(2980 , 2981) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، ومحمد البلوشي وسلطان الحمادي وأحمد بن خالد وعمر الشبلي ومحمد سيفي وعدنان البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((56)) – (كِتَابُ: الزُّهْدِ، وَالرَّقَائِقِ)، 3 – باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين
(38) – ((2980)) حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر. جميعا عن إسماعيل. قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر. أخبرني عبد الله بن دينار؛ أنه سمع عبد الله بن عمر يقول:
قال رسول الله ? لأصحاب الحجر «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين. إلا أن تكونوا باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
(39) – ((2980)) حدثني حرملة بن يحيى. أخبرنا ابن وهب. أخبرني يونس عن ابن شهاب، وهو يذكر الحجر، مساكن ثمود. قال سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر قال: مررنا مع رسول الله ? على الحجر. فقال لنا رسول الله ? «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين. حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» ثم زجر فأسرع حتى خلفها.
(40) – ((2981)) حدثني الحكم بن موسى، أبو صالح. حدثنا شعيب بن إسحاق. أخبرنا عبيد الله عن نافع؛ أن عبد الله بن عمر أخبره؛ أن الناس نزلوا مع رسول الله ? على الحجر، أرض ثمود. فاستقوا من آبارها. وعجنوا به العجين. فأمرهم رسول الله ? أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين. وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.
(40) – م – ((2981)) وحدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري. حدثنا أنس بن عياض. حدثني عبيد الله، بهذا الإسناد، مثله. غير أنه قال: فاستقوا من بئارها واعتجنوا به.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((3))]- باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين”).
وترجم النووي رحمه الله في كتاب الأذكار (298): ” (220) – باب: بالبكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين وبمصارعهم، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتحذير من الغفلة عن ذلك”. انتهى. وذكر هذه الترجمة أيضًا في كتابه “خلاصة الأحكام” [(2/ 1068)].
وهكذا بوب عليه في رياض الصالحين.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب ويذكر أن عليا رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل”.
قال الحافظ رحمه الله: “أَيْ مَا حُكْمُهَا، وَذِكْرُ الْعَذَابِ بَعْدَ الْخَسْفِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا) هَذَا الْأَثر رَوَاهُ بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُحِلِّ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ فَمَرَرْنَا عَلَى الْخَسْفِ الَّذِي بِبَابِلَ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى أَجَازَهُ. أَيْ: تَعَدَّاهُ.
وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ قَالَ مَا كُنْتُ لِأُصَلِّيَ فِي أَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: ثَلَاثَ مِرَارٍ، لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَسْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا خَسْفٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ وَلَفْظُهُ نَهَانِي حَبِيبِي ? أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْف، ٌ وَاللَّائِقُ بِتَعْلِيقِ الْمُصَنِّفِ مَا تَقَدَّمَ.
وَالْمُرَادُ بِالْخَسْفِ هُنَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم} الْآيَةَ.
ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنَّ النُّمْرُوذَ بْنَ كَنْعَانَ بَنَى بِبَابِلَ بُنْيَانًا عَظِيمًا، يُقَالُ إِنَّ ارْتِفَاعَهُ كَانَ خَمْسَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِم. ْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ حَرَّمَ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ بَابِلَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عَلِيٍّ ثَابِتًا فَلَعَلَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا وَطَنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَقَامَ بِهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ فِيهَا، يَعْنِي: أَطْلَقَ الْمَلْزُومَ وَأَرَادَ اللَّازِمَ، قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِعَلِيٍّ إِنْذَارًا لَهُ بِمَا لَقِيَ مِنَ الْفِتْنَةِ بِالْعِرَاقِ،
قُلْتُ: وَسِيَاقُ قِصَّةِ عَلِيٍّ الْأُولَى يُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ”. انتهى. وسيأتي الكلام عن الصلاة في هذه المواضع بإذن الله تعالى.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7433)] ((2980)) – الحديث
شرح الحديث:
وقال المهلب: إنما قال: «لا تدخلوا» من جهة التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط؛ يدل عليه قوله تعالى: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} [إبراهيم: (45)] في مقام التوبيخ على السكنى فيها، وقد تشاءم بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة، ورحل عنها، ثم صلى،
فكراهية الصلاة في موضع الخسف أولى، ثم استثنى من ذلك قوله: «إلا أن تكونوا باكين»، فأباح الدخول فيه على وجه البكاء، والاعتبار، وهذا يدلك على أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء، واعتبار. انتهى [«عمدة القاري» (4) / (191)].
(لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين) بفتح الذال المعجمة؛ يعني: ديار هؤلاء، وهم أصحاب الحجر، قوم ثمود، وهؤلاء قوم صالح؛ وهذا يتناول مساكن ثمود وغيرهم، ممن هو كصفتهم، وإن كان السبب ورد فيهم.
(إلا أن تكونوا باكين) ليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول، بل دائما عند كل جزء من الدخول، وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية، وسيأتي أنه ? لم ينزل فيه البتة.
(فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم»)
قال في «الفتح»: بالرفع على أن «لا» نافية، والمعنى لئلا يصيبكم، ويجوز الجزم على أنها ناهية، وهو أوجه، وهو نهي بمعنى الخبر، وفي الرواية التالية: «حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم»، وفيه للبخاري بلفظ: «أن يصيبكم»؛ أي: خشية أن يصيبكم، ووجه هذه: الخشية أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء كان تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر، مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم، وشدة عذابه،
وهو سبحانه وتعالى مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر، وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به، والطاعة له، فمن مر عليهم، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم، فقد شابههم في الإهمال، ودل على قساوة قلبه، وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم، فيصيبه ما أصابهم.
وبهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالمين من ليس بظالم؟!؛ لأنه بهذا التقرير لا يأمن أن يصير ظالما، فيعذب بظلمه. والله تعالى أعلم.
وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، هذا متفق عليه. [البحر المحيط الثجاج].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
“هذا الحديث: نص في المنع من الدخول على مواضع العذاب، إلا على أكمل حالات الخشوع والاعتبار، وهو البكاء من خشية الله وخوف عقابه الذي نزل بمن كان في تلك البقعة، وان الدخول على غير هذا الوجه يخشى منه إصابة العذاب الذي أصابهم.
وفي هذا تحذير من الغفلة عن تدبر الآيات فمن رأى ما حل بالعصاة ولم يتنبه بذلك من غفلته، ولم يتفكر في حالهم، ويعتبر بهم فليحذر من حلول العقوبة به، فإنها إنما حلت بالعصاة لغفلتهم عن التدبر وإهمالهم اليقظة والتذكر.
وهذا يدل على أنه لا يجوز السكنى بمثل هذه الأرض، ولا الإقامة بها، وقد صرح بذلك طائفة من العلماء، منهم: الخطابي وغيره، ونص عليه أحمد.
قال مهنا: سألت أحمد عمن نزل الحجر: أيشرب من مائها ويعجن به؟ قال: لا، إلا لضرورة، ولا يقيم بها. [فتح الباري لابن رجب، (3/ 237)].
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: فهذا الحديث وما جاء في معناه، فيه: التَّحذير من الدخول على مواضع العذاب، أو الجلوس مع أهل الشر، أو السّكنى معهم؛ لئلا يُصيب الإنسان ما أصابهم، فينبغي للمؤمن أن يتحرَّى في سكنه وإقامته وصحبته الأخيار؛ حتى يقتدي بهم في الخير، ويسير على نهجهم، ويحذر جُلساء الشر، ورفقة أهل الشر، والسّكنى مع أهل الشر؛ لئلا تعمّه العقوبة.
ولما سافر ? إلى تبوك لغزو الروم ومرَّ على ديار ثمود أسرع في السير وقنَّع رأسه –يعني: رفع رأسه- وتوجَّه إلى الطريق الذي يُخرجه من بين مساكنهم، وقال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين؛ لئلا يُصيبكم ما أصابهم، …. من رياض الصالحين للإمام ابن باز رحمه الله تعالى].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب البكاء عند المرور بقبور الظالمين والخوف من أن يصيب الإنسان ما أصابهم، ثم ذكر حديث ابن عمر بمرور النبي ? بالحجر ديار ثمود …..
ولهذا نقول: لا يجوز لأحد أن يذهب لديار ثمود ليتفرج وينظر مساكنهم؛ لأن ذلك وقوع في معصية الرسول ?، إلا رجلا يريد أن يذهب للعبرة، ويكون باكيا عند مروره بتلك الأماكن ….. والله الموفق. [(4/ 577 – 579)].
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7434)] (. . .) – الحديث
شرح الحديث:
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: «ثم زجر، فأسرع»؛ أي: زجر ناقته، فأسرع بها في المشي، ويستفاد منه كراهة دخول أمثال تلك المواضع والمقابر، فإن كان ولا بد من دخولها فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي ? من الاعتبار،. .
قال القاضي عياض:
في هذا الحديث متعلقًا بالبكاء، وأن يكون البكاء للحذر مما أصابهم.
ومن عرف نفسه وتقصيرها فى حق مولاها، وعرف ربه وعظيم سلطانه وشدة بطشه لم يغتر، ولا أمن مكره واشتد خوفه، واعتبر بِمَنْ قبله أنه {فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
وقوله: ” ثم زجر فأسرع “: يريد ناقته، فحذف اختصارًا. [إكمال المعلم بفوائد مسلم 8/ 529]
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7435)] ((2981)) – الحديث
شرح الحديث:
(عن نافع؛ أن عبد الله بن عمر) رضي الله عنه، (أخبره، أن الناس نزلوا مع رسول الله ? على الحجر) بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم، فسره بقوله: (أرض ثمود) بالجر بدل، أو عطف بيان، (فاستقوا)؛ أي: أخذوا الماء (من آبارها)؛ أي: آبار أرض ثمود، (وعجنوا به العجين) يقال: عجن يعجن من بابي ضرب، ونصر: إذا اعتمد عليه بجمع كفه يغمزه، قاله المجد [«القاموس المحيط» ص (845)].
