(2999) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، وعبد الله الديني، ومحمد البلوشي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، (13) – باب: المؤمن أمره كله خير
(64) – ((2999)) حدثنا هداب بن خالد الأزدي وشيبان بن فروخ.
جميعا عن سليمان بن المغيرة (واللفظ لشيبان) حدثنا سليمان. حدثنا ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عن صهيب، قال: قال رسول الله ? «عجبا لأمر المؤمن. إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له».
==========
حديث في معناه
مسند أحمد
20279 – حدثنا إسماعيل، عن يونس، حدثني أبو العلاء بن الشخير، حدثني أحد بني سليم، ولا أحسبه إلا قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ” أن الله يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله له، بارك الله له فيه، ووسعه، ومن لم يرض لم يبارك له ”
على شرط الذيل على الصحيح المسند
قال الصنعاني: (إن الله تعالى يبتلي العبد فيما أعطاه) من مال وجاه وغيرهما (فإن رضي بما قسم الله له بورك له فيه) ووسعه فيه بسبب الرضا (وإن لم يرض لم يبارك له ولم يزد على ما كتب له) وهو في بطن أمه كما سلف أنه يكتب رزقه وهو فيه. ” التنوير في شرح الجامع الصغير”
قال ابن تيمية: بين سبحانه أنه ليس كل من ابتلاه في الدنيا يكون قد أهانه بل هو يبتلي عبده بالسراء والضراء فالمؤمن يكون صبارا شكورا فيكون هذا وهذا خيرا له كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له}. ” المجموع” (8/ 75).
قال السعدي: -وأعظم الأسباب لذلك وأصلها وأسها هو الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) سورة النحل: آية 97 ..
فأخبر تعالى ووعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح، بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالجزاء الحسن في هذه الدار وفي دار القرار. وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتلقون فيها جميع ما يرد عليهم من أسباب السرور والابتهاج، وأسباب القلق والهم والأحزان.
يتلقون المحاب والمسار بقبول لها، وشكر عليها، واستعمال لها فيما ينفع، فإذا استعملوها على هذا الوجه. أحدث لهم من الابتهاج بها، والطمع في بقائها وبركتها، ورجاء ثواب الشاكرين، أموراً عظيمة تفوق بخيراتها وبركاتها هذه المسرات التي هذه ثمراتها.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم منه بد، وبذلك يحصل لهم من آثار المكاره من المقاومات النافعة، والتجارب والقوة، ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب أمور عظيمة تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا في الحديث الصحيح أنه قال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) (رواه مسلم.).
الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، للسعدي
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((13))]- (باب: المؤمن أمره كله خير) “).
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7469)] ((2999)) – الحديث
شرح الحديث
(عَنْ صُهَيْبٍ) بالتصغير ابن سنان مولى عبد الله بن جُدعان التيميّ، يكنى أبا بحيى، كانت منازلهم بأرض الموصل، فيما بين دجلة والفرات، فأغارت الروم على تلك الناحية، فسَبَتْه، وهو غلام صغير، فنشأ بالروم، فابتاعته منهم كلب، ثم قَدِمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جُدعان، فأعتقه، فأقام معه إلى أن هلك، وأسلم قديمًا بمكة، وكان من المستضعَفين المعذَّبين في الله بمكة، ثم هاجر إلى المدينة، وفيه نزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية [البقرة: (257)].
(قَالَ) صهيب رضي الله عنه: (قَالَ رَسُولُ اللهِ ?:» عَجَبًا) منصوب بفعل مقدّر؛ أي: عجبت عجبًا (لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ)؛ أي: لشأنه، وما له في كل حاله، (إِنَّ أَمْرَهُ كلَّهُ) بالنصب، ويجوز رفعه، كما قرئ بالوجهين في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: (154)]، (خَيْرٌ) وفي نسخة: «له خير»، أي: جميع أموره له خير، أي: خير له في المآل، وإن كان بعضه شرًّا صوريًّا في الحال، وقدَّم الظرف اهتمامًا. (وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ) قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: «إلا للمؤمن» مظهر وقع موقع المضمَر، ليشعر بالعِليّة [» الكاشف عن حقائق السنن «(10) / (3334)]. (إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ)؛ أي: نعماء، وسعة عيش، ورخاء، وتوفيق طاعة من أداء، وقضاء، (شَكَرَ) ربّه على توفيقه لذلك، (فَكَانَ) شكره (خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ)، أي: فقر، ومرض، ومحنة، وبلية (صَبَرَ) عليها (فَكَانَ) صَبْره ذلك (خَيْرًا لَهُ «) وبهذا تبيَّن قول بعضهم: إنه لا يقال على الإطلاق: إن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر، بل حالة التفويض والتسليم أَولى، والقيام بمقتضى الوقت أعلى، بحَسَب اختلاف الأحوال، وتفاوت الرجال، قال تعالى ?: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: (216)]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ((30))} [الإسراء: (30)] وفي الحديث القدسيّ:» إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، فلو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، فلو أفقرته لضاع حاله «[قال الإتيوبي في حاشية البحر: “لم أجد من أخرجه، حتى يُنظر في حال سنده، بل أورده ابن كثير في “تفسيره” هكذا، والله تعالى أعلم”.
