295 و 296 و 297 و 298 و 299 و 300 و 301 و 302 عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
36 – باب النفقة عَلَى العيال
قَالَ الله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] وَقالَ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]
قوله (باب النفقة) قال ابن علان:” المراد بها سائر المؤن من كسوة ونفقة وسكن (على العيال) بكسر العين المهملة: أي من يعولهم من زوجة وبعض وخادم. قال ابن النحوي في الإشارة إلى لغات «المنهاج»: النفقة من الإنفاق وهو الإخراج، والنفقة الدراهم ونحوها من الأموال تجمع على نفقات وعلى نفاق أيضاً، وسميت بذلك إما لذهابها بالموت وإما لرواجها من نفقت السوق أو من نفق البيع كثر طلابه وإما لنفادها من نفق الزاد إذا ذهب لأنها عرضة للنفاد اهـ. ” (دليل الفالحين 1/ 491)
قال ابن عثيمين:” قال المؤلف رحمه الله تعالى ـ: باب النفقة على العيال، العيال: هم الذين يعولهم الإنسان من زوجة أو قريب أو مملوك، وقد سبق الكلام على حقوق الزوجة، أما الأقارب فلهم حق، قال الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى) [النساء: 36].
فالقريب له حق في أن ينفق عليه، يعني أن تبذل له من الطعام والشراب والكسوة والسكنى ما يقوم بكفايته، كما قال الله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) المولود له هو الأب، عليه أن ينفق على أولاده وعلى زوجاته، وعلى من أرضعت ولده ولو كانت في غير حباله؛ لأنه قال: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) من أجل الإرضاع، أما إذا كانت في حباله فلها النفقة من أجل الزوجية.
وقوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) يشمل الأب الأدنى والأب الأعلى؛ كالجد ومن فوقه، فعليه أن ينفق على أولاد أولاده، وإن نزلوا. لكن يشترط لذلك شروط:
الشرط الأول: أن يكون المنفق قادراً على الإنفاق؛ فإن كان عاجزاً فإنه لا يجب عليه الإنفاق، لقوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتَاهَا) أي: إلا ما أعطاها، (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق: 7].
الشرط الثاني: أن يكون المنفق عليه عاجزاً عن الإنفاق على نفسه، فإن كان قادراً على الإنفاق على نفسه فنفسه أولى، ولا يجب على أحد أن ينفق عليه؛ لأنه مستغن، وإذا كان مستغنياً، فإنه لا يستحق أن ينفق عليه.
الشرط الثالث: أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه؛ لقوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة: 233]، فإن كان قريباً لا يرث؛ فلا يجب عليه الإنفاق. فإذا تمت الشروط الثلاثة؛ فإنه يجب على القريب أن ينفق على قريبه ما يحتاج إليه من طعام، وشراب، ولباس، ومسكن، ونكاح، وإن كان قادراً على بعض الشيء دون بعض؛ وجب على القريب الوارث أن يكمل ما نقص؛ لعموم قوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة: 233]. ” (شرح رياض الصالحين 3/ 154)
قال ابنُ المنذِرِ: (أجمع أهلُ العِلمِ على أنَّ للزَّوجةِ نَفقَتَها وكِسوَتَها بالمعروفِ). (الإشراف على مذاهب العلماء 5/ 157)
قال ابنُ حزم: (اتَّفقوا أنَّ الحُرَّ الذي يَقدِرُ على المالِ، البالِغَ العاقِلَ غَيرَ المحجورِ عليه: فعليه نَفَقةُ زَوجتِه التي تزوَّجَها زَواجًا صَحيحًا إذا دخل بها وهي ممَّن تُوطَأُ، وهي غيرُ ناشزٍ، وسواءٌ كان لها مالٌ أو لم يكُنْ). (مراتب الإجماع ص: 79).
قال النووي -في قوله صلى الله عليه وسلم-: («ولهُنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمعروفِ» فيه وجوبُ نَفَقةِ الزَّوجةِ وكِسْوتِها، وذلك ثابتٌ بالإجماعِ). ((شرح صحيح مسلم 8/ 184)
قال ابنُ تَيميَّةَ: (يجِبُ على الرَّجُلِ أن يُنفِقَ على ولَدِه وبهائِمِه وزَوجتِه، بإجماعِ المسلِمينَ). (مجموع الفتاوى)) (8/ 535).