(فأمرهم رسول الله ? أن يهريقوا) بضم أوله، وفتح ثانيه، وتسكن، قال الفيومي رحمه الله: راق الماء، والدم، وغيره ريقا، من باب باع: انصب، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبه، والفاعل مريق، والمفعول مراق، وتبدل الهمزة هاء، فيقال: هراقه، والأصل هريقه وزان دحرجه، ولهذا تفتح الهاء من المضارع، فيقال: يهريقه، كما تفتح الدال من يدحرجه، وتفتح من الفاعل، والمفعول أيضا، فيقال: مهريق، ومهراق، قال امرؤ القيس [من الطويل]:
وإن شفائي عبرة مهراقة
والأمر: هرق ماءك، والأصل هريق، وزان دحرج، وقد يجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أهراقه يهريقه، ساكن الهاء؛ تشبيها له بأسطاع يسطيع، كأن الهمزة زيدت عوضا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيا. انتهى [«المصباح المنير» (1) / (248)].
(ما استقوا)؛ أي: أخذوه من تلك الآبار من الماء، (ويعلفوا) من باب ضرب، (الإبل العجين)؛ أي: يطعموا ما عجنوه بمائها الإبل، (وأمرهم)؛ أي: أمر النبي ? الصحابة (أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة)؛ أي: ناقة صالح عليه السلام.
وأمره ? بإراقة ما استقوا من بئر ثمود، وعلف العجين الذي عجن به للدواب حكم على ذلك الماء بالنجاسة؛ إذ ذاك هو حكم ما خالطته نجاسة، أو كان نجسا، ولولا نجاسته لما أتلف الطعام المحترم شرعا، من حيث إنه مال، وإنه غذاء الأبدان، وقوامها،
وأمره لهم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين [قال الإتيوبي معلقا في حاشية البحر المحيط: “هذا ليس على إطلاقه، فتنبه” انتهى]، وإن تقادمت أعصارهم، وخفيت آثارهم، كما أن في الأول دليلا على بغض أهل الفساد، وذم ديارهم، وآثارهم، هذا، …
وفي أمره ? بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه؛ ليأكلوها، خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا – يعني: المالكية – وقال: تطلق الكلاب عليها، ولا يحملها لهم. انتهى [«المفهم» (7) / (355) – (356)].
وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
وفي هذه الأحاديث:
دليل على تحريم دخول مساكن ثمود المعذَّبين إلا أن يكون الداخل باكيًا؛ لئلا يصيبه ما أصابهم، وكذلك جميع ديار المعذَّبين؛ ولذلك لما دفع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من مزدلفة إلى مِنًى، وأتى قرب مِنًى أسرع في رمية حجر، فقيل: كان سبب إسراعه أن هذا المكان هو الذي عُذِّب فيه أصحاب الفيل، وقيل: ليس هذا المكان، وإنما مكان آخر.
وفيها: أنهم لما استقوا من آبار ديار ثمود وعجنوا من مائها الدقيق أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يريقوا الماء، وأن يعلفوا العجين للإبل، وهذا يدل على أنه لا يجوز الاستقاء من مائها ولا الطبخ، ولا العجن به.
مسألة:
إذا توضأ من ماء آبار ديار ثمود وصلى في أرضها، فما حكم الوضوء، والصلاة؟
اختلف العلماء في حكمهما على قولين:
الأول: للجمهور، وهو أنه إذا توضأ من ماء ديار ثمود وصلى في أرضها صح الوضوء والصلاة مع الإثم؛ لأن الوضوء اجتمع فيه مُوجِب الثواب ومُوجِب العقاب، فهو مثاب على الوضوء، وآثم لكونه توضأ من ماء منهي عن الوضوء به، وكذلك إذا صلى فيها فهو مثاب على الصلاة، وآثم؛ لكونه صلى في أرض منهي عن الصلاة فيها، وهذا كما لو صلى في أرض مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب، فالنهي ليس لذات المنهي عنه، وإنما هو لمعنى خارج عن المنهي عنه.
الثاني: أن الصلاة باطلة، والوضوء لا يصح، وهذا هو مشهور مذهب الحنابلة.
والراجح: الأول، وهو أن الصلاة صحيحة مع الإثم، والوضوء صحيح مع الإثم؛ لِما سبق بيانه. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم 8/ 410]. وسيأتي ذكر المسألة في موضعه بإذن الله تعالى.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): ذكر مرور النبي ? بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر بن جويرية عن نافع، عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله ? بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا القدور، فأمرهم رسول الله فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا [فقال]: «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم».
وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ? وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء، المذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
أخرجاه في الصحيحين من غير وجه.
وفي بعض الروايات: أنه صل الالله عليه وسلم لما مر بمنازلهم قنع رأسه وأسرع راحلته، ونهى عن دخول منازلهم إلا أن تكونوا باكين.
وفي رواية: فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هرون، حدثنا المسعودي، عن إسمعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كبشة الانباري عن أبيه – واسمه عمرو بن سعد ويقال عامر بن سعد رضي الله عنه، قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله ? فنادى في الناس: «الصلاة جامعة».
قال: فأتيت النبي ? وهو ممسك بعيره وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم» فناداه رجل: نعجب منهم يا رسول الله! قال: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا ; فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا».
إسناد حسن ولم يخرجوه. [قصص الأنبياء، لابن كثير (ت (774)) رحمه الله، (1/ 163 – 164)].
(المسألة الثانية):
ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله في «تفسيره»:
قال قتادة: بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان [أيضا].
قال ابن كثير: وهذا هو الظاهر، لأن الله تعالى يقول: {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ((14))} [الشمس: (14)] وقال: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} [الإسراء: (59)] وقال: {فعقروا الناقة} [الأعراف: (77)] فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم. انتهى [«تفسير ابن كثير» (3) / (440) – (441)].