انتهى]، ولذا قال عمر رضي الله عنه: الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيتهما أركب، وعلى هذا الاختلاف الواقع بين القوم في طلب طول العمر؛ لطاعة الله، أو طلب الموت؛ لخوف الفتنة، أو للاشتياق إلى لقاء الله تعالى، ثم المعتمَد التفويض والتسليم، كما أشار ? إليه في دعائه: «اللَّهُمَّ أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر».
ثم وَجْه حصر الخير في كل حال للمؤمن الكامل؛ لأن غيره إن أصابته سراء شبع، وبطر، وإن أصابته ضراء جَزِع وكفر، بخلاف حال المؤمن، فإنه كما قال القائل [من الطويل]:
إِذَا كَانَ شُكْرُ نِعْمَةِ اللهِ نِعْمَةً … عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ … وَإِنْ طَالت الأَيَّامُ وَاتَّسَعَ العُمْرُ
إِذَا مُسَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورُهَا … وَإِنْ مُسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهُ الأَجْرُ [«الكاشف عن حقائق السنن» (10) / (3334)، و «مرقاة المفاتيح» (15) / (212)].
تنبيه: حديث: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، فلو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، فلو أفقرته لضاع حاله)
قال ابن رجب الحنبلي: أخرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني من طريق صدقة بن عبد الله الدمشقي عن هشام الكناني عن أنس .. إلى أن قال: والخشني وصدقة ضعيفان، وهشام لا يعرف، وسئل ابن معين عن هشام هذا من هو؟ قال: لا أحد، يعني: لا يعتبر. انتهى بتصرف، وقال في العلل المتناهية: هذا الحديث لا يصح، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: ضعيف جدا.
وقال المناويّ رحمه الله: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» وليس ذلك للكافرين، ولا للمنافقين، ثم بيَّن وجه العجب بقوله: «إن أصابته سراء» كصحة، وسلامة، ومال، وجاه «شكر» الله على ما أعطاه، «فكان خيرًا» له، فإنه يُكتب في ديوان الشاكرين، «وإن أصابته ضراء» كمصيبة «صبر، فكان خيرًا له» فإنه يصير من الأحزاب الصابرين الذي أثنى عليهم في كتابه المبين، فالعبد ما دام قلم التكليف جاريًا عليه، فمناهج الخير مفتوحة بين يديه، فإنه بين نعمة يجب عليه شُكر المنعِم بها، ومصيبة يجب عليه الصبر عليها، وأمر ينفذه، ونهي يجتنبه، وذلك لازم له إلى الممات. انتهى [«فيض القدير» (4) / (302)]. والله تعالى أعلم.
وحديث صهيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله تعالى. [البحر المحيط الثجاج للإتيوبي رحمه الله، بتصرف يسير].
قال ابن علان:
قال رسول الله: عجباً) مفعول مطلق: أي أعجب عجباً …. (شكر) أي: عرف قدر نعمة مولاه فشكره (فكان) شكره (خيراً له) من السراء التي نالها لكونه ثواباً أخرويا (وإن أصابته ضرّاء) أي: ما يضرّه في بدنه أو ما يتعلق به من أهل أو ولد أو مال (صبر) واحتسب ذلك عند الله رجاء ثوابه ورضي به نظراً لكونه فعل مولاه الذي هو أرحم به (فكان) صبره في الضراء (خيراً له) لأنه حصل له بذلك خير الدارين، أما غير كامل الإيمان فإنه يتضجر ويتسخط من المصيبة فيجتمع عليه نصبها ووزر سخطه، ولا يعرف للنعمة قدرها فلا يقوم بحقها ولا يشكرها، فتنقلب النعمة في حقه نقمة وينعكس عليه الحال، نعوذ بالله من النقصان بعد الزيادة، ومن الحور بعد الكور (رواه مسلم) وكذا رواه الإمام أحمد من حديث صهيب أيضاً كما في «الجامع الصغير».
[دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين 1/ 155]
قال ابن عثيمن:
قال المؤلف- رحمه الله فيما نقله عن صهيب الرومي: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير)) … هذه حال المؤمن. وكل إنسان؛ فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين:
مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن على كل حال ما قدر الله له فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيراً له، فنال بهذا أجر الصابرين.
وإن اصابته سراء من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل شكر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله عز وجل.
فيشكر الله فيكون خيرا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا.
نعمة الدنيا بالسراء، ونعمة الدين بالشكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أصيب بضراء (أو بسراء)
وأما الكافر فهو على شر- والعياذ بالله- إن اصابته الضراء لم يصبر بل يتضجر، ودعا بالويل والثبور، وسب الدهر، وسب الزمن، بل وسب الله- عز وجل ونعوذ بالله.
وإن اصابته سراء لم يشكر الله، فكانت هذه السراء عقاباً عليه في الآخرة، لأن الكافر لا يأكله أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم، وإن كان ليس فيها إثم بالنسبة للمؤمن، لكن على الكافر إثم، كما قال الله تعالي: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: من الآية32)، هي للذين آمنوا خاصة، وهي خالصة لهم يوم القيامة، أما الذين لا يؤمنون فليست لهم، ويأكلونها حراماً عليهم، ويعاقبون عليها يوم القيامة.
