(2998) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، وعبد الله المشجري، ومحمد البلوشي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري وسلطان الحمادي ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، (12) – باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
(63) – ((2998)) حدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث عن عقيل، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي ?، قال «لا يلدغ المؤمن، من جحر واحد، مرتين».
(63) – م – ((2998)) وحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى. قَالَا: أَخْبَرَنَا ابن وهب عَنْ يُونُسَ. ح وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ. قالا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابن شهاب عن عمه، عن ابن الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ?. بِمِثْلِهِ.
==========
ورد له سبب عن الزهري في تحديثه لهذا الحديث
ففي مكارم الأخلاق:
(296) – حَدَّثَنَا أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الدِّمَشْقِيُّ نَا هِشَام بن خَالِد الْأَزْرَق أَبُو مَرْوَان نَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنَّ هِشَامًا قَضَى عَنِ الزُّهْرِيِّ سَبْعَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَقَالَ لَا تَعُدْ تَدَّانُ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سَمِعت سعيد بن الْمسيب يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?
لَا يُلْسَعُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ
المنتقى من كتاب مكارم الأخلاق ومعاليها (1) / (131) — الخرائطي
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((12))]- (باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”).
الحديث يتصل بكتاب الزهد والرقائق من جهة الدعوة إلى الأخذ بالعبر من التجارب، وتجنب ما يضر بالدين والدنيا.
يُظهر الحديث كيف يقود الإيمان إلى الزهد عن الدنيا والحذر من الانغماس في الفتن أو الوقوع في الأخطاء المتكررة.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7467)] ((2998)) – (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ? قَالَ: «لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ»).
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ) وفي رواية يونس، عن الزهريّ: «أخبرني سعيد بن المسيِّب، أن أبا هريرة حدثه» أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وكذا قال أصحاب الزهري فيه، وخالفهم صالح بن أبي الأخضر، وزمعة بن صالح، وهما ضعيفان، فقالا: «عن الزهريّ، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه»، أخرجه ابن عدي من طريق المعافى بن عمران، عن زمعة، وابن أبي الأخضر، واستغربه من حديث المعافى قال: وأما زمعة فقد رواه عنه أيضًا أبو نعيم، أخرجه أحمد عنه، ورواه عن زمعة أيضًا أبو داود الطيالسيّ، في «مسنده»، وأبو أحمد الزبيريّ، أخرجه ابن ماجه، قاله في «الفتح» [“الفتح”، (13) / (705)].
(عَن أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، (عَنِ النَّبِيِّ ?)؛ أنه (قَالَ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ) برفع “يلدغ” على أن “لا” ناهية، وبرفعه على أنها نافية، فيكون خبرًا، قال الخطابيّ: هذا لفظه خبر، ومعناه أمر؛
أي: لِيَكُنِ المؤمنُ حازمًا حَذِرًا، لا يؤتى من ناحية الغفلة، فيُخدعَ مرة بعد أخرى،
وقد يكون ذلك في أمر الدِّين، كما يكون في أمر الدنيا، وهو أَولاهما بالحذر، وقد رُوي بكسر الغين في الوصل، فيتحقق معنى النهي عنه.
قال ابن التين: وكذلك قرأناه، قيل: معنى “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”، أن من أذنب ذنبًا، فعوقب به في الدنيا، لا يعاقَب به في الآخرة.
قوله (اولاهما بالحذر)
يعني الاهتمام بأمر الدين أولى من أمر الدنيا
قال الحافظ: إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا، فيمكن، وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك، ويؤيده قول من قال: فيه تحذير من التغفيل، وإشارة إلى استعمال الفطنة.
وقال أبو عبيد: معناه: ولا ينبغي للمؤمن إذا نُكِب من وجه أن يعود إليه، قال الحافظ: وهذا هو الذي فهمه الأكثر، ومنهم الزهريّ راوي الخبر، فأخرج ابن حبّان من طريق سعيد بن عبد العزيز، قال: قيل للزهريّ: لَمّا قَدِم من عند هشام بن عبد الملك: ماذا صنع بك؟ قال: أوفى عني ديني، ثم قال: يا ابن شهاب تعود تَدّان؟ قلت: لا، وذكر الحديث.
وقال أبو داود الطيالسيّ بعد تخريجه: لا يعاقب في الدنيا بذنب، فيعاقبَ به في الآخرة، وحَمَله غيره على غير ذلك، قيل: المراد بالمؤمن في هذا الحديث: الكامل الذي قد أوقفته معرفته على غوامض الأمور، حتى صار يحذر مما سيقع، وأما المؤمن المغفل فقد يُلدغ مرارًا.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الإنسان إذا أصيب من جهةٍ ما فإن عليه أن يأخذ الحذر حتى لا يصاب منها مرة أخرى.
