(2985، 2986، 2987) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، ومحمد البلوشي. ومحمد فارح وأسامة الحميري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، 7 –
(46) – ((2985)) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا رَوْحُ بْنُ القاسِمِ، عَنِ العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى: أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ»
(47) – ((2986)) حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِياثٍ، حَدَّثَنِي أبِي، عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «مَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، ومَن راءى راءى اللهُ بِهِ»
(48) – ((2987)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا وكِيعٌ، عَنْ سُفْيانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبًا العَلَقِيَّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «مَن يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ بِهِ، ومَن يُرائِي يُرائِي اللهُ بِهِ»،
(48) – وحَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، حَدَّثَنا المُلائِيُّ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، بِهَذا الإسْنادِ، وزادَ ولَمْ أسْمَعْ أحَدًا غَيْرَهُ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?،
(48) – حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأشْعَثِيُّ، أخْبَرَنا سُفْيانُ، عَنِ الوَلِيدِ بْنِ حَرْبٍ – قالَ سَعِيدٌ: أظُنُّهُ قالَ: ابْنُ الحارِثِ بْنِ أبِي مُوسى – قالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ، قالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبًا – ولَمْ أسْمَعْ أحَدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? غَيْرَهُ – يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: بِمِثْلِ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ،
(48) – وحَدَّثَناهُ ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، حَدَّثَنا الصَّدُوقُ الأمِينُ الوَلِيدُ بْنُ حَرْبٍ بِهَذا الإسْنادِ
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((7))]- (بابُ: مَن أشْرَكَ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ اللهِ) “).
وفي نسخة الإتيوبي رحمه الله: (باب: تحريم الرياء، والسمعة).
«الرياء»: بكسر الراء، وتخفيف التحتانية، والمد: مشتق من الرؤية، والمراد به: إظهار العبادة؛ لقصد رؤية الناس لها، فيحمدوا صاحبها.
«والسمعة»: بضم السين المهملة، وسكون الميم: مشتقة من سمع، والمراد بها نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر، وقال الغزالي: المعنى: طلب المنزلة في قلوب الناس، بأن يريهم الخصال المحمودة، والمرائي هو العامل، وقال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله، والسمعة أن يخفي عمله لله، ثم يحدث به الناس. [الفتح، ((14) / (664))، كتاب الرقاق، رقم ((6499))].
وهذا الباب يرتبط بكتاب الزهد والرقائق؛ لأن الزهد هو ترك الدنيا والإعراض عن زخارفها، وأحد مظاهر الدنيا هو الرياء والسمعة، إذ أن الرياء يكون حباً للظهور والتقدير من الناس.
فالزهد الحقيقي يقترن بالإخلاص لله وحده، بعيداً عن أي محاولة لكسب مدح الناس أو الاهتمام بأفعالهم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7444)] ((2985)) -الحديث
شرح الحديث:
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه؛ أنه (قال: قال رسول الله ?: “قال الله تعالى:) هذا هو الذي يسمى الحديث القدسي، (أنا أغنى الشركاء)، أي: أغنى من يزعم أنهم شركاء على فرض أن لهم غنى، (عن الشرك)؛ أي: عما يشركون به مما بيني وبين غيري في قصد العمل، والمعنى: ما أقبل إلا ما كان خالصا لوجهي، وابتغاء لمراتي.
وقال القرطبي رحمه الله: أصل الشرك المحرم: اعتقاد شريك لله تعالى في إلهيته، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل، وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها، ويلي هذا في الرتبة الإشراك في العبادة، وهو الرياء، وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله تعالى بفعلها له لغير الله، وهذا هو الذي سيق الحديث لبيان تحريمه، وأنه مبطل للأعمال؛ لهذا أشار بقوله: «من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشريكه»، وهذا هو المسمى بالرياء، وهو على الجملة مبطل للأعمال، وضده الإخلاص، وهو من شرط صحة العبادات، والقرب. انتهى [«المفهم» (6) / (615)].