فالكافر (على) شر، سواء أصابته الضراء أم السراء، بخلاف المؤمن فإنه على خير.
وفي هذا الحديث: الحث على الإيمان (بالله) وأن المؤمن دائماً في خير ونعمة.
وفيه أيضاً: الحث على الصبر على الضراء، وأن ذلك من خصال المؤمنين. فإذا رأيت نفسك عند إصابة الضراء صابراً محتسباً، تنتظر الفرج من الله- سبحانه وتعالي- وتحتسب الأجر على الله؛ فذلك عنوان الإيمان، وإن رأيت العكس فلم نفسك، وعدل مسيرك، وتب إلي الله.
وفي الحديث أيضاً: الحث على الشكر عند السراء، لأنه إذا شكر الإنسان ربه على نعمة فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم، كما قال الله تعالي: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (ابراهيم: 7) وإذا وفق الله الإنسان للشكر؛ فهذه نعمة تحتاج إلى شكرها مرة ثالثة … وهكذا، لأن الشكر قل من يقوم به، فإذا من الله عليك وأعانك عليه فهذه نعمة.
ولهذا قال بعضهم:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ***علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ***وإن طالت الأيام واتصل العمر
وصدق رحمه الله فإن الله إذا وفقك للشكر فهذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد، فإن شكرت فهي نعمة تحتاج إلي شكر ثان، فإن شكرت فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث. وهلم جرا.
ولكننا- في الحقيقة- في غفلة عن هذا. نسأل الله أن يوقظ قلوبنا وقلوبكم، ويصلح أعمالنا وأعمالكم؛ إنه جواد كريم.
[شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 1/ 197]
قال ابن تيمية:
فصل:
جعل الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بكل منزلة خيراً منه، فهم دائماً في نعمة من ربهم، أصابهم ما يحبون، أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقاً يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم الذين إذا دعي يوم القيامة كل أناس بإمامهم دعوا به – صلوات الله وسلامه عليه – أنه قال: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله عجب لا يقضي الله لمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”2.
فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن وأنها خير له إذا صبر على مكروهها وشكر لمحبوبها، بل هذا داخل في مسمى الإيمان كما قال بعض السلف: “الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر” لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وإذا اعتبر العبد الدين كله رآه يرجع إلى الصبر والشكر، وذلك لأن الصبر ثلاثة أقسام:
صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد صبرٍ ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات.
النوع الثاني: صبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها، وتزيين الشيطان، وقرناء السوء، تأمره بالمعصية وتجرئه عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها، قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يقدر على ترك المعاصي إلا صديق.
النوع الثالث: الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب وهي نوعان:
نوع لا اختيار للخلق فيه، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وإنه لا مدخل للناس فيها، فيصبر إما اضطرارا، وإما اختيارا، فإن فتح الله على قلبه باب الفكرة في فوائدها وما في حشوها من النعم والألطاف انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذ في حقه نعمة، فلا يزال هجيرى قلبه ولسانه رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وهذا يقوى ويضعف بحسب [قوة] محبة العبد لله وضعفها، بل هذا يجده أحدنا في الشاهد كما قال الشاعر يخاطب محبوبا له [ناله ببعض ما يكره]:
لئن ساءني أن نِلتِنِي بمساءة
لقد سرني أني خطرت ببالِكِ
النوع الثاني: أن يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه.
فهذا النوع يصعب الصبر عليه جداً، لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصديقون، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول: يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر وأخبر عن نبي من الأنبياء أنه ضربه قومه فجعل يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه جرى له هذا مع قومه [فجعل يقول مثل ذلك]، فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والعز والسرور والأمن والقوة في ذات الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له وزيادة العلم، ولهذا قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولهذا قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا} يعني: الأعمال الصالحة مثل العفو والصفح {إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} نصيب وافر وهي الجنة.
ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء:
أحدها: أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه، ومشيئته والعباد آلة، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تستريح من الهم والغم والحزن.
الثاني: أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه – كلمة من جواهر الكلام: لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه، ولا يخافنّ عبدٌ إلا ذنبه وروي عنه وعن غيره: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة
الثالث: أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. ولما كان الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقه، ومقتصد يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو ويترك حقه. ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين.
ويشهد نداء المنادي يوم القيامة ألا ليقم من وجب أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفى وأصلح وإذا شهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام والاستيفاء سهل عليه الصبر والعفو.
الرابع: أن يشهد أنه إذا عفى وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش، والغل، وطلب الانتقام، وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافا مضاعفة، ويدخل في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من أُخِذَ منه دراهم فَعُوِّضَ عنها ألوفاً من الدنانير، فحينئذ يفرح بما مَنَّ الله عليه أعظم فرحٍ ما يكون.
الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلاً [يجده] في نفسه، فإذا عفى أعزه الله. وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: “ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً” فالعز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عِزٌّ في الظاهر وهو يورث في الباطن ذُلاً، والعفو ذل في الباطن وهو يورث العز باطناً وظاهراً.