قال النووي رحمه الله: «قوله ? «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» الرواية المشهورة: «لَا يُلْدَغُ» برفع الغين، وقال القاضي: يُروى على وجهين:
أحدهما: بضم الغين على الخبر، ومعناه: المؤمن الممدوح، وهو الكيس الحازم الذى لا يُستغفَل، فيُخدع مرة بعد أخرى، ولا يفطن لذلك، وقيل: إن المراد الخداع في أمور الآخرة دون الدنيا،
والوجه الثاني: بكسر الغين على النهي أن يؤتى من جهة الغفلة. قال: وسبب الحديث معروف، وهو أن النبي ? أَسَر أبا غرة الشاعر يوم بدر، فمَنَّ عليه، وعاهده أن لا يُحَرِّض عليه، ولايهجوه، وأطلقه، فلحق بقومه، ثم رجع إلى التحريض والهجاء، ثم أسره يوم أُحُد، فسأله المنَّ، فقال النبي ?: «الْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»، وهذا السبب يضعف الوجه الثاني» [شرح مسلم، للنووي ((18) / (123))].
وفي المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 244):
“ومعنى الحديث: أنه لا يجوز لمؤمن أن يُخدع في أمر الدين مرةً بعد مرة، مثل أن يجلس مع أحد فظنه صالحًا، فإذا جرَّبه يقينًا تبيَّن له أنه مبتدعٌ أو فاسق لا يقبل النصيحة، فإذا علم حاله لا يجوز له أن يجالسه بعد ذلك إلا أن يرجع إلى الصلاح، وعلى هذا فقس جميع الأمثلة.”.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ” معناه: ينبغي للمؤمن أن يأخذ حذره إذا لدغ من جحر من إنسان يأخذ حذره.
إذا كان زيد خدعه مرة فليحذره حتى لا يخدعه مرة أخرى، وإذا كان عمرو ظلمه في المعاملة فليحذر أن يخدعه في …. في معاملة أخرى، وهكذا، يعني: ينبغي له توقي الشر ممن خدعه أولًا أو أضره أولًا. نعم”. [هل هذا حديث «لا يلدغ المؤمن من جحر .. »؟، نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله].
وقال الشيخ عبد المحسن العباد:
“فهذا الحديث يدل على الحذر من الناس، وألا يكون الإنسان غافلًا بحيث تتكرر الإساءة إليه، فيكون شأنه كشأن الإنسان الذي يلدغ من جحر ولا يتنبه حتى تخرج منه عقرب مرة أخرى وتلدغه”. [باب في الحذر من الناس، شرح سنن أبي داود للعباد].
(مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ») قال في «الفتح»: ووقع في بعض النسخ: «من جحر حيّة»، وهي زيادة شاذّة،
قال ابن بطال: وهذا الكلام مما لم يُسبق إليه النبي ?، وأول ما قاله لأبي عَزّة الْجُمَحيّ، وكان شاعرًا، فأُسر ببدر، فشكى عائلة، وفقرًا، فمَنَّ عليه النبي ?، وأطلقه بغير فداء، فظَفِر به بأُحُد، فقال: مُنّ عليّ، وذكر فقره وعياله، فقال: «لا تمسح عارضيك بمكة، تقول: سخرت بمحمد مرتين»، وأمر به فقُتل.
وأخرج قصته ابن إسحاق في «المغازي» بغير إسناد، وقال ابن هشام في «تهذيب السيرة»: بلغني عن سعيد بن المسيِّب أن النبيّ ? قال حينئذٍ: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
وصنيع أبي عبيد في «كتاب الأمثال» مشكل على قول ابن بطال أن النبيّ ? أول من قال ذلك، ولذلك قال ابن التين: إنه مَثَل قديم.
قال الطيبيّ
قال: فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودًا مطلقًا، كما أن الجود ليس محمودًا مطلقًا؛ وقد قال تعالى في وصف الصحابة: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: (29)].
[“وما أصدق أبا الطيِّب إذ يقول:
إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ
وإنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تمرَّدَا
فوضْعُ النَّدى في موضعِ السيف بالعُلا
مُضِرٌّ كوضعِ السيفِ في موضع النَّدى
الحكمةُ وضعُ كلِّ شيءٍ في موضعه: وإذا كان من الإيمان والحكمة، بل من هدي النبوَّة والرسالة، أن يوضع كلُّ شيء في موضعه، فلا غَرابة أن يمتدحَ الله جلَّ ثناؤه عباده المؤمنين بأنهم ينتقمون ولا يعتدون، فيقول سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
على حين أنه يحضُّهم على العفو في غير آية، ويقول لنبيِّه صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] “.
قال: وعلى الوجه الأول وهو الرواية بالرفع، فيكون إخبارًا محضًا، لا يُفهم هذا الغرض المستفاد من هذه الرواية، فتكون الرواية بصيغة النهي أرجح.
قال الحافظ: ويؤيده حديث: «احترسوا من الناس بسوء الظن»، أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط» من طريق أنس، وهو من رواية بقية بالعنعنة، عن معاوية بن يحيى، وهو ضعيف، فله علتان، وصحّ من قول مطرِّف التابعي الكبير، أخرجه مسدد، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، هذا متّفقٌ عليه.