[تنبيه]: قال القاري: لا يضره قصد الجنة وتوابعها مثلا، فإنها من جملة مرضاته سبحانه، وإن كان المقام الأكمل أن لا يعبده لطمع جنة، أو خوف نار، فإنه عد كفرا عند بعض العارفين. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: كلام القاري هذا يعد من هفوات العلماء، فكيف تكون عبادة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين كفرا؟ قال الله تعالى في وصف الأنبياء عليهم السلام: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء: (90)] وقال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} [السجدة: (16)] وقال: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} [النور: (37)] وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده} [لقمان: (33)] إلى غير ذلك من الآيات، فمن اعتقد أن العبادة لخوف النار، والطمع في الجنة يعد كفرا فهو ضال مضل، وأما الذي نقله القاري، فهو منقول عن قوم جهلاء، لا يعرفون نصوص الكتاب والسنة، فلا تغتر بنقل مثله عنهم، فإنه عين الضلال، والله تعالى المستعان.
وقوله: (تركته وشركه) خبر «من»، والواو بمعنى «مع»، أو المعنى: تركته عن نظر الرحمة، وتركت عمله المشترك عن درجة القبول، وفي رواية: «فأنا منه بريء» قيل: من ذلك العمل، والأظهر من عامل ذلك العمل؛ لئلا يكون تكرارا مع قوله: «هو للذي عمله»: «هو»؛ أي: ذلك العمل «للذي عمله»؛ أي: لأجل، ممن قصده بذلك العمل رياء، وسمعة، وهو تأكيد لما قبله.
قال القاري عفا الله عنه: ولنذكر بقية كلام الشراح، فقال ابن الملك رحمه الله: «أغنى» أفعل تفضيل من غني به عنه غنية؛ أي: استغنى به عنه، وإضافته إما للزيادة المطلقة؛ أي: أنا غني من بين الشركاء، وإما للزيادة على ما أضيف إليه؛ أي: أنا أكثر الشركاء استغناء عن الشرك؛ لكون استغنائه من جميع الجهات، وفي جميع الأوقات، قال القاري: وفيما ذكره من الوجه الثاني ما لا يخفى.
وقال الطيبي رحمه الله: اسم التفضيل هنا لمجرد الزيادة، والإضافة فيه للبيان، أو على زعم القوم، قال القاري: وفيه أن وجه الإضافة للبيان يحتاج إلي مزيد البيان، وكأنه أراد أن معناه: أنا غني مما بينهم دونهم، ثم قال: والضمير المنصوب في «تركته» يجوز أن يرجع إلى العمل، والمراد من الشرك: الشريك.
قال النووي رحمه الله: معناه: أنا غني عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه مع ذلك الغير.
ويجوز أن يرجع إلى العامل، والمراد بالشرك: الشركة، وقوله: «وهو» يعود إلى العمل على الوجه الأول، وإلى العامل على الوجه الثاني؛ أي: العامل لما عمل به من الشرك؛ يعني: يختص به، ولا يتجاوز عنه، وكذا الضمير في «منه»، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.
(مسالة): قد تكلم العلماء في الرياء، وأقسامه، فمنهم:
الغزالي عفا الله عنه حيث قال: درجات الرياء أربعة أقسام:
الأولى: وهي أغلظها، أن لا يكون مراده الثواب أصلا، كالذي يصلي بين أظهر الناس، ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرد قصده للرياء، فهو الممقوت عند الله تعالى.
والثانية: أن يكون له قصد الثواب أيضا، ولكن قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة، لكان لا يفعله، ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن الثواب لكان قصد الرياء يحمله على العمل، فقصد الثواب فيه لا ينفي عنه المقت.
والثالثة: أن يكون قصد الثواب والرياء متساويين، بحيث لو كان واحد خاليا عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم رأسا برأس.
والرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحا مقويا لنشاطه، ولو لم يكن لم يترك العبادة، ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم، فالذي نظنه، والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب، ولكنه ينقص منه، أو يعاقب على مقدار قصد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب.
وأما قوله: «أنا أغنى الشركاء» فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان، أو كان قصد الرياء أرجح. انتهى، ذكره القاري في «المرقاة» [«مرقاة المفاتيح» (15) / (244)].
وقد أجاد الحافظ ابن رجب رحمه الله في هذا البحث في كتابه الممتع «جامع العلوم والحكم»، وفصله تفصيلا مستوعبا لأقسامه، حيث قال:
واعلم: أن العمل لغير الله أقسام:
فتارة: يكون رياء محضا، بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين؛ لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس} الآية [النساء: (142)] وقال تعالى: {فويل للمصلين} [الماعون: (4)] وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض، في قوله: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس} [الأنفال: (47)] وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة، والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله، والعقوبة.
وتارة: يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضا، وحبوطه.
وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ? قال: «يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه»، وخرجه ابن ماجه، ولفظه: «فأنا منه بريء وهو للذي أشرك».
وخرج الإمام أحمد عن شداد بن أوس، عن النبي ? قال: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، فإن الله عزوجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئا، فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني».
وخرج الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة، وكان من الصحابة، قال: قال رسول الله ?: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله عزوجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
وخرج البزار في «مسنده» من حديث الضحاك بن قيس، عن النبي ? قال: «إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكا، فهو لشريكه، يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أخلص له، ولا تقولوا: هذا لله والرحم، فإنها للرحم، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم، وليس لله منها شيء».
وخرج النسائي بإسناد جيد، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي ?، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر؟ فقال رسول الله- ?: «لا شيء له»، فأعادها عليه ثلاث مرات، يقول له رسول الله- ?: «لا شيء له»، ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغي به وجهه».
وخرج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف الموقف أريد به وجه الله، وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ? شيئا، حتى نزلت: {فمن كان يرجو لقاء ربه} [الكهف: (110)].
وممن يروى عنه هذا المعنى أن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلا طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة، عن النبي ? قال: «لا يقبل الله عملا فيه مثقال حبة من خردل من رياء»، ولا نعرف عن السلف في هذا خلافا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين.
فإن خالط نيته الجهاد مثل نية غير الرياء مثل أخذه أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة، أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده، ولم يبطل بالكلية.
وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي ? قال: «إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئا تم لهم أجرهم».
وقد وردت أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا.
وقال الإمام أحمد: التاجر، والمستأجر، والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه، وماله، لا يخلط به غيره.
وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد: إذا لم يخرج إلا لأجل الدراهم، فلا بأس أن يأخذ، كأنه خرج لدينه، فإن أعطي شيئا أخذه، وكذا روي عن عبد الله بن عمرو قال: إذا جمع أحدكم على الغزو، فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك، وأما أحدكم إن أعطي درهما غزا، وإن منع درهما مكث، فلا خير في ذلك، وكذا قال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأسا.
غيره.
وهكذا يقال فيمن أخذ شيئا في الحج؛ ليحج به، إما عن نفسه، أو عن غيره
وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الحمال، وحج الأجير، وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجورهم شيء، وهذا محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج، دون التكسب.
وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء، فلا يضره، فإن كان خاطرا، ودفعه فلا يضره بغير خلاف،
فإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك، ويجازى على أصل نيته؟
في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري، وغيره.
ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في «مراسيله» عن عطاء الخراساني، أن رجلا قال: يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا.
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية، وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال: ربما أحدث بحديث، ولي فيه نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات.
ولا يرد على هذا الجهاد، كما في مرسل عطاء الخراساني، فإن الجهاد يلزم بحضور الصف، ولا يجوز تركه حينئذ، فيصير كالحج.
فأما إذا عمل العمل لله خالصا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، بفضل ورحمة، واستبشر بذلك لم يضره ذلك.
وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي ? أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، يحمده الناس عليه، فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن». خرجه مسلم، وخرجه ابن ماجه، وعنده: «الرجل يعمل العمل، فيصحبه الناس عليه»، وبهذا المعنى فسره الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن جرير الطبري، وغيرهم.
وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة رض الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله الرجل يعمل، فيسره، فإذا اطلع عليه أعجبه؟ فقال: «له أجران: أجر السر، وأجر العلانية».
ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على الإخلاص والرياء، فإن فيه كفاية.
وبالجملة فما أحسن قول سهل بن عبد الله: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.
وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أوف به لك، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد عملت. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله [«جامع العلوم والحكم» (1) / (79) – (84)]، وهو بحث نفيس، وتحقيق أنيس والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7445)] ((2986)) – الحديث
شرح الحديث:
ولابن المبارك في «الزهد» من حديث ابن مسعود رض الله عنه: «من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به، ومن تطاول تعاظما خفضه الله، ومن تواضع تخشعا رفعه الله».
ووقع عند الطبراني من طريق محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن جابر رضي الله عنه في آخر هذا الحديث: «ومن كان ذا لسانين في الدنيا، جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة».