(المسألة الثالثة): تفسير قول الله تعالى: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال} [إبراهيم: 45]
وقوله- سبحانه -: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ …
معطوف على «أقسمتم .. ».
والمراد بالسكنى: الحلول في أماكن الظالمين لوقت يكفى للاتعاظ والاعتبار وكفار قريش كانوا يمرون بديار قوم ثمود في رحلتهم إلى الشام، وكانوا يحطون رحالهم هناك، كما كانوا يمرون على ديار قوم عاد في رحلتهم إلى اليمن.
والمعنى: لقد أقسمتم- أيها الضالون- بأنكم ما لكم من انتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة، وحللتم في مساكن القوم الظالمين.
«وتبين لكم» عن طريق المشاهدة وتواتر الأخبار.
«كيف فعلنا بهم» من الإهلاك والتدمير بسبب كفرهم وفسوقهم.
«وضربنا لكم الأمثال» بما فعلوه وبما فعلناه بهم، عن طريق كتابنا، وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان من الواجب عليكم بعد كل ذلك أن تعتبروا وتتعظوا وتثوبوا إلى رشدكم، وتدخلوا في الإسلام، ولكنكم كنتم قوما فاسقين، سائرين على نهج هؤلاء المهلكين في الكفر والفجور، فاليوم ذوقوا العذاب بسبب جحودكم للحق في الدنيا.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «أى: قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم.
قال-تبارك وتعالى- حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ. [التفسير الوسيط].
(المسألة الرابعة): التفكر المطلوب:
وقال ابن الجوزي رحمه الله: التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: تفكر يتعلق بالله تعالى؛ إذ قضى على أولئك بالكفر.
الثاني: يتعلق بأولئك القوم، إذ بارزوا ربهم الكفر والفساد.
الثالث: يتعلق بالمار عليهم؛ لأنه وفق للإيمان، وتمكن من الاستدراك، والمسامحة في الزلل. انتهى.
(المسألة الخامسة): المواضع المنهي عن الصلاة فيها:
أن الله تعالى قد جعل الأرض مسجدًا وطهورًا للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وأمته، إلا المقبرة، والحمّام، ومعاطن الإبل، ومواضع النجاسة، ومواضع الخسف والعذاب، والموضع الأخير هو الذي يتعلق بالباب.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
“وعلى هذا: فيتوجه أن من صلى بها لغير ضرورة، ولم يكن في صلاته على حالة الخشوع والخشية التي رخص النبي ? في الدخول عليها أن لا تصح صلاته، على قياس قول من قال: إن الصلاة في المقبرة وأعطان الإبل لا تصح،
إلا أن يفرق: بأن النهي هنا عن الدخول لا يخص الصلاة، بخلاف النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان، فيتخرج حينئذ الصلاة فيها على الصلاة في الأرض المغصوبة، كما سبق ذكره.
وأحمد – في رواية – مع جماعة من أهل الظاهر: يوجبون الإعادة على من صلى في أرض غصب، وكذلك إسحاق – في رواية عنه -، إذا كان عالما بالنهي.
وأما الوضوء من مائها: فقد صرح طائفة من الظاهرية بأنه لا يصح، ويتخرج على قواعد الإمام أحمد وأصحابه على الخلاف عندهم في الوضوء بالماء المغصوب.
وقد ورد النهي عن الوضوء بخصوصه في حديث خرجه الطبراني في «أوسطه» من رواية ابن إسحاق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: مر رسول الله ? بالحجر واستقى الناس من بئرها، ثم راح فيها، فلما استقل أمر الناس ألا يشربوا من مائها، ولا يتوضئوا منه، وما كان من عجين عجن بشيء من مائها أن يعلف به، ففعل الناس.
وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد – أو عن العباس بن سعد -، أن رسول الله ? حين مر بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله ? للناس: «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتم به فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا».
وهذا مرسل.
وقد خرج البخاري حديث ابن عمر هذا في «قصص الأنبياء» من «كتابه» هذا من حديث عبد الله بن دينار ونافع وسالم، عن ابن عمر. وفي رواية عبد الله ونافع: أنهم نزلوا الحجر. وفي حديث سالم: أنه مر بالحجر وتقنع بردائه، وهو على الرحل.
وخرج مسلم حديث سالم، وفيه: ثم زجر فأسرع حتى خلفها.
وحمل أبو الحسين ابن المنادي من متقدمي أصحابنا النهي عن دخولها وعن شرب مائها على الكراهة دون التحريم. والله أعلم”. [فتح الباري لابن رجب، (3/ 237)].
قال ابن حجر في الفتح: وَفِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ الِاسْتِقَاءِ مِنْ بِيَارِ ثَمُودَ وَيَلْتَحِقُ بِهَا نَظَائِرُهَا مِنَ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي كَانَتْ لِمَنْ هَلَكَ بِتَعْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُفْرِهِ وَاخْتُلِفَ فِي الْكَرَاهَةِ الْمَذْكُورَةِ هَلْ هِيَ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ لِلتَّحْرِيمِ وَعَلَى التَّحْرِيمِ هَلْ يَمْتَنِعُ صِحَّةُ التَّطَهُّرِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ أَمْ لَا. انتهى.
[فتح الباري لابن حجر (6) / (380) — ابن حجر العسقلاني (ت (852))].