قال ابنُ حجرٍ في بابِ وُجوبِ النَّفَقةِ على الأهلِ والعيالِ: (انعقدَ الإجماعُ على الوُجوبِ). (فتح الباري 9/ 500)
قَالَ الله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قال البغوي:” (وعلى المولود له) يعني الأب (رزقهن) طعامهن (وكسوتهن) لباس (بالمعروف) أي على قدر الميسرة (لا تكلف نفس إلا وسعها) أي طاقتها” (تفسير البغوي)
قال ابن كثير:” وقوله (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره، كما قال تعالى (ِليُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سيجعل الله بعد عسر يسرا) الطلاق: 7. قال الضحاك: إذا طلق الرجل زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.” (تفسير ابن كثير)
قال القرطبي:” (رزقهن وكسوتهن) الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. وسماه الله سبحانه للأم، لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع كما قال:” وإن كن أولاتِ حمل فأنفقوا عليهن ” لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها. وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم.” (تفسير القرطبي 3/ 163)
قال السعدي:” (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي: الأب (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهذا شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة, فإن على الأب رزقها, أي: نفقتها وكسوتها, وهي الأجرة للرضاع. ودل هذا, على أنها إذا كانت في حباله, لا يجب لها أجرة, غير النفقة والكسوة, وكل بحسب حاله” (تفسير السعدي)
قال ابن عثيمين:” من فوائد الآية الكريمة: اعتبار العرف بين الناس، لقوله: (بالمعروف) (رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ” (تفسير ابن عثيمين)
وَقالَ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]
قوله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (قال البغوي:” (لينفق ذو سعة من سعته) على قدر غناه (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) من المال (لا يكلف الله نفسا) في النفقة (إلا ما آتاها) أعطاها من المال ((تفسير البغوي)
قال ابن جزي:” {لينفق ذو سعة من سعته} أمر بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، ولا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة، بل يكون الحال معتدلاً. وفي الآية دليل على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس.” (تفسير ابن جزي)
قال القرطبي:” لينفق أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله.”
قال ابن علان:” (سعة) بفتح السين وبه قرأ السبعة، وكسرها لغة وقرأ به بعض التابعين” (دليل الفالحين 1/ 491)
قال السعدي:” قدر تعالى النفقة، بحسب حال الزوج فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}
أي: لينفق الغني من غناه، فلا ينفق نفقة الفقراء.
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: ضيق عليه {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} من الرزق.” (تفسير السعدي)
قوله (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا) قال الطبري:” وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) يقول: لا يكلف الله أحدًا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا ما أعطاه، إن كان ذا سعة فمن سعته، وإن كان مقدورًا عن رزقه فمما رزقه الله على قدر طاقته، لا يُكلف الفقير نفقة الغنيّ، ولا أحد من خلقه إلا فرضه الذي أوجبه عليه. (تفسير الطبري)
قال السعدي:” {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه، وخفف عن المعسر، وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، في باب النفقة وغيرها.
قال القرطبي:” هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم” (تفسير القرطبي 18/ 172)
قال فيصل آل مبارك:” هذه الآية نزلت في الإنفاق على المرضعة، وهي عامة في جميع النفقات الواجبة.” (تطريز رياض الصالحين ص 209)
قال ابن باز معلقا على الآية:” كل ينفق على قدر طاقته”
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]
جاء في الصحيحن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” قَالَ اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ، أُنْفِقْ عَلَيْكَ “.
وأيضا في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا “.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ “.
وجاء في ابن ماجه عن المقدام بن معديكرب الزبيدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما كسب الرجل كسبا أطيب من عمل يده وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة. (صححه الألباني، صحيح غاية المرام (163)
قال الطبري:” وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) يقول: وما أنفقتم أيها الناس من نفقة في طاعة الله، فإن الله يخلفها عليكم.” (تفسير الطبري)
قال البغوي:” قال سعيد بن جبير: ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه.
وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نفقة فهو يخلفه على المنفق، إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخره له في الآخرة.” (تفسير البغوي)
قال ابن كثير:” وقوله: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب” (تفسير ابن كثير)
قال ابن العربي: «قد يعوّض مثله أو أَزْيَدَ، وقد يعوض ثواباً، وقد يدخر له، وهو كالدعاء في وعد الإِجابة» أ. هـ. قلت: وقد يعوّض صحة، وقد يعوّض تعميراً، ولله في خلقه أسرار. [ابن عاشور: (22) / (221)]
قال السعدي:” قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} نفقة واجبة, أو مستحبة, على قريب, أو جار, أو مسكين, أو يتيم, أو غير ذلك، {فَهُوَ} تعالى {يُخْلِفُهُ} فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق, بل وعد بالخلف للمنفق (تفسير السعدي)
295 – وعن أَبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظمُهَا أَجْراً الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ” رواه مسلم.
296 – وعن أَبي عبدِ اللَّهِ وَيُقَالُ له: أبي عبدِ الرَّحمن ثَوْبانَ بْن بُجْدُدَ مَوْلَى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دابَّتِهِ في سبيلِ اللَّه، ودِينَارٌ يُنْفِقُهُ علَى أَصْحابه في سبِيلِ اللَّهِ” رواه مسلم.
ذكر مسلم في صحيحه قول أبي قلابة حيث قال: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ؟
وكان ابن المبارك -رحمه الله- يقول: لا يقع موقع الكسب على العيال شيء، ولا الجهاد في سبيل الله. (سير أعلام النبلاء 8/ 399) يعني يقول: هو أفضل شيء، أن تكتسب من أجل العيال، قال: ولا الجهاد في سبيل الله.
قال النووي في شرح مسلم في باب فَضْلُ النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ وَالْمَمْلُوكِ:” مقصود الباب: الحث على النفقة على العيال، وبيان عظم الثواب فيه؛ لأن منهم من تجب نفقته بالقرابة، ومنهم من تكون مندوبة وتكون صدقة وصلة، ومنهم من تكون واجبة بملك النكاح أو ملك اليمين، وهذا كله فاضل محثوث عليه، وهو أفضل من صدقة التطوع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في رواية ابن أبي شيبة: ” أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ” مع أنه ذكر قبله النفقة في سبيل الله وفي العتق والصدقة، ورجح النفقة على العيال على هذا كله لما ذكرناه، وزاده تأكيدا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته) فقوته مفعول يحبس. ” (شرح مسلم للنووي)
قوله: (أفضل الدينار) يراد به العموم. (تحفة الاحوذي) أي: أكثر الدنانير إذا أنفقت
قوله (وَدِينَارٌ أَنْفَقتَهُ في رقَبَةٍ) عتق الرقبة عظيم، حيث جاء في الصحيحن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ “.
وقال في الرواية الأخرى قوله (دينار ينفقه على عياله) بكسر العين المهملة، وتخفيف الياء التحتانية: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان “المصباح المنير” 2/ 438. أي إذا نوى به وجه الله وأراد حق العيال مثلا. (حاشية ابن ماجه للسندي)
(ودينار ينفقه الرجل على دابته) أي دابة مربوطة (في سبيل الله) من نحو الجهاد (ودينار ينفقه الرجل على أصحابه) أي حال كونهم مجاهدين
يعني الإنفاق على هؤلاء الثلاثة على الترتيب أفضل من الإنفاق على غيرهم، ذكره ابن الملك، قيل: ولا دلالة في الحديث على الترتيب لأن الواو لمطلق الجمع إلا أن يقال الترتيب الذكري الصادر من الحكيم لا يخلو عن حكمة.
قال السندي حاشيته على ابن ماجه:” (على أصحابه في سبيل الله) ظاهره أن المراد به الجهاد ويحتمل أن المراد الإخلاص لكنه بعيد”
والنفقة في الجهاد مضاعفة بسبعمئة ضعف بدليل قوله تعالى ((مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))
قال ابن تيمية:” نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين؛ بخلاف النفقة في الغزو والمساكين فإنه في الأصل إما فرض على الكفاية وإما مستحب ” (مجموع الفتاوى 28/ 367)
قال ابن باز:” المقصود أن المؤمن يتحرى في نفقته الأهم فالأهم فيبدأ بها أهل البيت زوجته وأولاده ومن تجب نفقته ثم من وراء ذلك ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 560)
قال ابن عثيمين:” هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في باب النفقة على الأهل، كلها تدل على فضيلة الإنفاق على الأهل، وأنه أفضل من الإنفاق في سبيل الله، وأفضل من الإنفاق في الرقاب، وأفضل من الإنفاق على المساكين؛ وذلك لأن الأهل ممن ألزمك الله بهم، وأوجب عليك نفقتهم، فالإنفاق عليهم فرض عين، والإنفاق على من سواهم فرض كفاية، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية.
