(2940′ 2941) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد بن علي، ومحمد البلوشي، وعمر الشبلي، وأحمد بن خالد
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((52)) – (- كتاب: الفتن وأشراط الساعة)، (23) – بابٌ: فِي خُرُوجِ الدَّجّالِ ومُكْثِهِ فِي الأرْضِ، ونُزُولِ عِيسى وقَتْلِهِ إيّاهُ، وذَهابِ أهْلِ الخَيْرِ والإيمانِ، وبَقاءِ شِرارِ النّاسِ وعِبادَتِهِمُ الأوْثانَ، والنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وبَعْثِ مَن فِي القُبُورِ
(116) – ((2940)) حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمانِ بْنِ سالِمٍ، قالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، وجاءَهُ رَجُلٌ، فَقالَ: ما هَذا الحَدِيثُ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ؟ تَقُولُ: إنَّ السّاعَةَ تَقُومُ إلى كَذا وكَذا، فَقالَ: سُبْحانَ اللهِ أوْ لا إلَهَ إلّا اللهُ – أوْ كَلِمَةً نَحْوَهُما – لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ لا أُحَدِّثَ أحَدًا شَيْئًا أبَدًا، إنَّما قُلْتُ: إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أمْرًا عَظِيمًا، يُحَرَّقُ البَيْتُ، ويَكُونُ ويَكُونُ، ثُمَّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «يَخْرُجُ الدَّجّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أرْبَعِينَ – لا أدْرِي: أرْبَعِينَ يَوْمًا، أوْ أرْبَعِينَ شَهْرًا، أوْ أرْبَعِينَ عامًا -[(2259)]- فَيَبْعَثُ اللهُ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ كَأنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَداوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ رِيحًا بارِدَةً مِن قِبَلِ الشَّأْمِ، فَلا يَبْقى عَلى وجْهِ الأرْضِ أحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ أوْ إيمانٍ إلّا قَبَضَتْهُ، حَتّى لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ، حَتّى تَقْبِضَهُ» قالَ: سَمِعْتُها مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قالَ: «فَيَبْقى شِرارُ النّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وأحْلامِ السِّباعِ، لا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا ولا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطانُ، فَيَقُولُ: ألا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَما تَامُرُنا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبادَةِ الأوْثانِ، وهُمْ فِي ذَلِكَ دارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ،
فَلا يَسْمَعُهُ أحَدٌ إلّا أصْغى لِيتًا ورَفَعَ لِيتًا، قالَ: وأوَّلُ مَن يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إبِلِهِ، قالَ: فَيَصْعَقُ، ويَصْعَقُ النّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ – أوْ قالَ يُنْزِلُ اللهُ – مَطَرًا كَأنَّهُ الطَّلُّ أوِ الظِّلُّ – نُعْمانُ الشّاكُّ – فَتَنْبُتُ مِنهُ أجْسادُ النّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرى، فَإذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقالُ: يا أيُّها النّاسُ هَلُمَّ إلى رَبِّكُمْ، وقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، قالَ: ثُمَّ يُقالُ: أخْرِجُوا بَعْثَ النّارِ، فَيُقالُ: مِن كَمْ؟ فَيُقالُ: مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ، قالَ فَذاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا، وذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ»
(117) – ((2940)) وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمانِ بْنِ سالِمٍ، قالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، قالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: إنَّكَ تَقُولُ: إنَّ السّاعَةَ تَقُومُ إلى كَذا وكَذا، فَقالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ لا أُحَدِّثَكُمْ بِشَيْءٍ، إنَّما قُلْتُ: إنَّكُمْ تَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أمْرًا عَظِيمًا، فَكانَ حَرِيقَ البَيْتِ – قالَ شُعْبَةُ: هَذا أوْ نَحْوَهُ – قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «يَخْرُجُ الدَّجّالُ فِي أُمَّتِي» وساقَ الحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعاذٍ، وقالَ فِي حَدِيثِهِ: «فَلا يَبْقى أحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ إلّا قَبَضَتْهُ» قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ بِهَذا الحَدِيثِ مَرّاتٍ، وعَرَضْتُهُ عَلَيْهِ.
(118) – ((2941)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ أبِي حَيّانَ، عَنْ أبِي زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قالَ: حَفِظْتُ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَمْ أنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ أوَّلَ الآياتِ خُرُوجًا، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، وخُرُوجُ الدّابَّةِ عَلى النّاسِ ضُحًى، وأيُّهُما ما كانَتْ قَبْلَ صاحِبَتِها، فالأُخْرى عَلى إثْرِها قَرِيبًا»،
(118) – وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا أبُو حَيّانَ، عَنْ أبِي زُرْعَةَ، قالَ: جَلَسَ إلى مَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ بِالمَدِينَةِ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَسَمِعُوهُ وهُوَ يُحَدِّثُ عَنِ الآياتِ: أنَّ أوَّلَها خُرُوجًا الدَّجّالُ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: لَمْ يَقُلْ مَرْوانُ شَيْئًا، قَدْ حَفِظْتُ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَمْ أنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ،
(118) – وحَدَّثَنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنا أبُو أحْمَدَ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ أبِي حَيّانَ، عَنْ أبِي زُرْعَةَ، قالَ: تَذاكَرُوا السّاعَةَ عِنْدَ مَرْوانَ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: بِمِثْلِ حَدِيثِهِما ولَمْ يَذْكُرْ ضُحًى.
