(2989) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، ومحمد البلوشي ويوسف بن محمد السوري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد ومحمد فارح واسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، 9 – بابُ عُقُوبَةِ مَن يَامُرُ بِالمَعْرُوفِ ولا يَفْعَلُهُ، ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ ويَفْعَلُهُ.
(51) – ((2989)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، وأبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ وإسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ وأبُو كُرَيْبٍ – واللَّفْظُ لِأبِي كُرَيْبٍ – قالَ يَحْيى وإسْحاقُ: أخْبَرَنا، وقالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنا – أبُو مُعاوِيَةَ، حَدَّثَنا الأعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قالَ: قِيلَ لَهُ: ألا تَدْخُلُ عَلى عُثْمانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقالَ: أتَرَوْنَ أنِّي لا أُكَلِّمُهُ إلّا أُسْمِعُكُمْ؟ واللهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيما بَيْنِي وبَيْنَهُ، ما دُونَ أنْ أفْتَتِحَ أمْرًا لا أُحِبُّ أنْ أكُونَ أوَّلَ مَن فَتَحَهُ، ولا أقُولُ لِأحَدٍ، يَكُونُ عَلَيَّ أمِيرًا: إنَّهُ خَيْرُ النّاسِ بَعْدَ ما سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «يُؤْتى بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيُلْقى فِي النّارِ، فَتَنْدَلِقُ أقْتابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِها كَما يَدُورُ الحِمارُ بِالرَّحى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أهْلُ النّارِ، فَيَقُولُونَ: يا فُلانُ ما لَكَ؟ ألَمْ تَكُنْ تَامُرُ بِالمَعْرُوفِ، وتَنْهى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ ولا آتِيهِ، وأنْهى عَنِ المُنْكَرِ وآتِيهِ».
(51) – حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي وائِلٍ، قالَ: كُنّا عِنْدَ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقالَ رَجُلٌ: ما يَمْنَعُكَ أنْ تَدْخُلَ عَلى عُثْمانَ فَتُكَلِّمَهُ فِيما يَصْنَعُ؟ وساقَ الحَدِيثَ بِمِثْلِهِ
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((9))]- (باب عقوبة من يأمر بالمعروف، ولا يفعله، وينهى عن المنكر، ويفعله) “).
علاقة الباب بكتاب الزهد والرقائق؛ لأنه يعالج قضية مهمة في تزكية النفس، وهي أن العبد يجب أن يحاسب نفسه أولاً قبل أن يحاسب غيره، وأن يكون عمله موافقًا لما يدعو إليه.
وهذا يتفق مع مضامين الزهد التي تتعلق بالابتعاد عن الرياء والمظاهر، والتأكيد على إخلاص النية والعمل.
وقال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى:
[(7452)] ((2989)) – الحديث
شرح الحديث:
قوله «لو أتيت فلانا» أراد به عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، قوله «فكلمته» أي: فيما يقع من الفتنة بين الناس والسعي في إطفاء ثائرتها قاله الكرماني، وفي التوضيح أراد أن يكلمه في شأن أخيه لأمه الوليد بن عتبة لما شهد عليه بما شهد فقيل لأسامة ذلك لكونه كان من خواص عثمان رضي الله عنهما.
قوله: «إني أكلمه سرا» أي: في السر دون أن أفتح باب من أبواب الفتن، حاصله: أكلمه طلبا للمصلحة لا تهييجا للفتنة؛ لأن المجاهرة على الأمراء بالإنكار يكون فيه نوع القيام عليهم؛ لأن فيه تشنيعا عليهم يؤدي إلى افتراق الكلمة وتشتيت الجماعة.
قوله: «لا أكون أول من فتحه»، أي: أول من فتح باب من أبواب الفتنة. قاله في «العمدة» [عمدة القاري، ((15) / (166))، بتصرف يسير].
قول: (والله لقد كلمته فيما بيني وبينه) سرا؛ يعني: أني كلمته في السر دون أن أفتح بابا من أبواب الفتن، حاصل المعنى: أنه كلمه طلبا للمصلحة، لا تهييجا للفتنة؛ لأن المجاهرة على الأمراء بالإنكار، يكون فيه نوع القيام عليهم؛ لأن فيه تشنيعا عليهم يؤدي إلى افتراق الكلمة، وتشتيت الجماعة [عمدة القاري، (15) / (166)]،
(ولا أقول لأحد، يكون على) بتشديد الياء، (أميرا، إنه)، أي: هذا الرجل (خير الناس، بعدما سمعت رسول الله ? يقول:) وفي رواية سفيان: «بعد شيء سمعته من رسول الله ?، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: يجاء بالرجل»، وفي رواية عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عند أحمد: «يجاء بالرجل الذي كان يطاع في معاصي الله، فيقذف في النار»، (في النار، فتندلق) من الاندلاق، وهو الخروج بسرعة، يقال: اندلق السيف من غمده: إذا خرج من غير أن يسله أحد، (أقتاب بطنه) الأقتاب بالفتح: جمع قتب بكسر القاف،: هي الأمعاء. (فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى) وفي رواية للبخاري: “فيطحن فيها كطحن الحمار”، وفي رواية: “يستدير فيها كما يستدير الحمار”، (فيجتمع إليه أهل النار) وفي رواية البخاري: “فيطيف به أهل النار”؛ أي: يجتمعون حوله، يقال: أطاف به القوم: إذا حلقوا حوله حلقة، وإن لم يدوروا، وطافوا إذا داروا حوله، وبهذا التقرير يظهر خطأ من قال: إنهما بمعنى واحد،
وفي رواية: «فيأتي عليه أهل طاعته من الناس»، (فيقولون: يا فلان) وللبخاري: «فيقولون: أي فلان»، (ما لك؟) وفي رواية: «ما شأنك؟» وفي رواية: «أي قل: أين ما كنت تأمرنا به؟» (ألم تكن تأمر بالمعروف) وللبخاري: «ألست كنت تأمر بالمعروف،
(وتنهى عن المنكر) قال في “العمدة”: المعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، والمنكر ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع، وحرمه، وكرهه، فهو منكر. انتهى [«عمدة القاري» (15) / (166)].
(فيقول) الرجل: (بلى، قد كنت آمر بالمعروف، ولا آتيه)؛ أي: لا أفعل ذلك المعروف، (وأنهى عن المنكر، وآتيه»)؟ أي: أفعل ذلك المنكر، وفي رواية عاصم: «وإني كنت آمركم بأمر، وأخالفكم إلى غيره».
قال المهلب رحمه الله: أرادوا من أسامة رضي الله عنه أن يكلم عثمان، وكان من خاصته، وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة؛ لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ، وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان يستعمله، فقال أسامة: قد كلمته سرا دون أن أفتح بابا، أي: باب الإنكار على الأئمة علانية؛ خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرفهم أنه لا يداهن أحدا، ولو كان أميرا، بل ينصح له في السر جهده، وذكر لهم قصة الرجل الذي يطرح في النار؛ لكونه كان يأمر بالمعروف، ولا يفعله؛ ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه. انتهى ملخصا.