قال الخطابي رحمه الله: معناه: من عمل عملا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس، ويسمعوه جوزي على ذلك، بأن يشهره الله، ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه،
وقيل: من قصد بعمله الجاه، والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله، فإن الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة،
قال الحافظ: ورد في عدة أحاديث التصريح بوقوع ذلك في الآخرة، فهو المعتمد، فعند أحمد، والدارمي من حديث أبي هند الداري، رفعه: «من قام مقام رياء وسمعة، رأى الله به يوم القيامة، وسمع به»، وللطبراني من حديث عوف بن مالك نحوه، وله من حديث معاذ، مرفوعا: «ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء، إلا سمع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة»، والله تعالى أعلم.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنف رحمه الله.
وقال الإمام مسلم رحمه الله أيضًا:
[(7446)] ((2987)) – الحديث
حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
فوائد الأحاديث:
(1) – (منها): تحريم الرياء والسمعة، إذ هما يحبطان الأعمال الصالحة.
(2) – (ومنها): الحث على إخلاص العمل لله عز وجل؛ لأنه الذي ينفع عامله.
(3) – (ومنها): الحث على إخفاء العمل الصالح؛ لكونه أبعد عن الرياء والسمعة، قال العلماء: لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة، قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به، أو لينتفع به، ككتابة العلم، ومنه حديث سهل رض الله عنه مرفوعا: «لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي»، قال الطبري: كان ابن عمر، وابن مسعود، وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم، ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إماما يستن بعمله، عالما بما لله عليه، قاهرا لشيطانه، استوى ما ظهر من عمله، وما خفي؛ لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك، فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف.
فمن الأول: حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: سمع النبي ? رجلا يقرأ، ويرفع صوته بالذكر، فقال: «إنه أواب»، قال: فإذا هو المقداد بن الأسود رضي الله عنه، أخرجه الطبري.
ومن الثاني: حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قام رجل يصلى، فجهر بالقراءة،
فقال له النبي ?: «لا تسمعني، وأسمع ربك»، أخرجه أحمد، وابن أبي خيثمة، وسنده حسن، قاله في «الفتح» [«الفتح» (11) / (336)]، والله تعالى أعلم.
[البحر المحيط الثجاج للإتيوبي رحمه الله، بتصرف].
4 – ذكر ابن مفلح في الفروع فقال: وقال المروذي لأحمد: الرجل يدخل المسجد فيرى قوما فيحسن صلاته؟ يعني الرياء، قال: لا، تلك بركة المسلم على المسلم. اهـ.
ولا يفيد هذا الكلام أن الداخل يرى القوم فيعمل مثل عملهم، وإنما يحمل على أنه يتأنى في صلاته، لئلا يساء به الظن، أو أنه يعيدها لنيل أجر الجماعة. فقد قال ابن مفلح في الفروع بعد ذكره لكلام الإمام أحمد: وجهه القاضي بانتظاره، والإعادة معه، وإلا قصده، واختار في النوادر إن قصد ليقتدى به، أو لئلا يساء به الظن جاز، وذكر قول أحمد … اهـ.
ولو أنه عمل مثل عملهم أياما ثم أصابه فتور، فالعيب ليس في عمله الذي أصاب فيه، وإنما يعاب تقصيره المتجدد، فعليه أن يجاهد نفسه ويحملها على الاستقامة على طريق الحق.
5 – “النية شرط في جميع العبادات.
والكلام على النية من وجهين:
الأول: من جهة تعيين العمل ليتميز عن غيره، فينوي بالصلاة أنها صلاة وأنها الظهر مثلا، وبالحج أنه حج، وبالصيام أنه صيام، وهذا يتكلم عنه أهل الفقه.
الثاني: قصد المعمول له، لا قصد تعيين العبادة، وهو الإخلاص وضده الشرك، والذي يتكلم على هذا أرباب السلوك في باب التوحيد وما يتعلق به، وهذا أهم من الأول؛ لأنه لب الإسلام وخلاصة الدين، وهو الذي يجب على الإنسان أن يهتم به. [الشرح الممتع على زاد المستقنع، (1/ 194)].
6 – الشرك نوعان:
أكبر وأصغر؛ فمن خلص منهما، وجبت له الجنة، ومن مات على الكبر وجبت له النار؛
فالشرك الأكبر: كالسجود، والنذر لغير الله،
والأصغر: كالرياء، والحلف بغير الله إذا لم يقصد تعظيم المخلوق كتعظيم الله تعالى. [تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران لأحمد آل بوطامي ص (38) – (39)].