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [((23))]- (بَابٌ: فِي خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَمُكْثِهِ فِي الأَرْضِ، وَنُزُولِ عِيسَى عليه السلام، وَقَتْلِهِ إِيَّاهُ، وَذَهَابِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَالإِيمَانِ، وَبَقَاءِ شِرَارِ النَّاسِ، وَعِبَادَتِهِمُ الأَوْثَانَ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَبَعْثِ مَنْ فِي الْقُبُورِ).
“بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَلاماتِ السَّاعةِ وما يَحدُثُ مِن شَدائدَ قبْلَها، وفصَّلها وبيَّن أحْوالَها وكيْف يَنْجو النَّاسٌ مِن الفتنِ الَّتي تَسبِقُ القيامةَ، ووَجَّه المسْلِمين إلى عَملِ الطَّاعاتِ استعدادًا للسَّاعةِ”.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7351)] ((2940)) -الحديث
شرح الحديث:
(جَاءَهُ رَجُلٌ) ولم يسمّ ذلك الرجل. (فَقَالَ) ذلك الرجل لعبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه: (مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ) الناسَ، ثم بيّن الحديث بقوله: (تَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ)؛ أي: القيامة، (تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا؟) كناية شيء مبهم. (فَقَالَ) عبد اللَّه بن عمرو للرجل: (سُبْحَانَ اللَّهِ) تعجّبًا من قول الرجل، (أَوْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ) «أو» في الموضعين للشكّ من الراوي، (أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهُمَا)؛ أي: نحو «سبحان اللَّه»، أو «لا إله إلا اللَّه»، كقوله: اللَّه أكبر، وإنما قال عبد اللَّه ذلك تعجبًا من اتهام الرجل له بالكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال عبد اللَّه: (لَقَدْ هَمَمْتُ)؛ أي: واللَّه لقد قصدت (أَنْ لَا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا)؛ أي: ما عشت في مستقبل الزمان، قال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال ذلك عبد اللَّه؛ لأنهم نسبوا إليه ما لم يقل، فشقّ ذلك عليه، ثم إنَّه لمّا عَلِم أنه لا يجوز له ذلك، ذَكَر ما عنده من علم ذلك،
فقال: (إِنَّمَا قُلْتُ) لكم (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ) من الزمن (أَمْرًا عَظِيمًا)؛ أي: فظيعًا مما يدلّ على قرب الساعة، فمن ذلك أنه (يُحَرَّقُ) من التحريق، أو الإحراق، (الْبَيْتُ) الكعبة.
قال القرطبيّ رحمه الله: قد كان تحريق البيت في عهد ابن الزبير رضي الله عنهما، وذلك أن يزيد بن معاوية وجّه من الشام مسلم بن عقبة في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فنزل بالمدينة، وقاتل أهلها، وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيّام، وهي وقعة الحرّة، وقد قدّمنا ذكرها، ثم سار يريد مكّة، فمات بقُديد، وولِيَ الجيش الحصين بن نُمير، وسار إلى مكة، فحاصر ابن الزبير، وأحرقت الكعبة، حتى انهدم جدارها، وسقط سقفها، وجاء الخبر بموت يزيد، فرجعوا. انتهى.
وكان عبدا اللَّه بن عمرو رضي الله عنه إذ ذاك حيًّا، وروي أنه توفّي أيام تلك الفتنة، واللَّه تعالى أعلم.
(وَيَكُونُ)؛ أي: من الفتن (وَيَكُونُ) يعني أنه يقول: كنت ذكرت أشياء من الفتن التي ستقع قبل قيام الساعة، فمنها ما ذكرت من تحريق البيت، ومنها الدجّال، كما ذكره بقوله: (ثُمَّ قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : “يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي)؛ أي: في آخرها قرب الساعة، (فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ) أبهمه لحكمة في ترك التمييز، أو نسيه الراوي، ولذا قال: «لا أدري أربعين يومًا، أو شهرًا، أو عامًا».
قال التوربشتيّ رحمه الله: «لا أدري -إلى قوله- فيبعث اللَّه عيسى» من قول الراوي، الظاهر أنه الصحابيّ، أي لم يزدني النبيّ صلى الله عليه وسلم على أربعين شيئًا، يبيّن المراد منها، فلا أدري أيًّا أراد بهذه الثلاثة. انتهى [«مرقاة المفاتيح» (10) / (175)].
(لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا) يعني: أنه لم يذكره تمييز العدد، بل أبهمه، لكن تبيّن برواية غيره، كالنوّاس بن سمعان رضي الله عنه أنه «يمكث أربعين يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم»، (فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) عليه السلام، وقد سبق في حديث النوّاس أنه «ينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق».
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: «فيبعث اللَّه عيسى ابن مريم»؛ أي: ينزله من السماء، حاكمًا بشرعنا، وقد سبق بيان هذا في «كتاب الإيمان»، قال القاضي رحمه الله: نزول عيسى عليه السلام، وقَتْله الدجال حقّ، وصحيحٌ عند أهل السُّنَّة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل، ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته،
وأنكر ذلك بعض المعتزلة، والجهمية، ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: (40)]، وبقوله صلى الله عليه وسلم : «لا نبي بعدي»، وبإجماع المسلمين أنه لا نبيّ بعد نبيّنا صلى الله عليه وسلم ، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة، لا تُنسَخ، وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيًا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث، ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا، وما سبق في «كتاب الإيمان»، وغيرها أنه ينزل حَكَمًا مُقسطًا، يحكم شرعنا، ويحيي من أمور شرعنا ما هَجرهُ الناس. انتهى [«شرح النوويّ» (18) / (76)].