وقال النووي في المجموع شرح المهذب: فَاسْتِعْمَالُ مَاءِ هَذِهِ الْآبَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي طَهَارَةٍ وَغَيْرِهَا مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ إلَّا لِضَرُورَةٍ لِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ لَا مُعَارِضَ لَهَا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي فَيُمْنَعُ اسْتِعْمَالُ آبَارِ الْحِجْرِ إلَّا بِئْرَ النَّاقَةِ وَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلنَّجَاسَةِ وَالْمَاءُ طَهُورٌ بِالْأَصَالَةِ. انتهى.
[المجموع شرح المهذب – ط المنيرية (1) / (92) — النووي (ت (676))].
قال ابن القيم في حديثه عن الفساد وأنواعه:
وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر «أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة».
ورواه البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئآرها ولا يستقوا منها فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء».
وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما مر بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم».
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء، خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم ونهى عن الانتفاع بمياههم حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة وهي أشد غزوة كانت على المسلمين أن يعلفوا النواضح بعجين مائهم.
وكذلك أيضا روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن الصلاة في أماكن العذاب»
وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أوضح من هذا عن علي رضي الله عنه نحوا من هذا: أنه كره الصلاة بأرض بابل أو أرض الخسف، أو نحو ذلك.
وكره الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه
والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا، فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب: دخل في ذلك الصلاة، وغيرها.
ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109]، وقد روى أنه لما هدم خرج منه دخان، وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء فكذلك نهي عن الصلاة في أماكن العذاب.
فأما أماكن الكفر والمعاصي، التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للإيمان، أو الطاعة: فهذا حسن، كما «أمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم».
«وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم».
وكان مسجده صلى الله عليه وسلم مقبرة، فجعله صلى الله عليه وسلم مسجدا بعد نبش القبور.
فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها.
[اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 253].
قال الخطابي:
لا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. ويشبه أن يكون معناه -لو ثبت-: أنه نهاه أن يتخذ أرض بابل وطنا ودارا للإقامة؛ فتكون صلاته فيها إذا كانت إقامته بها. ومخرج النهي فيه على الخصوص ألا تراه يقول نهاني، ولعل ذلك منه إنذار منه له بما أصابه من المحنة بالكوفة وهي أرض بابل، ولم ينتقل أحد من الخلفاء الراشدين قبله من المدينة”. في معالم السنن.
قال البيهقي:
وهذا النهي عن الصلاة فيها -إن ثبت مرفوعا- ليس لمعنى يرجع إلى الصلاة، فلو صلى فيها لم يعد”. انتهى. ثم ذكر حديث ابن عمر المذكور في الباب ثم قال: “فأحب الخروج من تلك المساكن، وكره المقام بها إلا باكيا فدخل في ذلك المقام للصلاة وغيرها، وبالله التوفيق”.
قال ابن بطال – “قال المهلب: إنما هذا من جهة التشاؤم بالبقعة التي نزل بها سخط الله؛ يدل على ذلك قوله: (وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) [إبراهيم: 45]، فوبخهم تعالى على ذلك”. شرح صحيح البخاري ابن بطال
قال ابن بطال:
– أن إباحة الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار يدل أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع وخشوع واعتبار، فإن صلى هناك غير باك لم تبطل صلاته. شرح صحيح البخاري – ابن بطال (2) / (87)
وقال ابن العربي رحمه الله: [مَسْأَلَة مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَجُوزُ أَنْ يُعْلَفَهُ الْإِبِل وَالْبَهَائِم] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
«أَمَرَ النَّبِيُّ ? بِهَرْقِ مَاءِ دِيَارِ ثَمُودَ، وَإِلْقَاءِ مَا عُجِنَ وَحِيسَ بِهِ». لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاءُ سُخْطٍ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فِرَارًا مِنْ سَخَطِ اللَّهِ. وَقَالَ: «اعْلِفُوهُ الْإِبِلَ»؛ فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَجُوزُ أَنْ يَعْلِفَهُ الْإِبِلُ وَالْبَهَائِمُ؛ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَسَلِ النَّجِسِ إنَّهُ تُعْلَفُهُ النَّحْلُ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا دَارُ سُخْطٍ وَبُقْعَةُ غَضَبٍ؛ قَالَ النَّبِيُّ ?: «لَا تَدْخُلُوهَا إلَّا بَاكِينَ». وَرُوِيَ «أَنَّهُ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ، وَأَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهَا». انتهى.
[أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (3) / (109) — أبو بكر ابن العربي (ت (543))].
(المسألة السادسة):
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَازَ بِدِيَارِ ثَمُود، ٍ قَالَ: ((لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ))، فَنَهَى عَنْ عُبُورِ دِيَارِهِمْ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْخَوْفِ الْمَانِعِ مِنْ الْعَذَابِ.
وَهَكَذَا السُّنَّةُ فِي مُقَارِنَةِ الظَّالِمِينَ وَالزُّنَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُقَارِنَهُمْ وَلَا يُخَالِطَهُمْ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَسْلَمُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تعالى، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا لِظُلْمِهِمْ مَاقِتًا لَهُمْ شَانِئًا مَا هُمْ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ))، وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} الْآيَةُ. [مجموع الفتاوى (15) / (324) — ابن تيمية (ت (728))].