قال الحافظ: وجزمه بأن مراد من سأل أسامة الكلام مع عثمان أن يكلمه في شأن الوليد ما عرفت مستنده فيه، وسياق مسلم من طريق جرير عن الأعمش يدفعه، ولفظه: عن أبي وائل: «كنا عند أسامة بن زيد، فقال له رجل: ما يمنعك أن تدخل على عثمان، فتكلمه فيما يصنع … » قال: وساق الحديث بمثله.
وجزم الكرماني بأن المراد: أن يكلمه فيما أنكره الناس على عثمان من تولية أقاربه، وغير ذلك مما اشتهر.
وقوله: إن السبب في تحديث أسامة بذلك؛ ليتبرأ مما ظنوه به ليس بواضح، بل الذي يظهر أن أسامة كان يخشى على من ولي ولاية، ولو صغرت أنه لا بد له من أن يأمر الرعية بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ثم لا يأمن من أن يقع منه تقصير، فكان أسامة يرى أنه لا يتأمر على أحد، وإلى ذلك أشار بقوله: «لا أقول للأمير: إنه خير الناس»، أي: بل غايته أن ينجو كفافا.
وقال عياض: مراد أسامة: أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به، وينصحه لسرا، فذلك أجدر بالقبول [“الفتح” (16) / (512) – (513)،”كتاب الفتن” رقم ((7098))]، والله تعالى أعلم.
وحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
[البحر المحيط الثجاج للإتيوبي رحمه الله، بتصرف يسير].
ثانيًا: فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): أن قوله: «لا أقول لأحد يكون علي أميرا: إنه خير الناس» فيه ذم مداهنة الأمراء في الحق، وإظهار ما يبطن خلافه، كالمتملق بالباطل، فأشار أسامة رضي الله عنه إلى أن المداراة محمودة، والمداهنة مذمومة، وضابط المداراة: أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة: أن يكون فيها تزيين القبيح، وتصويب الباطل، ونحو ذلك.
2 – (ومنها): أن في الحديث تعظيم الأمراء، والأدب معهم، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم؛ ليكفوا، ويأخذوا حذرهم، بلطف، وحسن تأدية، بحيث يبلغ المقصود من غير أذية للغير.
3 – (ومنها): أن فيه وصف جهنم بأمر عظيم، روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعا: «يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها». [«عمدة القاري» (15) / (166)]، والله تعالى أعلم.
4 – (ومنها): ما قاله الطبري رحمه الله: اختلف السلف في الأمر بالمعروف، فقالت طائفة: يجب مطلقا، واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، وبعموم قوله ?: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده … » الحديث.
وقال بعضهم: يجب إنكار المنكر لكن شرطه أن لا يلحق المنكر بلاء، لا قبل له به، من قتل ونحوه.
وقال آخرون: ينكر بقلبه؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعا: «يستعمل عليكم أمراء بعدي، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع … » الحديث.
قال: والصواب اعتبار الشرط المذكور، ويدل عليه حديث: «لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه»، ثم فسره بأن يتعرض من البلاء لما لا يطيق. انتهى ملخصا.
وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه، ولم يخف على نفسه منه ضررا، ولو كان الآمر متلبسا بالمعصية؛ لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف، ولا سيما إن كان مطاعا، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له، وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره.
ثم قال الطبري: فإن قيل: كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار؟
والجواب: أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به، فعذبوا بمعصيتهم، وعذب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه. [«الفتح» (13) / (52)]. [البحر المحيط الثجاج للإتيوبي رحمه الله].
ثالثا: الأحكام والمسائل والملحقات:
(المسألة الأولى): بيان معنى المعروف والمنكر
أ. لغة:
المعروف في اللغة، يدور معناه غالبا على ما تعارف عليه الناس وعلموه ولم ينكروه، والمنكر في اللغة، يدور معناه غالبا على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه. [انظر ج (3) ص (178) – (179)].
ب. شرعا:
المعروف في الشرع: كل ما يعرفه الشرع ويأمر به ويمدحه ويثني على أهله، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وفي مقدمتها توحيد الله تعالى والإيمان به.
والمنكر في الشرع: كل ما ينكره الشرع وينهى عنه ويذمه ويذم أهله، ويدخل في ذلك جميع المعاصي والبدع، وفي مقدمتها الشرك بالله تعالى وإنكار وحدانيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته.
وعبارات المفسرين في تفسير المعروف والمنكر لا تتجاوز ذلك. [القول البين الأظهر في الدعوة، (5 – 9)].
(المسألة الثانية): عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله أصل عظيم من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها، حتى ألحقه بعض العلماء بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها، وإنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، وللنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله، وشرع الجهاد لأجل ذلك، وإن كان الجهاد قدرا زائدا على مجرد الأمر والنهي.
إذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله يتوقف قيام الدين، فلولاه ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته، ويتوقف أيضا قيام الدولة الإسلامية واستقامتها وصلاحها على القيام به، كما أن صلاح العباد متوقف على القيام به.
وبيان ذلك: أن جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، والأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعث الله به رسوله هو النهي عن المنكر، وبهذا نعت الله النبي والمؤمنين فقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله}، وجميع الولايات -كولاية الحكم، وولاية الحرب، وولاية المال، وولاية الحسبة، وغيرها، إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، ولهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، فإن تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل.
بل إن صلاح العباد جميعهم يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج (28) ص (75) – (67) وص (306)، وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ (7) ص (33) – (34)].
(المسألة الثالثة): واجب العلماء وتحذيرهم من التقصير في العمل:
العلماء عليهم واجب عظيم ومسئولية خطيرة، فإن عليهم أمر الناس وإرشادهم إلى الخير، ونهيهم وتحذيرهم من الشر، وعليهم نصيحتهم وترغيبهم في الخير، وترهيبهم من الشر، وعليهم أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا، فإن الله تعالى لما ذم اليهود على حرصهم ومبادرتهم الإثم والعدوان، وأكلهم الحرام في قوله تعالى: {وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون}، بين واجب العلماء وحضهم على القيام به، وهو نهيهم للناس عن المعاصي والآثام التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل وتقوم عليهم الحجة، فقال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}، أي: هلا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس الذين من الله عليهم بالعلم والحكمة عما وقعوا فيه من الإثم وأكل الحرام.
وقد وبخ الله العلماء في تركهم واجب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف فقال تعالى في الآية السالفة الذكر: {لبئس ما كانوا يصنعون}.
كما أخذ الله الميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وحذرهم من الكتمان وتوعدهم عليه فقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}، وفي حديث أبي هريرة عن النبي ? أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». [ابن ماجه: المقدمة ((264))، الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم عن أبي هريرة، وعلم عليه السيوطي بالصحة، كشف الخفاء للعجلوني جـ (2)، ص (352) مطبعة الفنون – حلب].
وهذا الوعيد الشديد لما ينشأ عن ترك هذا الواجب العظيم -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من الفساد والشر، إذ كيف يصلح الناس، وكيف ينزجر الناس عن المعاصي، وكيف تعظم المعصية في قلوب الجاهلين، وكيف يقفون عند الحدود، وكيف يتورعون عن الشبهات، والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟!
فما أعظم واجب العلماء؟ وما أشد خطر تقصيرهم في القيام به. [انظر تفسير الإمام ابن كثير جـ (2) ص (315) طبعة الحكومة المجموع فيها تفسيري ابن كثير والبغوي، وانظر أيضا تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي ج (2) ص (148)].