قال ابن عثيمين رحمه الله:
قوله: “وأنا خاتم النبيين” أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله: “لا نبي بعدي”، فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؟
فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فليس تشريعا جديدا ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر به مقررا له. [القول المفيد على كتاب التوحيد 1/ 479].
(كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ)؛ أي: كأن عيسى عليه السلام يشبه عروة بن مسعود بن مُعَتِّب -بالمهملة، والمثناة المشددة- ابن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفيّ، وهو عمّ والد المغيرة بن شعبة، وأمه سُبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف أخت آمنة، كان أحد الأكابر من قومه، وقيل: إنه المراد بقوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ((31))} [الزخرف: (31)]، فالمراد بالقريتين: مكة والطائف، وأرادوا: الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفيّ من أهل الطائف، وكانت له اليد البيضاء في تقرير صلح الحديبية، وذلك قبل أن يُسلم، وهو مستوفى في «صحيح البخاريّ».
شَهِد صلح الحديبية كافرًا، وقَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة تسع، بعد عوده من الطائف، وأسلم، ثم عاد إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام، فقتلوه، وقيل له: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني اللَّه بها، وشهادة ساقها اللَّه إليّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قُتلوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. [«الإصابة في تمييز الصحابة» (4) / (492) – (493)].
(فَيَطْلُبُهُ)؛ أي: يطلب عيسى عليه السلام الدجال اللعين (فَيُهْلِكُهُ)؛ أي: فيدركه بباب لُدّ، فيقتله بحربته، (ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ) وعند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: «فيدقُّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، فيهلك اللَّه في زمانه الملل كلها، إلا الإسلام، ويهلك اللَّه في زمانه المسيح الدجال، وتقع الآمنة على الأرض، حتى ترتع الأُسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصيبان بالحيات، لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتوفَّى، ويصلي عليه المسلمون». [«مسند الإمام أحمد بن حنبل» (2) / (406)].
وقوله: «ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ»: يحتمل أن الناس يمكثون سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ويحتمل أن المراد: أن عيسى عليه السلام يمكث سبع سنين بعد نزوله، وجاء في الحديث الآخر: «فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» [أخرجه أبو داود ((4324))، وابن حبان ((6821))]؛ وذلك أنه لما رُفع كان ابن ثلاث وثلاثين، ولما ينزل يمكث سبع سنين، فتتم له أربعون سنة، ثم يتوفاه الله تعالى، ثم تأتي ريح باردة من قبل الشام فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، حتى لو كان أحدهم في كبد جبل لدخلته عليه، وفي اللفظ الآخر: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَنِ» [أخرجه مسلم ((117))]، فيحتمل أنهما ريحان تجتمعان، أو أنها ريح واحدة تأتي من قبل الشام، ثم تعتدل.
وهذه الريح تكون بعد أشراط الساعة لدلالة الأحاديث على أنها متأخرة. [توفيق الرب المنعم، (8/ 347 – 348)].
(يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ) بكسر، ففتح؛ أي: من جهة (الشَّأْمِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ) وقوله: (أَوْ إِيمَانٍ) شكّ من الراوي، (إِلَّا قَبَضَتْهُ)؛ أي: أماتته تلك الريح، (حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ)؛ أي: وسطه، وداخله، وكبد كلّ شيء: وسطه، قاله النوويّ. (لَدَخَلَتْهُ)؛ أي: دخلت تلك الريح كبد الجبل (عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الأحد، (حَتَّى تَقْبِضهُ)؛ أي: حتى تكون سببًا في قبض روحه؛ لأن قابض الروح هو الملِك، كما نصّ اللَّه تعالى عليه في كتابه حيث قال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ((11))} [السجدة: (11)]. (قَالَ) عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه (سَمِعْتُهَا)؛ أي: هذه القصّة، أو تلك الريح، (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :» (فَيَبْقَى) على الأرض بعد موت كل مؤمن بتلك الريح، (شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ) بكسر الخاء المعجمة، وتشديد الفاء، قال القاضي رحمه الله: المراد بخفة الطير: اضطرابها، وتنفرها بأدنى توهّم،
شَبَّه حال الأشرار في تهتّكهم، وعدم وقارهم، وثباتهم، واختلال رأيهم، وميلهم إلى الفجور والفساد بحال الطير. (وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ)؛ أي: وفي عقولها الناقصة، جمع حُلم بالضم، أو جمع حِلم بالكسر، ففيه إيماء إلى أنهم خالون عن العلم والحلم، بل الغالب عليهم الطيش، والغضب، والوحشة، والإتلاف، والإهلال، وقلة الرحمة. [«مرقاة المفاتيح» (10) / (175)].
وقال النوويّ: قال العلماء: معناه يكونون في سرعتهم إلى الشرور، وقضاء الشهوات، والفساد كطيران الطير، وفي العدوان، وظُلم بعضهم بعضًا في أخلاق السباع العادية. انتهى [«شرح النوويّ» (18) / (76)].
(لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا)؛ أي: لا يعملون بما أمر به الشرع، (وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا)؛ أي: لا يجتنبون منهيًّا من مناهي الشرع، بل يعكسون فيما يفعلون،
(فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ)؛ أي: يتصور لهم بصورة إنسان، فكأن التشكل أقوى على التسلط في الضلالة من طريق الوسوسة، ولذا قَدَّم اللَّه تعالى شياطين الإنس في قول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} الآية [الأنعام: (112)]
(فَيَقُولُ) لهم: (أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟) بالجيم، من الاستجابة؛ أي: ألا تطيعوني فيما آمركم به، وفي بعض النسخ: «ألا تستحيون» بالحاء المهملة، من الاستحياء.
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: هذا أصحّ رواية، يكون معناه: ألا تستحيون مني في ترك ما آمركم به؟، وليس المراد: الاستحياء من اللَّه تعالى، كما زعم القاري [«مرقاة المفاتيح» (10) / (175)]، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(فَيَقُولُونَ) له: (فَمَا تَامُرُنَا؟)؛ أي: فأيّ شيء تأمرنا به حتى نطيعك؟ قال القاري: «ما» موصولة، أو استفهامية، والمعنى: فأيّ شيء تأمرنا لنطيعك فيه؟ (فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ) توسّلًا بها إلى رضا اللَّه تعالى، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: (3)]، وقال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس: (18)]، (وَهُمْ فِي ذَلِكَ)؛ أي: والحال أنهم فيما ذُكر من الأوصاف الردية، والعبادات الوثنية، (دَارٌّ رِزْقُهُمْ) بتشديد الراء؛ أي: نازل عليهم بكثرة، (حَسَنٌ عَيْشُهُمْ) قال القاري رحمه الله: الأول إشارة إلى الكمية، والثاني إلى الكيفية، أو الأول إيماء إلى كثرة الأمطار، وما يترتب عليه من الأنهار، وأثمار الأشجار، والثاني من جهة الأمن، وعدم الظلم، وكثرة الصحة، والغنى بالمال، والجاه [«مرقاة المفاتيح» (10) / (175)].
وقوله من جهة وعدم الظلم غريب بل نستطيع أن نشبههم ببلاد الكفار فعندهم عيش وفير لكن لا توجد طمأنيه. ولا أمان.
وقوله: «دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ»: فيه: سعة حِلم الله وإمهاله لهم، وأنه سبحانه يمهل ولا يهمل.
وفيه: أنه لا أحد أصبر من الله تعالى، كما في الحديث: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تعالى، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» [أخرجه البخاري ((7378))، ومسلم ((2804))]؛ لذلك فإنه سبحانه يمهل الكفرة مع كفرهم وعنادهم. [توفيق الرب المنعم، (8/ 348)].
(أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا) بكشر اللام، قال التوربشتيّ رحمه الله: أي: أمال صفحة عنقه خوفًا ودهشة، (وَرَفَعَ لِيتًا) والمراد منه هنا: أن السامع يصعق، فيصغي ليتًا، ويرفع ليتًا؛ أي: يصير رأسه هكذا، وكذلك شأن من يصيبه صيحة، فيشق قلبه، فأول ما يظهر منه سقوط رأسه إلى أحد الشقين، فأسند الإصغاء إليه إسناد الفعل الاختياري.
قال الله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيامٌ ينظرون}، وفي النمل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: (87)]، فيصغى بصفحة العنق.
والنفخ- على الصحيح- نفختان:
الأولى: فزع.
والثانية: صعق وموت.
وأما حديث الصور فذكر فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام، لكنه حديث ضعيف في سنده إسماعيل بن رافع المني، وهو ضعيف عند أهل العلم.
والصواب: أنهما نفختان:
الأُولى: أَوَّلها فزع وآخرها صعق.
والثانية: وهي نفخة البعث. [توفيق الرب المنعم، (8/ 348) وما بعدها].
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم : (وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ)؛ أي: النفخ، (رَجُلٌ يَلُوطُ) من باب قال؛ أي: يطيّن، ويصلح (حَوْضَ إِبِلِهِ) ليسقيها ماء نظيفًا.
وقوله: (يلوط حوض إبله): أي يطيبه ويصلحه. أصل اللوط: اللصوق. [إكمال المعلم بفوائد مسلم 8/ 494] يعني يلصق الطين بالحوض
(يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا، كَأَنَّهُ الطَّلُّ) بفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام؛ أي: المطر الضعيف، الصغير القطر، وقوله: (أَوِ الظِّلُّ) شكّ من الراوي، كما قال: (نُعْمَانُ) بن سالم (الشَّاكُّ) في أي لفظة قال يعقوب بن عاصم، قال النوويّ: الأصحّ: الطلّ بالمهملة، وهو الموافق للحديث الآخر أنه كمنيّ الرجال، وقال القرطبيّ رحمه الله: هكذا شك، والأصح أنه الطل بالطاء المهملة، لقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ثم ينزل من السماء ماء»، وفي حديث آخر: «كمنيّ الرجال»،
وقوله: «فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ»، أي: تنشأ أجسادهم نشأة قوية، وتتبدل صفاتها، لكن الذوات لا تتبدل، قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض}، وتبدل صفات الأرض بأن تمد كما يمد الأديم، ويُزال ما عليها من جبال، وأشجار.