وفي شرح مشكل الآثار للطحاوي:
(1463) – وحدثنا محمد بن عزيز الأيلي، قال: حدثنا سلامة بن روح، عن عقيل بن خالد، عن محمد بن مسلم يعني الزهري، أن -[(97)]- سعيد بن المسيب، حدثه أن أبا هريرة أخبره عن النبي ? قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين»
. وإنما قصد النبي ? بهذا القول إلى المؤمن؛ لأنه يبين فيه بمعنى من المعاني سوى المنافق وسوى الكافر؛ لأنه إذا كان منه الذنب أحزنه ذلك، وخاف غبه فكان ذلك سببا لترك عوده فيه أبدا
ثانيًا: فقه الحديث:
(المسألة الأولى): تعريف الكياسة ومفهومها:
1) معنى الكياسة لغة واصطلاحًا:
الكياسة في اللغة: الحذق والفطنة والعقل.
وهو ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور.
انتهى [«المصباح المنير» (2) / (545)].
وفي الحديث: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ) بفتح الكاف، وتشديد الياء المكسورة، وآخره سين مهملة، وهو ضدّ الأحمق، وقال ابن الأثير: الكيّس: العاقل، وقد كاس يكيس كَيْسًا، والكَيْس: العقل، قاله في «العمدة» [«عمدة القاري» (14) / (66)].
وقال في «الهدي»: قوله: «غلام كيّس» بالتثقيل، والتخفيف، أي: فَطِنٌ، والكَيْسُ هنا ضدّ العَجْز، فيكون بالتخفيف فقط. انتهى [«هدي الساري» (1) / (181)].
وقال ابن الأثير رحمه الله في النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 217 – 218): ” (كَيَسَ): فِيهِ «الكَيِّسُ مَن دانَ نَفْسَه وعَمِل لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ» أَيِ: الْعَاقِلُ.
(هـ) وَفِيهِ «فَإِذَا قَدِمْتُم فالكَيْسَ الكَيْسَ» قِيلَ: أَرَادَ الْجِمَاعَ [عبارة الهروي: «قال ابن الأعرابي: الكَيْس: الْجِماع، والكيس: العقل. جعل طلب الولد عقلا»]، فجَعل طَلَب الوَلَد عَقْلًا.
(هـ) وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي رِوَايَةِ «أتُراني إِنَّمَا كِسْتُك لآِخُذَ جَملك» أَيْ: غَلَبْتُك بالكَيْس.
يُقَالُ: كَايَسَنِي فكِسْتُه: أَيْ: كنتُ أَكْيَس مِنْهُ.
وَفِي حَدِيثِ اغِتسال الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ «إِذَا كَانَتْ كَيِّسَة»، أَرَادَ بِهِ حُسْنَ الْأَدَبِ فِي استِعمال الماء مع الرجل.
وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ «وَكَانَ كيَّسَ الفِعْل»، أَيْ: حَسَنَه. والكَيْسُ فِي الْأُمُورِ يَجْرِي مَجْرَى الرِّفْق فِيهَا.
وَمِنْهُ حَدِيثُهُ الْآخَرُ:
أَمَا تَرانِي كيِّسًا مُكَيَّسًا
المُكيَّس: الْمَعْرُوفُ بالكَيْس.
وَفِيهِ «هَذَا مِنْ كِيس أَبِي هُرَيْرَةَ»، أَيْ: مِمَّا عِنْدَهُ مِنَ العِلم المُقْتَنَى فِي قَلبْه، كَمَا يُقْتَنَى الْمَالُ فِي الكِيس.
ورَواه بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْكَافِ: أَيْ: مِنْ فِقْهِه وفِطْنَتهِ، لَا مِنْ روايِته”. انتهى.
وكان أحمد بن حنبل يستعملها في الثناء:
(39) – قال أبو عبد الله: سبحان الله! ما أعلم ابن عيينة بعمرو بن دينار، أعلم الناس به ابن عيينة.
وذكر علم شعبة وأيوب وابن جريج، قلت له: فأي الناس أعلم به؟ ما أعلم أحدا أعلم به من ابن عيينة، قيل له: كان ابن عيينة صغيرا؟ قال: وإن كان صغيرا، فقد يكون صغير كيس.
سؤالات الأثرم.
قال ابن عثيمين [شرح رياض الصالحين (1/ 508)]: ” «الكيس» معناه: الإنسان الحازم الذي يغتنم الفرص، ويتخذ لنفسه الحيطة؛ حتى لا تفوت عليه الأيام والليالي فيضيع”.
وفي مرشد ذوي الحجا (26/ 144): “العاقل الحازم، المتبصر في الأمور، الناظر في العواقب”.
فيمكن أن يقال الكياسة: اتخاذ المؤمن التدابير الصحيحة، المبنية على الحكمة والوعي؛ لتجنب الوقوع في الأخطاء أو يقال: حسن التصرف بناءً على الحكمة والوعي الشرعي، مع اتخاذ التدابير لتجنب الوقوع في الأخطاء.
فالكياسة هي قوة الإدراك مع جودة التصرف.
والمؤمن يتصف بالكياسة والفطنة، فيستفيد من تجاربه السابقة ومن تجارب الآخرين.
وقد قيل: “العاقل من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه”، أما من لا يتعظ حتى بما أصابه فهو أبعد ما يكون عن الفطنة.