وقد يكون الإنفاق على من سواهم على وجه التطوع، والفرض أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه)).
لكن الشيطان يرغب الإنسان في التطوع ويقلل رغبته في الواجب، فتجده مثلاً يحرص على الصدقة ويدع الواجب، يتصدق على مسكين أو ما أشبه ذلك ويدع الواجب لأهله، يتصدق على مسكين أو نحوه ويدع الواجب لنفسه؛ كقضاء الدين مثلاً ” (شرح رياض الصالحين)
تنبيه: بعض الناس لا يتصدق بحجة أن أهله أحوج وهو يعيش في الإسراف والبذخ.
297 – وعن أُمِّ سلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ: قلتُ يَا رسولَ اللَّهِ، هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبي سلَمةَ أَنْ أُنْفِقَ علَيْهِمْ، وَلَسْتُ بتَارِكَتِهمْ هَكَذَا وهَكَذَا، إِنَّما هُمْ بنِيَّ؟ فَقَالَ: “نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ علَيهِم” متفقٌ عَلَيهِ.
قوله: (بني أبي سلمة) أي: ابن عبد الأسد، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها من أبي سلمة عمر ومحمد وزينب ودرة،
(وَلَسْتُ بتَارِكَتِهمْ هَكَذَا) لست بتاركتهم ذاهبين هكذا وهكذا، يسألون الناس (شرح السنوسي 3/ 141) قال ابن علان:” (لست بتاركتهم هكذا وهكذا) أي يتفرقون لطلب القوت يميناً وشمالاً، بل أنا كافيتهم ذلك بحسب الطبع لأن شفقة الأمومة تحمل على تكلف القيام بما يحتاج إليه الأولاد” (دليل الفالحين 1/ 492)
قال ابن حجر:” أخبرها أن لها أجرا فدل عن أن نفقة بنيها لا تجب عليها إذ لو وجبت عليها لبين لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك” (فتح الباري 9/ 515)
قال أيضا:” وليس في حديث أم سلمة تصريح بأن الذي كانت تنفقه عليهم من الزكاة، فكان القدر المشترك من الحديث حصول الإنفاق على الأيتام، والله أعلم (فتح الباري 9/ 515)
قال فيصل آل مبارك:” دليل على ثبوت الأجر على نفقة العيال وغيرهم، ولو كان ذلك لازمًا بالطبع.” (تطريز رياض الصالحين ص209)
فيه أن أجر النفقة على العيال لا يختص بالأب فالأم لها الأجر إذا أنفقت.
فيه سؤال العالم عما يحصل به الأجر، وفيه حرص الصحابة رضي الله عنهم.
298 – وعن سعد بن أَبي وقَّاص رضي اللَّه عنه في حدِيثِهِ الطَّويلِ الذِي قَدَّمْناهُ في أَوَّل الْكِتَابِ في بَابِ النِّيَّةِ أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ لَهُ: ” وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجهَ اللَّه إلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعلُ في فيِّ امرأَتِكَ” متفقٌ عَلَيهِ.
مر معنا في الباب الأول باب: باب الإِخلاصِ وإحضار النيَّة في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة والخفيَّة
وفي رواية البخاري أطلق ” وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ،” قال ابن حجر:” وقوله فإنها صدقة كذا أطلق في هذه الرواية وفي رواية الزهري وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها مقيدة بابتغاء وجه الله وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفي فعله الأجر فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك قاله بن أبي جمرة قال ونبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان” (فتح الباري 5/ 367)
روى الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَتَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ. (الصحيحة 452)
وفي رواية لابن ماجه أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَخَادِمِهِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ “. (1685 صحيح الترغيب)
روى الطبراني بإسنادين أحدهما حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَنْ أَنفَقَ على نفسِه نفَقةً يَستَعِفُّ بها فهي صدَقةٌ، ومَنْ أنْفَق على امْرأَتِه ووَلدِه وأهلِ بيْتِه فهي صدَقَةٌ”. (صحيح الترغيب 1957) يستعف بها: أي يعمل.