ومن أنكر بعث الأجساد فهو كافر بنص القرآن، وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. [توفيق الرب المنعم، (8/ 349 – 350)].
(ثُمَّ يُنْفَخُ) «ثم» للترتيب مع التراخي؛ أي: ثم بعد مدّة من النفخة الأولى، قيل: هو أربعون سنة، (فِيهِ)؛ أي: في ذلك الصُّور، (أُخْرَى)؛ أي: نفخة أخرى، وهي النفخة الثانية، نفخة البعث والنشور، {وَقِفُوهُمْ} أي: قفوا الناس في الموقف. وهذا الحبس لهم يكون قبل السَّوْق إلى جهنم؛ أي: وَقِفوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك، وجملة {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} تعليل للجملة الأولى. قال الكلبي: أي: مسؤولون عن أعمالهم، وأقوالهم، وأفعالهم. وقال الضحاك: عن خطاياهم، وقيل: عن لا إله إلّا اللَّه، وقيل: عن ظلم العباد، وقيل: هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ((25))} أي: أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضًا كما كنتم في الدنيا، وهذا توبيخ لهم، وتقريع وتهكم بهم، وأصله: تتناصرون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفًا. قرأ الجمهور: {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} بكسر الهمزة، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها، قال الكسائيّ: أي لأنهم، أو بأنهم. انتهى [«فتح القدير» للشوكانيّ صلى الله عليه وسلم (6) / (192)].
رواية أربعين عاما شاذة
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم : (ثُمَّ يُقَالُ)؛ أي: يقول اللَّه تعالى لآدم عليه السلام، كما تقدّم في «كتاب الإيمان» من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول اللَّه تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار … » الحديث.
(أَخْرِجُوا)؛ أي: افصلوا، وميّزوا (بَعْثَ النَّارِ)؛ أي: جماعتها، وحظّها، ونصيبها (فَيُقَالُ)؛ أي: يقول المأمورون بالإخراج: (مِنْ كَمْ؟)؛ أي: بأيّ نسبة نُخرج بعث النار من بين سائر الناس؟ (فَيُقَالُ) من قِبَل الرب تعالى: أخرجوا (مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ) شخصًا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم : (فَذَاكَ)؛ أي: ذلك اليوم الذي يقع فيه هذا، (يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِييبًا) ببناء «يوم» على الفتح؛ لإضافته إلى جملة، ويجوز إعرابه بالرفع؛ لكونه مضافًا إلى معرب، وبالوجهين قرئ قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: (119)]، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في «الخلاصة» حيث قال:
وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا … وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوَّ فِعْلٍ بُنِيا
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا … أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
ومعنى {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: (17)]؛ أي: يصيّر الصغار شيبًا، لشدّة هوله، وقيل: هذا على سبيل التمثيل والتهويل، والأول هو الصواب، واللَّه تعالى أعلم.
(وَذَلِكَ) اليوم أيضًا (يَوْمَ يُكْشَف عَنْ سَاقٍ) بفتح «يوم» ورفعه، كما مرّ آنفًا، والمراد بكشف الساق: هو كشف اللَّه تعالى عن ساقه؛ ففيه: إثبات صفة الساق للَّه تعالى على ما يليق بجلاله، وهو المذكور في الحديث الصحيح، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: “يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء، وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا. . .». قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث مخرَّج في «الصحيحين»، وفي غيرهما، من طرُق، وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور. انتهى [«تفسير ابن كثير» (4) / (408)].
وقوله: «وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ»: هذا كقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود}، وكشف الساق فسره كثير من العلماء بشدة الأمر، ولكن جاء في الحديث الآخر: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ» [أخرجه البخاري ((4919))]، بعود الضمير على الله تعالى، فأخذ العلماء من هذا: إثبات الساق لله تعالى، وحُملت الآية عليه.
وفيه: أن الله تعالى جعل بينه وبين المؤمنين علامة، وهي كشف الساق، فيعرفونه فيسجدون له”. [توفيق الرب المنعم، (8/ 350)].
قال الإتيوبي رحمه الله: وبالجملة فينبغي الإيمان بما دلّ عليه هذا الحديث، ولا التفات إلى ما كتبه الشرّاح المتأخّرون من التأويل، فإنه مخالف لِمَا عليه سلف الأمة، فإنهم يُثبتون للَّه تعالى ما جاء في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة على ظاهره، وينزّهون اللَّه تعالى عن التشبيه والتمثيل، فمذهبهم الإثبات بلا تعطيل، ولا تأويل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ((11))} [الشورى: (11)].
وحديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7352)] (. . .) – الحديث
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلخ) فاعل «ساق» ضمير محمد بن جعفر.
وقوله: (وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، إِلَّا قَبَضَتْهُ») أراد به أن محمد بن جعفر ذكر الحديث بلا شك، فقال: «مثقال ذرّة من إيمان» ولم يذكر الشكّ، بخلاف معاذ بن معاذ، فإنه ذكر الشكّ، حيث قال: «مثقال ذرّة من خير، أو إيمان» بالشكّ، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة هذه ساقها أحمد رحمه الله في «مسنده»، فقال: ((6555)) –
“في هذا الحديث:
أنه ينبغي للإنسان أن يتثبت في الحديث، ولا ينقل شيئًا حتى يتأكد منه، كما أنه ينبغي للمحدِّث أن يكرر الحديث حتى يُفهم عنه”. انتهى. [توفيق الرب المنعم، (8/ 347)].