السادس – وهي من أعظم الفوائد -: أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفى عن الناس عفى الله عنه، ومن غفر غفر الله له، فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه، سبب لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويحسن إليه على ذنوبه، ويسهل عليه عفوه وصبره ويكفي العاقل هذه الفائدة.
السابع: أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه، ما لا يمكن استدراكه، ولعل هذا يكون أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفى وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
الثامن: أن انتقامه واستيفاءه وانتصاره لنفسه وانتقامه، لها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على الله لم يكن ينتقم لنفسه مع أن أذاه أذًى لله ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفس، وأزكاها، وأبرها وأبعدها من كل خُلقٍ مذموم، وأحقها بكل خُلقٍ جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها. فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها وبما فيها من العيوب والشرور بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها.
التاسع: إن أوذي على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله، فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله – تعالى – اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله تلفه كان على الله خلفه.
وإن كان قد أوذي على معصية، فليرجع باللوم على نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه.
وإن كان قد أوذي على حضٍ، فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أَمْرٌ أَمَرُّ من الصبر، فمن لم يصبر على حر الهواجر، والأمطار، والثلوج، ومشقة الأسفار، ولصوص الطريق، وإلا فلا حاجة له في المتاجر، وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في [طلب] شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقه في طلبه.
العاشر: أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لا يدفع عنه أحد من خلقه، قال الله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
الحادي عشر: أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبدل من إيمانه جزءاً في نصرة نفسه، فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص والله – تعالى – يدفع عن الذين آمنوا.
الثاني عشر: أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه، وأسره، وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها مقهوراً معها لم تزل [به] حتى تهلكه، أو [تتداركه] رحمة من ربه.
فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه، فحينئذ يظهر سلطان القلب وتثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه.
الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه، ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها، فأين من ناصره الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه.
الرابع عشر: أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره، ولوم الناس له فيعود بعد إذائه5 له مستحييا منه، نادماً على ما فعله، بل يصير موالياً له وهذا معنى قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
الخامس عشر: ربما كان انتقامه ومقابلته سبباً لزيادة شر خصمه وقوة نفسه وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفى أمن من هذا الضرر. والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت به نفوس ورياسات وأموال وممالك2 لو عفى المظلوم لبقيت عليه.
السادس عشر: أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما، ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبين هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالماً ينتظر المقت والعقوبة.
السابع عشر: أن هذه المظلمة التي قد ظُلمها هي سبب، إما لتكفير سيئة، أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته.
الثامن عشر: أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا كان صبره وعفوه موجباً لذل عدوه، [وخوفه] وخشيته منه، ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله، ولهذا تجد كثيراً من الناس إذا شتم غيره أو آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلاً كان يجده.
التاسع عشر: أنه إذا عفى عن خصمه، استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو.
العشرون: أنه إذا عفا وصفح كانت هذه حسنة، فتولد له حسنة أخرى، وتلك الأخرى تولد1 أخرى، وهلم جرا2، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها، وربما كان هذا سبباً لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك.
والأصل الثاني الشكر وهو العمل بطاعة الله تعالى.
[قاعدة في الصبر ص88]
قال ابن رجب:
[في الصبر على ما تكره خير كثير]:
* قوله صلى الله عليه وسلم: “واعلم أَن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرًا” يعني أَن ما أَصاب العبدَ من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إِذا صبر عليها كان له في الصبر خير كثير.
* وفي رواية عمر مولى غُفْرة، وغيره، عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام وهي: “فإن استطعت أَن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل. وإن لم تستطع فإِن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا”.
* وفي رواية أخرى من رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه: لكن إسنادها ضعيف، زيادة أُخرى بعد هذا، وهي: قلت: يا رسول الله! كيف أَصنع باليقين؟ قال: “أن تعلم أَن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. فإذا أنت أحكمت باب اليقين “.
* ومعنى هذا: أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق، والتقدير الماضي – يعين العبد على أن ترضى نفسه بما أَصابه. فمن استطاع أَن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل، فإن لم يستطع الرضا فإِن في الصبر على المكروه خيرًا كثيرًا.
[درجتان للمؤمن]:
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إِحداهما: أَن يرضى بذلك، وهذه درجة عالية رفيعة جدًّا، قال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.
قال علقمة: “هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أَنها من عند الله فيسلِّم لها ويرضى”.
* وخرج الترمذي من حديث أَنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِن الله إِذا أَحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُّخْط”.
* وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: “أسأَلكَ الرضا بعد القضاء”.
* ومما يدعو المؤمنَ إِلى الرضا بالقضاءِ تحقيقُ إِيمانه بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
“لا يقضي الله للمؤمن قضاء إِلا كان خيرًا له: إِن أَصابته سراءُ شكر، كان خيرا له، وإِن أَصابته ضراءُ صبر، كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن”.
وجاءَ رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أَن يوصيه وصية جامعة موجزة فقال: “لا تتهم الله في قضائه”.
