(2990) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: جمع أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)،
10 – بابُ: النَّهْيِ عَنْ هَتْكِ الإنْسانِ سِتْرَ نَفْسِهِ
(52) – ((2990)) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ حاتِمٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ – قالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي، وقالَ الآخَرانِ: حَدَّثَنا – يَعْقُوبُ بْنُ إبْراهِيمَ، حَدَّثَنا ابْنُ أخِي ابْنِ شِهابٍ، عَنْ عَمِّهِ، قالَ: قالَ سالِمٌ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعافاةٌ، إلّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ الإجْهارِ أنْ يَعْمَلَ العَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ، فَيَقُولُ: يا فُلانُ قَدْ عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقَدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ». قالَ زُهَيْرٌ: «وإنَّ مِنَ الهِجارِ».
==========
“لا شك أن الناس في عبودية الله تعالى متفاوتون؛ فألوهية الله تعالى في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص؛ كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} (فاطر: (32))، فدل ذلك على أن المسلمين ليسوا درجة واحدة؛ بل ثلاث كما هو ظاهر الآية الكريمة:
-الظالم لنفسه: وهو الذي يظلم نفسه بارتكاب المعاصي والآثام التي هي دون الكفر، وفوقه المقتصد، وفوقهما السابق بالخيرات.
موضوع الدرس يتحدث عن الظالم لنفسه، وهو أيضا لا يخلو من حالات ثلاث:
إما أن يفعل الكبائر مستترا بها، أو مجاهرا بها، أو أن يزيد على المجاهرة بها الدعوة إليها – عياذا بالله -، والأخيران هما محل الكلام هنا”. [أثر المجاهرة بالمعصية والبدع على الفرد والمجتمع وسبل الوقاية منها].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((10)) -]- (بَابُ النَّهْيِ عَنْ هَتْكِ الإِنْسَانِ سِتْرَ نَفْسِهِ) “).
سبق:
21 – باب: بِشَارَةِ مَنْ سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَيْبَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ. {21}
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7454)] ((2990)) – الحديث
شرح الحديث:
(عن ابْنِ شِهَابٍ)، أنه (قَالَ: قَالَ سَالِمُ) بن عبد الله (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه – (يَقُولُ: سَمعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ:» كلُّ أمّتِي مُعَافَاةٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ، والأصول المعتمدة: «معافاة» بالهاء في آخره، يعود إلى الأمة. انتهى، ووقع بعضها، وهو الذي في البخاريّ بلفظ: «معاني»، نظرًا للفظ «كلّ»، وهو بضمّ الميم، وفتح الفاء، مقصورًا اسم مفعول من العافية، التي وُضعت موضع المصدر، يقال: عافاه عافية، والعافية دفاع الله عن العبد، والمعنى هنا عفا: الله عنه، قاله في «العمدة» [«عمدة القاري» (22) / (138)]،
وقال القاري: «كل أمتي معافى» هكذا في جميع نُسخ «المشكاة»، وهو اسم مفعول من عافاه الله، أي: أعطاه الله العافية، والسلامة من المكروه، وقال الطيبيّ: وفي نُسخ «المصابيح»: «معافي» بلا هاء، وعلى هذا ينبغي أن يكتب ألفه بالياء، فيكون مطابقًا للفظ «كل» كما ورد: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته». انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (10) / (3119)].
وقال في «الفتح»: قوله: «معاف» بفتح الفاء، مقصورًا اسم مفعول من العافية، وهو إما بمعنى عفا الله عنه، وإما سلّمه الله، وسلّم منه. انتهى [«الفتح» (13) / (634)].
(إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ) قال النوويّ رحمه الله: المجاهرون: هم الذين جاهروا بمعاصيهم، وأظهروها، وكشفوا ما سَتَر الله تعالى عليهم، فيتحدثون بها لغير ضرورة، ولا حاجة، يقال: جهر بأمره، وأجهر، وجاهر. انتهى [«شرح النوويّ» (18) / (119)].
وقد ذكر النوويّ أن من جاهر بفسقه، أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به. انتهى [«الكاشف عن حقائق السن» (10) / (3119)].
والمجاهر في هذا الحديث يَحْتَمِل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به، والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة، وَيحْتَمِل أن يكون على ظاهر المفاعلة، والمراد: الذين يجاهر بعضهم بعضًا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول. انتهى [«الفتح» (13) / (634)].
وقال في «الفتح»: قوله: «وإن من المجاهرة» كذا لابن السكن، والكشمهينيّ، وعليه شرَح ابن بطال، وللباقين: «المجانة» بدل «المجاهرة»، ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد: «وإن من الإجهار» كذا عند مسلم، وفي رواية له: «الجهار»، وفي رواية الإسماعيليّ: «الإهجار»، وفي رواية لأبي نعيم في «المستخرج»: «وإن من الهجار» ….
وتعقّبه الحافظ، فقال: بل الذي يظهر رجحان هده الرواية، لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة، فليس في إعادة ذكره كبير فائدة، وأما الرواية بلفظ: «المجانة»، فتفيد معنى زائدًا، وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان، والمُجّانة مذمومة شرعًا، وعرفًا، فيكون الذي يُظهر المعصية قد ارتكب محذورين: إظهار المعصية، وتلبسه بفعل المُجان.
قال عياض: وأما «الإهجار» فهو الفحش، والخناء، وكثرة الكلام، وهو قريب من معنى المجانة، يقال: أهجو في كلامه، وكأنه أيضًا تصحيف من الجهار، أو الإجهار، وإن كان المعنى لا يبعد أيضًا هنا.
وأما لفظ «الهجار» فبعيد لفظًا ومعنى؛ لأن الهجار الحبل، أو الوتر تُشَدّ به يد البعير، أو الحلقة التي يُتَعَلَّم فيها الطعن، ولا يصح له هنا معنى، والله أعلم.
وتعقّبه الحافظ أيضًا، فقال: بل له معنى صحيح أيضًا، فإنه يقال: هجر، وأهجر: إذا أفحش في كلامه، فهو مثل جهر، وأجهر، فما صح في هذا صح في هذا، ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل، أو غيره أن لا يستعمل مصدرًا من الْهُجر بضم الهاء [وللعينيّ تعقبات على الحافظ في هذا البحث، فراجع شرحه]. انتهى [«الفتح» (13) / (635)].