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: وأما الشرك الأصغر؛ فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك؛ كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله، وكيسير الرياء، ونحو ذلك. [انظر القول السديد شرح كتاب التوحيد لابن سعدي ص (24)].
8 – والدليل على الشرك الأصغر: قول الله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: (110)]. وقوله ?: «يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه». [صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله].
9 – حكم الشرك الأصغر، مع دليله
سبق في مسألة الفرق بين الشرك الأكبر الأصغر. [انظر: الرد على البكري لابن تيمية ص (146). وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص (98). والشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد ص (188) – (189)].
10 – الفرق بين نوعي الشرك
(1) – الأكبر كفر، والأصغر أكبر الكبائر بعد الشرك الكبر.
(2) – الأكبر محبط للأعمال كلها، والأصغر يحبط ما خالط أصله، أو غلب على العمل.
11 – الشرك قسمان: خفي وجلي.
فالجلي: ما كان بالقول مثل: الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت، أو بالفعل مثل: الانحناء لغير الله تعظيما.
والخفي: ما كان في القلب، مثل الرياء؛ لأنه لا يبين، إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله،
ويسمى أيضا «شرك السرائر»، وهذا هو الذي بينه الله بقوله: {يوم تبلى السرائر}، [الطارق: (9)]؛ لأن الحساب يوم القيامة على السرائر، قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور}، [العاديات: (9) – (10)]. [القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (ت (1421)) رحمه الله، (2/ 124 – 148)، بتصرف يسير].
12 – قال الشيخ الإمام ابن عثيمين رحمه الله:
الأولى قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}.
{لا}: نافية، {أن يشرك به}: فعل مضارع مقرون بأن المصدرية، فيحول إلى مصدر تقديره: أن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكاً به، فالشرك لا يغفره الله أبداً، لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي، كالزنا والسرقة، فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة، أما الشرك، فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟
قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك ولو أصغر، كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب، كالسرقة والخمر، فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقاً، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر، لأن قوله: {أن يشرك به} أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكاً به، فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم. قوله: {ويغفر ما دون ذلك}، المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك، وليس ما سوى الشرك. اهـ القول المفيد (1/ 140 ـ 141) دار ابن الجوزي طبعة ثلاثة مجلدات، الطبعة الأولى في جمادى الأولى 1417هـ.
13 – ذكر ابن القيم قول من قال لا أعبد الله لجنته ولا لناره ثم ذكر الأدلة من القرآن والسنة التي فيها الدعاء بدخول الجنة والأستعاذة من النار ثم قال:
والتحقيق أن يقال: الجنَّة ليست اسمًا لمجرَّد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور. وأكثر الناس يغلطون في مسمَّى الجنَّة، فإنَّ الجنّة اسمٌ لدار النعيم المطلق الكامل. ومن أعظم نعيم الجنَّة: التمتُّع بالنظر إلى وجه الرب وسماعِ كلامه، وقرَّةُ العين بالقرب منه ورضوانِه. فلا نسبة لِلَذَّةِ ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصُّور إلى هذه اللَّذَّة أبدًا، فأيسر يسيرٍ من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك، كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، وأتى به منكَّرًا في سياق الإثبات، أي: أيُّ شيءٍ كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنَّة.
قليلٌ منك يقنعني ولكن … قليلك لا يقال له قليلُ
وفي الحديث الصحيح حديث الرُّؤية: «فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى وجهه». وفي حديثٍ آخرَ أنَّه سبحانه إذا تجلَّى لهم ورأوا وجهَه عِيانًا، نَسُوا ما هم فيه من النعيم وذهلوا عنه، ولم يلتفتوا إليه. ولا ريب أنّ الأمر هكذا. وهو أجلُّ ممَّا يخطر بالبال أو يدور في الخيال، ولا سيَّما عند فوز المحبِّين هناك بمعيّة المحبَّة، فإنَّ المرء مع مَن أحبَّ، ولا تخصيص في هذا الحكم، بل هو ثابتٌ شاهدًا وغائبًا.