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7353)] ((2941)) – الحديث
شرح الحديث:
فقوله: «لم يقل مروان شيئًا»؛ أي: لم يقل شيئًا يُعتبر به، ويعتدّ.
وقال في «فتح الودود»: يريد أن ما قاله باطل، لا أصل له، لكن نقل البيهقيّ عن الْحَلِيميّ أن أول الآيات ظهورًا الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وذلك لأن الكفار يُسلمون في زمان عيسى عليه السلام حتى تكون الدعوة واحدة، فلو كانت الشمس طلعت من مغربها قبل خروج الدجال، ونزل عيسى لم ينفع الكفار إيمانهم أيام عيسى، ولو لم ينفعهم لَمَا صار الدين واحدًا، ولذلك أَوَّلَ بعضهم هذا الحديث بأن الآيات: إما أمارات دالّة على قرب القيامة، وعلى وجودها، ومن الأول الدجال، ونحوه، ومن الثاني طلوع الشمس، ونحوه، فأولية طلوع الشمس إنما هي بالنسبة إلى القسم الثاني. انتهى [«عون المعبود» (11) / (286)].
(إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ)؛ أي: العلامات التي تتقدّم قيام الساعة، وقوله: (خُرُوجًا) منصوب على التمييز؛ أي: من حيث الخروج، والظهور للناس، (طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى ابن مريم؛ قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بَشَر مشاهدتهم وأمثالهم مألوفة، فإن خروج الدابة على شكل غريب، غير مألوف، ومخاطبتها الناس، ووَسْمها إياهم بالإيمان، أو الكفر، فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية. انتهى [«عون المعبود» (11) / (286)].
والطيبي نقل نحو ما سبق في التوفيق بين الأحاديث انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (11) / (3449)].
والسندي أيضا بنحوه [» حاشية السندي على ابن ماجه” (7) / (431)].
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7354)] (. . .) – الحديث
وقوله: «وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى»: هذه الدابة قيل: هي الجساسة، وقيل: هي دابة الأرض المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}، وجاء في الحديث الآخر: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ النَّاسَ عَلَى خَرَاطِيمِهِمْ، ثُمَّ يَغْمُرُونَ فِيكُمْ حَتَّى يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الْبَعِيرَ، فَيَقُولُ: مِمَّنْ اشْتَرَيْتَهُ؟ فَيَقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْ أَحَدِ الْمُخَطَّمِينَ» [أخرجه أحمد ((22308))]. [توفيق الرب المنعم، (8/ 352)].
[تنبيه]: سبق ذكر ما يتعلق بالآيات الأرضية والسماوية، وترتيب ذلك.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): النفخ في الصور:
النفخ معروف. والصور لغة: القرن.
وشرعا: قرن عظيم التقمه إسرافيل ينتظر متى يؤمر بنفخه، وإسرافيل أحد الملائكة الكرام الذين يحملون العرش، وهما نفختان:
إحداهما: نفخة الفزع ينفخ فيه فيفزع الناس ويصعقون إلا من شاء الله.
والثانية: نفخة البعث ينفخ فيه فيبعثون ويقومون من قبورهم.
وقد دل على النفخ في الصور الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم : «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ثم لا يبقى أحد إلا صعق ثم ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل (شك الراوي) فتنبت» «منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون». رواه مسلم في حديث طويل.
وقد اتفقت الأمة على ثبوته. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، (5/ 59 – 60)].
(المسألة الثانية): البعث والحشر
البعث لغة: الإرسال، والنشر.
وشرعا: إحياء الأموات يوم القيامة.
والحشر لغة: الجمع.
وشرعا: جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.
والبعث والحشر حق ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين؛ قال الله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد». متفق عليه.
وأجمع المسلمون على ثبوت الحشر يوم القيامة.
ويحشر الناس حفاة لا نعال عليهم، عراة لا كسوة عليهم، غرلا لا ختان فيهم لقوله تعالى: {كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. وقول النبي، صلى الله عليه وسلم : «إنكم تحشرون حفاة، عراة، غرلا، ثم قرأ: {كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} وأول من يكسى إبراهيم». متفق عليه.
وفي حديث عبد الله بن أنيس المرفوع الذي رواه أحمد: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا، بهما». قلنا: وما بهما؟ قال: “ليس معهم شيء». الحديث. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، (5/ 60)].
وقد سبق ذكر باقي المسائل في الأبواب السابقة مما بوب عليه النووي رحمه الله تعالى.
(المسألة الثالثة): المراد بقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} عند السلف.
قال ابن تيمية رحمه الله: “يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: …
والصحابة قد تنازعوا في تفسير الآية هل المراد به الكشف عن الشدة أو المراد به أنه يكشف الرب عن ساقه، ولم يتنازع الصحابة والتابعون في ما يذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية بخلاف قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص 75] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن 27] ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيها الصحابة والتابعون، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله تعالى؛ لأنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}، ولم يقل: عن ساق الله ولا قال: يكشف الرب عن ساقه وإنما ذكر ساقاً منكَّرة غير معرَّفة ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله،
والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين الذي قال فيه: فيكشف الرب عن ساقه، وقد يقال: إن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضاً فحَمْلُ ذلك على الشدة لا يصحّ؛ لأن المستعمل في الشدة أن يقال كشف الله الشدة، أي: أزالها كما قال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} (50) [الزخرف 50] وقال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} [الأعراف 135].
وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون 75]، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال كشف الشدة أي أزالها فلفظ الآية يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، وهذا يراد به الإظهار والإبانة كما قال: {كَشَفْنَا عَنْهُمُ}، وأيضاً فهناك تحدث الشدة ولا يزيلها فلا يكشف الشدة يوم القيامة، لكن هذا الظاهر ليس ظاهراً من مجرد لفظ ساق، بل بالتركيب والسياق وتدبر المعنى المقصود. [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، 5/ 472].
ولتلمِيذِهِ ابنِ القَيِّمِ كلامٌ شَبيهٌ بهذا
وليسَ مقصودُ الإمامَيْنِ الجَليليْنِ أنَّ الصَّحَابةَ اختلفُوا في إثباتِ صفَةِ السَّاقِ لله عزَّ وجلَّ مع وُرُودِهَا صَراحةً في حديثِ أبي سعيدٍ المتَقَدِّمِ، بَلِ مقصودُهُما أنَّهُمُ اختلفُوا في تَفسيرِ الآية؛ هلِ المُرادُ بها الكَشْفُ عن الشِّدَّة، أو المُرَادُ الكَشْفُ عن ساقِ اللهِ؟ واللهُ أعلَمُ.
قال الزجاج في كتابه معاني القرآن: وجاء
في التفسير عن عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل قال ثنا أبي.
قال ثنا محمد بن جَعْفَرٍ يعني غندر، عن
شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال.
قال ابن عباس في قوله: (يُكْشَفُ عَنْ
سَاقٍ) عن الأمر الشديد.
وقال ابنُ مَسْعُودٍ: يكشف الرحمن عن ساقه.
فأما المؤمنون فيخرون له سُجَّدا”
أقول: الزجاج أخذ كتاب التفسير إجازة عن
عبد الله بن أحمد عن أبيه
قال الزجاج:” وجميع ما ذكرناه في
هذه القِصةِ مِما رواه عبد اللَّه بن أحمد بن
حَنْبَل عَنْ أَبيه، وكذلك أكثر ما
رَوَيْتُ في هذا الكتاب من التفسير.
فهو من كتاب التفسير عن أحمد بن حنبل.”
وما أحسن ما قاله الشوكاني حيث قال: «قد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله، وذلك لا يستلزم تجسيمًا ولا تشبيهًا، فليس كمثله شيء». ((3))
وقد أورد ابن جرير الطبري وابن كثير تفسير ابن عباس كما أوردا روايات الحديث المفسر للنص القرآني، ولم يؤولا الحديث بحمله على غير ظاهره مما يدل على أنه لا تعارض عندهما بين الحديث وكلام ابن عباس، فإن الأمر شديد في يوم القيامة، ولا ينافي هذا أن يكشف عن ساقه.
((1)) رواه البخاري في صحيحه: (8) / (664)، ورقمه: (4419)، ورواه مسلم: (1) / (167)، ورقمه: (183)، واللفظ للبخاري.
((2)) فتح القدير للشوكاني: (5) / (319).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: … لكن في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم: 42)) هل المراد بذلك ساق الله، مع أن الله لم يضفه إلى نفسه، بل قال: (عَنْ سَاقٍ)؟
والجواب: أنه يحتمل أن يراد بذلك ساق الله، ويحتمل أن يراد بالساق الشدة، وقد قال السلف بهذين القولين.
وعلى هذا فليس علينا جناح إذا قلنا: إن المراد بالساق في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) الشدة، يعني: يوم تتبين الشدة، ويكشف عنها حتى تظهر، كما يكشف عن الوجه حتى يتبين، فيكشف عن ساق: يعني يزال المانع من ظهور الشدة حتى تظهر، فإذا قلنا بهذا فلا يصح أن تورد علنا هذه الآية على أنها تعارض القاعدة التي ذكرنا؛ لأنها جارية على القاعدة؛ فنحن لم نضف الساق إلى الله؛ لأن الله ما أضافه إلى نفسه، وهذا على القول بأن الساق هو الشدة على قول بعض السلف.
ولو ذهبنا إلى أن المراد بالساق ساق الله، كما هو القول الثاني للسلف في الآية، ودليلهم في ذلك حديث أبي سعيد الطويل، الذي جاء فيه: أن الله يأتي عز وجل فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل من كان يسجد لله تعالى في الدنيا.
فإن سياق الحديث يجاري سياق الآية تماماً، فتحمل الآية على ما جاء في الحديث، وتكون إضافتنا الساق لله في الآية بناءً على الحديث، ومن المعلوم أن الحديث يفسر القرآن وبهذا تكون القاعدة مطردة ليس فيها نقص. [شرح العقيدة السفارينية 1/ 262].
ولو قيل بالقول الأول، فإنا نثبت أن الله يأتي عز وجل فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل من كان يسجد لله تعالى في الدنيا، كما ورد بنصوص أخرى.