تنبيه: سيأتي الحكم على الأحاديث في آخر المبحث تحت عنوان: الحكم على الأحاديث.
قال ابن القيم: فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصبر
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعا
الأول: الأمر به نحو قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة البقره: 153 وقوله: واستعينوا بالصبر والصلاة البقره: 45 وقوله: اصبروا وصابروا آل عمران: 20 وقوله: واصبر وما صبرك إلا بالله النحل: 127
الثاني: النهي عن ضده كقوله: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم الأحقاف: 35 وقوله: ولا تولوهم الأدبار الأنفال: 15 فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة وقوله: ولا تبطلوا أعمالكم محمد: 33 فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها وقوله: فلا تهنوا ولا تحزنوا آل عمران: 139 فإن الوهن من عدم الصبر
الثالث: الثناء على أهله كقوله تعالى: الصابرين والصادقين الآية آل عمران: 17 وقوله: والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون البقره: 177 وهو كثير في القرآن
الرابع: إيجابه سبحانه محبته لهم كقوله: والله يحب الصابرين آل عمران: 146 الخامس: إيجاب معيته لهم وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ليست معية عامة وهي معية العلم والإحاطة كقوله: واصبروا إن الله مع الصابرين الأنفال: 46 وقوله: والله مع الصابرين البقره: 249 الأنفال: 69
السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه كقوله: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين النحل: 126 وقوله: وأن تصبروا خير لكم النساء: 25
السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله تعالى: ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون النحل: 96
الثامن: إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب كقوله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب الزمر: 10 التاسع: إطلاق البشرى لأهل الصبر كقوله تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين البقره: 155 العاشر: ضمان النصر والمدد لهم كقوله تعالى: بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين آل عمران: 125 ومنه قول النبي: واعلم أن النصر مع الصبر
الحادى عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور الشورى: 43
الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله تعالى: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون القصص: 80 وقوله: وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم فصلت: 35 الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله تعالى لموسى: أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور إبراهيم: 5 وقوله في أهل سبأ: فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور سبأ: 19 وقوله في سورة الشورى: ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور الشورى: 3233
الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله تعالى: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار الرعد: 2324
الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى: وجعلناهمأئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانو بآياتنا يوقنون السجده: 24
السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خير عيش أدركناه بالصبر وأخبر النبي في الحديث الصحيح: أنه ضياء وقال: من يتصبر يصبره الله
وفي الحديث الصحيح: عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته: أن يدعو لها: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت: إني أتكشف فادع الله: أن لا أتكشف فدعا لها
وأمر الأنصار رضي الله تعالى عنهم بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض
وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر وأمر بالصبر عند المصيبة وأخبر: أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى
وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره والجزع والتسخط والتشكى يزيد في المصيبة ويذهب الأجر
وأخبر أن الصبر خير كله فقال: ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع: من الصبر
مدارج السالكين
في مسند أحمد من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبا للمؤمن! لايقضي الله له شيئا إلا كان خيرا له. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد و أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته.
———
وفي الحديث الصحيح: (إنَّ عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي (2396) وابن ماجه (4031)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة، وكيف لا وفيه تُرفع درجاته وتكفر سيئاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة) رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
وقال الحسن البصري رحمه الله: لا تكرهوا البلايا الواقعة، والنقمات الحادثة، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطبك – أي: هلاكك –.
وقال الفضل بن سهل: إن في العلل لنعَماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها، فهي تمحيص للذنوب، وتعرّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وتذكير بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحضّ على الصدقة.
———
قد ذكر ابن القيم في كتابه القيم ” زاد المعاد ” (4/ 189–195) أموراً منها:
1 – ” أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه، وادَّخر له إن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
2 – أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً ساءت دهراً، وإن متَّعت قليلاً منعت طويلاً، ولا سرته بيوم سروره إلا خبأت له يوم شرور، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة ترحة، وما مليء بيت فرحاً إلا مليء ترحاً. وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء.
3 – أن يعلم أن الجزع لا يردها – أي: المصيبة – بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
4 – أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة.
5 – أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور.
6 – أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك ” بيت الحمد ” الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد، وفي الترمذي مرفوعاً: (يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء)، وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس.
7 – أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحا ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعا قصص الشكوى إليه.
8 – أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يفتقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظا لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، كما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
9 – أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه، كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك، فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) ” انتهى باختصار.
————-
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ” مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله ”.
وقال سفيان: ” ما يكره العبد خير له مما يحب، لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه ”.
وكان ابن تيمية رحمه الله يعد سجنه نعمة عليه تسبب فيها أعداؤه.
قال ابن القيم: ” وقال لي مرة – يعني شيخ الإسلام – ما يصنع أعدائي بي!! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحت فهي معي لا تفارقني، إنّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله، وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها ” انتهى.
“الوابل الصيب” (ص 110).
———
هذا الظلم المذكور شأنه شأن سائر الذنوب، يظن بعض الناس أن قضاءها على المؤمن يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له. رواه مسلم.