قال الإمام أحمد رحمه الله في رسالة الصلاة ما نصه: (فرحم الله رجلا رأى أخاه يسبق الإمام، فيركع أو يسجد معه، أو يصلي وحده فيسيء في صلاته،
فينصحه ويأمره وينهاه، ولم يسكت عنه، فإن نصيحته واجبة عليه لازمة له، وسكوته عنه إثم ووزر،
وإن الشيطان يريد أن تسكتوا عن الكلام فيما أمركم الله به، وأن تدعوا التعاون على البر والتقوى الذي أوصاكم الله به، والنصيحة التي عليكم بعضكم لبعض، لتكونوا مأثومين مأزورين، وأن يضمحل الدين ويذهب، وأن لا تحيوا سنة ولا تميتوا بدعة، فأطيعوا الله بما أمركم به من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا تطيعوا الشيطان؛ فإن الشيطان لكم عدو مبين، بذلك أخبركم الله عزوجل؛ فقال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا}، وقال تعالى: {يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}.
واعلموا أنه ما جاء النقص إلا من المنسوبين إلى الفضل، المبكرين في الجماعات فيمن بالمشرق والمغرب من أهل الإسلام؛ لسكوت أهل العلم والفقه والبصر عنهم، وتركهم ما لزمهم من النصيحة، والتعليم، والأدب، والأمر، والنهي، والإنكار، والتغيير، فلم يروا آمرا ولا ناهيا، ولا ناصحا، ولا مؤدبا، ولا معلما، ولا منكرا ولا مغيرا، إلا ما شاء الله، فجرى أهل الجهالة على المسابقة للإمام، وجرى معهم كثير ممن ينسب إلى العلم والفقه والبصر والنظر استخفافا منهم بالصلاة.
والعجب كل العجب من اقتداء أهل العلم بأهل الجهل ومجراهم معهم في المسابقة للإمام في الركوع والسجود، والرفع والخفض، وفعله معهم، وتركهم ما حملوا وسمعوا من الفقهاء والعلماء،
وإنما الحق الواجب على العلماء أن يعلموا الجاهل وينصحوه، ويأخذوا على يده، فهم فيما تركوا آثمون عصاة خائنون، لجريانهم معهم في ذلك وفي كثير من مساويهم: من الغش والنميمة، ومحقرة الفقراء والمستضعفين، وغير ذلك من المعاصي مما يكثر تعداده، وجاء الحديث عن النبي ? أنه قال: «ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه»، فتعليم الجاهل واجب على العالم، لازم له؛ لأنه لا يكون ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه من تطوع؛ لأن الله لا يؤاخذ على ترك التطوع، وإنما يؤاخذ على ترك الفرائض. اهـ[انظر رسالة الصلاة للإمام أحمد ص (110) – (111)، مطبعة الإمام ومعها رسالتان].
(المسألة الرابعة): شرط سقوط الحرج عن الباقين، إذا قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من يكفي
هو أن يكون سكوته لعلمه أن هذا الواجب قد قام به من يكفي.
قال ابن النحاس في كتابه «تنبيه الغافلين ص (15) – (16)»: “واعلم أن مقتضى فرض الكفاية، أنه إذا قام به البعض حاز الأجر الجزيل من الله تعالى، وسقط الحرج عن الباقين،
ولكن يشترط في سقوط الحرج هنا أن يكون الساكت عن الأمر والنهي إنما سكت لعلمه بقيام من قام عنه بالغرض،
فإن سكت ولم يعلم بقيامه، فالظاهر – والله أعلم- أنه لا يسقط عنه الحرج؛ لأنه أقدم على ترك واجب عمدا، كما لو أقدم على الفطر في رمضان؛ ظانا منه النهار باق وكان ليلا، أو جامع ظانا أن الفجر قد طلع وكان ليلا، فإنه يأثم بذلك. اهـ.
(المسألة الخامسة): في الحالتين اللتين يصير فيهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكفاية إلى الفرض العين
الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه فرض كفاية، ولكنه يصير فرض عين في حالتين:
الأولى: أن لا يعلم به إلا هو.
الثانية: أن لا يتمكن من إزالته إلا هو.
قال أبو زكريا النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: «وقد يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني يصير فرض عين، كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو،
وكمن يرى زوجته أو غلامه أو ولده على منكر أو تقصير في المعروف» [انظر تنبيه الغافلين لابن النحاس ص (15)].
(المسألة السادسة): أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أ – الأدلة التي تأمر بأداء هذا الواجب
الأدلة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى، في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ? كثيرة ومتنوعة، فمنها الأمر بالقيام بهذا الواجب وأدائه، ومنها الثناء على أهله، ومنها التوبيخ والوعيد لمن تركه، ومنها الذم والعيب على من تركه.
أ – فمن الأدلة التي تأمر بأداء هذا الواجب ما يلي:
(1) – قول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
(2) – حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ? قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». [مسلم: الإيمان ((49))، والترمذي: الفتن ((2172))، والنسائي: الإيمان وشرائعه ((5008))، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها ((1275))، وأحمد ((3) / (49))].
(3) – وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ? «إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيه، قال: فإذا أبيتم إلا المجلس فاعطوا الطريق حقه، قالوا: ما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». [البخاري: المظالم والغصب ((2465))، ومسلم: اللباس والزينة ((2121))، وأبو داود: الأدب ((4815))، وأحمد ((3) / (36))].
فهذه الأدلة صريحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بأداء هذا الواجب والقيام به.
(المسألة السابعة): الأدلة التي فيها الذم والعيب لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن الأدلة التي فيها الذم والعيب لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ما يلي:
(1) – قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره هذه الآية: [انظر جـ (1) ص (223) – (224)] الميثاق: هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب، وعلمه العلم أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصا إذا سألوه أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه ويوضح الحق من الباطل، فأما الموفقون فقاموا بهذا أتم القيام وعلموا الناس مما علمهم الله؛ ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفا من إثم الكتمان،
وأما الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم فلم يعبئوا بها، فكتموا الحق وأظهروا الباطل، تجرؤا على محارم الله، وتهاونا بحقوقه تعالى وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمنا قليلا، وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات والأموال الحقيرة من سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق {فبئس ما يشترون}؛ لأنه أخس العوض. اهـ.
(المسألة الثامنة): شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشروط التالية:
(1) – الإسلام: لأن القيام بالأمر والنهي نصرة للدين، فلا يقوم به من هو جاحد لأصل الدين، ولأن الأمر والنهي فيه قوة وسلطة وعلو، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.
(2) – التكليف: لأنه شرط لوجوب سائر العبادات، فلا يجب على مجنون ولا على صبي.
(3) – الاستطاعة: لأن الله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.
وقال النبي ? «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم». رواه البخاري ومسلم.
* ويشترط في الفعل الذي يجب إنكاره:
(1) – أن يكون منكرا سواء كان صغيرة أو كبيرة.
(2) – أن يكون المنكر موجودا، فمن فرغ من شرب الخمر مثلا لم يكن لآحاد الناس الإنكار عليه إلا بالوعظ إذا صح من سكره.
