(2948) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، وسلطان الحمادي ومحمد البلوشي وعدنان البلوشي، ومحمد سيفي، وعمر الشبلي، وأحمد بن خالد
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((52)) – (- كتاب: الفتن وأشراط الساعة)، (26) – بابُ: فَضْلِ العِبادَةِ فِي الهَرْجِ
(130) – ((2948)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، أخْبَرَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُعَلّى بْنِ زِيادٍ، عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ح وحَدَّثَناهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا حَمّادٌ، عَنِ المُعَلّى بْنِ زِيادٍ، رَدَّهُ إلى مُعاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، رَدَّهُ إلى مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ، رَدَّهُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «العِبادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ»،
(130) – وحَدَّثَنِيهِ أبُو كامِلٍ، حَدَّثَنا حَمّادٌ بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَهُ.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((26))]- (بابُ: فَضْلِ العِبادَةِ فِي الهَرْجِ)
وبوب الحافظ النووي رحمه الله في رياض الصالحين: “باب: فضل العبادة في الهرج وهو الاختلاط والفتن ونحوها”. وأورد فيه حديث الباب.
وقال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله:
[(7370)] ((2948)) -الحديث
شرح الحديث:
(رَدَّهُ)؛ أي: ردّ معقل الحديث، وأسنده (إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) إنما عدل عن الصيغ المعروفة إلى هذا؛ للاشتباه فيها، وعدم تيقّنه منها، فأتى بصيغة تحتمل الجميع، والله تعالى أعلم. (قالَ) النبي صلى الله عليه وسلم : («العِبادَةُ فِي الهَرْجِ)؛ أي: وقت الفتن، واختلاط الأمور، (كَهِجْرَةٍ إلَيَّ) في كثرة الثواب، أو يقال: المهاجر في الأول كان قليلًا؛ لعدم تمكّن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل.
قال ابن العربيّ -رحمه الله-: وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس
يفرّون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعيَّن على المرء أن يفرّ بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم، وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة. انتهى [«فيض القدير» (4) / (373)].
قال النووي: سبب كثرة فضل العبادة في الهرج، أنَّ الناس يغفلون ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد.
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: تقدَّم أن الهرج: الاختلاط، والارتباك، ويراد به
هنا: الفتن، والقتل، واختلاط الناس بعضهم في بعض، فالمتمسك بالعبادة في ذلك الوقت، والمنقطع إليها المعتزل عن الناس أجره كأجر المهاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنّه يناسبه من حيث إن المهاجر قد فرّ بدينه عمن يصدّه عنه إلى الاعتصام بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكذلك هذا المنقطع للعبادة فرّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه، فهو على التحقيق قد هاجر إلى ربّه، وفرّ من جميع
خلقه. انتهى [«المفهم» (7) / (309)]، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “وسَببُ ذلك: أن الناسَ في زمنِ الفِتنِ يتبعونَ أهواءَهُم ولا يَرجِعُونَ إلى دينٍ، فيكون حالُهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرَدَ مِنْ بينهم مَن يتمسَّكُ بدِينِه وَيعبُدُ ربَّهُ وَيتبَعُ مراضيه، ويجتنِبُ مَسَاخِطَهُ، كان بمنزلةِ مَن هاجَرَ من بين أهلِ الجاهليةِ إلى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بهِ، مُتبِعًا لأوامِرِه، مُجْتنبًا لِنواهِيهِ”. انتهى. [لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، (254)].
وقال ابن مفلح رحمه الله: “ويُتَوَجَّهُ فَضْلُ العِبادَةِ فِي وقْتٍ يَغْفُلُ النّاسُ عَنْهُ ويَشْتَغِلُونَ، لِما رَواهُ أحْمَدُ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ مَرْفُوعًا العَمَلُ فِي الهَرْجِ وفي رواية في الفِتْنَة كالهِجْرَةِ إلَيَّ ولِمُسْلِمٍ: «العِبادَةُ فِي الهَرْجِ كهجرة إلي». قيل لِلِاشْتِغالِ عَنْها، وذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أنَّ المُرادَ عِبادَةٌ يَظُنُّ مَعَها القَتْلَ عِنْدَ أُولَئِكَ”. انتهى. [الفروع وتصحيح الفروع — ابن مفلح، شمس الدين (ت (763))، (2/ 408 – 409)].
وحديث معقل بن يسار – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف -رحمه الله-.