استعملت لفظة الهجر في الأحاديث:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ” إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَاكُلُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ إِلَّا ثَلَاثًا فَكُلُوا وَأَطْعِمُوا، وَادَّخِرُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَذَكَرْتُ لَكُمْ أَنْ لَا تَنْتَبِذُوا فِي الظُّرُوفِ؛ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ، انْتَبِذُوا فِيمَا رَأَيْتُمْ، وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ فَلْيَزُرْ، *وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا* “.
أخرجه النسائي (2033)
حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابِي: بِئْسَ مَا قُلْتَ، *قُلْتَ هُجْرًا*. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ” قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَانْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ لَا تَعُدْ “.
أخرجه النسائي (3777)
(أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا)؛ أي: أن يذنب ذنبًا (ثُمَّ يُصْبِحُ)؛ أي: يدخل في الصباح، والحال أنه (قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ) عن أعين الناس، فلم يطّلع عليه أحد،
(فَيَقُولُ) متبجّحًا، ومستهترًا بعمله السيّئ: (يَا فُلَانُ) لبعض أصحابه القرناء السوء، (قَدْ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا) «البارحة» هي أقرب ليلة مضت من، وقت القول، تقول: لقيته البارحة، وأصلها من بَرِحَ: إذا زال، قاله في «الفتح». [«الفتح» (13) / (635)].
(وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ)؛ أي: وقد كان ربه ساترًا له طول ليله، والجملة حال من قال «يقول»، وقوله: (فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ) جملة مستأنفة، ذكرها توطئة لِمَا بعدها، (وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ)؛ أي: ويكون في الصباح كاشفًا ستر الله تعالى عن نفسه بإخباره للناس قبيح عمله مستخفًّا بأمر الله عزوجل.
وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ) يعني ابن حرب شيخه الأول في روايته (وَإِنَّ مِنَ الْهِجَارِ) بتقديم الهاء على الجيم، بدل قول محمد بن حاتم، وعبد بن حميد في روايتهما: «وإن من الإجهار»، وقد تقدّم توجيه كلّ من الروايات الأربع قريبًا، فلا تنس، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، هذا متّفقٌ عليه.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): وجوب سَتر المؤمن على نفسه إذا ابتُلي بشيء من المعاصي والمخالفات، وقد ورد في الأمر بالستر حديث ابن عمر رضي الله عنهما، رفعه: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن أَلَمَّ بشيء منها، فليستتر بسِتر الله … » الحديث، أخرجه الحاكم، وهو في «الموطأ» من مرسل زيد بن أسلم. وصححه الألباني في الصحيحة.
ورجح المرسل الدارقطني (2811): فقال:
ورواه ليث بن سعد، وابن عيينة، وحماد بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن دينار مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ ?، وهو أشبهها بالصواب.
وفي أحاديث معلة ظاهرها الصحة (276):
وقد تقدم أن العقيلي قال إن عبد الله بن دينار اضطرب فيه. اهـ
وتعقبه الحافظ الذهبي في «الميزان» في ترجمة عبد الله بن دينار وقال: إن الإضطراب من غيره. فالحافظ الذهبي يقر الإضطراب ولكنه يتفيه عن عبد الله بن دينار.
وقال الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» (ج (4) ص (116)) وذكره الدارقطني في «العلل» وقال رُويَ عن عبد الله بن دينار مسندًا ومرسلًا والمرسل أشبه. اهـ
(2) – (ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله تعالى، ورسوله ?، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تُذلّ أهلها، ومن إقامة الحدّ عليه إن كان فيه حدّ، ومن التعزير إن لم يوجب حدًّا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك. انتهى [«شرح صحيح البخاريّ» لابن بطال (9) / (263)].
(3) – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر اختلاف الراويات كما سبق بيانها ما نصّه: وهذه الروايات، وإن اختلفت ألفاظها، فهي راجعه إلى معنى واحد، قد فسّره في الحديث، وهو أن يعمل الرجل معصية في خفية، وخلوة، ثم يخرج يتحدَّث بها مع الناس، ويجهر بها، ويعلنها، وهذا من أكبر الكبائر، وأفحش الفواحش، وذلك أن هذا لا يصدر إلا من جاهل بقدر المعصية، أو مستهين، مستهزئ بها، مصرّ عليها، غير تائب منها، مظهر للمنكر، والواحد من هذه الأمور كبيرة، فكيف إذا اجتمعت؟!
فلذلك كان فاعل هذه الأشياء أشدّ الناس بلاءً في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، لأنَّه تجتمع عليه عقوبة تلك الأمور كلّها، وسائر الناس ممن ليس على مثل حاله، وإن كان مرتكب كبيرة، فأمره أخفّ، وعقوبته إن عوقب أهون، ورجوعه عنها أقرب من الأول، لأنَّ ذلك المجاهر قلّ أن يتوب، أو يرجع عما اعتاده من المعصية، وسَهُل عليه منها، فيكون كل العصاة بالنسبة إليه إمّا معاني مطلقًا إن تاب، وإما معاني بالنسبة إليه إن عوقب، والله تعالى أعلم [«المفهم» (6) / (618)]. [البحر المحيط الثجاج للإتيوبي رحمه الله، بتصرف يسير].
(4) -قال ابن تيمية-رحمه الله-:
فَالذُّنُوبُ لَهَا عُقُوبَاتٌ: السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ
مجموع الفتاوى (14) / (111)
(5) – قال ابن القيم: وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْقَلْبِ اسْتِقْبَاحُهَا، فَتَصِيرُ لَهُ عَادَةً، فَلَا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةَ النَّاسِ لَهُ، وَلَا كَلَامَهُمْ فِيهِ.
وَهَذَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْفُسُوقِ هُوَ غَايَةُ التَّهَتُّكِ وَتَمَامُ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَفْتَخِرَ أَحَدُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيُحَدِّثَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَمِلَهَا، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا.