فأيُّ نعيم، وأيُّ لذَّةٍ، وأيُّ قرَّةِ عينٍ، وأيُّ فوزٍ يداني نعيم تلك المعيَّةِ ولذَّتَها وقرَّةَ العين بها؟ وهل فوق نعيم قرَّةِ العين بمعيَّة المحبوب الذي لا شيء أجلُّ منه ولا أكمل ولا أجمل= قرَّةٌ البتَّة؟
وهذا واللهِ هو العَلَم الذي شمَّر إليه المحبُّون، واللِّواء الذي أمَّه العارفون، وهو رُوح مسمَّى الجنَّة وحياتُها، وبه طابت الجنَّة وعليه قامت؛ فكيف يقال: لا يُعبَد الله طلبًا لجنَّته ولا خوفًا من ناره؟!
وكذلك النار، فإنَّ ما لأربابها من عذاب الحجاب عن الله، وإهانته، وغضبه وسخطه، والبُعدِ عنه= أعظمُ من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم، بل التهابُ هذه النار في قلوبهم هو الذي أوجب التهابَها في أبدانهم، ومنها سرت إليها.
فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصّالحين هو الجنَّة، وهَرَبُهم من النار. والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوَّة إلّا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[مدارج السالكين 2/ 320 ط عطاءات العلم]
ملحقات: سنتكلم على
الشرك الأكبر الرياء وارادة الدنيا
النوع الأول: الشرك الأكبر: سبق الكلام عليه تحت بابه
النوع الثاني: الرياء
سبق ذكر مسائل في الرياء وإليك هذه المسائل:
تفصيل في مسائل الرياء
أولا: حكم الرياء، مع الدليل
الرياء محرم بنص الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب: قوله عزوجل: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: من الآية (110)]،
ومن السنة: قوله ?: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال»؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل». [أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة. وحسنه الألباني في صحيح الجامع ح (2607)].
وقوله ?: «إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر؛ الرياء؛ يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء». [أخرجه الإمام أحمد في المسند (5) / (248)، (249). وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (1555)].
وقوله ?: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك».
[أخرجه الإمام أحمد في المسند (4) / (126). والطبراني في الكبير (7) / (337). والحاكم في المستدرك (4) / (329)، وصححه، كلهم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه].
ملاحظة:
لاحظنا في الحديث الأول أن رسول الله ? سمى الرياء شركا خفيا، فما وجه التسمية؟
الجواب: لأن صاحبه يظهر أن عمله لله عزوجل، ويخفي في قلبه أنه لغيره أو لأن صاحبه يقع فيه، دون أن يلقي له بالا.
ويشهد لهذا المعنى قوله ?: «الشرك في هذه الملة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء». [أخرجه الحاكم في المستدرك (2) / (291)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وصحح أوله الألباني في صحيح الجامع ح (3730)].
ثانيا: حكم السمعة، مع الدليل:
السمعة محرمة بنص الكتاب والسنة؛
فمن الكتاب: قوله عز وجل: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: من الآية (110)]،
ومن السنة: قوله ?: «من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به».
[صحيح البخاري، كتاب الرقائق، باب الرياء والسمعة –وهذا لفظه، وكتاب الأحكام، باب: من شاق شق الله عليه. وصحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله].
ثالثا: متى ينقلب حكم الرياء والسمعة من شرك أصغر إلى شرك أكبر؟
يدخل الرياء والسمعة تحت حكم الشرك الأكبر بأحد ثلاثة أمور:
(1) – أن يرائي الإنسان، أو يسمع بأصل إيمانه؛ يظهر أمام الناس أنه مؤمن ليعصم دمه وماله.
(2) – أن يغلب الرياء أو السمعة على أعمال الإنسان.
(3) – أن يغلب على أعماله إرادة الدنيا؛ بحيث لا يريد بها وجه الله.
رابعا: حكم العبادة إذا اتصل بها رياء أو سمعة:
إذا كان قصد العابد بعبادته مراءاة الناس من الأصل؛ فهذا مبطل للعبادة.
أما إذا طرأ الرياء أو السمعة أثناء العبادة؛ فلا يخلو حال العبادة من أن يكون:
أولها مرتبطا بآخرها، -كالصلاة مثلا، فتبطل جميع العبادة إذا لم يدافع الرياء أو السمعة وسكن إليهما.
أما إذا لم يكن أول العبادة مرتبطا بآخرها، – كالصدقة مثلا بمائة ريال؛ خمسون منها دخله الرياء- فيبطل منها ما خالطه الرياء أو السمعة. [انظر فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين ص (200) – (201)].