[البحر المحيط الثجاج].
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
فالحديث الأول يدل على فضل العبادة لله والاجتهاد في الخير عند وجود الهرج، عند وجود الفتن والاختلاف وشغل الناس بأموالهم وأهوائهم،
فينبغي للمؤمن أن يكون عند اختلاف الناس وعند تهاونهم بأمر الله أو وجود الفتن بين الناس بالقتال
أن يكون مشغولًا بطاعة الله، وألا يشغله عن ذلك هذه الفتن التي تقع بين الناس والاختلاف والأهواء، بل ينبغي له أن يهتم بأمر دينه، وأن يتحرز من الدخول في الفتن التي لا يعرف لدخوله وجها، فاعتصامه بطاعة الله واستقامته على دين الله عند وجود الفتن كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته عليه الصلاة والسلام انتهى. [شرح رياض الصالحين – 431 من: (باب فضل العبادة في الهرج وهو الاختلاط والفتن ونحوها)، للإمام ابن باز رحمه الله، الموقع الرسمي].
“وفي هذا الحديث:
فضل العبادة في وقت الفتن، كما أن القابض على دينه، والصابر عليه في آخر الزمان في وقت الفتن له أجر خمسين، كما جاء في الحديث: «فَإِنَّ مِنْ وَرَاءِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ»، وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» [أخرجه أبو داود ((4341))، والترمذي ((3058))، وابن ماجه ((4014))].
والصحابة لهم فضائل كثيرة: كفضل الصحبة فلا يلحقهم من بعدهم، ولهم السبق إلى الإسلام، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ونشر دين الإسلام”. [توفيق الرب المنعم (8/ 362)].
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): الفتن التي تعيشها الأمة والتي يوشك أن تظلنا فتن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه
وللبخاري عن الزبير بن عدي رضي الله عنه، قال: أتينا أنسًا فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال: «اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه» سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. [صحيح البخاري بشرح الفتح ج (13) كتاب الفتن باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه].
ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح وتظهر الفتن، ويكثر الهرج» قالوا يا رسول الله: ما هو قال: «القتل القتل» [صحيح مسلم بشرح النووي ج (16) كتاب العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في أخر الزمان ص (222)].
و الشح: هو البخل بأداء الحقوق، والحرص على ما ليس له. ويلقى الشح: أي يوضع في القلوب.
فقد جاء في البخاري: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ، وَتَتَّخِذُهَا، فَأَصْلِحْهَا وَأَصْلِحْ رُعَامَهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «يَاتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، تَكُونُ الغَنَمُ فِيهِ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ، أَوْ سَعَفَ الجِبَالِ فِي مَوَاقِعِ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»، [البخاري، (3600)].
(3444) – مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ حُمَيِدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ خُثَمٍ ((1))؛ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ. فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى دَوَابٍّ. فَنَزَلُوا عِنْدَهُ. قَالَ ((2)) حُمَيْدٌ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّي فَقُلْ: إِنَّ ابْنَكِ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: أَطْعِمِينَا شَيْئًا.
قَالَ: فَوَضَعَتْ ثَلَاثَةَ أَقْرَاصٍ فِي صَحْفَةٍ، وَشَيْئًا مِنْ زَيْتٍ وَمِلْحٍ، ثُمَّ وَضَعْتُهَا عَلَى رَاسِي، وَحَمَلْتُهَا إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا وَضَعْتُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، كَبَّرَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنَ الْخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلَاّ الْأَسْوَدَيْنِ الْمَاءَ وَالتَّمْرَ. فَلَمْ يُصِبِ الْقَوِيُّ ((3)) مِنَ الطَّعَامِ شَيْئًا. صلى الله عليه وسلم (1367) صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا انْصَرَفُوا، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَحْسِنْ إِلَى غَنَمِكَ. وَامْسَحِ الرُّعَامَ ((4)) عَنْهَا. وَأَطِبْ مُرَاحَهَا. وَصَلِّ فِي نَاحِيَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكُ أَنْ يَاتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الثَّلَّةُ ((5)) مِنَ الْغَنَمِ أَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ دَارِ مَرْوَانَ
معنى الرعام:
قال الكرماني: و (الرعام) بضم الراء وخفة المهملة المخاط يقال شاة رعوم بها داء يسيل من أنفها الرعام وفي بعضها رعاتها جمع الراعي نحو القضاة والقاضي
قال القسطلاني:
(وأصلح رعامها) بضم الراء وتخفيف العين المهملتين أي ما يسيل من أنوفها، وفي نسخة: رغامها بالغين المعجمة وهو التراب فكأنه قال في الأول: داوِ مرضها، وفي
الثاني أصلح مرابضها
وفي هذه الأحاديث وغيرها أن الفتن تتابع وتكثر، وهذا الواقع وهذا من دلائل صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ مقبل رحمه الله:
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ» أخرجه مسلم من حديث معقل بن يسار.