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فقال: وما تسأله طائفة من الناس، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب، فكيف يكون ذلك خيرا؟ وعنه جوابان:
أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث، وإنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم، والمصائب، كما في قوله: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك {النساء: 79}؛ ولهذا قال: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، فجعل القضاء ما يصيبه من سراء وضراء، هذا ظاهر لفظ الحديث، فلا إشكال عليه.
الوجه الثاني: أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت في هذا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن ـ فإذا قضى له بأن يحسن، فهذا مما يسره، فيشكر الله عليه، وإذا قضى عليه بسيئة، فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها، فإن تاب أبدلت بحسنة، فيشكر الله عليها، وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها، فصبر عليها، فيكون ذلك خيرا له، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا يقضي الله للمؤمن ـ والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب، بل يتوب منه، فيكون حسنة، كما قد جاء في عدة آيات، أن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله، لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة، والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه، ودعاء الله واستغفاره إياه، وشهوده بفقره وحاجته إليه، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو، فيحصل للمؤمن بسبب الذنب من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك، فيكون هذا القضاء خيرا له، فهو في ذنوبه بين أمرين: إما أن يتوب فيتوب الله عليه، فيكون من التوابين الذين يحبهم الله، وإما أن يكفر عنه بمصائب، تصيبه ضراء فيصبر عليها، فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب، وبالصبر عليها ترتفع درجاته، وقد جاء في بعض الأحاديث: يقول الله تعالى: أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم ـ أي محبهم، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب. اهـ.
أما درجة الشكر:
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشُّكْرِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى الشُّكْرُ عَلَى الْمَحَابِّ]
فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشُّكْرِ
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الشُّكْرُ عَلَى الْمُحَابِّ. وَهَذَا شُكْرٌ تَشَارَكَتْ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. وَمِنْ سِعَةِ رَحْمَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ: أَنْ عَدَّهُ شُكْرًا. وَوَعَدَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الْمَثُوبَةَ.
إِذَا عَلِمْتَ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ وَأَنَّ جُزْءَ حَقِيقَتِهِ: الِاسْتِعَانَةُ بِنِعَمِ الْمُنْعِمِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ: عَلِمْتَ اخْتِصَاصَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ. وَأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْمَحَابِّ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ.
نَعَمْ لِغَيْرِهِمْ مِنْهَا بَعْضُ أَرْكَانِهَا وَأَجْزَائِهَا، كَالِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا. فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي نِعَمِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِاللَّهِ رَبًّا، وَتَفَرَّدَهُ بِالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنَّهُ يُضِيفُ نِعْمَتَهُ إِلَيْهِ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي تَمَامِ حَقِيقَةِ الشُّكْرِ. وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى مَرْضَاتِهِ. وَقَدْ كَتَبَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها إِلَى مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه: إِنَّ أَقَلَّ مَا يَجِبُ لِلْمُنْعِمِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ: أَنْ لَا يَجْعَلَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَبِيلًا إِلَى مَعْصِيَتِهِ.
وَقَدْ عُرِفَ مُرَادُ الشَّيْخِ. وَهُوَ أَنَّ هَذَا الشُّكْرَ مُشْتَرَكٌ. وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِنِعَمِهِ سُبْحَانَهُ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا، وَالْإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِهِ مِنْهَا. وَهَذَا بِلَا شَكٍّ يُوجِبُ حِفْظَهَا عَلَيْهِمْ وَالْمَزِيدَ مِنْهَا. فَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الشُّكْرِ مُشْتَرَكٌ. وَقَدْ تَكُونُ ثَمَرَتُهُ فِي الدُّنْيَا بِعَاجِلِ الثَّوَابِ. وَفِي الْآخِرَةِ: بِتَخْفِيفِ الْعِقَابِ. فَإِنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ فِي الْعُقُوبَةِ مُخْتَلِفَةٌ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الشُّكْرُ فِي الْمَكَارِهِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الشُّكْرُ فِي الْمَكَارِهِ. وَهَذَا مِمَّنْ تَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ: إِظْهَارًا لِلرِّضَا. وَمِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ: لِكَظْمِ الْغَيْظِ، وَسَتْرِ الشَّكْوَى. وَرِعَايَةِ الْأَدَبِ. وَسَلُوكِ مَسْلَكِ الْعِلْمِ. وَهَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ.
يَعْنِي أَنْ الشُّكْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ: أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى الْمَحَابِّ. وَلِهَذَا كَانَ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ. وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ رَجُلَيْنِ:
إِمَّا رَجُلٌ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَالَاتِ: بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْمَكْرُوهُ وَالْمَحْبُوبُ. فَشُكْرُ هَذَا: إِظْهَارٌ مِنْهُ لِلرِّضَا بِمَا نَزَلَ بِهِ. وَهَذَا مَقَامُ الرِّضَا.