(3) – وأن يكون المنكر ظاهرا بغير تجسس، فمن ستر معاصيه في داره وأغلق عليه بابه، فإنه لا يجوز لأحد أن يتجسس عليه ما لم يظهر شيء من ذلك.
(4) – أن يكون المنكر معلوما بغير اجتهاد، فينكر على من خالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه. [انظر تنبيه الغافلين ص (18) – (30)].
واختلف في الشرطين الآتيين:
(1) – إذن الإمام، والصحيح عدم اشتراطه؛ لأن آحاد المسلمين منذ عهد النبي ? يأمرون وينهون من غير نكير ولعموم الأدلة الموجبة لذلك لكل من قدر عليه.
قال الغزالي قد شرط قوم أن يكون مأذونا له من جهة الإمام، وهذا الاشتراط فاسد؛ فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكرا فسكت عليه عصى، أينما رآه وكيفما رآه، على العموم بلا تخصيص، فشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له اهـ[انظر تنبيه الغافلين ص (20)].
وقال الرافعي والنووي وغيرهما: لا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل ذلك ثابت لآحاد الناس من المسلمين وواجب عليهم. [انظر تنبيه الغافلين ص (20)].
قال ابن النحاس في «تنبيه الغافلين» ص (20): «قلت: وفي قوله ? للفقراء الذين شكوا إليه سبق الأغنياء: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به». [مسلم: الزكاة ((1006))، وأحمد ((5) / (168))]، وذكر من ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوله ? «ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة كل يوم». [البخاري: الصلح ((2707))، ومسلم: الزكاة ((1009))، وغيره]، وقوله ?: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده». [مسلم: الإيمان ((49))، وغيره]، وغير ذلك من الأحاديث المتقدمة والآتية التي لم يخصص فيها بعض الناس دون بعض أدل دليل على ذلك والله أعلم». اهـ
(2) – العدالة: ذهبت المعتزلة إلى اشتراط العدالة وأنه ليس لفاسق أن يأمر وينهى، والصحيح عدم اشتراطه كما ذهب إليه أهل السنة؛ لأن الفاسق مسلم مكلف فتشمله أدلة الوجوب، ولأن المكلف عليه واجبان: واجب العمل، وواجب الدعوة والأمر والنهي، فإذا قصر في أداء أحد الواجبين فإن ذلك لا يسقط عنه الواجب الآخر.
قال القرطبي في تفسيره أوائل سورة آل عمران: «ليس من شرط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عدلا عند أهل السنة خلافا للمعتزلة حيث تقول لا يغيره إلا عدل، وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس» اهـ[انظر «تنبيه الغافلين» ص (21)، وانظر أضواء البيان جـ (2) ص (169)].
(المسألة التاسعة): حكم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة على ذلك
التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه:
مما سبق من الأدلة يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عظيم من واجبات الإسلام، وأن ترك القيام به مع القدرة على ذلك يوجب غضب الرب ومقته وعقوبته، وأن التارك له مع القدرة يوصف بضعف الإيمان وقلة الديانة، وأن من لم ينكر المنكر مع القدرة فهو شريك للفاعل في الإثم والوزر والعار،
فالتارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه يوجب له فعله هذا:
أنه ضعيف الإيمان وقليل الدين، ويخشى عليه من موت قلبه. [انظر إعلام الموقعين جـ (2) ص (157) – (158)].
الأمر الثاني: أنه إذ رأى المنكر يفعل ولم ينكر على صاحبه وهو قادر شاركه في الإثم والوزر والعار.
ويدل على هذا حديث أبي سعيد قال: سمعت رسول الله ? يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
قال ابن النحاس تعليقا على هذا الحديث: “”قوله فقد برئ، أي: من الإثم بإنكاره، وفيه الدليل الواضح على أن من استطاع الإنكار فلم ينكر أنه غير بريء من الإثم، بل هو شريك فيه كما سيأتي والله أعلم”. [انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص (11)].
الأمر الثالث: أن ترك إنكار المنكر مع القدرة على الإنكار يوجب غضب الله ومقته وعقوبته ويلحق صاحبه اسم الذم.
[تنبيه]:
قد تقوم كثرة رؤية المنكرات مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئا فشيئا، إلى أن يراها الإنسان فلا تخطر بباله أنها منكرات، ولا يميز بفكره أنها معاصي؛ لما أحدث تكرارها من تألف القلب لها، وفي المثل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس. [انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص (93)].
(المسألة العاشرة): في وعيد من يأمر بالمعروف ولا يفعله أو ينهى عن المنكر ويفعله
الواجب على كل من الآمر والمأمور اتباع الحق المأمور به، وقد ورد الوعيد الشديد والتوبيخ والزجر البليغ على من يخالف قوله فعله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فمن ذلك:
(1) – قول الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}.
(2) – قول الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}.
(3) – ودلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم، يجر أمعاءه فيها، فأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله ? يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: أي فلان، ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه». [رواه البخاري ومسلم]، ومعنى تندلق أقتابه: تتدلى أمعاؤه والعياذ بالله، كما دل القرآن على أن المأمور إذا أعرض عن التذكرة كحمار أيضا، قال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة}.
(4) – وعن أنس قال: قال رسول الله ? «رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون». أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة.
وعن ابن عباس أنه جاء رجل فقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فقال ابن عباس أو بلغت ذلك؟ فقال: أرجوه، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} الآية، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} الآية، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ولقد أحسن القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم
والقائل الآخر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى … طبيب يداوي الناس وهو مريض
والقائل الآخر:
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر … به تلق من إياه تأمر آتيا
تنبيه:
هذا الوعيد الشديد الذي ذكر في الآيات والأحاديث من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض من نار، ومقت الله ليس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وإنما هو على ارتكابه المنكر عالما بذلك وهو ينصح الناس عنه، وعلى تركه المعروف عالما بذلك وهو يأمر الناس به ويرغبهم فيه ويحثهم عليه، فالوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه في حد ذاته خير وهدى،
وبهذا يتبين: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عن صالح ولا طالح كما سبق، وأن العدالة لا تشترط في الآمر والناهي، وأن المسلم عليه واجبان: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواجب العمل بما يأمر به من المعروف، واجتناب ما ينهى عنه من المنكر، فإذا فعل واحدا من الواجبين وترك واحدا، أو تركهما معا فعليه الوعيد.
وخلاصة القول: أنه لا تلازم بين أمر الإنسان بالمعروف وفعله له، ونهيه عن المنكر وتركه له، وأنه يجب على المسلم فعل ما يستطيع من ذلك، وعدم المانع فعليه الوعيد كما سبق في كلام القرطبي والنووي وغيرهما من العلماء [انظر أضواء البيان جـ (2) ص (172) – (173)، وتنبيه الغافلين لابن النحاس ص (110)، (111)].
[تنبيه:]
لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام عليه دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه ? أو إجماع المسلمين
وأما ما لا نص فيه فهو من مسائل الاجتهاد، ولا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرا؛ لأن المصيب مأجور بإصابته والمخطئ معذور، كما هو مقرر في علم الأصول. [انظر أضواء البيان جـ (2) ص (174)].