أي: إقبالك على عبادة الله في وقت الفتن والقتل والقتال، لك فيه أجر عظيم كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وليس معناه أن لك مثل أجر مصعب بن عمير، أو عبد الله بن مسعود، لأن المشبه لا يلزم أن يكون مثل المشبه به، لكن لك فضل عظيم إذا أقبلت على العبادة في وقت الفتن.
وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول لأصحابه: «تعوّذوا بالله من شرّ الفتن».
ويقول كما في «سنن أبي داود» من حديث المقداد بن الأسود: «إنّ السّعيد لمن جنّب الفتن، إنّ السّعيد لمن جنّب الفتن، إنّ السّعيد لمن جنّب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا». فالذي يبتلى ويصبر فله أجر عظيم.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحذر أصحابه من الفتن ويقول: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من السّاعي ومن يشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأً أو معاذًا فليعذ به».
فنحن في زمن الفتن وكلما انقضت فتنة جاءت فتنة هي أعظم منها: {أولا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّةً أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذّكّرون}، ويقول تعالى: {وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها}.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «تكون بين يدي السّاعة فتن كقطع اللّيل المظلم يصبح الرّجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدّنيا». أخرجه مسلم.
وجاء في «صحيح مسلم» أيضًا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «والّذي نفسي بيده ليأتينّ على النّاس زمان لا يدري القاتل في أيّ شيء قتل، ولا يدري المقتول على أيّ شيء قتل». [تحفة المجيب على أسئلة الحاضر والغريب — مقبل بن هادي الوادعي (ت (1422))، (279 – 280)].
* وقد حذر الشرع كثيرا من الوقوع في الفتن بجميع الطرق، وفي المقابل بين المخرج لمن واقعها أو كاد أن يواقعها.
وهذا تنبيه وإشارة إلى أحد المسلمات القطعية عند أهل الإسلام: أن الشريعة الإسلامية هي الشريعة الكاملة، الشاملة لكل زمان ومكان.
وبهذا نعلم أنه لا مخرج للفتن إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والتسليم لذالك هو المخرج الوحيد من كل فتنة.
السؤال السادس من الفتوى رقم ((7150))
س (6): ما هي شروط الهجرة في الإسلام، وما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم : «عبادة في الهرج كهجرة إلي»؟
ج (6): الهجرة هي: الخروج من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهي واجبة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} ((1)) إلى قوله: {فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ((2)) قال ابن كثير على هذه الآية: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع ا. هـ ((3)).
أما قوله صلى الله عليه وسلم : «العبادة في الهرج كهجرة إلي ((4))» فهو يدل على فضل العبادة لله وحده في أوقات الفتن والقتال، وأنها في الفضل كهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان المسلمون يهاجرون إليه في المدينة من بلاد الكفر مكة قبل الفتح، وليس في ذلك دلالة على إسقاط الهجرة عمن تمكن منها إذا كان في بلد الكفر، ولا يستطيع إقامة دينه بين أولئك الكفرة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … نائب رئيس اللجنة … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد الله بن غديان … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى بعض الإخوان يوصيهم بتقوى الله ويحثهم على الصبر على مقام الدعوة]
قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:
والذي أوصيكم به: تقوى الله تعالى، ومعرفة تفاصيل ذلك، على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج، وقد ورد: «إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات». وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته واستحضاره، عند ذكر الفتن
والملاحم. وذكر ابن رجب في رسالته كشف الكربة في فضل الغربة، ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم،، في المدارج جملة صالحة. وفي الأثرك «العبادة في الهرج كهجرة إلي»، وفي حديث الغرباء: «للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم » (1).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (14) / (216) – (217)
(المسألة الثانية): الغاية من خلق الإنسان كما قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذريات: (56)].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قوله: {إلا ليعبدون} أي: ما خلقت الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة.