2) علاقة الكياسة بالإيمان:
الكياسة ثمرة الإيمان: لا يتحقق الإيمان الكامل إلا بالوعي والفطنة التي تحمي المؤمن من الوقوع في الأخطاء، كما ورد: ((المؤمن كيّس فطن)). (ضعيف، كما سيأتي بإذن الله تعالى، ويدل عليه حديث الباب.
الكياسة مرتبطة بحسن التدبير القائم على الإيمان والتقوى.
3) أهمية الكياسة في حياة المؤمن:
1. حماية النفس والدين من الضرر.
2. اتخاذ القرارات السليمة المبنية على الفطنة والبصيرة.
3. مواجهة الشدائد بوعي وثبات.
4) أنواع العقول وأثرها في الكياسة:
1. العقل المفطور (الغريزي):
هو ما يهبه الله لعباده، وهو متفاوت بين الناس.
2. العقل المكتسب:
ينمو بالتجارب، والمعارف، وقراءة التاريخ، والاعتبار بما جرى للآخرين.
قيل: “العقل التجارب”، أي: أن التعلم من التجارب يزيد من حنكة الإنسان وحصافته.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: ” (83) – باب لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا حلم إلا بتجربة”. فقال ابن الملقن رحمه الله معلقا في التوضيح (28/ 516): “أثر معاوية أخرجه ابن أبي شيبة … ، والمراد: أن من جرب الأمور وعرف عواقبها، وما يئول إليه أمر مَن ترك الحلم، وركب السفه والسباب ممن سفه والانتصار منه، آثر الحلم، وصبر على قليل من الأذى؛ ليدفع به ما هو أكبر منه.
وقال الخطابي: معناه أن المرء لا يوصف بالحلم ولا يترقى إلى درجته، حتَّى يركب الأمور ويجربها فيعثر مرة بعد أخرى، فيعتبر بها ويتبين مواضع الخطأ؛ فيجتنبها.
وقال ضمرة: الحلم أرفع من العقل؛ لأن الله تعالى تسمى به.
وأما الحديث: فلفظه خبر، ومعناه الأمر، يقول: ليكونن المؤمن حازمًا حذرًا لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى”. انتهى المراد.
5) ما يوقع الإنسان في التكرار:
1. ضعف العقل: يؤدي إلى سهولة الوقوع في الخداع أو الأذى.
2. غشاوة الطمع: قد تغلب على العقل، فتجعله يتجاهل العظة والتجربة السابقة.
3. الأهواء والنزوات: تهوي بالنفس إلى مواقف مماثلة لما سبق، رغم معرفتها بالخطر.
(المسألة الثانية): صور الكياسة:
الأول: صور كياسة المؤمن في النصوص الشرعية:
1) صور كياسة المؤمن من القرآن الكريم:
1. الحذر من الشيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (فاطر: 6).
2. التعلم من الماضي: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 2).
3. اتخاذ الأسباب: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60).
2) صور كياسة المؤمن من السنة النبوية:
1. النبي ? في غزوة الخندق؛ اتخذ التدابير الدفاعية بحفر الخندق لحماية المدينة.
2. الحذر في التعامل: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ)) (رواه مسلم، رقم 2664).
3) كياسة المؤمن في التعامل مع الناس:
1. الثقة المشروطة؛ قال النبي ?: ((المؤمن غرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم)). (رواه الترمذي، رقم 1964، انظر «الصحيحة» ((278))).
2. التعلم من التجارب السابقة؛ مثال معاملة النبي ? للمنافقين بحذر، رغم ظواهرهم الإسلامية.
الثاني: صور مخالفة للكياسة من الحياة العملية:
1. المعاملات المالية: قد يثق الإنسان بشخص غير جدير بالثقة في استثمار أمواله، ثم يعيد الكرة رغم تجاربه السابقة.
- الأسهم والمضاربات: يتكبد الخسائر في استثمارات غير مدروسة، ثم يعاود المحاولة بدافع الطمع دون اعتبار لما سبق.
3. التعامل مع الأشخاص: يمنح ثقته لمن سبق وأن خانه أو أساء إليه، ثم يعيد التجربة دون تعلم الدرس.الثالث: صور عدم الكياسة في طلب العلم:
عدم الكياسة في طلب العلم يؤدي إلى التشتت وضياع الجهد والوقت، وهو ناتج عن عدم الاستفادة من الأخطاء السابقة، سواء في المنهجية أو الحفظ أو القراءة أو المشاريع العلمية. ومن أبرز مظاهر ذلك:1) عدم الالتزام بالمنهجية في الطلب:
تجاهل منهج أهل العلم في طلب العلم الشرعي، والتنقل من منهجية إلى أخرى أو الانشغال بالمناهج الجديدة غير المعتمدة دون الاستفادة من الطرق المجربة2) التردد في الحفظ:
الانتقال بين المتون والمنظومات دون إتمام واحدة منها3) التشتت في القراءة:
التنقل بين الكتب بشكل عشوائي4) التنقل بين الدروس والحلقات:
عدم الثبات في حضور درس معين أو حلقة علمية محددة.
الانتقال بين الدروس والمشايخ بشكل مستمر، دون الالتزام بخطة أو متابعة منهجية.(المسألة الثالثة): الأمور التي تجعل المؤمن كيّسًا:
1) العوامل الشرعية:
1. تعزيز الكياسة من خلال الإيمان والتقوى؛
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} (الأنفال: 29).