(المسألة السابعة): ومن تلك المواقع:
1 – موقع قوم عاد في منطقة الأحقاف بين الربع الخالي وحضرموت؛ كما قال تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ) (الأحقاف: من الآية21)، وقد حكى الله ما حل بهم من العذاب في قوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (الأحقاف:24، 25).
2 – موقع قوم ثمود ويعرف اليوم بمدائن صالح تبعد عن العلا 15 كلم شمالاً، وقد حكى الله ما حل بهم من العذاب في قوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل:51، 52).
3 – موقع قوم لوط؛ وفيه قال عز وجل: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (هود:82).
4 – موقع قوم مدين بالقرب من تبوك؛ وفيه قال سبحانه: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء:189).
5 – موقع أهل بابل جنوب مدينة بغداد في العراق؛ وفيه قال سبحانه: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (النحل: من الآية26).
6 – مساكن قوم سبأ في اليمن على بعد 192كم من صنعاء، بالقرب من السد؛ وفيهم قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (سبأ:15، 16). [].
ويمكن تقسيم الحديث عن ديار المعذبين إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
1. الديار التي عُذِّب أهلها (الديار المدمرة):
قوم عاد: عُذِّبوا بسبب تكذيبهم وفسادهم.
قوم ثمود: عُذِّبوا بسبب تكذيبهم واستكبارهم.
2. الديار التي سُلبت بركتها (الديار المتغيرة):
قوم فرعون: عُذبوا بالغرق.
3. الديار عبر التاريخ (تذكير بالديار القديمة):
ديار قوم لوط: عُذِّبوا بسبب الفواحش.
(المسألة الثامنة): الفتاوى
[1]: حكم زيارة أماكن القوم المُعَذّبين
سئل فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ونص السؤال: الذهاب إلى زيارة أماكن القوم المُعَذّبين كمدائن صالح؟
فأجاب رحمه الله، بقوله:
النبي ? قال: لا تدخلوا على هؤلاء المُعَذّبين إلا أن تكونوا باكين لئلا يصيبكم ما أصابهم ولما مَرَّ عليهم أسرع عليه الصلاة والسلام وقَنَّع رأسه.
س: ما ورد التباكي أو تتباكوا؟
الشيخ: في سنده مقال، لكن المقصود أنه لا يدخل عليهم إلا بسرعة مارَّا إذا دعت الحاجة.
س: إذًا يَحْرُم السفر؟
الشيخ: مثل ما تقدم في بلاد المشركين، فيه تفصيل.
س: للآثار؟
الشيخ: للآثار لا، إذا كان الآثار مثل قوم صالح والنبي ? نَبَّه عليه، وقال: لا تدخلوا عليهم إلا وأنتم باكين؛ لأنه ما في حاجة. [حكم زيارة أماكن القوم المُعَذّبين، فتاوى الدروس للإمام ابن باز رحمه الله تعالى].
[2]: زيارة آثار قوم شعيب
س: يوجد في مدينة (البدع) بمنطقة تبوك آثار قديمة ومساكن منحوتة في الجبال، ويذكر بعض الناس أن هذه مساكن قوم شعيب عليه السلام، والسؤال: هل ثبت أن هذه هي مساكن قوم شعيب عليه السلام، أم لم يثبت ذلك؟ وما حكم زيارة تلك الآثار لمن كان قصده الفرجة والاطلاع، ولمن كان قصده الاعتبار والاتعاظ؟
ج: اشتهر عند الإخباريين: أن منازل (مدين) الذين بعث فيهم نبي الله شعيب عليه السلام هي في الجهة الشمالية الغربية من جزيرة العرب، والتي تسمى الآن: (البدع) وما حولها، والله أعلم بحقيقة الحال، وإذا صح ذلك فإنه لا يجوز زيارة هذه الأماكن لقصد الفرجة والاطلاع؛ لأن النبي ? لما مر بالحجر – وهي: منازل ثمود – قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين» [صحيح البخاري أحاديث الأنبياء ((3380))، صحيح مسلم الزهد والرقائق ((2980))، مسند أحمد بن حنبل ((2) / (66))]، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. رواه البخاري في (صحيحه) عن ابن عمر رضي الله عنهما. وفي رواية له أيضا: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم» [صحيح البخاري المغازي ((4420))، صحيح مسلم الزهد والرقائق ((2980))، مسند أحمد بن حنبل ((2) / (117))].
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – في أثناء ذكره للفوائد والأحكام المستنبطة من غزوة تبوك: (ومنها: أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لا ينبغي له أن يدخلها، ولا يقيم بها، بل يسرع السير، ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها، ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا، ومن هذا إسراع النبي ? السير في وادي محسر بين منى ومزدلفة، فإنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه) (زاد المعاد (3) \ (560)). وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في صدد شرحه للحديث السابق: (وهذا يتناول مساكن ثمود وغيرهم ممن هو كصفتهم، وإن كان السبب ورد فيهم) (فتح الباري (6) \ (380)).
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … نائب الرئيس … الرئيس
بكر أبو زيد … صالح الفوزان … عبد العزيز آل شيخ … عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى (26) / (394) — اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (معاصر)، المجلد السادس والعشرون (كتاب الجامع (3)) ?علم البلدان?مدائن شعيب].