النوع الثالث: إرادة الإنسان بعمله الدنيا من أنواع الشرك الأصغر:
أولا: المراد بهذا النوع
هو أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة مما يبتغي بها وجه الله عزوجل، يريد بها وجه الله تعالى؛ ولكن خالط إرادته ونيته شيئا آخر، كإرادة الدنيا، إما لقصد المال أو الجاه؛ كالذي يجاهد، أو يتعلم العلم ليأخذ مالا، أو ليحتل منصبا؛ أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال.
ثانيا: حكم هذا النوع، مع الدليل:
إرادة الإنسان بعمله الدنيا محرم، والدليل
(1) – من كتاب الله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: (15) – (16)]؛ فأخبر عزوجل أن من كانت الدنيا همه وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء. [انظر تفسير ابن كثير (2) / (439)].
(2) – ومن السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله! رجل يريد الجهاد، وهو يبتغي عرضا من أعراض الدنيا؟ فقال رسول الله ?: «لا أجر له». فأعاد عليه ثلاثا، والنبي ? يقول: «لا أجر له».
[أخرجه الإمام أحمد في المسند (2) / (290)، والحاكم في المستدرك (2) / (85) وصححه، وأبو داود في السنن، كتاب الجهاد، باب في من يغزو ويلتمس الدنيا. وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2) / (478)].
ثالثا: الفرق بين الرياء والسمعة وبين إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
العامل بهذه الأنواع يعمل العمل الصالح مما يبتغي به وجه الله؛ ولكن المرائي أو المسمع يريد رؤية الناس أو سماعهم،
ويقصد من ذلك أن يمدحوه ويعظموه، ويطمع أن ينال الجلالة في أعينهم.
أما من كان يريد بعمله الدنيا فهو يعمل لأجل الدراهم، أو لشيء من متاع الدنيا، فهو أعقل من الأول، وإن كان كلاهما خاسرا -والعياذ بالله -. [انظر: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص (534) – (535)، وغيره].
رابعا: أقسام الناس في العمل، وما يريدون به:
ينقسمون إلى أقسام، منها:
(1) – قسم يريدون بأعمالهم الدنيا فقط، ولا إرادة لديهم له، ولا هم لهم له، ولا طلب للآخرة.
وهذا رياء محض، وهو شرك أكبر يقع فيه المنافقون.
(2) – قسم يريدون بأعمالهم الله عز وجل، ولكن يخالط إرادتهم ونيتهم شيئا آخر؛ كإرادة الناس -مثل يسير الرياء والسمعة، أو إرادة المال، أو المتاع مثل من يعمل العمل أمام ولي المرأة ليوافق على زواجه منها، أو يحفظ القرآن من أجل أن يعين إماما في المسجد.
وهذا من الشرك الأصغر، وفاعله قد صار بإرادته لهذه الأشياء عبدا لها، وينطبق عليه قول رسول الله ?: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض». [القطيفة هي: الخميلة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان. والخميصة: هي ثوب خز أو صوف معلم. «انظر: فتح الباري لابن حجر (11) / (254). وتيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان ص (539)»] [صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال].
(3) – قسم يعمل بطاعة الله مخلصا له في ذلك؛ ولكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه من الإسلام.
[انظر هذا القسم مع بقية الأقسام في: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص (536) – (538). وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص (540) – (541)، وغيره]. [المفيد في مهمات التوحيد (109 – 131)، بتصرف يسير].
(مطلب): “في حكم العبادة إذا خالطها الرياء، وهو على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل، كمن قام يصلي من أجل مراءاة الناس ولم يقصد وجه الله، فهذا شرك والعبادة باطلة.
الثاني: أن يكون مشاركا للعبادة في أثنائها، بمعنى: أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة.
– فإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها، فأولها صحيح بكل حال، والباطل آخرها.
مثال ذلك: رجل عنده مئة ريال قد أعدها للصدقة، فتصدق بخمسين مخلصا، وراءى في الخمسين الباقية، فالأولى حكمها صحيح، والثانية باطلة.
– أما إذا كانت العبادة ينبني آخرها على أولها، فهي على حالين:
أ- أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه، بل يعرض عنه ويكرهه، فإنه لا يؤثر عليه شيئا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)). [أخرجه: البخاري في (الأيمان، باب إذا حنث ناسيا، (4) / (222))، ومسلم في (الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس، (1) / (116)) ; من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]،
مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية أحس بالرياء، فصار يدافعه، فإن ذلك لا يضره ولا يؤثر على صلاته شيئا.