وروى الطبراني أيضا ” عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: مرَّ على النبيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رجلٌ، فرأى أصحَابُ رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ جَلَدِه ونشاطِهِ، فقالوا: يا رسولَ الله! لوْ كانَ هذا في سبيلِ الله؟ فقال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنْ كانَ خرج يَسْعى على وَلَدِه صغاراً فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرجَ يسْعى على أبوينِ شَيْخَينِ كبيرَينِ فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خَرج يَسْعى على نفْسِه يَعَفُّها فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خرجَ يَسْعى رياءً ومُفاخَرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ” (صحيح الترغيب 1692) ومن هذا أخذ العامة أن ” العمل عبادة ” هذا القول ليس بإطلاقه صحيح نعم اذا احتسب الانسان وكان العمل سبب لعفته واستغنائه ولم يكن يمنعه ذلك من الواجبات الدينية.
أما أن يؤخر الصلاة ويقول العمل عبادة؛ هنا العمل ينقلب معصية، فالعمل بضوابطه وأخلص لله ولم يمنعه من الواجبات الشرعية صار عبادة.
299 – وعن أَبي مَسْعُودٍ الْبَدرِيِّ رضي اللَّه عنه، عن النَّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نفقَةً يحتَسبُها فَهِي لَهُ صدقَةٌ” متفقٌ عَلَيهِ.
قال الأتيوبي:” (عن أبي مسعود البدري) اختلف في سبب نسبته إلى بدر، فقيل: لسكناه بها، لا لشهوده وقعتها، وقيل: لكونه شهد وقعتها، وهذا هو الذي قاله البخاري، ومسلم، وهو الصحيح” (البحر المحيط الثجاج 19/ 296)
قال العيني:” قال صاحب “المغرب”: أهل الرجل امرأته، وولده، والذي في عياله ونفقته، وكذا كل أخ، أو أخت، أو عم، أو ابن عم، أو صبي أجنبي يقوته في منزله.
وعن الأزهري: أهل الرجل أخص الناس به، ويجمع على أهلين، والأهالي على غير قياس” (عمدة القاري)
وقال ابن حجر: “الأهل” يحتمل أن يشمل الزوجة، والأقارب، ويحتمل أن يخص الزوجة، ويلحق بها من عداها بطريق الأولى؛ لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب، فثبوته فيما ليس بواجب أولى، قال الطبري رحمه الله ما ملخصه: الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع.
وقال المهلب رحمه الله: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم؛ ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع.
قال ابن حجر أيضا:” المراد بالصدقة الثواب، وإطلاقها عليه مجاز، وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلا وهو من مجاز التشبيه، والمراد به أصل الثواب، لا في كميته، ولا في كيفيته، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية ”
قال النووي:” فيه: بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها، ومعناه أراد بها وجه الله تعالى. فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلا، ولكن يدخل المحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم واختلاف العلماء فيهم، وأن غيرهم ممن ينفق عليه مندوب إلى الإنفاق عليهم فينفق بنية أداء ما أمر به، وقد أمر بالإحسان إليهم. والله أعلم. ”
قال فيصل آل مبارك:” أنّ النفقة على الأهل وإن كانت واجبة فهي له صدقة إذا احتسبها.” (تطريز رياض الصالحين ص211)
قال ابن باز:” يكتب الله له بذلك صدقة مع أجر الواجب هذا فيه فضل عظيم فينبغي للمؤمن أن يلاحظ ذلك وأن يكون عنده احتساب في صدقاته وفي إنفاقه على أهله يرجو ما عند الله من المثوبة سبحانه وتعالى ” شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 562
300 – وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ رَضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “كَفى بِالمرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يقُوتُ” حديثٌ صحيحٌ رواه أَبو داود وغيره. ورواه مسلم في صحيحه بمعنَاهُ قَالَ: “كَفى بِالمرْءِ إِثْماً أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يملِكُ قُوتَهُ”.
هذا الحديث فيه قصة، جاء في مسند الإمام أحمد عن وَهْبَ بْنَ جَابِرٍ يَقُولُ: إِنَّ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ هَذَا الشَّهْرَ هَاهُنَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ لَهُ: تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ مَا يَقُوتُهُمْ هَذَا الشَّهْرَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، فَاتْرُكْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضِيعَ مَنْ يَقُوتُ “.