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ لَا يُعَافَوْنَ، وَتُسَدُّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ التَّوْبَةِ، وَتُغْلَقُ عَنْهُمْ أَبْوَابُهَا فِي الْغَالِبِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ?: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يُصْبِحُ يَفْضَحُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَهَتَكَ نَفْسَهُ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ».
الْمَعَاصِي مَوَارِيثُ
وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي فَهِيَ مِيرَاثٌ عَنْ أُمِّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ.
الداء والدواء = الجواب الكافي – ط دار المعرفة (1) / (57)
(6) – ذكر ابن القيم في الداء والدواء:
فصل: من أضرار المعاصي للعبد في دينه ودنياه وآخرته
حرمان العلم
حرمان الرزق
الوحشة في قلب العاصي بينه وبين الله
الوحشة بينه وبين الناس
تعسير الأمور
ظلمة في القلب
وهن القلب والدين
حرمان الطاعة
قصر العمر
فصل: المعاصي تولد أمثالها
فصل: المعاصي تضعف القلب عن إرادته
فصل: المعاصي تذهب من القلب استقباحها
كل معصية ميراث عن أمة من الأمم المعذبة
فصل: هوان العبد على ربه
فصل: عودة ضرر معصيته على غيره من الناس والدواب
فصل: المعاصي تورث الذل
فصل: المعاصي تفسد العقل
فصل: كثرة الذنوب تؤدي إلى الطبع على القلب
فصل: المعاصي التي لعن الله عليها ورسوله ?
فصل: من عقوبات المعاصي التي رآها النبي ? في منامه
فصل: المعاصي تحدث في الأرض أنواعا من الفساد
فصل: المعاصي تطفئ من القلب نار المغيرة
فصل: المعاصي تضعف الحياء وربما تذهبه
فصل: المعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب ?
فصل: المعاصي تستدعي نسيان الله لعبده
فصل: المعاصي تخرج العبد من دائرة الإحسان والمحسنين
فصل: المعاصي تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة
فصل: المعاصي تزيل النعم وتحل النقم
فصل: المعاصي تورث الرعب والخوف في قلب العاصي
فصل: المعاصي توقع الوحشة العظيمة في القلب
فصل: المعاصي تورث القلب مرضا وانحرافا
فصل: المعاصي تعمي القلب وتطمس نوره
فصل: المعاصي تقمع النفس وتدنسها
فصل: العاصي دائما في أسر شيطانه
فصل: المعاصي تسقط كرامة العاصي عند الخالق والمخلوق
فصل: المعاصي تسلبه أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار
فصل: المعاصي تورث نقصان العقل
فصل: المعاصي توجب القطيعة بين العبد وربه
فصل: المعاصي تمحق بركة الدين والدنيا
فصل: المعاصي تجعل صاحبها من السفلة
فصل: المعاصي تنسي العبد نفسه
فصل: المعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة
فصل: المعاصي تباعد الملك عن العبد وتدني منه الشيطان
فصل: المعاصي تجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته
الداء والدواء ط: عطاءات العلم ص132 – 257
(7) – فائده من كتاب الحديث الضعيف وحكم الاحتجاج به:
الوجه الثالث من أوجه الطعن في الراوي المتعلقة بالعدالة الفسق]
[تعريفه]
لغة: الخروج، تقول العرب: فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه، والفويسقة: الفأرة لخروجها من جحرها علي الناس، لأجل المضرة، يقال: فسق يفسق فسقا -بالكسر- وفسوقا: فجر، وخرج عن الحق، ورجل فسق وفسيق: دائم الفسق
اصطلاحا: يقع الفسق في الاستعمال الشرعي علي كثير الذنب وقليله. فالكافر فاسق، لخروجه عما ألزمه العقل واقتضته الفطرة السليمة، قال تعالئ: { .. وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال تعالئ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}. فقابل به الإيمان.
والعاصي -بما دون الكفر- يقال له: فاسق، قال تعالي – في شأن القاذف-: { .. وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
قال القرطبي: والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع علي من خرج بكفر، وعلئ من خرج بعصيان.
والمراد بالفاسق هنا: المتلبس بمعصية دون الكفر، لأن الكلام في الراوي المسلم.
[حكم رواية الفاسق]
اعلم أن الفاسق قسمان:-
الأول: الفاسق المتأول، وهم الطوائف المبتدعة، وهذا القسم سيأتي الكلام عليه وحكم روايته قريبا.
الثاني: الفاسق غير المتأول -وهو المراد هنا- المخل بشيء من أحكام الشرع من ترك واجب أو ارتكاب محرم، فقد اتفق العلماء علي عدم قبول روايته، لأن الرواية عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أمانة ودين، والفسق يبطلها لاحتمال كذب الفاسق علي رسول الله -صلي الله عليه وسلم-.
قال ابن العربي: من ثبت فسقه، بطل قوله فى الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة تبطلها.
وقال الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا … } الآية. هي تدل علي عدم تصديق الفاسق في خبره، وصرح تعالئ في موضع آخر بالنهي عن قبول شهادة الفاسق، وذلك في قوله: { .. وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. ولا خلاف بين العلماء في رد شهادة الفاسق، وعدم قبول خبره.
وقال أبو حاتم بن حبان: ومنهم -يعني الضعفاء- المعلن بالفسق والسفه، وإن كان صدوقا في روايته، لأن الفاسق لا يكون عدلا، والعدل لا يكون مجروحا، ومن خرج عن حد العدالة لا يعتمد علي صدقه، وإن صدق في شيء بعينه في حالة من الأحوال، إلا أن يظهر عليه ضد الجرح حتى يكون أكثر أحواله طاعة الله عز وجل، فحينئذ يحتج بخبره، فأما قبل ظهور ذلك عنه، فلا.
وحديث الفاسق يسمى المنكر، وسيأتي الكلام عليه، بعد الكلام على فحش الغلط من الراوي وغفلته، لأن حديث كل من هؤلاء الثلاثة -أعني الفاسق، وفاحش الغلط، وذا الغفلة- يسمى المنكر.
ثانيًا: الأحكام والمسائل والملحقات:
(المسألة الأولى): تعريف المجاهرة
الْمُجَاهَرَةِ فِي اللُّغَةِ: الإِظْهَارُ، يُقَال: جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ مُجَاهَرَةً وَجِهَارًا أَظْهَرَهَا [المصباح المنير].