“ساقُ اللهِ صِفةٌ ثابتةٌ له تَعالَى نُثبِتُها ونَعتقِدُها لا نُكيِّفُها ولا نُمثِّلُها، ليْس كمِثلِه شَيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ، ورَوى البُخاريُّ مِن حَديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «يَكشِفُ ربُّنا عن ساقِه، فيَسجُدُ له كلُّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ، فيَبْقى كلُّ مَن كان يَسجُدُ في الدُّنيا رِياءً وسُمعةً، فيَذهَبُ لِيَسجُدَ، فيَعودُ ظَهْرُه طَبَقًا واحدًا» “.
والذين لم يثبتوا قالوا: قد رواه غير واحد بلفظ: «ويكشف عن ساق»، وسعيد بن أبي هلال نقل الساجي عن أحمد قوله: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث. انتهى
وقد انفرد سعيد بن أبي هلال بهذا اللفظ.
وقال الإسماعيلي كما في «الفتح» (8) / (664) في قوله: «عن ساقه» نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم بلفظ: «يُكْشَفُ عن ساق» قال الإسماعيلي هذا أصح لموافقتها لفظ القرآن، لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء.
أجاب عبدالله الدويش:
لفظة ساقه ثابتة في الصحيح والرواية الأخرى لا تنافيها ولا تعارضها وماذكره الإسماعيلي لا يلزم من إثبتها فغن أهل السنة والجماعة يثبتون لله هذه الصفة وغيرها مما ورد في الكتاب والسنة على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه بصفات المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: (11)] التعليق على فتح الباري
قال الألباني:
ومثل ذلك يقال عن سعيد بن أبي هلال، فقد تابعه حفص بن ميسرة وهشام بن سعد وعبد الرحمن بن إسحاق، فاتفاق هؤلاء الثلاثة على الحديث يجعله في منجاة من النقد عند من ينصف. نعم لقد اختلف في حرف منه، فقال الأول: «عن ساقه» وقال الآخرون: «عن ساق».
والنفس إلى رواية هؤلاء أميل ولذلك قال الحافظ في «الفتح» ((8) / (539)) بعد أن ذكره باللفظ الأول: «فأخرجها الإسماعيلي كذلك. ثم قال: في قوله» عن ساقه «نكرة. ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بلفظ: يكشف عن ساق. قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ القرآن في الجملة لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك ليس كمثله شيء».
قلت: نعم ليس كمثله شيء ولكن لا يلزم من إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات شيء من التشبيه أصلًا، كما لا يلزم من إثبات ذاته تعالى التشبيه، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات وهي حق ثابت، فكذلك صفاته تعالى لا تشبه الصفات وهي أيضا حقائق ثابتة تتناسب مع جلال الله وعظمته وتنزيهه، فلا محذور من نسبة الساق إلى الله تعالى إذا ثبت ذلك في الشرع وأنا وإن كنت أرى من حيث الرواية أن لفظ «ساق» أصح من لفظ «ساقه» فإنه لا فرق بينهما عندي من حيث الدراية لأن سياق الحديث يدل على أن المعنى هو ساق الله عزوجل وأصرح الروايات في ذلك رواية هشام عند الحاكم بلفظ: «هل بينكم وبين الله من آية تعرفونها؟
قلت: فهذا صريح أو كالصريح بأن المعنى إنما هو ساق ذي الجلالة.
فالظاهر أن سعيد بن أبي هلال كان يرويه تارة بالمعنى حين كان يقول: «عن ساقه»، ولا بأس عليه من ذلك ما دام أنه أصاب الحق. وأن مما يؤكد صحة الحديث في الجملة ذلك الشاهد عن ابن مسعود الذي ذكره البيهقي مرفوعا وإن لم أكن وقفت عليه الآن مرفوعا وقد أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» (ص (115)) من طريق أبي الزعراء قال: «ذكروا الدجال عند عبد الله، قال: تفترقون أيها الناس عند خروجه ثلاث فرق … فذكر الحديث بطوله: وقال: ثم يتمثل الله للخلق، فيقول:
هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه إذا اعترف لنا عرفناه فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خر لله ساجدًا».
قلت: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزعراء واسمه عبد الله ابن هانئ الأزدي وقد وثقه ابن سعد وابن حبان والعجلي ولم يرو عنه غير ابن أخته سلمة ابن كهيل. ووجدت للحديث شاهدًا آخر مرفوعًا، وهو نص في الخلاف السابق في «الساق» وإسناده قوي، فأحببت أن أسوقه إلى القراء لعزته وصراحته وهو: «إذا جمع الله العباد بصعيد واحد نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم ههنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجدا وذلك قول الله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة».
«الصحيحة» ((2) / (125)، (127) – (129)).
موسوعة الألباني في العقيدة (6) / (305) — ناصر الدين الألباني
وطول ابن منده في الرد على الجهمية. في بيان الخلاف والروايات عن ابن مسعود وابن عباس وضبط قراءة الآية ثم ذكر
(8) – أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْرَقِ، بِمِصْرَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: (42)] قَالَ: «يَكْشِفُ اللَّهُ عَنْ صلى الله عليه وسلم (18) صلى الله عليه وسلم سَاقِهِ»
ثالثًا: فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): بيانُ أحوالِ الدَّارِ الآخِرَةِ.
2 – (منها): إخبارُه صلَّى اللهُ عليه صلى الله عليه وسلم وسلَّمَ عن الغَيْبِيَّاتِ.
3 – (منها): عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
4 – (منها): بيانُ فِتنةِ الدَّجَّالِ. [الدرر].