وجاء في رواية مسلم عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ “.قال النووي:” قهرمان ” بفتح القاف وإسكان الهاء وفتح الراء وهو الخازن القائم بحوائج الإنسان، وهو بمعنى الوكيل، وهو بلسان الفرس” (شرح مسلم للنووي)
قال الخطابي:” قوله من يقوت يريد من يلزمه قوته والمعنى كأنه قال للمتصدق؛ لا تتصدق بما لا فضل فيه عن قوت أهلك تطلب به الأجر فينقلب ذلك إثماً إذا أنت ضيعتهم.” (معالم السنن للخطابي 2/ 82)
قال القاضي:” ” كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته “، يؤكد أنه فى الواجب؛ لأن الإثم إنما يتعلق بتركه. (إكمال المعلم 3/ 512)
قال السندي: من يقوت، من قاته أي أعطاه قوته، ويمكن أن يجعل من التفعيل، وهو موافق لرواية من يقيت من أقات أي من تلزمه نفقته من أهله وعياله وعبيده (عون المعبود)
قال ابن رسلان: أي لو لم يكن له من الإثم إلا هذا لكفاه لعظمه عند الله تعالى (دليل الفالحين 1/ 494)
قال ابن علان:” (أن يضيع من يقوت) المراد أن يمنع من تلزمه نفقته من زوجة وولد ووالد ويعطي غيرهم ولو صدقة. (دليل الفالحين 1/ 494)
قال فيصل آل مبارك:” فيه: عظم إثم من منع نفقة زوجته أو ولده، أو غيرهم ممن تلزمه نفقتهم وكذلك دوابه.” (تطريز رياض الصالحين ص211)
قال ابن باز:” (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته) يعني: كافِ في الإثم أن يضيع من تحت يده من أزواج، من أولاد من خدم، أرقاء؛ يعني: أنه يحصل له إثم عظيم بذلك” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 562)
قال ابن عثيمين:” في هذه الأحاديث أيضاً التهديد والوعيد على من ضيع عمن يملك قوته، وهو شامل للإنسان وغير الإنسان، فالإنسان يملك الأرقة مثلاً، ويملك المواشي من إبل وبقر وغنم فهو آثم إذا ضيع من يلزمه قوته من آدميين أو غير آدميين، ((كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم))، واللفظ الثاني في غير مسلم: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)) وفي هذا دليل على وجوب رعاية من ألزمك الله بالإنفاق عليه.” (شرح رياض الصالحين 3/ 159)
301 – وعن أبي هريرةَ رضي اللَّهُ عنه أَن النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مَا مِنْ يوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ ملَكَانِ يَنْزلانِ، فَيقولُ أَحدُهُما: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلفاً، ويَقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً”متفقٌ عَلَيهِ.
روى الأمام أحمد عن أبي الدرداء -رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلَا آبَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا مَالًا تَلَفًا ”
(حسنه محققو المسند 21721، وانظر: الصحيحة 443)
بوب البخاري على هذا الحديث بقول:” بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى.”
(يوْمٍ) قال ابن علان:” وهو شرعا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس” (دليل الفالحين 1/ 494)
(فيقول أحدهما) قال السندي -رحمه الله-: لا يقال: لا فائدة في هذا القول على تقدير عدم سماع الناس له؛ إذ لا يحصل به ترغيب، ولا ترهيب بدون السماع؛ لأنا نقول تبليغ الصادق يقوم مقام السماع، فينبغي للعاقل أن يلاحظ كل يوم هذا الدعاء كأنه يسمعه من الملكين، فيفعل بسبب ذلك ما لو سمع من الملكين لفعل، وهذه فائدة إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، على أن المقصود بالذات الدعاء لهذا، وعلى هذا، سواء علموا به أم لا؟ (راجع: مراعاة المفاتيح 6/ 283.)