ب- أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه، فحينئذ تبطل جميع العبادة؛ لأن آخرها مبني على أولها ومرتبط به.
مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية طرأ عليه الرياء لإحساسه بشخص ينظر إليه، فاطمأن لذلك ونزع إليه، فتبطل صلاته كلها لارتباط بعضها ببعض.
الثالث:
ما يطرأ بعد انتهاء العبادة، فإنه لا يؤثر عليها شيئا، اللهم إلا أن يكون فيه عدوان، كالمن والأذى بالصدقة، فإن هذا العدوان يكون إثمه مقابلا لأجر الصدقة فيبطلها؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}، [البقرة: من الآية (264)].
وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة.
وليس من الرياء أيضا أن يفرح الإنسان بفعل الطاعة في نفسه، بل ذلك دليل على إيمانه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرته حسناته وساءته سيئاته، فذلك المؤمن)). [أخرجه أحمد ((1) / (18)، (26))، والترمذي في (الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة/ (6) / (333))، وقال: «حسن، صحيح، غريب»، من حديث عمر رضي الله عنه]،
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: عن ذلك؛ فقال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) [أخرجه مسلم في (البر والصلة، باب إذا أثنى على الصالح/ (4) / (2034))]. [القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (ت (1421)) رحمه الله، (2/ 124 – 148)، بتصرف يسير].
(مطلب): “أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
(1) – أن يريد المال، كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال.
(2) – أن يريد المرتبة، كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة؛ فترتفع مرتبته.
(3) – أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه، كمن تعبد لله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا، بمحبة الخلق له، ودفع السوء عنه، وما أشبه ذلك.
(4) – أن يتعبد لله: يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير.
وهناك أمثلة كثيرة.
[تنبيه:]
[فإن قيل:] هل يدخل فيه من يتعلمون في الكليات أو غيرها، يريدون شهادة، أو مرتبة بتعلمهم؟
فالجواب:
أنهم يدخلون في ذلك؛ إذا لم يريدوا غرضا شرعيا، فنقول لهم:
أولا: لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة، وبذلك تكون النية سليمة.
ثانيا: أن من أراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات؛ فيدخل الكلية أو نحوها لهذا الغرض، وأما بالنسبة للمرتبة، فإنها لا تهمه.
ثالثا: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين- حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة-؛ فلا شيء عليه؛ لأن الله يقول: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}، [الطلاق: من الآية (2) – (3)]، فرغبه في التقوى بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب.
ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته، ويطلب أن يرزقه الله المال، ولكن لا يصلي من أجل هذا الشيء، فهذه مرتبة دنيئة.
أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية، كالبيع، والشراء، والزراعة، فهذا لا شيء فيه، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيبا من الدنيا، وقد سبق البحث في حكم العبادة؛ إذا خالطها الرياء، في باب الرياء. [القول المفيد على كتاب التوحيد، المصدر السابق].
(مطلب):
تفسير قول الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: (15)]
قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا}، أي: البقاء في الدنيا.
قوله: {وزينتها}: أي: المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة، كما قال الله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا}، [آل عمران: من الآية (14)].
والمعنى: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا؛ كما قال تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}. [الأحقاف: من الآية (20)].
ولهذا لما بكى عمر رضي الله عنه حين رأى النبي ? قد أثر في جنبه الفراش، فقال ?: «ما يبكيك؟». قال: يا رسول الله كسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذه الحال؟! فقال رسول الله ? أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم [أخرجه البخاري في (المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة/ (2) / (197) – (199))، ومسلم في (الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء/ (2) / (1105) – (1108))]،
وفي الحقيقة هي ضرر عليهم؛ لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا. [القول المفيد على كتاب التوحيد، المصدر السابق].
(مطلب): الفتاوى
السؤال ((73)): هل يمكن للكافر أن يخلص في عبادته؟
الجواب: فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: نعم ممكن ذلك لأن العلماء قالوا: إن شرط قبول العبادة الإخلاص والمتابعة فيمكن أن يفقد أحدهما فالنصارى مثلًا يخلصون في عبادتهم.
[الكنز الثمين في سؤالات ابن سنيد لابن عثيمين (1) / (21)، – تراث].