[3] حكم قصد مدائن صالح بالزيارة
فضيلة الشيخ: ما حكم قصد مدائن صالح بالزيارة؟ وما حكم زيارتها إذا كان الشخص يقصد الشمال وعلى رجوعه مر عليها مرورا فقط؟
أما المرور عليها فقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أسرع صلى الله عليه وسلم وقنع رأسه، فلا يجوز للإنسان أن يذهب إلى هذه المدائن للتفرج والنزهة بل للاعتبار الذي يصحبه البكاء،
وحكمة ذلك: أن الناس الذين يذهبون إلى هذه البلاد – يعني للنزهه – على غير الوجه الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقع في نفوسهم تعظيم هؤلاء؛ لما يرون من إحكام البناء وشدته وقوته، وإذا وقع تعظيم الكافر في قلب المؤمن فإنه على خطر عظيم: (أن يصيبكم ما أصابهم) وبعض الناس يقول: كيف هذا؟ وهذه الأمة لم تعذب بعذاب عام، نقول: قسوة القلب والإعراض عن الشريعة. [لقاء الباب المفتوح، لابن عثيمين (ت (1421)) رحمه الله، (82/ 8)].
4 – قرار هيئة كبار العلماء في شأن أرض الحجر:
رقم (7) سنة (1392)
أولا: الاتفاق أنه لا يجوز إحياء أراضي ديار ثمود للأحاديث الصحيحة الدالة على النهي ولعدم وجود أدلة تدفعها
ثانيا: رأى المجلس تأجيل تحديد الممنوع إحياؤه حتى يقدم بحث من اللجنة الدائمة مع تطبيق ذلك على واقع الأرض في تلك الجهات والاستعانة بأهل الخبرة والفنيين
– وإليك قرار التحديد رقم (9)
“بناء على البحث المقدم من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بعد شخوصها الى أرض الحجر ومشاهدتها إياها واتصالها بأهل الخبرة في تلك الجهات، وما اشتمل عليه البحث من وصف كامل لمشاهدتها ومن خارطة تقريبية لها ولما فيها من آثار وجبال ووديان ومزارع وغير ذلك في الدروة الثالثة لمجلس الهيئة_ جرى استعراض النصوص الواردة في ذلك والتي يمكن أن يستند عليها في التحديد؛ وهي مايلي: قال تعالى: “واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين”. وقال تعالى:” وثمود الذين جابوا الصخر بالواد”. وروى البخاري في صحيحه بسنده عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: “لما مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأرض الحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي.
وروي أيضا بسنده عن نافع ان عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أخبره أن الناس نزلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرض ثمود الحجر، واستقوا من بئرها واعتجنوا به فأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. وأخرج معلقا بصيغة الجزم -قال ابن حجر في الفتح: وصله البزار من طريق عبدالله بن قدامه عنه-: أنهم كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك فأتوا على واد؛ فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنكم بواد ملعون فأسرعوا. وقال: من اعتجن بمائه أو طبخ قدرا فليكبها. الحديث.
وروى مسلم في صحيحه بسنده عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: مررنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحجر؛ فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فاسرع السير حتى خلفها.
قال النووي في شرحه: قوله: ثم زجر فأسرع حتى خلفها؛ أي زجر ناقته حذف ذكر الناقة، ومعناه ساقها سوقا كثيرا حتى خلفها وهو بتشديد اللازم أي جاوز المساكن.
وروى الإمام أحمد في المسند بسنده عن نافع بن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس عام تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود؛ ففجوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا. قال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم. قال ابن كثير في البداية والنهاية بعد سياقه هذا الحديث: وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه، ولم يخرجوه. أهـ.
وبناء على ذلك وحيث أن موارد النهي من هذه الأحاديث تأتي على أمرين: أحدهما: دخول مساكنهم سواء ما كان منها في الجبال أو كان في السهول مما في الأرض.
الثاني: الاستقاء من آبارهم. وقد وجد بين الآثار في الجبال والسهول آبار قديمة تواترت الأخبار فيما بين أهل المنطقة انها آبار ثمودية، كما أن بعض هذه الأحاديث يدل على الأمر بالإسراع في الوادي عند المرور به حتى يتم اجتيازه وعلى التقنع فيه.
وحيث أن الهيئة لم تجد نصوصا صريحة تحدد المنطقة تحديدا لا يكون للاجتهاد فيه مجال، وحيث أن ما ذكره بعض أهل العلم بالتفسير والسير كابن اسحاق وغيره من تحديد أرض الحجر بثمانية عشر ميلا أو بخمسة أميال لا يمكن الاعتماد عليه في تحليل أو تحريم مالم يكن معتمدا على ما يثبت من كتاب أو سنة. وحيث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل ينقل ذلك، الأصل عن حكمه.
بناء على ذلك فان الهيئة تقرر ما يأتي:
أولا: منع الإحياء والسكن فيما يلي:
أ_ ماكان فيه آثار من جبال وسهول.
ب_ الآبار الثمودية.
ج_ مجرى الوادي ومفرشه.