واللام في قوله: {إلا ليعبدون} للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق.
قوله: {إلا ليعبدون} فسر: إلا ليوحدون، وهذا حق، وفسر: بمعنى يتذللون لي بالطاعة فعلا للمأمور، وتركا للمحظور، ومن طاعته أن يوحده عزوجل، فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس.
ولهذا أعطى الله البشر عقولا، وأرسل إليهم رسلا، وأنزل عليهم كتبا، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم، لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت.
ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: من الآية (85)] فلا بد أن يردك إلى معاد تجازى على عملك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذريات: (57)] “. انتهى بتصرف. [، (1/ 25 – 26)].
والمراد بالعبادة كما قال شيخ الإسلام: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة».
فتشمل جميع أبواب الدين: العقائد والعمليات والمعاملات والسلوك.
“وتنوع هذه العبادات من محاسن هذا الدين، وكل باب من الأبواب هذه مرضية لله -جل وعلا- ومع ذلك يلزم هذا الباب الذي يُسر له ولا يهمل الأبواب الأخرى.
(المسألة الثالثة): أن العبادة في الفتن أفضل من العبادة في غيرها
أن العبادة في الفتن أفضل من العبادة في غيرها، دليل ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (العبادة في الهرج كهجرة إليّ).
فجعل لزوم العبادة في الهرج – الذي هو القتل كما في الأحاديث الأخرى – كهجرة إليه صلى الله عليه وسلم، والسبب في ذلك والله أعلم:
أولا: أن الناس في وقت الفتن ينشغلون عن العبادة فلا يتفرغ لها إلاّ الأفذاذ من الناس كما قال الإمام النووي رحمه الله.
الثاني: أن العابد في وقت الفتن يؤدي العبادة وهو في حال خوف من تلف نفس وضياع مال وذهاب حرمة فلذا كانت عبادته أفضل من غيره ممن لا يخاف ذلك.
ولهذا فرق الله تعالى في كتابه بين من أنفق من قبل الفتح وقاتل؛ ومن أنفق من بعده وقاتل فقال: «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير» وما ذلك إلا لأن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا فعلوا ذلك في وقت خوف وقلة، بخلاف من فعل ذلك بعد الفتح، فإنهم وإن كانوا موعودين بالحسنى إلا أنهم أنفقوا وقاتلوا بعد عزة الإسلام وقوة أهله.
قال الطحاوي (ت (321)) رحمه الله في شرح مشكل الآثار (15/ 250): بابُ بَيانِ مُشْكَلِ ما رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن قَوْلِهِ: «العِبادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ»
(5988) – حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ سِنانٍ، حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ المُعَلّى بْنِ زِيادٍ، عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «العِبادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ» -[(251)]-
(5989) – وحَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنا عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنا المُعَلّى بْنُ زِيادٍ، عَنْ أبِي إياسَ مُعاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، مِثْلَهُ قالَ أبُو جَعْفَرٍ: فَوَجَدْنا الهَرْجَ إذا كانَ شُغْلُ أهْلِهِ فِي غَيْرِهِ، مِمّا هُوَ أوْلى بِهِمْ مِن عِبادَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وجَلَّ، ولُزُومِ الأحْوالِ المَحْمُودَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ لُزُومُها، فَكانَ مَن تَشاغَلَ فِي العِبادَةِ فِي تِلْكَ الحالِ مُتَشاغِلًا بِما أُمِرَ بِالتَّشاغُلِ بِهِ، تارِكًا لِما قَدْ تَشاغَلَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الهَرْجِ المَذْمُومِ الَّذِي قَدْ نُهِيَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ والكَوْنِ مِن أهْلِهِ، فَكانَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوابِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذا الحَدِيثِ، وبِاللهِ التَّوْفِيقُ”. انتهى.
الثالث: أن لزوم العبادة وقت الفتن دليل على صدق صاحبها مع الله وإخلاصه له وقوة صبره ومصابرته، وإيثاره ما عند ربه.
وما تفاضل الناس في الدنيا والآخرة إلاّ بالصدق مع الله والصبر على بلائه. والله المستعان. [مسائل في الفتن].
والعبادات كثيرة، وأعظم ذلك: العمل بأركان الإسلام، والمداومة على النوافل، والتزود بالعلم الشرعي، ولزوم أهل العلم.