التقوى تضيء للمؤمن الطريق، وتعينه على اتخاذ القرارات الصحيحة.
2. طلب العلم والاستشارة:
«الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» [إسناده صحيح، سنن ابن ماجه – ت الأرنؤوط (4) / (681)]
طلب العلم يعين على اتخاذ القرارات بحكمة.
3. التعلم من السنة: استنباط الحذر من مواقف النبي ? في حياته.2) العوامل العملية:
1 – المحاسبة الذاتية (المراجعة الذاتية): محاسبة النفس على الأخطاء.
«حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، يَوْمَ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ» [المصنف – ابن أبي شيبة – ت الحوت (7) / (96)، لأبي بكر بن أبي شيبة، برقم ((34459))]، وهو توجيه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
2. التخطيط واتخاذ الأسباب.
3. تعلم مهارات التفكير الناقد: النظر في العواقب قبل اتخاذ القرارات.
4. الصحبة الصالحة:
الصحبة تعين على تطوير الصفات الإيجابية، ومنها الكياسة.
قال النبي ?: “المرء على دين خليله” (رواه الترمذي، رقم 2378).
(المسألة الرابعة): كياسة المؤمن كملكة مكتسبة:
1) كيفية اكتساب ملكة الكياسة:
1. التدريب المستمر على التأمل في المواقف والتعلم منها. (تكرار المواقف يساعد على تعزيز الحذر، وممارسة التأمل والاعتبار بما مضى).
2. تعزيز الحكمة من خلال النصوص الشرعية.
2) دور التربية في تعزيز الكياسة:
1. غرس القيم الإسلامية في الأطفال لتطوير الوعي منذ الصغر. (دراسة سير الأنبياء والصالحين، وحفظ النصوص الشرعية المتعلقة بالحذر والفطنة).
2. تقديم أمثلة من سيرة النبي ? والصحابة.
3) التوازن بين الكياسة والثقة:
عدم الإفراط في الحذر لدرجة الشك المفرط، مع الحفاظ على الثقة بمقدار.
4) الصحبة الصالحة:
التأثر بمن يمتلكون الوعي والكياسة.
(المسألة الخامسة):
قال المناوي رحمه الله [«فيض القدير» ((6) / (588))] تعليقًا على حديث (لا يلدغُ المؤمن … ): برفع الغين (نفي) معناه المؤمن المتيقظ الحازم لا يؤتى من قبل الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى.
وبكسرها (نهي) أي: ليكن فطنًا كيسًا لئلا يقع في مكروه بعد وقوعه فيه مرة قبلها.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لست خبًا ولا الخب يخدعني) أي: لست ماكرًا ومخادعًا، ولا الماكر والمخادع يخدعني. اهـ.
لكن قد يقول قائل:
جاء في الحديث الصحيح أن من صفات (المؤمن أنه غر كريم، والفاجر خبٌ لئيم) كما قال ? [رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه العلامة الألباني في «صحيح الجامع» ((6653))].
الجواب: يتبين لك من شرح الحديث.
الغر: أي ليس بذي (نُكر) و (مكر).
والغرارة: قلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا وغباءً.
ليس الغبي بسيدٍ في قومه … لكن سيد قومه المتغابي
أما الفاجر: فمن عادته الخبث والدهاء، والتوغل في معرفة الشر، وليس ذا منه عقلًا [«النهاية في غريب الحديث» (ص: (666)) و «فيض القدير» ((6) / (330)) بتصرف، من إسعاف الأخيار (2/ 104 – 105)].
(المسألة السادسة): حكم حديث: (المؤمن كَيِّسٌ فطن حذر).
(موضوع).
رواه القضاعي في «مسند الشهاب» ((128)) عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا.
وفي سنده:
((1)) سليمان بن عمرو أبو داود النخعي. قال ابن عدي في «الكامل» ((4) / (228)): أجمعوا على أنه كان وضاعًا. …
((2)) أبان بن أبي عياش متروك متهم. «ميزان الإعتدال» ((1) / (10)).
وقد نصَّ على بطلان هذا الحديث: ابن حجر في «الفتح» تحت حديث ((5668)):
و الألباني في «الضعيفة» ((760)) و «ضعيف الجامع» ((5904)).
(المسألة السابعة): إشارات على الحديث:
أولاً: هذا الحديث من جوامعِ الكلمِ وروائعِ الحكمِ
ثانيًا: سبب ومورد هذا المثل
سبق إيراده في الشرح.
وأما استشهاد المناوي وغيره من العلماء بقصة أبي عزة الجمحي الشاعر عند شرح حديث (لا يلدغ المؤمن من جحر … ).
وقد ضعَّف هذه القصة الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» ((5) / (270)) رقم ((2241)) والعلامة الألباني في «إرواء الغليل» ((5) / (41)) رقم ((1215)). [إسعاف الأخيار، (2/ 104].
ثامنًا: تنبيه:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“فإن قال قائل:
هل يجوز أن تصل بنا الدرجة إلى سوء الظن بالغير، ونقول هذا من أخذ الحذر؟
قلنا: لا، لا يجوز أن نسيء الظن لمن ظاهره العدالة كما قال أهل العلم يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة، أما من كان ظاهره الفسق فلنا أن نأخذ الحذر منه لئلا يخدعنا.”. [تفسير سورة النساء-22 b، { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}].