(المسألة الحادي عشر):
أ. أمثلة للمعروف الذي يأمر به المحتسب والداعي إلى الله تعالى
(1) – توحيد الله عزوجل. (2) – الإيمان بالرسول ?. (3) – الصلاة. (4) – الزكاة. (5) – الصيام. (6) – الحج. (7) – الصدق والأمانة. (8) – بر الوالدين وصلة الأرحام. (9) – ومن المعروف: حسن العشرة مع الأهل، والإحسان إلى الجيران والأيتام والأرامل والمساكين، والإحسان إلى الناس بماله وعلمه وجاهه، وحسن الخلق معهم وكف الأذى.
(10) – ومن المعروف: تلاوة كتاب الله بتدبر وتعقل، والإكثار من ذكر الله وشكره، واستعمال جوارحه في طاعة الله، واكتساب المال من وجوه الحلال، وإنفاقه في سبل الخيرات.
ب. أمثلة للمنكرات المتفشية في المجتمعات الإسلامية التي ينهى المحتسب ويحذر منها:
(1) – الكفر بالله والشرك به عز وجل.
وهو أعظم ذنب وأكبر معصية، وأعظم الكفر وأغلظه إنكار وجود الله وعبادة المادة، وهو مبدأ الشيوعية الحاقدة الملحدة، فإن مبدأهم -لا إله والحياة مادة- وقد انتشر هذا المبدأ في المجتمعات الإسلامية واعتنقه بعض شبابها، وألفت الكتب وقررت النظريات وألقيت المحاضرات التي تثبت وجود الله، وأن هذا الكون لا بد له من مدبر، ولا شك أن هذا الكفر والإلحاد أعظم أنواع الكفر على الإطلاق، وكفر كل كافر جزء من كفر هؤلاء.
وهو دعوة غير الله مع الله، أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كتعظيم الأولياء والصالحين بدعائهم، والاستغاثة بهم، والذبح أو النذر أو الاستعاذة بهم، أو الطواف حول قبورهم، وغير ذلك من أنواع العبادة التي هي خالص حق الله، وقد أخبر الله أن الشرك غير مغفور قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}،
وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم حينما يختصمون في النار هم والغاوون يتبين لهم ضلالهم حين سووهم بالله تعالى في العبادة، قال تعالى: {فكبكبوا فيها هم والغاوون} {وجنود إبليس أجمعون} {قالوا وهم فيها يختصمون} {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} {إذ نسويكم برب العالمين}.
ومن أنواع الكفر:
إنكار رسالة محمد ? أو اعتقاد أنها خاصة بالعرب، أو اعتقاد أن شريعته غير كاملة أو شاملة، أو لا تصلح لهذا العصر، أو الحكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاد أنه أحسن من حكم الله، أو مماثل له، أو له الخيرة في ذلك.
ومن أنواع الكفر التي يرتد بها عن الإسلام من وقع فيها:
الاستهزاء والسخرية بالله أو رسوله، أو كتابه أو سنته، أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة من الواجبات أو المحرمات بدون شبهة.
(2) – ترك الصلوات وإضاعتها، أو تأخيرها عن وقتها، أو التهاون بها وذلك من المنكرات العظيمة التي يجب على المحتسب إنكارها والتحذير منها.
(3) – مسابقة الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع وهي من المنكرات في الصلاة التي ابتلي بها كثير من المأمومين خداعا من الشيطان لهم.
(4) – ترك الطمأنينة في الصلاة، وعدم إتمام الركوع والسجود، والإساءة فيها، ونقرها كنقر الغراب.
(5) – أن يقصد بعمل الآخرة الدنيا وحطامها، أو الرياء والمفاخرة والسمعة.
(6) – التعامل بالربا. وهو من المنكرات المنتشرة في البلدان الإسلامية، وقد عده النبي ? من السبع الموبقات.
(7) – بيوع الغرر.
(8) – الغش في المعاملات، وتطفيف المكيال والميزان، والكذب والخيانة في الأمانات.
(9) – تبرج النساء واختلاطهن بالرجال، وخروجهن بالثياب الضيقة أو القصيرة.
وغير ذلك
(المسألة الثانية عشر): كيفية الإنكار، وولي الأمر نموذجا
كيفية الإنكار على من يفعل المنكر يختلف باختلاف حال الفاعل وما يناسب حاله، فينبغي للمحتسب أن يستعمل في إنكاره الكيفية التي تكون أنسب وأجدى في زوال المنكر، وذلك بأن يراعي مقامه ومنزلته، ثم يسلك معه أقرب الوسائل إلى حصول المقصود وهو الصلاح، فيكون قد أتى بالأمر والنهي بالصراط المستقيم، الذي أمر به، ومثله في ذلك كالطبيب الذي يعطي المريض من الدواء ما يناسب حاله ومزاجه،
وأما كيفية الإنكار على السلطان من قبل رعيته:
وإذا ارتكب السلطان منكرا فللرعية معه ثلاث حالات:
وقد دل الحديث الصحيح على هذه الحالات الثلاث للرعية مع السلطان، وهو حديث أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي ? قال: «أنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» أخرجه مسلم في صحيحه.
فقوله ? «فمن كره» أي: بقلبه، ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان، فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته. وقوله: «ومن أنكر فقد سلم» أي: من أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية.
وقوله: «ولكن من رضي وتابع» أي: من رضي بالمعصية وتابع عليها فهو عاص كفاعلها. [انظر أضواء البيان جـ (2) ص (177) – (178)]، ولا يجوز الإنكار على السلطان بالخروج عليه ومقاتلته كما سيأتي.
[تنبيه:]
داخل على الأمير أو السلطان بقصد الإنكار أو الموعظة، يجب أن يكون قصده في ذلك خالصا لله تعالى، وليحذر أن يقصد من الإنكار أو الموعظة التعرف بالسلطان وطلب المنزلة عنده، أو أن يقصد من الإنكار أو الموعظة طلب المحمدة من الناس وإطلاق ألسنتهم بالثناء عليه والشكر لصنيعه، واحترامهم وتقديرهم له، أو أن يقصد الشهرة والسمعة، فيقال عنه: أنه أغلظ للسلطان، وأقدم عليه بالكلام، ولم يبال بشيء، فيصير معظما عند الناس، ويخشاه أبناء جنسه، إلى غير ذلك من المقاصد.
وهذه المقاصد مذلة عظيمة يجب التفطن لها [انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص (62)].
(المسألة الثالثة عشر): في الأحوال التي يسقط فيها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفيه ثلاثة فصول:
(1) – الحال الأولى: عدم القبول والانتفاع به.
(2) – الحال الثانية: أن يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصول مفسدة أعظم من ذلك المنكر.
(3) – الحال الثالثة: عدم القدرة أو خوف الضرر.
يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأحوال التالية:
الحال الأولى: عدم القبول والانتفاع به:
يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مظنة النفع به فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما إذا وجدت هذه الصفات: الشح المطاع، والهوى المتبع، وإيثار الدنيا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه،
وهذه الأمور تكون عند فساد الزمان، ومروج الأديان، وكثرة الفتن والحروب، وظهور التغيير والتبديل في الدين، وانتشار شر المنافقين، وفقد المعين والمناصر.