الرَّجُلُ الثَّانِي: مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ. فَهُوَ لَا يُحِبُّ الْمَكْرُوهَ. وَلَا يَرْضَى بِنُزُولِهِ بِهِ. فَإِذَا نَزَلَ بِهِ مَكْرُوهٌ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكَانَ شُكْرُهُ كَظْمًا لِلْغَيْظِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَسَتْرًا لِلشَّكْوَى، وَرِعَايَةً مِنْهُ لِلْأَدَبِ، وَسُلُوكًا لِمَسْلَكِ الْعِلْمِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْأَدَبَ يَامُرَانِ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. فَهُوَ يَسْلُكُ بِهَذَا الشُّكْرِ مَسْلَكَ الْعِلْمِ. لِأَنَّهُ شَاكِرٌ لِلَّهِ شُكْرَ مَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ، كَحَالِ الَّذِي قَبْلَهُ. فَالَّذِي قَبْلَهُ: أَرْفَعُ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ: لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْمَكَارِهِ – الَّتِي يُقَابِلُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ بِالْجَزَعِ وَالسُّخْطِ، وَأَوْسَاطُهُمْ بِالصَّبْرِ، وَخَاصَّتُهُمْ بِالرِّضَا – فَقَابَلَهَا هُوَ بِأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ الشُّكْرُ. فَكَانَ أَسْبَقَهُمْ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَأَوَّلَ مَنْ يُدْعَى مِنْهُمْ إِلَيْهَا …
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْهَدَ الْعَبْدُ إِلَّا الْمُنْعِمَ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَشْهَدَ الْعَبْدُ إِلَّا الْمُنْعِمَ. فَإِذَا شَهِدَ الْمُنْعِمَ عُبُودِيَّةً: اسْتَعْظَمَ مِنْهُ النِّعْمَةَ. وَإِذَا شَهِدَهُ حُبًّا: اسْتَحْلَى مِنْهُ الشِّدَّةَ. وَإِذَا شَهِدَهُ تَفْرِيدًا: لَمْ يَشْهَدْ مِنْهُ نِعْمَةً، وَلَا شَدَّةً.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ يَسْتَغْرِقُ صَاحِبُهَا بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ عَنِ النِّعْمَةِ. فَلَا يَتَّسِعُ شُهُودُهُ لِلْمُنْعِمِ وَلِغَيْرِهِ ….
مدارج السالكين – ط الكتاب العربي (2) / (242) — ابن القيم (ت (751))
فصل في منازل إياك نعبد?فصل منزلة الشكر?فصل درجات الشكر?الدرجة الأولى الشكر على المحاب
[من أقوال السلف]:
* قال أَبو الدرداءِ: “إن الله عز وجل إذا قضى قضاءً أَحب أَن يُرضى به”.
* * *
* وقال ابن مسعود: إِن الله بقسطه وعدله جعل الرَّوْحَ والفرج في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزَن في الشك والسُّخط، فالراضي لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء.
كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما.
* * *
* وقال عمر بن عبد العزيز: أَصبحت ومالي سرور إِلا في مواضع القضاءِ والقدر.
* * *
[من وصل إلى هذه الدرجة]:
* فمن وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيم وسرور. قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.
* قال بعض السلف: “الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة “.
* وقال عبد الواحد بن زيد: “الرضا باب الله الأَعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين”.
[أهل الرضا]:
* وأَهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلِي، وخيرتَه لعبده في البلاءِ، وأَنه غير متهم في قضائه.
* وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء، فينسيهم أَلم المقضيّ به.
* وتارة يلاحظون عظمة المبتلِي وجلالَه وكمالَه فيستغرقون في مشاهدة ذلك حتى لا يشعرون بالأَلم.
وهذا يصل إليه خواص أَهل المعرفة والمحبة؛ حتى ربما تلذذوا بما أَصابهم لملاحظتهم صدورَه عن حبيبهم، كما قال بعضهم: أَوجدهم في عذابه عُذُوبَةً.
وسئل بعض التابعين عن حاله في مرضه؟ فقال: أحبُّه إِليه أحبُّه إليّ! “.
وسئل سَرِيّ: هل يجد المحب أَلم البلاءِ؟ فقال: لا.
* * *
وقال بعضهم:
عذابه فيك عَذْبُ … وبُعْده فيكَ قُربُ
وأَنتَ عندي كَرَوحي … بل أَنتَ منها أَحبُّ
حسبى من الحبّ أَني … لما تحِبُ أحِبُّ
* * *
* والدرجة الثانية أَن يصبر على البلاءِ. وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاءِ؛ فالرضا فضل مندوب إِليه مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير؛ فإن الله أَمر به ووعد عليه جزيل الأَجر. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قال الحسن: الرضا عزيز، ولكن الصبر مُعوَّل المؤمن.
* والفرق بين الرضا والصبر: أَن الصبر كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الأَلم وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع.
* والرضا: انشراح الصدر، وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم وإِن وجد الإِحساس بالألم؛ لكن الرضا يخففه؛ لما يباشر القلبَ من رَوْح اليقين والمعرفة.
وإِذا قوي الرضا فقد يزيل الإِحساس بالأَلم بالكلية، كما سبق.