يقصد ب (علموا به أم لا): السماع من الملكين وإلا هم علموا بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
(خلفا) بفتح اللام أي عوضا عظيما وهو العوض الصالح أو عوضا في الدنيا وبدلا في العقبى لقوله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ: 39] وقوله ابن آدم أنفق أنفق عليك، قيل أبهم الخلف لتتناول المال والثواب وغيرهما، فكم من منفق مات قبل أن يقع له الخلف المالي، فيكون خلفه الثواب المعد له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك (مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري 6/ 283)
قال الأتيوبي:” قال الطيبي -رحمه الله-: يقال: خلف الله لك خلفا بخير، وأخلف عليك خيرا؛ أي: أبدلك بما ذهب منك، وعوضك منه” “الكاشف” 5/ 1523.
(ممسكاً تلفاً) يحتمل تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. (دليل الفالحين 1/ 495)
قال القاضي:” هذا – والله أعلم – فى الإنفاق فى الواجبات (والمندوبات) والحقوق المتعينة فى المال والإنفاق بالمعروف، ويصدقه قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، وقوله: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ” (إكمال المعلم بفوائد مسلم 3/ 531)
تنبيه: قال محقق إكمال المعلم في لفظ (والمندوبات): ساقطة من س، والمثبت من الأصل.
لكن وضح القرطبي المندوبات التي يستحق مانعها هذا الدعاء. وأيضا سيأتي كلام النووي.
قال القرطبي:” بيان أن الممسك يستحق تلف ماله، ويراد به الإمساك عن الواجبات دون المندوبات، فإنه قد لا يستحق هذا الدعاء، اللهم إلا أن يغلب عليه البخل بها، وان قلت في نفسها، كالحبة واللقمة، ونحوهما، فهذا قد يتناوله هذا الدعاء؛ لأنه إنما يكون كذلك لغلبة صفة البخل المذمومة عليه، وقلما يكون كذلك إلا ويبخل بكثير من الواجبات، أو لا يطيب نفسا بها” (المفهم 3/ 55)
قال النووي:” قال العلماء: هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك، بحيث لا يذم ولا يسمى سرفا، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا ” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن باز – رحمه الله -:” فيه الحث على النفقة وأن المنفق موعود بالخلف والملك يدعو له بالخلف، يقول الله عزوجل ((وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءلا فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّالازِقِينَ))
ويقول جل وعلا: ((فَاتَّقُوالا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوالا وَأَطِيعُوالا وَأَنفِقُوالا خَيْرلاا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولالَا ىلاكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))
ويقول سبحانه ((آمِنُوالا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوالا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوالا مِنكُمْ وَأَنفَقُوالا لَهُمْ أَجْرلا كَبِيرلا)) … فالمؤمن يحسن ظنه بربه، ينفق ويرجو من الله الخلف والبركة في البقية ووجه الله حق، فعليك إحسان الظن بربك وإنفاق ما لديك في وجوه النفقة، لكن تبدأ بمن تعول تبدأ بالواجب. ” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 564)
302 – وعنه عن النَّبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “الْيَدُ الْعُلْيا خَيْرٌ مِنَ الْيدِ السُّفْلَى وابْدَا بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنَى، ومَنْ يَسْتَعِففْ، يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِه اللَّهُ” رواه البخاري.