فإذا عدمت فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط وجوبه، ومن الأدلة على ذلك؛ قوله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}. وما في سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقولون في هذه الآية: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}؟ قال: سألت عنها خبيرا، أما والله لقد سألت عنها رسول الله ? فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام» [الترمذي: تفسير القرآن ((3058))، وابن ماجه: الفتن ((4014))].
وما روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، قالوا: لم يأت تأويلها بعد، إنما تأويلها في آخر الزمان.
من ذلك: عن ابن عمر قال: «هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم».
وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة قالوا: «إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك حينئذ بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت». ومما سبق يتبين أن من علم أنه لا يقبل منه، لم يجب عليه الأمر والنهي، وحكي هذا رواية عن الإمام أحمد. [انظر تفسير ابن كثير جـ (3) ص (257) – (259)، وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (283) – (284)، وانظر تنبيه الغافلين لابن النحاس ص (106)].
الحال الثانية: أن يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصول مفسدة أعظم من ذلك المنكر.
يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر، فإن كان إنكار المنكر يستلزم حصول منكر أعظم من ذلك المنكر، فإنه يسقط وجوب الإنكار، بل لا يسوغ الإنكار والحال هذه؛ لما يأتي:
(1) – إجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين.
(2) – أن الشريعة الباهرة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، وبناء على ذلك، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة.
ومن أمثلة ذلك:
(1) – الإنكار على ولي الأمر بالخروج عليه، فإنه يستلزم منكرا أعظم، ولهذا كان من أصول أهل السنة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، ولهذا «أمر النبي ? بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، لما استأذن الصحابة رسول الله ? في قتالهم وقالوا: “أفلا نقاتلهم؟ -وفي رواية: أفلا ننابذهم بالسيف؟ – قال: لا ما أقاموا الصلاة». [مسلم: الإمارة ((1855))، وأحمد ((6) / (24)، (6) / (28))، والدارمي: الرقاق ((2797))، وانظر نيل الأوطار جـ (7) ص (182) – (183)]، وقال ?: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، ولا ينزعن يدا من طاعة». [الحديث متفق عليه انظر نيل الأوطار جـ (7) ص (181)]، وذلك لما في الخروج عليهم من الفتن العظيمة التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين وانتهاك أعراضهم وحرماتهم، ونهب أموالهم، واختلال أمنهم واستقرارهم.
(2) – لما فتحت مكة وصارت دار إسلام، عزم النبي ? على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، لكن منعه من ذلك خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر.
(3) – قال شيخ الإسلام ابن تيمية «مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم». [انظر أعلام الموقعين جـ (3) ص (14) – (17)، ومجموع الفتاوى جـ (28) ص (131)، وانظر أضواء البيان جـ (2) ص (175)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي -وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو تركوهما جميعا، لم يجز أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل أن ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة» اهـ[انظر مجموع الفتاوى جـ (28) ص (129) – (130)].
وقال الشيخ حمد بن ناصر: “لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه، وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه، أنه لا ينبغي، وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد [انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ (7) ص (31)].
وقال بعض علماء نجد: «وأيضا يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره» اهـ[انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج (7) ص (291)].
فالذي يترتب على تغيير المنكر وإنكاره واحد من أمور أربعة:
(1) – أن يزول ويخلفه ضده من المعروف وهذا مشروع.
(2) – أن يقل المنكر ويخف وإن لم يزل بجملته، وهذا مشروع أيضا.
(3) – أن يزول ويخلفه ما هو شر منه، وهذا محرم.
(4) – أن يزول ويخلفه ما هو مثله من المنكر، وهذا موضع اجتهاد من المنكر والناهي.
فمثلا: إذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، أو اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية، أو رأيتهم مجتمعين ومشتغلين بكتب المجون واللهو ونحوها، فإن نقلتهم إلى طاعة الله، وإلى ما هو أحب إلى الله ورسوله: كالرمي وسباق الخيل، أو تلاوة كتاب الله، وقراءة الكتب النافعة، كان ذلك خيرا، وإن لم يحصل ذلك فتركهم على ما هم عليه خير من أن يتفرغوا لما هو أعظم من ذلك، كالإقبال على كتب الضلال والبدع والسحر، أو التعدي على أموال الناس أو أعراضهم أو أبدانهم، ونحو ذلك من المفاسد. [انظر أعلام الموقعين جـ (3) ص (16)].
الحال الثالثة: عدم القدرة أو خوف الضرر:
يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون قادرا وأن لا يخشى ضررا على نفسه أو ماله أو أهله أو على المسلمين فإن عجز أو خاف الضرر، سقط عنه الوجوب وبقي الاستحباب.
وليس مجرد الهيبة مانعا من الإنكار، بل الخوف هو المسقط للإنكار، وله أن يزيل بيده ما فعله الظلمة من المنكرات، ويبطل بيده ما أمروا به من الظلم، إن كان له قدرة على ذلك، فإن خشي في الإقدام على الإنكار عليهم أن يؤذي أهله أو جيرانه، لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، وإن خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس، أو القيد أو النفي أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى، سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك: منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم.
قال أحمد: «لا يتعرض إلى السلطان فإن سيفه مسلول، فإن خاف السب أو سماع الكلام السيئ لم يسقط عنه الإنكار بذلك». نص عليه الإمام أحمد، وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل، نص عليه أحمد أيضا، ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي ? قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر». [رواه أبو داود وابن ماجه، كشف الخفاء للعجلوني جـ (1) ص (173)].
وأما حديث: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه». [رواه أحمد والترمذي وصححه عن جندب وابن ماجه عن حذيفة، كشف الخفاء جـ (2) ص (524)]، فإنما يدل على أنه إذا علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه، فإنه لا يتعرض حينئذ للأمراء، وهذا حق، وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر على ذلك. [انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (282) – (283)].
وقال القرطبي أيضا: «قال ابن عطية والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه» اهـ[انظر تفسير القرطبي جـ (4) ص (48)].
وقال القرطبي أيضا في تفسيره على آية النساء: {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}، قال: «فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية» اهـ[انظر تفسير القرطبي جـ (5) ص (418)].
ولا يجوز للعاجز عن تغيير المنكر الدخول إلى أماكن الظلم والفسق، ومواطن المعاصي والمنكرات من غير ضرورة.
قال ابن النحاس في كتابه «تنبيه الغافلين»: «من علم أن بموضع من بلده منكرا لا يرجع إليه في إنكاره، لزمه أن لا يحضر ذلك الموضع، ويعتزل في بيته؛ حتى لا يشاهده، ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب؛ لأن عجزه عن الإنكار ليس عذرا في مشاهدته هذا المنكر من غير ضرورة» اهـ[انظر ص (106) من كتابه].
[تنبيه:] الإنكار بالقلب لا يسقط عن أحد هذه الأحوال التي يسقط منها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما يسقط فيها وجوب الإنكار باليد واللسان، وأما الإنكار بالقلب فلا يسقط عن أحد، بل هو فرض على كل مسلم كما سبق.