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال عِيَاضٌ: الْجِهَارُ وَالإِجْهَارُ وَالْمُجَاهَرَةُ كُلُّهُ صَوَابٌ، بِمَعْنَى: الظُّهُورِ وَالإِظْهَارِ، يُقَال: جَهَرَ وَأَجْهَرَ بِقَوْلِهِ وَقِرَاءَتِهِ: إِذَا أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ. [فتح الباري (10) / (487)].
فرع: الأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِظْهَارُ: مِنْ مَعَانِي الإِظْهَارِ فِي اللُّغَةِ: التَّبْيِينُ وَالإِبْرَازُ بَعْدَ الْخَفَاءِ، يُقَال: أَظْهَرَ الشَّيْءَ: بَيَّنَهُ، وَأَظْهَرَ فُلاَنًا عَلَى السِّرِّ: أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ. [المعجم الوسيط، والمصباح المنير].
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ وَالإِظْهَارِ: أَنَّ الْمُجَاهَرَةَ أَعَمُّ مِنَ الإِظْهَارِ. [الفروق في اللغة ص (280)].
(المسألة الثانية): الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
الْمُجَاهَرَةُ قَدْ تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّبَجُّحِ وَالاِفْتِخَارِ بِهَا بَيْنَ الأَصْحَابِ. [إعلام الموقعين (4) / (404)]،
وَقَدْ تَكُونُ مَشْرُوعَةً، كَمَنْ قَوِيَ إِخْلاَصُهُ وَصَغُرَ النَّاسُ فِي عَيْنَيْهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ، فَيَجُوزُ لَهُ إِظْهَارُ الطَّاعَاتِ؛ لأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ [مختصر منهاج القاصدين ص (223) – (224)، وعمدة القاري (21) / (138) – (139)].
الأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُجَاهَرَةِ:
(المسألة الثالثة): الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي
أولاً: الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا؛ قَال النَّبِيُّ ?: ((كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَل الرَّجُل بِاللَّيْل عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُول: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ)). [أخرجه البخاري (فتح الباري (10) / (486)) ومسلم ((4) / (2291)) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري].
وَقَال النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِهَا،
بَل يُقْلِعَ عَنْهَا وَيَنْدَمَ وَيَعْزِمَ أَنْ لاَ يَعُودَ،
فَإِنْ أَخْبَرَ بِهَا شَيْخَهُ أَوْ نَحْوَهُ مِمَّنْ يَرْجُو بِإِخْبَارِهِ أَنْ يُعْلِمَهُ مَخْرَجًا مِنْهَا، أَوْ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا، أَوْ يُعَرِّفُهُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهَا، أَوْ يَدْعُو لَهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ،
وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لاِنْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ، وَقَال الْغَزَالِيُّ: الْكَشْفُ الْمَذْمُومُ هُوَ الَّذِي إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَاهَرَةِ وَالاِسْتِهْزَاءِ، لاَ عَلَى وَجْهِ السُّؤَال وَالاِسْتِفْتَاءِ. [فيض القدير (5) / (11)]؛
بِدَلِيل خَبَرِ مَنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ الْمُصْطَفَى ? فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ [أخرجه البخاري (فتح الباري (4) / (163)) ومسلم ((2) / (781)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
ثانيًا: جَعَل ابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ: إِفْشَاءَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمُبَاحِ [فيض القدير (5) / (11)]؛ لِقَوْل النَّبِيِّ ?: ((إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُل يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا)). [أخرجه مسلم ((2) / (1060)) من حديث أبي سعيد الخدري]،
وَالْمُرَادُ مِنْ نَشْرِ السِّرِّ ذِكْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُل وَامْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الْوِقَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيل ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَأَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْوِقَاعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ فَذِكْرُهُ مَكْرُوهٌ،
فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَهُوَ مُبَاحٌ كَمَا لَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ عِنِّينٌ.
(المسألة الرابعة): الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ تَصِحُّ الصَّلاَةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ بِالْجَارِحَةِ، وَقَالُوا: مَنْ صَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ يَكُونُ مُحْرِزًا ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ لاَ يَنَال ثَوَابَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ إِمَامٍ تَقِيٍّ [مراقي الفلاح ص (165)، وحاشية القليوبي (1) / (234)]،
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَقَال الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي إِمَامَةِ الْفَاسِقِ بِالْجَوَارِحِ،
فَقَال ابْنُ بَزِيزَةَ: الْمَشْهُورُ إِعَادَةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ أَبَدًا،
وَقَال الأَبْهَرِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَتَرْكِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ بِتَاوِيلٍ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ،
وَقَال اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانَ فِسْقُهُ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلاَةِ كَالزِّنَا وَغَصْبِ الْمَال أَجْزَأَتْهُ، لاَ إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا كَالطَّهَارَةِ،
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ شَارِبِ الْخَمْرِ أَعَادَ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي الَّذِي تُؤَدَّى إِلَيْهِ الطَّاعَةُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سَكْرَانَ حِينَئِذٍ [مواهب الجليل (2) / (92) – (93)]،
وَسُئِل ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَمَّنْ يَعْمَل الْمَعَاصِيَ هَل يَكُونُ إِمَامًا؟
فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ فَلاَ.
وَالْمَسْتُورُ الْمُعْتَرِفُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَالصَّلاَةُ خَلْفَ الْكَامِل أَوْلَى، وَخَلْفَهُ لاَ بَأْسَ بِهَا.
وَسُئِل عَمَّنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الْكَذِبُ الْعَظِيمُ، أَوْ قَتَّاتٌ كَذَلِكَ، هَل تَجُوزُ إِمَامَتُهُ؟ فَأَجَابَ: لاَ يُصَلَّى خَلْفَ الْمَشْهُورِ بِالْكَذِبِ وَالْقَتَّاتِ وَالْمُعْلِنِ بِالْكَبَائِرِ وَلاَ يُعِيدُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَمَّا مَنْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ فَلاَ يَتْبَعُ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ مَالِكٍ: مَنْ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟ وَلَيْسَ الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ كَغَيْرِهِ [مواهب الجليل (2) / (94)].