تاسعًا: الحثُّ على التفطُّن واليقظة في شؤون الدنيا والآخرة:
قال عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله في الفوائد الحديثية، ص (120): “زعم السِّنْدي [في «حاشيته» ((4) / (70))] أن هذا في أمور الدين لا في أمور الدنيا لحديث: «المؤمن غرٌّ كريم».
وهذا كلام لا وجه له؛ فإن الغرَّ هو من ليس له تجربة، فكثيرًا ما يغترُّ. وهذا إنما يتحقَّق أول مرَّة.
فأما إذا لدغ من جحر مرَّتين فإن العرب لا تسمِّيه غرًّا، ولا تقول: اغترَّ. بل هو أحمق، بل لو قيل: إن قوله: «لا يُلدغ … » إلخ خاص بأمور الدنيا لكان أقرب؛ لأن أمور الدين يجب أن تُبنى على الحذر فلا يغتر المؤمن فيها أصلًا، كما لو حدّث رجل بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الواجب أن لا يَغترَّ به بل يَبحث عن عدالته وضبطه من أول مرَّة”. انتهى.
عاشرًا:
كلام نفيس للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير الحديث:
“هذا مثل ضربه النبي ?: لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه إيمانه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فإنه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة.
ومن تمام توبته: أن يحذر غاية الحذر من ذلك السبب الذي أوقعه في الذنب، كحال من أدخل يده في جحر فلدغته حية، فإنه بعد ذلك لا يكاد يدخل يده في ذلك الجحر، لما أصابه فيه أول مرة.
وكما أن الإيمان يحمل صاحبه على فعل الطاعات، ويرغبه فيها، ويحزنه لفواتها، فكذلك يزجره عن مقارفة السيئات، وإن وقعت بادر إلى النزوع عنها، ولم يعد إلى مثل ما وقع فيه.
وفي هذا الحديث: الحث على الحزم والكيس في جميع الأمور.
ومن لوازم ذلك: تعرف الأسباب النافعة ليقوم بها، والأسباب الضارة ليتجنبها.
ويدل على: الحث على تجنب أسباب الريب التي يخشى من مقاربتها الوقوع في الشر. وعلى أن الذرائع معتبرة.
وقد حذر الله المؤمنين من العود إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في المعاصي؛ فقال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: (17)]
ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة.
وفي الحديث: «الأناة من الله، والعجلة من الشيطان، ولا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة» والله أعلم. [بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، ص (141 – 142)، رقم (69)].
الحادي عشر: تفسير ابن تيمية للحديث:
قَالَ-صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ««الْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»» ((1)) \ (70). .
وَمِنْ مَعَانِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا ذَاقَ الذَّائِقُ مَا فِي الذَّنْبِ مِنَ الْأَلَمِ وَزَالَ عَنْهُ خَافَ أَنْ يُذْنِبَ ذَنْبًا آخَرَ فَيَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَلَمِ، وَهَذَا كَمَنْ مَرِضَ مِنْ أَكْلَةٍ ثُمَّ عُوفِيَ، فَإِذَا دُعِيَ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَوَّلِ لَمْ يَاكُلْهُ، يَقُولُ قَدْ أَصَابَنِي بِتِلْكَ الْأَكْلَةِ مَا أَصَابَنِي فَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ، وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْعِصْمَةَ مِمَّا يُتَابُ مِنْهُ عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ مِنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ دَرَجَتَهُمْ أَعْلَى فَالذَّنْبُ مِنْهُمْ أَقْبَحُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فَلَا يَكُونُ إِيذَاؤُهُ مُحَرَّمًا، وَأَذَى الرَّسُولِ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِأَحَدٍ فِي ذَنْبٍ.
منهاج السنة النبوية (2) / (425) – (426)
الثاني عشر:
قال ابن القيم:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: (101)] إنَّمَا هُوَ مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» إنَّمَا هُوَ مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ?: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» فَهَذَا الْمَعْقُولُ مِنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: (229)] كُلُّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَمِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: (229)] كَمَا أَنَّ حَدِيثَ اللِّعَانِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: (6)].
فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ?، وَهَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَهَذَا عُرْفُ التَّخَاطُبِ، وَهَذَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ? وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مَعَهُ فِي عَصْرِهِ وَثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ عَصْرِ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ؛ فَلَوْ عَدَّهُمْ الْعَادُّ بِأَسْمَائِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا لَوَجَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً إمَّا بِفَتْوَى وَإِمَّا بِإِقْرَارٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ فُرِضَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا لِلْفَتْوَى بِهِ، بَلْ كَانُوا مَا بَيْنَ مُفْتٍ وَمُقِرٍّ بِفُتْيَا وَسَاكِتٍ غَيْرِ مُنْكِرٍ.