ثانيا: ماعدا ذلك مما كان خارجا عما منوه عنه أعلاه وداخلا في محيط سلسلة الجبال القائمة فإن الهيئة تقرر بالأكثرية جواز إحيائه والسكن فيه لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل الحظر. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
عبدالله بن حميد, عبدالله خياط, رئيس الدورة الثالثة: محمد الامين الشنقيطي, عبدالعزيز بن صالح, عبدالحميد حسن, عبدالرزاق عفيفي لى وجهة نظر مرفقة، ابراهيم بن حمد آل الشيخ, سليمان العبيد, عبدالعزيز بن باز, عبدالله بن غديان (مع توقفي فيما زاد عن الحدود داخل سلسلة الجبال المحيطة, راشد بن خنين, محمد الحركان ,صالح اللحيدان إنني متوقف فيما زاد عن ما حدد بمنطقة الآثار إلى مجتمع الأودية من الجهة الغربية وموافق على ما فيه من الآثار ولا أبالي. عبدالله بن منيع, صالح بن غصون (لي وجهة نظر مرفقه, محمد بن جبير). انتهى
(المسألة التاسعة): تعلق الأحاديث بكتاب الزهد والرقائق
1) تذكير بحالة التعلق بالدنيا: ديار المعذبين مثل ديار عاد وثمود تبرز عواقب التعلق بالدنيا ورفض الإيمان. والربط هنا يكون بأن الديار التي لم يؤمن أهلها أو ترفعوا عنها عُذِّبوا وأصبحت عبرة للآخرين.
2) التحذير من الغرور بالدنيا: مثلما تحولت ديار المعذبين إلى أطلال، فإن التعلق بالدنيا دون التفكر في الآخرة يؤدي إلى نفس المصير من الضلال والخسران.
3) الاستفادة من العبر: تذكير الزهاد والرقائق بأن ديار المعذبين التي أصبحت خراباً، تعزز من أهمية الزهد والاهتمام بالآخرة، وتنبه المسلمين إلى أن التمسك بالدنيا قد يؤدي إلى مصير مشابه.
4) الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة هو العلاج من الغرور بالدنيا.
الزهد لا يعني الانعزال عن الدنيا بل تفضيل الآخرة والعيش بمقتضى الإسلام في الدنيا، كما مر.
5) التركيز على الآخرة: عدم التعلق بالمكان قد يساعد المؤمن على تذكر هدفه الأساسي في الحياة وهو العبادة والعمل لآخرتهم.
ثالثًا: فقه وفوائد الحديث:
1 – (ومنها): الأحاديث تعزز الزهد في الدنيا، والتفكر في عواقب الأمور من خلال النظر إلى ما أصاب الأمم السابقة.
2 – (ومنها): تذكر الأحاديث بضرورة البكاء والتفكر، مما يساعد المؤمن على عدم الغفلة والتذكر الدائم لعواقب المعاصي.
3 – (ومنها): يشير إلى أهمية الاعتبار من أحداث التاريخ، وعدم تكرار الأخطاء التي ارتكبها السابقون، مما يعزز من فقه التعامل مع النعم والمحافظة عليها.
4 – (منها): “الحث على المراقبة، والزجر عن السكنى في ديار المعذبين، والإسراع عند المرور بها، وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم} الآية [إبراهيم: (45)].
قال النووي رحمه الله: “وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ عِنْدَ الْمُرُورِ بِدِيَارِ الظَّالِمِينَ، وَمَوَاضِعِ الْعَذَابِ، وَمِثْلُهُ الْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ هَلَكُوا هُنَاكَ، فَيَنْبَغِي لِلْمَارِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُرَاقَبَةُ وَالْخَوْفُ وَالْبُكَاءُ، وَالِاعْتِبَارُ بِهِمْ وَبِمَصَارِعِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ “.
5 – (ومنها): أن فيه دلالة على أن ديار هؤلاء لا تسكن بعدهم، ولا تتخذ وطنا؛ لأن المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيا أبدا، وقد نهي أن يدخل دورهم إلا بهذه الصفة.
6 – (ومنها): أن فيه الإسراع عند المرور بديار المعذبين، كما فعل رسول الله ? في وادي محسر؛ لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك.
7 – (ومنها): أن فيه الأمر بالبكاء؛ لأنه ينشأ عن التفكر في مثل ذلك،
وقال ابن الجوزي رحمه الله: التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: تفكر يتعلق بالله تعالى؛ إذ قضى على أولئك بالكفر.
الثاني: يتعلق بأولئك القوم، إذ بارزوا ربهم الكفر والفساد.
الثالث: يتعلق بالمار عليهم؛ لأنه وفق للإيمان، وتمكن من الاستدراك، والمسامحة في الزلل.
8 – (ومنها): أن فيه دلالة على كراهة الصلاة في موضع الخسف، والعذاب، وقد أشار إلى ذلك البخاري رحمه الله في «صحيحه»، حيث عقد بابا، فقال: «باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب»، ثم أورد أثر علي رضي الله عنه، فقال: «ويذكر عن علي رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل»، ثم أورد حديث الباب، والظاهر أنه يرى كراهة الصلاة في ذلك، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
9 – (ومنها): الاعتبار بهلاك الأمم.
10 – (ومنها): نصرة الله لأنبيائه وأوليائه.
11 – (ومنها): مواساة الله لنبيه بذكر قصص الأنبياء.
12 – (ومنها): النهي والتحذير شامل لمنازل ثمود وغيرهم ممن في معناهم من سائر الأمم الذين نزل بهم العذاب.
13 – (ومنها): يشير إلى ضرورة تجنب الاستفادة من موارد الأماكن التي حلت بها النقم.