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِالاِعْتِقَادِ أَوْ بِالأَفْعَال الْمُحَرَّمَةِ، وَسَوَاءٌ أَعْلَنَ فِسْقَهُ أَوْ أَخْفَاهُ [شرح منتهى الإرادات (1) / (257)].
وَاخْتَارَ الشَّيْخَانِ أَنَّ الْبُطْلاَنَ مُخْتَصٌّ بِظَاهِرِ الْفِسْقِ دُونَ خَفِيِّهِ، وَقَال فِي الْوَجِيزِ: لاَ تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ الْمَشْهُورِ فِسْقُهُ [كشاف القناع (1) / (474) – (475)].
(المسألة الخامسة): عِيَادَةُ الْمُجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ
تُسَنُّ عِيَادَةُ مَرِيضٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُبْتَدِعٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ [شرح منتهى الإرادات (1) / (319)، والآداب الشرعية (2) / (209)، والفواكه الدواني (2) / (427)، والمغني (2) / (449). وحديث: «خمس تجب للمسلم. . .». أخرجه مسلم ((4) / (1704)) من حديث أبي هريرة، وهو في البخاري (فتح الباري (3) / (112)) بمعناه].
وَلاَ تُسَنُّ عِيَادَةُ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ إِذَا مَرِضَ لِيَرْتَدِعَ وَيَتُوبَ، وَقَال الْبُهُوتِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحُكْمِ: وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ يُعَادُ. [شرح منتهى الإرادات (1) / (319)].
(المسألة السادسة): الصَّلاَةُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعَاصِي
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ. [نيل الأوطار (4) / (84)، وكشاف القناع (2) / (123)].
قَال ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِلإِمَامِ وَلأَهْل الْفَضْل أَنْ يُصَلُّوا عَلَى الْبُغَاةِ وَأَهْل الْبِدَعِ،
قَال أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ الرَّدْعِ، قَال: وَيُصَلِّي عَلَيْهِمُ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَهِرُ بِالْمَعَاصِي، وَمَنْ قُتِل فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهِمُ الإِمَامُ وَلاَ أَهْل الْفَضْل [التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل (2) / (240)].
وَقَال تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لأَهْل الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوا الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ مَيِّتًا إِذَا كَانَ فِيهِ كَفٌّ لأَمْثَالِهِ، فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ [الآداب الشرعية لابن مفلح (1) / (264)].
وَقَال الأَوْزَاعِيُّ: لاَ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ تَصْرِيحًا أَوْ تَاوِيلًا، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ [نيل الأوطار (4) / (85)].
(المسألة السابعة): السَّتْرُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ السَّتْرُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تعالى عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِأَذًى أَوْ فَسَادٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ ?: ((مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [أخرجه مسلم ((4) / (1996)) من حديث ابن عمر]
وَأَمَّا الْمُجَاهِرُ وَالْمُتَهَتِّكُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يُسْتَرَ عَلَيْهِ، بَل يُظْهَرُ حَالُهُ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَقَّوْهُ، أَوْ يَرْفَعُهُ لِوَلِيِّ الأَمْرِ حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ وَاجِبَهُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، مَا لَمْ يَخْشَ مَفْسَدَةً، لأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ يُطْمِعُهُ فِي مَزِيدٍ مِنَ الأَذَى وَالْفَسَادِ [دليل الفالحين (2) / (15)، والآداب الشرعية لابن مفلح (1) / (266)، وحاشية ابن عابدين (3) / (143)، (4) / (371)، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (4) / (175)].
قَال النَّوَوِيُّ: مَنْ جَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ جَازَ ذِكْرُهُ بِمَا جَاهَرَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُجَاهِرْ بِهِ [عمدة القاري شرح صحيح البخاري (21) / (139)].
(المسألة الثامنة) غِيبَةُ الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ
الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ [الزواجر (2) / (4)، وتفسير القرطبي (16) / (336) – (337)، وتهذيب الفروق (4) / (229)]،
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجَازُوا غِيبَةَ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ، كَالْمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ الْمَكْسِ وَجِبَايَةِ الأَمْوَال ظُلْمًا وَتَوَلِّي الأُمُورِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ [دليل الفالحين (4) / (350) – (354)].
قَال الْخَلاَّل: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُول: إِذَا كَانَ الرَّجُل مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ [الآداب الشرعية (1) / (276)].
(المسألة التاسعة): هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي
يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالاِعْتِقَادِيَّةِ،
وَقِيل: يَجِبُ إِنِ ارْتَدَعَ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا،
وَقِيل: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إِلاَّ مِنَ السَّلاَمِ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،
وَقِيل: تَرْكُ السَّلاَمِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ، وَظَاهِرُ مَا نُقِل عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلاَمِ وَالسَّلاَمِ مُطْلَقًا [الآداب الشرعية (1) / (259)].
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلاَ صِلَةٌ إِذَا كَانَ مُعْلِنًا مُكَاشِفًا [الآداب الشرعية (1) / (264)].
قَال ابْنُ عَلاَّنَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ: لاَ يَحِل لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاَثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالإِثْمِ إِذَا كَانَ الْهَجْرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنِ ارْتَكَبَ الْمَهْجُورُ بِدْعَةً أَوْ تَجَاهَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، وَالْوَعِيدُ لاَ يَتَنَاوَلُهُ أَصْلًا، بَل هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ [دليل الفالحين (4) / (429)].
(المسألة العاشرة): إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ فَإِنَّ الإِجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ [المغني (7) / (11)، وحاشية القليوبي (3) / (295)، والفتاوى الهندية (5) / (343)، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2) / (337)].
وَأَمَّا الإِجَابَةُ إِلَى دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا: لاَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِفِسْقِهِ، وَكَذَا دَعْوَةُ مَنْ كَانَ غَالِبُ مَالِهِ مِنْ حَرَامٍ مَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ حَلاَلٌ. [الفتاوى الهندية (5) / (343)].