إعلام الموقعين عن رب العالمين – ط العلمية (3) / (33)
قال ابن تيمية:
وَإِذَا ابْتَلَى الْعَبْدَ بِالذَّنْبِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَتُوبُ مِنْهُ وَيَتَجَنَّبُهُ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِعَبْدِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُهُ عُبُودِيَّةً وَتَوَاضُعًا وَخُشُوعًا وَذُلًّا وَرَغْبَةً فِي كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَنَفْرَةً قَوِيَّةً عَنِ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ? قَالَ: ««لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»».
وَذَلِكَ أَيْضًا يَدْفَعُ عَنْهُ الْعُجْبَ وَالْخُيَلَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ أَيْضًا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ لِخَلْقِ اللَّهِ وَرَجَاءَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ إِذَا أَذْنَبُوا وَتَرْغِيبَهُمْ فِي التَّوْبَةِ.
وَهُوَ أَيْضًا يُبَيِّنُ. مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ مَا لَا يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ? أَنَّهُ قَالَ: ««لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»» ((3)) \ (414). .
منهاج السنة النبوية (2) / (431)
ثالثًا: فوائد الحديث:
1 – (منها): بيان أن صفة المؤمن أن يكون حذرًا، فطنًا، غير مغفّل، فإن وقع في ورطة مّا، فليحذر كلّ الحذر أن يقع في مثلها، وذلك بالبعد عن أسبابها، وسدّ الطرق التي تؤدي إليها.
2 – (ومنها): أنه يستفاد من هذا الحديث أن الحِلم ليس محمودًا مطلقًا، كما أن الجود ليس محمودًا مطلقًا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: (29)]، فجَمَع لهم بين الوصفين، وهو الشدة والرحمة، ولكن لكلّ منهما مقام، فلا يُستعمل أحدهما في موضع الآخر، فتنبّه.
3 – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله ?: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين» هذا مَثَل صحيح، وقول بليغ ابتكره النبيّ ? من فوره، ولم يسمع من غيره، وذلك أن السبب الذي أصدره عنه هو، أن أبا عزيز بن عمير الشاعر أخا مصعب بن عمير، … فأمر بقتله، وأصل هذا المَثَل أن الذي يُلدغ من جُحر لا يعيد يده إليه أبدًا، إذا كان فطنًا حذرًا، بل ولا لِمَا يُشبهه، فكذلك المؤمن لكياسته، وفطانته، وحذره إذا وقع في شيء مما يضره في دينه، أو دنياه لا يعود إليه.
والرواية المعروفة: «لا يلدغ» بضم الغين، وكذلك قرأته على الخبر، وهو الذي يشهد له سبب الخبر، ومساقه، وقد قيّده بعضهم بسكون الغين على النهي، وفيه بعدٌ. انتهى [«المفهم» (6) / (631)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
4 – (ومنها): التَّعلُّمُ مِن الخطأِ، وعدمُ تكرارِه.
5 – (ومنها): بيانُ فَصاحةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبلاغتِه.
6 – (ومنها): ليس من شيم المؤمن أن ينخدع من الغادر اللئيم المتمرد مرتين.
7 – (ومنها): وجوب أخذ المؤمن الحيطة والحذر حتى لا ينخدع بعدوه أو يؤتى من قبل نفسه ودنياه.
8 – (ومنها): توجيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- للمؤمن أن يكون كَيِّسًا فَطِنًا.
9 – (ومنها): فيه أدب شريف أدَّبَ به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته، ونبههم كيف يحذرون مما يخافون من سوء عاقبته.
10 – قال ابن القصار المالكي:
* مسألة (17):
ويجوز للإمام أن يمن على الأسارى الذين في يده من الكفار، فيطلقهم بغير شيء، وله أن يفادي بهم على مال وعلى من في أيديهم من المسلمين.
فأما قتلهم واسترقاقهم وإطلاقهم على أداء الجزية ويكونون أحرارًا؛ فلا أعلم فيه خلافًا.
والخلاف في المن والفداء، فقال الشافعي والأوزاعي وأحمد وأبو ثور مثل قولنا: إنه يجوز.
وقال أبو يوسف ومحمد: هو بالخيار بين القتل، والاسترقاق، والمفاداة بالمسلمين وبالأموال، وليس له أن يمن.
وقال أبو حنيفة: ليس له المفاداة ولا المن.
فهو أعم خلافًا، والكلام معه يشتمل على غيره ممن خالف.
والدليل لقولنا الكتاب والسنة.
فأما الكتاب؛ فقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}.
فأمر تعالى بضرب الرقاب، حتى إذا أثخناهم شددنا الوثاق، وهذا عند أسرهم، ثم خيَّرنا في المنّ عليهم أو الفداء، وهذا نص في جواز المن والفداء.
فإن قيل: فإن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} في سورة براءة، وهي آخر ما أنزل من السور، وقوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} في سورة محمد عليه السلام، والمتأخر ينسخ المتقدم.
والوجه الآخر: ما روي عن ابن عباس أنه قال: “قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} منسوخة بقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}.