(1) – خطر المداهنة في دين الله:
يرى كثير من الناس أن العقل إرضاء الناس جميعهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم وشهواتهم، واستجلاب مودتهم، بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول قائلهم: أصلح نفسك بالدخول مع الناس وموافقتهم، ولا تبغض نفسك عندهم، وهذا المسلك خط كثير من الناس، وهذا عقل نفاقي شيطاني، وهو عين الهلاك وثمرة النفاق، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن المداهن ترك واجبا عظيما من واجبات الإسلام:
وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل الناس، والله تعالى يقول: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} فنهانا الله تعالى أن تأخذنا رأفة في دين الله تمنعنا من إقامة الحد، سواء كانت رأفة طبيعية، أو لأجل قرابة، أو لأجل صداقة، أو غير ذلك، وبين أن الإيمان موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله.
الثاني: أن المداهن قد التمس رضا الناس بسخط الله، وقدم رضا الناس على رضا الله.
وفي حديث عائشة الذي كتبته لمعاوية أن النبي ? قال: «من التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن التمس رضا الله بسخط الناس، وأرضى عنه الناس». [رواه ابن حبان في صحيحه المرفوع منه فقط، الترغيب والترهيب خاص. بلفظ: (من التمس رضا الله بسخط الناس … ) الحديث].
الثالث: أن المداهن قد تسبب في غضب الله عليه ولعنته:
قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}.
الرابع: أن المداهن لا بد أن يفتح الله له بابا من الذل والهوان:
لأنه طلب العز بمداهنته، فكما هان عليه أمر الله أهانه الله وأذله {نسوا الله فنسيهم}.
وقال بعض السلف «من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين، نزعت منه الطاعة، فلو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه».
الخامس: أن المداهن تعمه العقوبة إذا نزلت: كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، والنجاة هي لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء}.
السادس: أن المداهن الطالب رضا الخلق أخبث حالا من الزاني والسارق وشارب الخمر:
وقد قال الشيخ المجدد، شيخ الإسلام محمد التميمي رحمه الله في أناس يجلسون في المسجد على مصاحفهم يقرءون ويبكون، ولكنهم إذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، قال: «إنهم من العمي البكم».
ويشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف: أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق [من رسالة للشيخ حمد بن عتيق في الدرر السنية جـ (7) ص (37) – (39)].
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: قال ابن القيم رحمه الله تعالي-: «وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله، وأكثر الديانين لا يعبئون منها إلا بما شاركهم في عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله وكتابه ودينه، فهذه الواجبات لا يخطرن ببالهم، فضلا عن أن يريدوا فعلها، فضلا عن أن يفعلوها، وأقل الناس دينا، وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعا، وقل أن يرى منهم من يحمر وجهه، ويتمعر في الله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء انتهى». اهـ[انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ (7) ص (37) – (39)].
وقال ابن القيم رحمه الله: “وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء أقل الناس دينا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي، -ثم قال- ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله ? وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا، والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله ? يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس؟! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل» اهـ[انظر أعلام الموقعين جـ (2) ص (157) – (158)، وقد سبق نقل كلامه رحمه الله في الباب الأول في إثم الساكت مع القدرة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن أعدناه لمناسبته للمقام وأهميته، مع زيادة في النقل ونقص].
(2) – الفرق بين المداراة والمداهنة
المداهنة: هي ترك ما يجب لله من الغيرة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لغرض دنيوي وهو نفساني، والاستئناس بأهل المعاصي ومعاشرتهم، ومؤاكلتهم ومشاربتهم ومجالستهم، وعدم الإنكار عليهم مع القدرة على الإنكار؛ استجلابا لمودتهم ومحبتهم، وإرضاء لهم، ومسالمة لهم وعدم التمييز بين طبقاتهم، لأنهم رأوا أن السلوك مع الناس، وحسن الخلق ونيل المعيشة، لا يحصل إلا بذلك.
حكم المداهنة: المداهنة مخالفة للرسل وأتباعهم، وخروج عن سبيلهم ومنهاجهم، إذ هي إيثار للحظوظ النفسانية والدعة ومسالمة الناس، وترك المعاداة في الله، وتحمل الأذى في ذاته، وهذا في الحقيقة هو الهلكة؛ لأنه ما ذاق طعم الإيمان من لم يوال في الله ويعادي فيه، بل الإيمان يحصل بمراغمة أعداء الله وإيثار مرضاته، والغضب إذا انتهكت محارمه، وأي خير يبقى في قلب فقد الحياة والغيرة والتعظيم، وعدم الغضب لله؟! وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته؟!
والمداراة: هي درء الشر المفسد بالقول اللين وترك الغلظة، والإعراض عن الشرير إذا خيف شره، أو حصل منه ضرر أكبر مما هو متلبس به.
حكم المداراة: المداراة مشروعة؛ لأنها دفع للشر ورد له، أو تخفيف له، ولأن في استعمالها بعدا عن الفحش والتفحش، ولأنها من باب ارتكاب أخف الضررين، وأدنى المفسدتين، وفعل أعلى المصلحتين، وفي الحديث: «شركم من اتقاه الناس خشية فحشه» [الحديث أخرجه مسلم بلفظ: (إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من ودعه أو تركه)] أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وعن عائشة رضي الله عنها أنه «استأذن على النبي ? رجل، فقال: “بئس أخو العشيرة هو، فلما دخل على النبي ? ألان له الكلام، فقالت عائشة قلت فيه يا رسول الله ما قلت. فقال: إن الله يبغض الفحش والتفحش» [البخاري: الأدب ((6054))، ومسلم: البر والصلة والآداب ((2591))، والترمذي: البر والصلة ((1996))، وأبو داود: الأدب ((4791)، (4792))، وأحمد ((6) / (38))، انظر الخفاء جـ (1) ص (281)]، من رسالة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، انظر الدرر السنية جـ (7) ص (35)]. [المسائل السابقة من القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ الراجحي (5 – 177)، بتصرف يسير].
(المسألة الرابعة عشر):
“الإمامة هي: «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع». الأحكام السلطانية للماوردي = ((1) / (60))، وانظر في تعريفها أيضا: المقدمة لابن خلدون (ص (190))، وغياث الأمم لأبي المعالي الجويني (ص (55))، وكتاب «المواقف» للإيجي ((3) / (574)).
إذا نصب الإمام وتمت له البيعة، فإن له حقوقا على رعيته، ومن تلك الحقوق: أن يبذلوا له النصح بالطرق التي بينها لنا الشرع الحكيم.
وقد دل الكتاب والسنة على مشروعية النصح لمن ولاه الله أمر المسلمين:
قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: (59)].
قال فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله- في كتابه قطف الجنى الداني (ص (170)): «حق ولاة الأمر على الرعية النصح لهم بالسمع والطاعة لهم في المعروف، والدعاء لهم، وترك الخروج عليهم ولو كانوا جائرين». وانظر الروضة الندية لصديق حسن خان ((3) / (510)).
وأما من السنة فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه ((55)) عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي ? قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي ? قال: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم». أخرجه الترمذي في السنن ((4) / (395) رقم (2658)) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم ((2658)). = قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ((2) / (227)): «وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم».
وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص (153)): «وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عزوجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله».
وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه «فضيلة العادلين من الولاة» ((139)): «من نصح الولاة والأمراء اهتدى، ومن غشهم غوى واعتدى».