(المسألة الحادي عشر): إِنْكَارُ مَا يُجَاهِرُ بِهِ مِنْ مَحْظُورَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ
قَال ابْنُ الإِخْوَةِ: إِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا الْمُحْتَسِبُ وَأَدَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أُدِّبَ عَلَى إِظْهَارِهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرَاقَتِهَا عَلَيْهِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُرَاقُ عَلَيْهِ؛ لأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ؛ لأَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلاَ الْكَافِرِ.
فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنَ الأَمْوَال الَّتِي يُقَرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَيُمْنَعُ مِنْ إِرَاقَتِهِ وَمِنَ التَّأْدِيبِ عَلَى إِظْهَارِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ وَلَيْسَ فِي إِرَاقَتِهِ غُرْمٌ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ شَوَاهِدَ الْحَال فِيهِ فَيَنْهَى عَنِ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهِ وَلاَ يُرِيقُهُ إِلاَّ أَنْ يَامُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ، لِئَلاَّ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إِنْ حُوكِمَ فِيهِ [معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة ص (32) – (33)].
وَمِنْ قَبِيل إِنْكَارِ مَا يُجَاهَرُ بِهِ مِنْ مُبَاحَاتٍ:
مَا نَقَلَهُ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَكَل فِي رَمَضَانَ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ [شرح منتهى الإرادات (1) / (445)].
قَال ابْنُ الإِخْوَةِ:
وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلاَهِي الْمُحَرَّمَةِ، مِثْل: الزَّمْرِ وَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ آلاَتِ الْمَلاَهِي، فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلاَهِي، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَكْسِرَهَا إِنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلاَهِي،
فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ الْمَلاَهِي كَسَرَهَا وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِيهَا لَمَّا كَانَتْ مَحْظُورَةً شَرْعًا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ [معالم القرية ص (35)]،
وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ:
فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا، وَلاَ أَنْ يَهْتِكَ الأَسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الاِسْتِسْرَارِ بِهَا [الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص (295)]، قَال النَّبِيُّ ?: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَّمَ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ تعالى [حديث: «اجتنبوا هذه القاذورة. . .». أخرجه الحاكم ((4) / (244)) من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
(المسألة الثانية عشر): الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّاعَاتِ وَالإِسْرَارِ بِهَا
– جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الأَحْكَامِ: الطَّاعَاتُ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا شُرِعَ مَجْهُورًا بِهِ، كَالأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ وَالْخُطَبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالأَعْيَادِ وَالْجِهَادِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الأَمْوَاتِ، فَهَذَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ.
فَإِنْ خَافَ فَاعِلُهُ الرِّيَاءَ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِهِ إِلَى أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ إِخْلاَصِهِ فَيَأْتِيَ بِهِ مُخْلِصًا كَمَا شُرِعَ، فَيَحْصُل عَلَى أَجْرِ ذَلِكَ الْفِعْل وَعَلَى أَجْرِ الْمُجَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ.
الثَّانِي: مَا يَكُونُ إِسْرَارُهُ خَيْرًا مِنْ إِعْلاَنِهِ، كَإِسْرَارِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ وَإِسْرَارِ أَذْكَارِهَا، فَهَذَا إِسْرَارُهُ خَيْرٌ مِنْ إِعْلاَنِهِ.
الثَّالِثُ: مَا يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى، كَالصَّدَقَاتِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ أَوْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ كَانَ الإِخْفَاءُ أَفْضَل مِنَ الإِبْدَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}،
وَمَنْ أَمِنَ مِنَ الرِّيَاءِ فَلَهُ حَالاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَإِخْفَاؤُهَا أَفْضَل إِذْ لاَ يَأْمَنُ مِنَ الرِّيَاءِ عِنْدَ الإِظْهَارِ،
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَانَ الإِبْدَاءُ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ مَعَ مَصْلَحَةِ الاِقْتِدَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ نَفَعَ الْفُقَرَاءَ بِصَدَقَتِهِ وَبِتَسَبُّبِهِ إِلَى تَصَدُّقِ الأَغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَفَعَ الأَغْنِيَاءَ بِتَسَبُّبِهِ إِلَى اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي نَفْعِ الْفُقَرَاءِ [قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1) / (128) – (129)، نشر دار الكتب العلمية، وانظر إحياء علوم الدين (3) / (309)]. [الموسوعة الفقهية الكويتية، (36/ 118 – 124) – تراث، بتصرف].
(المسألة الثالثة عشر): أثر المجاهرة بالمعصية والبدع على الفرد والمجتمع
أولاً: أثر المجاهرة بالمعصية على الفرد
1) ضعف الإيمان والابتعاد عن الله تعالى
2) فقدان الحياء والتجرؤ على المحرمات
3) التسبب في إشاعة الفساد في المجتمع
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}،
4) العواقب الأخروية للمجاهر بالمعصية
وفي الحديث ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين))،
فالمجاهر يعاني من آثار سوء أعماله في الدنيا والآخرة.
ثانيًا: أثر المجاهرة بالبدع على الفرد
1) ضلال العقيدة وفساد المنهج
البدع تؤدي إلى فساد العقيدة؛
هذا الضلال يؤدي إلى إضعاف التوحيد ويجعل الشخص عرضة للسقوط في الشرك أو الأفكار الفاسدة.
2) تصعيب التوبة والرجوع إلى الحق
3) التورط في نشر الضلال بين الناس
ويدخلون في دوامة من المعتقدات والممارسات التي لا أصل لها في الدين.
4) التهديد بالعذاب الأخروي
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار))، هذا الحديث يُظهر أن البدع تقود إلى الهلاك الأخروي؛ لأن من يعتمد على البدعة يبعد نفسه عن الحق ويقرب نفسه من العذاب.
ثالثًا: أثر المجاهرة بالمعصية والبدع على المجتمع
1) نشر الفساد وتفكك الروابط الاجتماعية
2) ضعف الهوية الإسلامية وضياع القيم
المجتمعات التي تشيع فيها المعاصي والبدع تفقد شيئًا فشيئًا هويتها الإسلامية الأصيلة.
مثل التوحيد، التقوى، الحياء، والتكافل الاجتماعي.