(المسألة الرابعة): الدنيا دار امتحان وابتلاء
أن سبحانه وتعالى خلق “هذه الحياة الدنيا، وجعلها دار ابتلاء وامتحان، وخلق فيها من الفتن ما يتميز به الصادق من الكاذب، وما يتبين به المخلص من المنافق؛ يقول تعالى: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 – 3]. فكان من حكمة الله وعدله أن أوجد آفات وقواطع في طريق الجنة والدار الآخرة؛ إذ إنه لو لم يوجد الله ذلك لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولاستوى في ذلك المؤمن والمنافق والصالح والفاجر”.
تنويه:
قد مر ذكر هذه المسائل في (2880، 2881)، فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم، وتقدم في بداية هذا الكتاب ما يتعلق بأبواب الفتن ومسائله.
المسألة الخامسة:
فوائد الشدائد
خلق المصائب والآلام فيه من الحكم ما لا يحيط بعلمه إلا الله، ومما أطلعنا الله عليه مما هو دال على ذلك:
1 – أن في الآلام والمصائب امتحاناً لصبر المؤمن قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة / 214.
2 – أن فيها دليلاً على ضعف الإنسان، وافتقاره الذاتي إلى ربه، ولا فلاح له إلا بافتقاره إلى ربه، وانطراحه بين يديه.
3 – المصائب سبب لتكفير الذنوب ورفعة الدرجات قال صلى الله عليه وسلم: ” ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة، أو حطّت عنه بها خطيئة ” رواه مسلم (2572)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي (2399) صححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” (2280).
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ. رواه الترمذي (2402) انظر: السلسلة الصحيحة برقم (2206).
4 – ومن حكم المصائب عدم الركون إلى الدنيا، فلو خلت الدنيا من المصائب لأحبها الإنسان أكثر ولركن إليها وغفل عن الآخرة، ولكن المصائب توقظه من غفلته وتجعله يعمل لدار لا مصائب فيها ولا ابتلاءات.
5 – ومن أعظم حكم المصائب والإبتلاءات: التنبيه والتحذير عن التقصير في بعض الأمور ليتدارك الإنسان ما قصر فيه، وهذا كالإنذار الذي يصدر إلى الموظف أو الطالب المقصر، والهدف منه تدارك التقصير، فإن فعل فبها ونعمت، وإلا فإنه يستحق العقاب، ولعل من الأدلة على ذلك قوله تعالى: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون).
ومن الحكم المترتبة على سابقتها الإهلاك عقاباً لمن جاءته النذر، ولكنه لم يستفد منها ولم يغير من سلوكه، واستمر على ذنوبه قال تعالى: {فأهلكناهم بذنوبهم}.
وقال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين)، وقال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)
قال ابن تيمية رحمة الله: ” قد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محموداً من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموماً، فهذا يثاب على ما في قلبه، من حب الخير وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة، نهي عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه ”
فافهم هذا يا من تتمنى أن يغير الله الأحوال بلا عمل منك ومن أمثالك.
– قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) الأنعام / 42
قال السعدي رحمه الله: لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك من الأمم السالفين والقرون المتقدمين فكذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا. فأخذناهم بالبأساء والضراء أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب رحمة منا بهم. لعلهم يتضرعون إلينا ويلجأون عند الشدة إلينا.
وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم / 41.
أي استعلن الفساد في البر والبحر، أي فساد معايشهم ونقصانها وحلول الآفات بها.
وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك. وذلك بسبب ما قدمت أيديهم، من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها.
هذه المذكورة (ليذيقهم بعض الذي عملوا) أي ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجاً من جزاء أعمالهم في الدنيا (لعلهم يرجعون) عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت. فتصلح أحوالهم، ويستقيم أمرهم.
فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته، وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.
وحتى لا يظن في نفسه الكمال فيكون سبباً لقسوة القلب والغفلة قال تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام / 43.
6 – والعبادة في الشدائد والفتن لها طعم خاص وأجر خاص:
عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ). رواه مسلم (2948).