قيل: قولكم: “إن قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} متأخر”؛ عنه جوابان:
أحدهما: أننا لا نسلم ذلك، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد سنة ثمان للحج بالناس، وبعث أبا بكر سنة تسع ليحج بالناس، ثم أردفه بعلي رضي الله عنهما ومعه سورة براءة ليقرأها على الناس في الموسم، ونحن نعلم لا محالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الوحي ينزل عليه إلى أن مات، فإذا كان الوحي ينزل عليه بالقرآن في سنة عشر وتمامها إلى أن قبض عليه السلام، وكانت سورة براءة قد نزلت عليه لأنه عليه السلام حج سنة عشر، فلما رجع من حجه خرج إلى تبوك، ثم رجع ومات صلى الله عليه وسلم، فإذا كان القرآن ينزل عليه في تمام سنة عشر؛ فيجوز أن يكون قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} متأخر أنزل في سنة عشر أو في آخر سنة تسع، فإذا جاز ذلك ولم يعلم حقيقته؛ لم نحمله على النسخ.
والجواب الثاني: أننا لو سلمنا أنها متأخرة عما ذكرناه؛ لم يجز أن تكون منسوخة من ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن النسخ إنما يصار إليه مع تنافي الاستعمال، وهو ها هنا ممكن.
والثاني: هو أن حكم الأسير واحد؛ لأنه قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ}.
والله تعالى لم يأمر بمجرد القتل، وإنما أمر بالقتل والأخذ والحصر، والأخذ هو الأسر، كما أنه تعالى أمر بضرب (101) رقابهم وإثخانهم، ثم بيّن حكم المأخوذ والمأسور بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.
وإنما كان يكون الأمر كما قالوا أن لو قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ثم سكت عن الباقي، ولم يقل: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ}.
والجواب الثالث: – وهو أشدها – هو أن النسخ إنما يجوز في شيء يتوهم دوامه مثل أن يكون الأمر مطلقا كقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}.
فأما إذا كان الأمر محدودًا بحد ومعلقًا بشرط إلى نهاية؛ لم يصح النسخ فيه؛ لأنه يكون بداء، والبداء على الله لا يجوز، والمن والفداء محدودان بحد ونهاية إلى أن تضع الحرب أوزارها، قال ابن جرير: قال مجاهد: معنى قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، أي تصير الملل كلها ملة واحدة ملة الإسلام، وهو أن ينزل عيسى بن مريم عليه السلام.
وقد حكى غيره أنه قال: “معنى قوله {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي حتى لا يبقى مشرك، قال: والحرب هو عبارة عن الشرك”.
وما فسر أحد غير هذين التفسيرين، فإذا كان كذلك؛ سقط ما ذكروه من هذا الوجه.
وأما قولهم: “إن ابن عباس رحمه الله ذكر أن هذه الآية منسوخة بقوله {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} “، فإننا نقول: قد روي عنه أنه قال: “قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى آخره غير منسوخ”.
وروي عن ابن عمر مثل هذا، وذلك أنه روي أن الحجاج بن يوسف أسر قومًا من الكفار وقتلهم، فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا، قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.
وهذا منه يدل على أنها غير منسوخة، وأن المن والفداء ثابتان؛ لأنه أطلق جوازهما لا تكون حجة على صحابي مثله، فكيف وقد مضى عن ابن عباس أنها غير منسوخة فينبغي أن الحكم لما ذكرناه في ذلك.
والدليل لنا من طريق الأثر؛ حديث أبي عزة الجمحي، وذلك أنه روي أن أبا عزة الجمحي وقع في الأسر ببدر، فأراد قتله فقال: لا تقتلني فإني ذو عيلة، فأطلقه على أن لا يرجع إلى القتال، فلما رجع إلى مكة قال: سخرت بمحمد، ورجع إلى القتال، فأخذ بدعاء النبي عليه السلام بأن لا يفلت، فلم يفلت ووقع، فلما أراد عليه السلام قتله قال: لا تقتلني فإني ذو عيلة، فقال عليه السلام: “لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، أخليتك لتأتي نادي قريش وتقول: سخرت بمحمد، وقتله بيده”.
فالدلالة منه أنه عليه السلام أطلقه في المرة الأولى ومنّ عليه بغير شيء.
وقد روى الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: “لو كان مطعم بن عدي حيا فكلمني في هؤلاء؛ لأطلقتهم”.
فأطلق عليه السلام وأخبر أن مطعم بن عدي لو شفع في أمر هؤلاء القتلى؛ لأطلقهم، فدل على أن المنّ عليهم بإطلاقهم جائز، إذ لا يجوز في صفته عليه السلام أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز.
ولنا أيضًا ما رواه أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قِبل نجد، فأسرت رجلًا من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فحملوه وشدوه على سارية، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقه وإعتاقه فأطلقه.
وهذه الأخبار تدل على جواز المن وهو التخلية بلا شيء، وكذلك روي أنه عليه السلام منّ على قوم جويرية بنت الحارث كلهم من أجلها.
وقد منّ صلى الله عليه وسلم على المطلب بن حنطب المخزومي، وكان محتاجًا فلم بعد، فمنّ عليه.
ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي، وعلى جماعة كثيرة.
وأقوى (103) ما في الباب ما قد اتفقنا عليه مع أبي حنيفة أن مكة فتحت عنوة، وأن النبي عليه السلام منّ عليهم.
[عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار 5/ 176]