3) استجلاب غضب الله والعقوبات الجماعية:
ففي الحديث: ((ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا، ثمَّ لا يُغيِّروا إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ)) [صحيح أبي داود، (4338)].
(المسألة الرابعة عشر): وسائل الوقاية من المجاهرة بالمعصية والبدع
أولاً: الوقاية من المجاهرة بالمعصية
1) تعزيز مفهوم التقوى ومراقبة الله في السر والعلن
2) التوبة الصادقة والاستغفار المستمر
3) مصاحبة الصالحين والابتعاد عن بيئات الفساد
؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرجلُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم من يُخالِلُ))، [صحيح أبي داود، (4833)].
4) التربية على الحياء والعفة
الحياء صفة إسلامية عظيمة، وهو مانع طبيعي من المجاهرة بالمعاصي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحياءُ و الإيمانُ قُرِنا جميعًا، فإذا رُفِعَ أحدُهما رُفِعَ الآخَرُ)) [صحيح الجامع، (3200)].
ثانيًا: الوقاية من المجاهرة بالبدع
1) التمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، و سُنَّةَ نبيِّه)). [صحيح الترغيب، (40)].
2) تعلم العلم الشرعي الصحيح من العلماء الموثوقين
الجهل هو بوابة رئيسية للوقوع في البدع، لذلك من أهم وسائل الوقاية هو تعلم العلم الشرعي الصحيح من العلماء الموثوقين.
3) الابتعاد عن الجدال العقيم والممارسات المشبوهة
4) نشر الوعي بأضرار البدع بين الناس
ثالثًا: دور المجتمع والعلماء في التصدي للمجاهرة بالمعصية والبدع:
1) إقامة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2) دور العلماء في توجيه الأمة
3) تعزيز دور المساجد والمؤسسات التعليمية
4) بناء بيئة اجتماعية تشجع على الطاعة وتحارب المنكر.
[أثر المجاهرة بالمعصية والبدع على الفرد والمجتمع وسبل الوقاية منها].
[تنبيه]: سبق الحديث عن الستر وأحكامه في الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم (6759).
(المسألة السادسة عشر): الفتاوى
[1] حكم غيبة المجاهر بالمعاصي وهجره
السؤال: ويسأل أيضاً ويقول: هل الكلام في عرض الشخص الذي يزني أو يترك الصلاة أو يفطر في رمضان يكون من الغيبة أم لا؟
الجواب: من أظهر المعاصي لا غيبة له، من لا يصلي يجب أن ينكر عليه ويذكر بعيبه ويحذر منه ويهجر ولا تجاب دعوته، ولا يزار، ولا يعاد إذا مرض حتى يتوب إلى الله عز وجل، وهكذا من أظهر الفواحش بين الناس كالزنا جهرةً بين الناس أو شرب الخمر كل هذه المعاصي الظاهرة يستحق صاحبها الهجر والإنكار والتأديب، وأعظمها ترك الصلاة فإنه كفر، كفر أكبر، وإن لم يجحد وجوبها فهو كفر أكبر في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي ?: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر أما من جحد الوجوب كفر بإجماع المسلمين.
وقد بين أهل العلم أن من تجاهر بالمعاصي يستحق الهجر، وقد هجر النبي ? ثلاثةً من الصحابة تخلفوا عن الغزو بغير عذر شرعي فهجرهم النبي ? وهجرهم الصحابة خمسين ليلة حتى تابوا وتاب الله عليهم.
فلا يجوز للمسلمين أن يتساهلوا مع تارك الصلاة، بل يجب أن يهجروه ويجتهدوا في أسباب هدايته، فإن اهتدى وإلا وجب على ولي الأمر أن يستتيبه، …. ، وإذا ترك الناس من غير ردع انتشرت المنكرات، وظهرت الشرور، وفسد المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة والعافية. نعم.
المقدم: بارك الله فيكم. [حكم غيبة المجاهر بالمعاصي وهجره، نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله].
[2] حكم غيبة الفاسق ومَنْ أظهر المعاصي
السؤال: يحتج بعض الناس بحديث: لا غيبة لفاسق؟
الجواب:
لا، الحديث ما أدري بصحته، لكن معروف من أدلة أخرى؛ يقول النبي ? في الرجل الذي دخل عليه: بئس أخو العشيرة، احتجوا به على أن من أظهر المعاصي لا غيبة له.
لكن المؤمن يتحرّى، قد يكون في غيبته وهو مُظْهر فساد يترتب عليه شر، كَوْنُه ينصحه ويوجهه أحسن من كونه يغتابه مهما أمكن.
لكن إثم الغيبة إنما يحصل فيمن لم يُعلِن المعاصي، أما من كان يُعلِن المعاصي، ويظهرها بين الناس، يشرب الخمر بين الناس، لا يصلي مع الجماعة، هذا لا غيبة له فيما أظهر، لكن إذا رأى من المصلحة أن ينصحه سرًّا، وأن لا يتكلم في عرضه؛ لعله يهتدي؛ قد يكون هذا خيرًا، وقد يترتب عليه خير عظيم. [حكم غيبة الفاسق ومَنْ أظهر المعاصي، فتاوى الدروس للإمام ابن باز رحمه الله].
[3] الجمع بين عدم المجاهرة بالمعصية وحال المنافق
السؤال:
هذا سائل للبرنامج أرسل الحقيقة بمجموعة من الأسئلة يقول: الجهر بالمعصية يعتبر معصية والمنافق هل من يخالف ظاهر ذلك يأثم؟ فكيف يمكن التوفيق بين ذلك جزاكم الله خيرًا، بمعنى أن يخفي المعاصي ويظهر الصلاح وذلك من النفاق؟
الجواب:
الواجب على المسلم أن يتستر بستر الله، وألا يجاهر بالمعصية، بل إذا فعلها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله؛ لقول النبي ?: كل أمتي معافى إلا المجاهرين …..
فالواجب على من عصى أن يتقي الله، وأن يسر معصيته، وأن يتوب إلى الله منها، ويجاهد نفسه، وألا يتجاهر بالمعاصي، فإن المجاهرة فيها شر عظيم: تجرئة لغيره على المعاصي؛ ليتأسوا به، وعدم مبالاة بالمعصية، فإذا فعلها خفية كان أقرب إلى أن يتوب، فيتوب الله عليه، وليس هذا من النفاق، النفاق هو أن يسر الكفر، ويظهر الدين، هذا النفاق، نسأل الله العافية، نعم. [الجمع بين عدم المجاهرة بالمعصية وحال المنافق، نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله].
