمراته اكتساب الشجاعة والعزة والكرم والتواضع والصبر وقوة الاحتمال ومحاربة اليأس وإدراك التفاؤل.
6_ ومن ثمراته السلامة من الحسد والاعتراض.
*مسألة تعليل أفعال الله.
قول أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون حكمة الله عز وجل في شرعه وخلقه وفي جميع أفعاله على وفق ما جاءت به النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة
كما قال تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال: {الذي أحسن كل شيء خلقه} وهو سبحانه غني عن العالمين.
*مسألة الإرادة.
قبل كل شيء نثبت ان الإرادة صفة لله صفة ذاتية وفعلية
وهي تنقسم إلى قسمين:
أ_ إرادة كونية قدرية: وهي مرادفة للمشيئة وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواء فالطاعات والمعاصي كلها بمشيئة الرب وإرادته وهذه لابد ان تقع وقد يحبها الله وقد لا يحبها
مثلا كفر الكافر وقع بالإرادة الكونية ولا يحب الله كفرهم.
ب_ إرادة شرعية دينية: وتتضمن محبة الرب ورضاه. ومن أمثلتها قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقد تقع وقد لا تقع ولكن يحبها الله
كالصلاة.