قال النووي: قَوْله صلى الله عليه وسلم: (الْعِبَادَة فِي الْهَرْج كَهِجْرَةِ إِلَيَّ) الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس. وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا، وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا، وَلا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلا أَفْرَاد.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَنَّ الْفِتَن وَالْمَشَقَّة الْبَالِغَة سَتَقَعُ حَتَّى يَخِفّ أَمْر الدِّين وَيَقِلّ الاعْتِنَاء بِأَمْرِهِ وَلَا يَبْقَى لأَحَدٍ اِعْتِنَاء إِلا بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاش نَفْسه وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ عَظُمَ قَدْر الْعِبَادَة أَيَّام الْفِتْنَة كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث مَعْقِل بْن يَسَار رَفَعَهُ ” الْعِبَادَة فِي الْهَرْج كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ”
7 – أن حصول النعمة بعد ألم ومشقة ومصيبة أعظم قدراً عند الإنسان.
فيعرف الإنسان قدر نعمة الله عليه في الصحة والعافية، ويقدرها حق قدرها.
قال السعدي رحمه الله:
إذا اشتد البأس، وكاد أن يستولي على النفوس اليأس، أنزل الله فرجه ونصره ليصير لذلك موقع في القلوب وليعرف العباد ألطاف علام الغيوب.
القواعد الحسان لتفسير القرآن (1) / (144)
بل إن في المصائب تذكيراً للإنسان المصاب ولغيره بنعم الله، فإذا رأى الإنسان مجنوناً أحس بنعمة العقل، وإن رأى مريضاً أحس بالصحة، وإن رأى كافراً يعيش كالأنعام أحس بنعمة الإيمان، وإن رأى جاهلاً أحس بنعمة العلم، هكذا يشعر من كان له قلب متفتح يقظ، أما الذين لا قلوب لهم فلا يشكرون نعم الله بل يبطرون، ويتكبرون على خلق الله.
8 – ومن حكم الابتلاءات والشدائد: التمحيص
فالشدائد تكشف حقائق الناس وتميز الطيب من الخبيث، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، يقول الله الباري جلا شانه عن غزوة أحد وما نال المسلمين فيها، مبيناً جانباً من الحكمة في هذا الابتلاء: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)
فينكشف كلٌ على حقيقته:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
9 – وليقوم المسلمون بإغاثة من تصيبهم المصائب من المسلمين فيؤجرون على ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). رواه البخاري (6011) ومسلم (2586) وقال: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري (13) ومسلم (45).
وفي الشدائد والحروب يظهر الأثر الحقيقي لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)
فمن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين: جهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله عز وجل، ومشاركة أهل الدعوة الإسلامية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال، وتهيئة جميع الوسائل والعدة والعتاد من أجل الجهاد في سبيل الله.
ومن صور التعاون في نصرة الدين التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: التعاون على قتل مدعي النبوة، وقتل رؤوس أهل الشرك والمرتدين ومنهم الذين يسبون النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ
منقول من بعض الفتاوى
هناك أمور إذا تأملها من أصيب بمصيبة هانت عليه مصيبته وخفت.
وقد ذكر ابن القيم في كتابه القيم ” زاد المعاد ” (4/ 189–195) أموراً منها:
1 – ” أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه، وادَّخر له إن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
2 – أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً ساءت دهراً، وإن متَّعت قليلاً منعت طويلاً، ولا سرته بيوم سروره إلا خبأت له يوم شرور، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة ترحة، وما مليء بيت فرحاً إلا مليء ترحاً. وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء.
3 – أن يعلم أن الجزع لا يردها – أي: المصيبة – بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
4 – أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة.
5 – أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور.
6 – أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك ” بيت الحمد ” الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد، وفي الترمذي مرفوعاً: (يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء)، وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس.
7 – أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحا ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعا قصص الشكوى إليه.
8 – أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يفتقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظا لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، كما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
9 – أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه، كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك، فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) ” انتهى باختصار.
ثالثًا: فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): “الحث على العبادة والإقبال على الله تعالى أيام الفتن.
(2) – (ومنها): فضل العبادة زمن الفتن. [وتفضيل العبادة زمن الاختلاط والفتن، فهي تعدل أجر الهجرة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.]
(3) – (ومنها): ينبغي للمسلم اعتزال مواطن الفتن والغفلة”. [الموسعة الحديثية].
(4) – (ومنها): أن “لزوم مقام العبودية على هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سبب عظيم للسلامة من الفتن، وعلى قدر قيام العبد بالعبودية تكون كفاية الله له {أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبدَهُ}.
وراجع شرح مسلم
2885 – فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة: نُزُولِ الفِتَنِ كَمَواقِعِ القَطْر.