[4] حكم هجر المبتدع: الأرجح والأولى النظر في المصلحة، فالنبي ? هجر قوماً وترك آخرين لم يهجرهم مراعاة للمصلحة الشرعية الإسلامية، فهجر كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهما لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر هجرهم خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم، ولم يهجر عبد الله بن أبي بن سلول وجماعة من المتهمين بالنفاق لأسباب شرعية اقتضت ذلك.
فالمؤمن ينظر في الأصلح وهذا لا ينافي بغض الكافر في الله وبغض المبتدع في الله وبغض العاصي في الله، ومحبة المسلم في الله ومحبة العاصي على قدر إسلامه، ومحبة المبتدع الذي لم يكفر ببدعته على قدر ما معه من الإسلام لا ينافي ذلك.
أما هجرهم فينظر في المصلحة، فإذا كان هجرهم يرجى فيه الخير لهم يرجى فيه أن يتوبوا إلى الله فيه من البدعة ومن المعصية فإن السنة الهجر، وقد أوجب ذلك جمع من أهل العلم قالوا: يجب.
وإن كان هجرهم وتركه سواء لا يترتب عليه لا شر ولا خير، فهجرهم أولى أيضاً إظهاراً للأمر المشروع وإبانة لما يجب من إظهار إنكار المنكر، فهجرهم في هذه الحال أولى وأسلم، وحتى يعلم الناس خطأهم وغلطهم.
والحالة الثالثة: أن يكون هجرهم يترتب عليه مفسدة وشر أكبر فإنه لا يهجرهم في هذه الحال، إذا كان هذا المبتدع إذا هجر زاد شره على الناس وانطلق في الدعوة إلى البدعة وزادت بدعه وشروره، واستغل الهجر في دعوة الناس إلى الباطل فإنه لا يهجر بل يناقش ويحذر الناس منه، ولا يكون الناس عنه بعيدين حتى يراقبوا عمله، وحتى يمنعوه من التوسع في بدعته، وحتى يحذروا الناس منه، وحتى يكرروا عليه الدعوة لعل الله يهديه حتى يسلم الناس من شره.
وهكذا العاصي المعلن إذا كان تركه وهجره قد يفضي إلى انتشار شره وتوسع شره وتسلطه على الناس فإنه لا يهجر بل يناقش دائماً وينكر عليه دائماً، ويحذر الناس من شره دائماً حتى يسلم الناس من شره وحتى لا تقع الفتن بمعصيته، نسأل الله السلامة. نعم. [حكم هجر المبتدع، نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله تعالى].
قال الشيخ ابن عثيمين (ت (1421)) رحمه الله تعالى عن معنى المجاهرة بالمعصية وأسبابه، فقال:
المجاهرون هم الذين يجاهرون بمعصية الله عزوجل، وهم ينقسمون إلى قسمين:
الأول: أن يعمل المعصية وهو مجاهر بها، فيعملها أمام الناس، وهم ينظرون إليه، هذا لا شك أنه ليس بعافية؛ لأنه جر على نفسه الويل، وجره على غيره أيضا.
أما جره على نفسه: فلأنه ظلم نفسه حيث عصى الله ورسوله، وكل إنسان يعصي الله ورسوله؛ فإنه ظالم لنفسه، قال الله تعالى: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة: (57)]، والنفس أمانة عندك يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، وكما أنه لو كان لك ماشية فإنك تتخير لها المراعي الطيبة، وتبعدها عن المراعي الخبيثة الضارة، فكذلك نفسك، يجب عليك أن تتحرى لها المراتع الطيبة، وهي الأعمال الصالحة، وأن تبعدها عن المراتع الخبيثة، وهي الأعمال السيئة.
وأما جره على غيره: فلأن الناس إذا رأوه قد عمل المعصية؛ هانت في نفوسهم، وفعلوا مثله، وصار – والعياذ بالله – من الأئمة الذين يدعون إلى النار، كما قال الله تعالى عن آل فرعون: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) [القصص: (41)].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
فهذا نوع من المجاهرة، ولم يذكره النبي ?؛ لأنه واضح، لكنه ذكر أمرًا آخر قد يخفى على بعض الناس فقال: ومن المجاهرة أن يعمل الإنسان العمل السيئ في الليل فيستره الله عليه، وكذلك في بيته فيستره الله عليه ولا يُطلع عليه أحدًا، ولو تاب فيما بينه وبين ربه؛ لكان خيرًا له، ولكنه إذا قام في الصباح واختلط بالناس قال: عملت البارحة كذا، وعملت كذا، وعملت كذا، فهذا ليس معافى، هذا والعياذ بالله قد ستر الله عليه فأصبح يفضح نفسه.
وهذا الذي يفعله بعض الناس أيضًا يكون له سببان:
السبب الأول: أن يكون الإنسان غافلًا سليمًا لا يهتم بشيء، فتجده يعمل السيئة ثم يتحدث بها عن طهارة قلب.
والسبب الثاني: أن يتحدث بالمعاصي تبجحًا واستهتارًا بعظمة الخالق، – والعياذ بالله – فيصبحون يتحدثون بالمعاصي متبجحين بها كأنما نالوا غنيمة، فهؤلاء والعياذ بالله شر الأقسام.
ويوجد من الناس من يفعل هذا مع أصحابه، يعني أنه يتحدث به مع أصحابه فيحدثهم بأمر خفي لا ينبغي أن يذكر لأحد، لكنه لا يهتم بهذا الأمر فهذا ليس من المعافين؛ لأنه من المجاهرين.
والحاصل: أنه ينبغي للإنسان أن يتستر بستر الله عزوجل، وأن يحمد الله على العافية، وأن يتوب فيما بينه وبين ربه من المعاصي التي قام بها، وإذا تاب إلى الله وأناب إلى الله؛ ستره الله في الدنيا والآخرة، والله الموفق. [شرح رياض الصالحين لابن عثيمين، (3/ 16 – 17)].