جاء في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ، وَالتَّعَفُّفَ، وَالمَسْأَلَةَ: ” اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُلْيَا: هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ ”
روى أبو داود وابن حبان في صحيحه واللفظ له عن مالك بن نَضْلة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويدُ المعطي التي تليها، ويدُ السائل السفلى، فأعط الفضلَ، ولا تعجز عن نفسك”. (المشكاة (3601))
عن طارق المحاربي قال قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك مختصر. (صحيح، الإرواء (3/ 319))
قال النووي:” في هذا الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الطاعات” (شرح النووي 7/ 125)
قال ابن حجر:” يد الآدمي فهي أربعة يد المعطي وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا ثانيها يد السائل وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما ثالثها يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا وهذه توصف بكونها عليا علوا معنويا رابعها يد الآخذ بغير سؤال وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس” (فتح الباري 3/ 297)
قال ابن علان:” الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى أي في قوله: (خير من اليد السفلى) هي السائلة، وهذا هو المعتمد” (دليل الفالحين 1/ 495)
قوله صلى الله عليه وسلم: (وابدأ بمن تعول)
(وابدأ بمن تعول) روى ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “خير الصدقة ما أبقت غِنىً، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول”. تقول امرأتك: أنفق علي أو طلقني. ويقول مملوكك: أنفق علي أو بعني. ويقول ولدك: إلى من تَكِلُنا؟
قال المنذري: ولعل قوله: “تقول امرأتك” إلى آخره من كلام أبي هريرة مدرج. (صحيح الترغيب)
قال القرطبي:” يعني: أنه يبدأ بكفاية من تلزمه كفايته، ثم بعد ذلك يدفع لغيرهم؛ لأن القيام بكفاية العيال واجب، والصدقة على الغير مندوبٌ إليها، ولا يدخل في ذلك ترفيه العيال الزائد على الكفاية، فإن الصدقة بما يرفه به العيال أولى؛ لأن من لم تندفع حاجته أولى بالصدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع.” (المفهم 3/ 80)
قال النووي:” فيه تقديم نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم. وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية. (النووي)
قال ابن جحر:” (وابدأ بمن تعول) أي بمن يجب عليك نفقته، يقال عال الرجل أهله إذا مانهم، أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة. وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب. وقال ابن المنذر اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا وذكرانا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها، وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زمنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب. وألحق الشافعي ولد الولد وإن سفل بالولد في ذلك” (فتح الباري)
قال ابن باز:” فيه توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن المؤمن تكون يده عليا، تكون يده المنفقة لا سائلة، يحرص على أن يكون منفقا لا سائلا يبدأ بنفقته من يعول من زوجة وأولاد ونحوهم،: (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 563)
(وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنَى) روى الإمام أحمد عن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” خَيْرُ الصَّدَقَةِ – أَوْ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ – مَا أَبْقَتْ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَا بِمَنْ تَعُولُ “.
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (وخير الصدقة عن ظهر غنى) معناه: أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه، وتقديره: أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله؛ لأن من تصدق بالجميع يندم غالبا أو قد يندم إذا احتاج، ويود أنه لم يتصدق، بخلاف من بقي بعدها مستغنيا فإنه لا يندم عليها، بل يسر بها. (شرح مسلم للنووي)
وقال أيضا:” وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضافة والفقر، فإن لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه، قال القاضي: جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يرد جميعها، وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: ينفذ في الثلث، هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف ردت الزيادة، وهو محكي عن مكحول. قال أبو جعفر والطبري: ومع جوازه فالمستحب ألا يفعله وأن يقتصر على الثلث.” (شرح مسلم للنووي)
قال ابن حجر:” ومعنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. قال الخطابي: لفظ الظهر يرد في مثل هذا إشباعا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده: وابدأ بمن تعول. وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه. ونحوه قولهم: ركب متن السلامة. (فتح الباري)
وقال أيضا:” في قوله: ” غنى ” للتعظيم” (فتح الباري)
قال ابن باز:” خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى إذا تصدق ما كان عن ظهر غنى بعدما يؤدي الواجب يجود على غيرهم من الفقراء والمساكين والأرحام ونحو ذلك” (شرح رياض الصالحين لابن باز 1/ 563)
قوله (ومَنْ يَسْتَعِففْ، يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِه اللَّهُ)
قال الباجي:” «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ» مِنْ الْعَفَافِ يُرِيدُ أَنَّهُ مَنْ يُمْسِكْ عَنْ السُّؤَالِ وَالْإِلْحَاحِ يُعِفَّهُ اللَّهُ أَيْ يَصُنْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ (0) ” (المنتقى شرح الموطأ 7/ 322)
قال ابن علان:” أي بمال يغنيه به عن الحاجة، أو بقناعة في نفسه، وقيل معناه ومن يطلب العفة وهي الكفّ عن الحرام يعفه الله: أي يصير عفيفاً” (دليل الفالحين 1/ 496) وقال أيضا:” (يغنه الله) عن الاحتياج لما فوقه فإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، والنفس معك إن أرسلتها استرسلت وإن فطمتها وقفت وانفطمت” (دليل الفالحين 1/ 496)
قال ابن حجر:” فيه كراهة السؤال والتنفير عنه ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه” (فتح الباري 3/ 298)
فيه الحث على التعفف وعدم سؤال الناس والحاجة إليهم الاستغناء عنهم حيث أمكنه ذلك (شرح رياض الصالحين لاباز 1/ 563