[جامع العلوم والحكم 2/ 578 ت الأحمدي أبي النور]
قال الحسن البصري رحمه الله: لا تكرهوا البلايا الواقعة، والنقمات الحادثة، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره فيه عطبك – أي: هلاكك
بعض لجان الفتوى
قال الفضل بن سهل: إن في العلل لنعَماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها، فهي تمحيص للذنوب، وتعرّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وتذكير بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحضّ على الصدقة.
مرآة الجنان وعبرة اليقظان (2) / (6)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «مصيبةٌ تُقبِلُ بها على الله خيرٌ من نعمةٍ تُنسيكَ رضا الله»
خطب المسجد الحرام (1) / (39)
قال سفيان: ” ما يكره العبد خير له مما يحب، لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه ”.
شعب الإيمان – ط الرشد (12) / (369)
قال تعالى:
{اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}
قال الشوكاني رحمه الله:
“قد يُوَسّع اللهُ الرِّزْق لِمَن كان كافراً، ويقتره على مَن كان مؤمنًا،
ابتلاءً وامتحاناً،
فلا يدل البسط على الكرامة،
ولا القبض على الإهانة”.
فتح القدير ((252) / (13))
قالَ صالح الدمشقي لِابنِه:
يا بُنَي إذا مَرَّ بِكَ يومٌ وليلَة قَد سَلِمَ فيهما دِينُكَ، وجِسمُكَ ومالُكَ، وعِيالُكَ؛ فأكثِر الشُّكرَ للهِ تعالى، فكَم مِن مَسْلوبٍ دِينُه، ومَنزوعٍ مُلكُهُ، ومهتوكٍ سِترُه، ومَقصومٌ ظَهرُه في ذلكَ اليوم، وأنتَ في عافِيَة.
تاريخ دمشق لابن عساكر.
قال ابن القيم -رحمه الله -في «المدارج» (2/ 236): «وَالشُّكْرُ مَعَهُ الْمَزِيدُ أَبَدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: (7)] فَمَتَى لَمْ تَرَ حَالَكَ فِي مَزِيدٍ، فَاسْتَقْبِلِ الشُّكْرَ».
الحكم على الأحاديث التي سبق ذكرها:
تنبيه 1: في السلسلة الصحيحة:
(3334) – (لا تتَّهم الله عزوجل في شيء قضى لك به).
أخرجه أحمد ((5) / (318) – (319)): ثنا حسن: ثنا ابن لهيعة: ثنا الحارث بن
يزيد عن عُلَيّ بن رباح: أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول: سمعت عبادة بن الصامت يقول:
إن رجلًا أتى النبي ? فقال: يا نبي الله! أي العمل أفضل؟ قال:
«الإيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله».
قال: أريد أهون من ذلك يا رسول الله! قال:
«السماحة والصبر».
قال: أريد أهون من ذلك يا رسول الله! قال: … فذكره.
قلت: وهذا إسناد في المتابعات جيد، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم- والحسن:
هو ابن موسى الأشيب-؛ غير ابن لهيعة؛ فهو سيئ الحفظ إلا فيما رواه العبادلة عنه، فهو صحيح الحديث، أو توبع، وكل ذلك متحقق هنا كما سأبينه …
تنبيه 2: حديث (أسأَلكَ الرضا بعد القضاء)
(107) – «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًَا لاَ يَنْفَدُ، وأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعْ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعَدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأْلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»
النسائي، برقم (1305)، وأحمد، (4) / (264)، وصححه الألباني في صحيح النسائي، (1) / (280)،
تنبيه 3:
[(9263)] أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن محمود بن خرزاذ، حدثنا موسى بن إسحاق القاضي، حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن عُلَي بن رباح، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة ابن الصامت قال قال رجل: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: «الصبر والسماحة» قال: أريد أفضل من ذلك؟ قال: «لا تتّهم الله في شيء من قضائه».
قال محقق شعب الإيمان:
[(9263)] إسناده: ضعيف والحديث صحيح في النوابع.
• محمد بن معاوية هو ابن أعين النيسابوري الخراساني، متروك.
• عُلَي بن رباح هو ابن قيصر اللخمي.
والحديث أخرجه أحمد في «مسنده» ((5) / (318) – (319))، ومن طريقه ابن كثير في «تفسيره» ((4) / (375)) عن حسن عن ابن لهيعة به.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في «كتاب الرضا عن الله بقضائه» (رقم (49)) من طريق عبد الله بن وهب عن الحارث بن يزيد به.
وأخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص (22)) من طريق موسى بن عُلَي بن رباح عن أبيه. وأورده الغزالي في «الإحياء» ((4) / (127)) وقال الحافظ العراقي في تخريجه: رواه أحمد والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وفي إسناده ابن لهيعة.
وصححه الألباني، راجع «صحيح الجامع الصغير» (رقم (1108)) وللحديث شاهد من حديث عمرو بن عبسة مرفوعًا.
أخرجه أحمد في «مسنده» ((4) / (385)) وابن نصر في «الصلاة» ((143) / ب) وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو الهضيمي ضعيف. راجع «الصحيحة» ((3) / (479)).
شعب الإيمان – ط الرشد (12) / (192) — أبو بكر البيهقي (ت (458))