أما طريقة نصح الوالي أو الإمام فهي ليست اجتهادية كل بحسب ما يرى، وإنما هي توقيفية جاء النص الصريح من النبي ? ببيان كيفيتها.
فعن عياض بن غنم رضي الله عنه، عن النبي ? أنه قال: «من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له». رواه أحمد في المسند ((3) / (403))، والحاكم في المستدرك ((3) / (329)) وصححه، وابن أبي عاصم في السنة ((1096)) وصححه الألباني في ظلال الجنة.
فهذه هي الطريقة النبوية في نصح الإمام: أن تكون سرا بينهما، وألا تكون على رؤوس الأشهاد، وأن تكون برفق ولين وحرص على مصلحة المنصوح.
وقد ترجم الصحابة الكرام أمر النبي ? عمليا، فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقال له ألا تدخل على عثمان رضي الله عنه فتكلمه؟ فقال: «أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه. ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه». أخرجه البخاري ((3267))، ومسلم ((2989)).
قال ابن حجر معلقا على فعل أسامة بن زيد رضي الله عنهما: «أي: كلمته فيما أشرتم إليه، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السر، بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها». فتح الباري ((13) / (65)).
وقال أحمد بن النحاس في كتابه «تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين» (ص (64)): «يختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد».
وقال الإمام الشوكاني في كتابه «السيل الجرار» ((4) / (556)): «ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده، ويخلو به، ويبذل له النصيحة، ولا يذل سلطان الله».
وللمزيد في عرض منهج السلف في كيفية نصح الإمام فإني أحيل القارئ الكريم إلى كتاب «معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة» للشيخ الدكتور عبد السلام بن برجس العبد الكريم رحمه الله (ص (103) – (132)). [حاشية: الآثار الواردة عن السلف في العقيدة من خلال كتب المسائل المروية عن الإمام أحمد (2/ 529 – 532)].
(المسألة الخامسة عشر): الفتاوى
[1] هل يجب على المؤمن إنكار كل منكر يراه؟
السؤال:
إنه كما نعرف قد كثرت المُنكرات والمفاسد، وانتشر الخبث في البر والبحر، فهل على المسلم أن يُنكر كلَّ ما يرى من المفاسد أم ماذا عليه؟
الجواب:
الواجب على المؤمن أن يُنكر، وإنما جاءت المصيبة العظيمة من التَّساهل، وهذا يقول: هذا على غيري، وهذا يحقر نفسه ولا يرى أنه أهلًا لأن يُنكر، وهذا يخاف أن يُقابَل بما لا ينبغي، وهذه مصيبة عظيمة.
الرسل عليهم الصلاة والسلام ما خافوا، بذلوا المستطاع، مع أنهم استهزأ بهم الناس، وسخروا بهم، وآذوهم، بل قُتِل بعضُهم، كما سمعت في القرآن: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21]، في آيات، فلم تمنعهم مخافة الناس من أداء الواجب.
فالواجب على أهل العلم وعلى المؤمنين التأسِّي بهم، وألا يمنعهم من ذلك خوف الناس، أو قول بعض الناس: عليك بنفسك، اشتغل بنفسك، أو السخرية منه، أو غير هذا مما يفعله الجهلةُ والسُّفهاء، لا، لا يهمّك هذا، اتَّقِ الله، واعمل، فإن قُبِلَ منك فهذا المطلوب، وإن لم يُقبل منك برئت الذمةُ.
وأنتم تعلمون ما جرى للنبي ? في مكة، ولم يمنعه هذا من الدَّعوة إلى الله، وأُوذي، وهكذا المؤمنون في مكة، وهكذا في كل بلادٍ من حين بعث الله نبيه إلى يومنا هذا، بل من حين نزل آدم في الأرض، فالبلاء حاصلٌ، وقد قصَّ الله علينا ما جرى بين ابنيه: قابيل وهابيل، حتى قتل أحدُهما الآخر.
فالأمر موجودٌ من عهد آدم إلى يومنا هذا، لا بدّ من إنكار المنكر، ولا بدّ من الصبر، يقول الله عن لقمان يقول لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17]، والله يقول في كتابه العظيم: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ويقول عمر رضي الله عنه: “وجدنا خير عيشنا بالصبر”، ويقول عليٌّ رضي الله عنه: “الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد”، ثم رفع صوته فقال: “ألا لا إيمان لمن لا صبرَ له” يعني: لا إيمان كامل، مَن لا يصبر؛ ضعف إيمانه، ووقع في أغلاطٍ.
ومن ذلك مسألة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر: في بيتك، في الطريق، حسب الطاقة، إن سمعت الغناء أنكرته، إن رأيت تهاونًا بالصلاة أنكرته، إن رأيتَ مَن يشرب الخمر أو يُدخن أنكرتَ عليه، إن رأيتَ مَن يعقّ والديه أو أحدهما أنكرتَ عليه، وهكذا كل معصيةٍ تعرفها أنها معصية، عندك الدليل، لا تأمر ولا تنهى إلا عن علمٍ، عن بصيرةٍ، فإذا تكلمت عن بصيرةٍ فأنت على خيرٍ، حتى ولو رُدَّ عليك، حتى ولو استُهزئ بك، حتى لو ضُربت أنت، هذا خيرٌ لك؛ أسوة بالأنبياء والأخيار. [هل يجب على المؤمن إنكار كل منكر يراه؟ فتاوى الدروس للإمام ابن باز].
[2] بيان معنى تغيير المنكر باليد
س: يقول السائل: ما هو حد تغيير المنكر باليد، حيث يقول الرسول ?: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم ((49))]، ما
هو حد تغيير المنكر باليد؟
ج: هذا حديث صحيح رواه مسلم في الصحيح، وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، مثله في المعنى، والتغيير باليد معناه إزالة المنكر، مثل تفريق الجماعة الذين يجلسون على منكر يفرقهم، أو يتخلفون عن الصلاة في الجماعة، يفرقهم ويلزمهم بالتوجه إلى المساجد،، مثل إراقة الخمر، كسر المزمار، كل هذا التغيير باليد، ولكن هذا ليس لكل أحد، إنما هو لمن يقدر كالإنسان في بيته، على أولاده، والأمير على من تحت يده، والسلطان في الرعية، وولي الأمر يأذن لمن يرى من الرعية، كالهيئة وأصحاب الحسبة والشرطة، ونحوهم ممن يوكل إليه مثل هذه الأمور، أما الإنسان الذي ليس له سلطة، فحسبه أن يغير باللسان وبالقلب، لا باليد؛ لأنه إذا غير باليد حصل فتن وشرور، ومضاربات وشيء لا تحمد عاقبته، والدولة في هذه البلاد تمنع من ذلك، إلا من طريق من وكل إليهم هذا الأمر، كالهيئات ونحوهم ممن وكله إليه الأمير، فالمؤمن في مثل هذا ينكر بلسانه في الأسواق وينصح بلسانه، ويوجه إلى الخير بلسانه، أما بيده فيكون لأهل الحسبة، ومن وكل إليهم هذا الأمر، وليس لكل فرد.
[السؤال الخامس من الشريط رقم ((204))، فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر، رقم ((205))].
===