(2938) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
مجموعة: أحمد علي، وعبد الله المشجري، ومحمد البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من ((52)) – (- كتاب: الفتن وأشراط الساعة)، (21) – بابٌ فِي صِفَةِ الدَّجّالِ، وتَحْرِيمِ المَدِينَةِ عَلَيْهِ وقَتْلِهِ المُؤْمِنَ وإحْيائِهِ
(112) – ((2938)) حَدَّثَنِي عَمْرٌو النّاقِدُ، والحَسَنُ الحُلْوانِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ – وألْفاظُهُمْ مُتَقارِبَةٌ، والسِّياقُ لِعَبْدٍ، قالَ: حَدَّثَنِي، وقالَ الآخَرانِ: حَدَّثَنا – يَعْقُوبُ وهُوَ ابْنُ إبْراهِيمَ بْنِ سَعْدٍ – حَدَّثَنا أبِي، عَنْ صالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، أخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أنَّ أبا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، قالَ: حَدَّثَنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدَّجّالِ، فَكانَ فِيما حَدَّثَنا، قالَ: «يَاتِي، وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أنْ يَدْخُلَ نِقابَ المَدِينَةِ، فَيَنْتَهِي إلى بَعْضِ السِّباخِ الَّتِي تَلِي المَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النّاسِ – أوْ مِن خَيْرِ النّاسِ – فَيَقُولُ لَهُ: أشْهَدُ أنَّكَ الدَّجّالُ الَّذِي حَدَّثَنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجّالُ: أرَأيْتُمْ إنْ قَتَلْتُ هَذا، ثُمَّ أحْيَيْتُهُ، أتَشُكُّونَ فِي الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، قالَ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: واللهِ ما كُنْتُ فِيكَ قَطُّ أشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الآنَ – قالَ: فَيُرِيدُ الدَّجّالُ – أنْ يَقْتُلَهُ فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ»، قالَ أبُو إسْحاقَ: «يُقالُ إنَّ هَذا الرَّجُلَ هُوَ الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ»،
(112) – وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدّارِمِيُّ، أخْبَرَنا أبُو اليَمانِ، أخْبَرَنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذا الإسْنادِ بِمِثْلِهِ
(113) – ((2938)) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزاذَ، مِن أهْلِ مَرْوَ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمانَ، عَنْ أبِي حَمْزَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ وهْبٍ، عَنْ أبِي الوَدّاكِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «يَخْرُجُ الدَّجّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَتَلْقاهُ المَسالِحُ – مَسالِحُ الدَّجّالِ – فَيَقُولُونَ لَهُ: أيْنَ تَعْمِدُ؟ فَيَقُولُ: أعْمِدُ إلى هَذا الَّذِي خَرَجَ، قالَ: فَيَقُولُونَ لَهُ: أوَ ما تُؤْمِنُ بِرَبِّنا؟ فَيَقُولُ: ما بِرَبِّنا خَفاءٌ، فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ألَيْسَ قَدْ نَهاكُمْ رَبُّكُمْ أنْ تَقْتُلُوا أحَدًا دُونَهُ، قالَ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إلى الدَّجّالِ، فَإذا رَأَىهُ المُؤْمِنُ، قالَ: يا أيُّها النّاسُ هَذا الدَّجّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجّالُ بِهِ فَيُشَبَّحُ، فَيَقُولُ: خُذُوهُ وشُجُّوهُ، فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضَرْبًا، قالَ: فَيَقُولُ: أوَ ما تُؤْمِنُ بِي؟ قالَ: فَيَقُولُ: أنْتَ المَسِيحُ الكَذّابُ، قالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ بِالمِئْشارِ مِن مَفْرِقِهِ حَتّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، قالَ: ثُمَّ يَمْشِي الدَّجّالُ بَيْنَ القِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قائِمًا، قالَ: ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: ما ازْدَدْتُ فِيكَ إلّا بَصِيرَةً، قالَ: ثُمَّ يَقُولُ: يا أيُّها النّاسُ إنَّهُ لا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأحَدٍ مِنَ النّاسِ، قالَ: فَيَأْخُذُهُ الدَّجّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلَ ما بَيْنَ رَقَبَتِهِ إلى تَرْقُوَتِهِ نُحاسًا، فَلا يَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا، قالَ: فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسِبُ النّاسُ أنَّما قَذَفَهُ إلى
النّارِ، وإنَّما أُلْقِيَ فِي الجَنَّةِ» فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «هَذا أعْظَمُ النّاسِ شَهادَةً عِنْدَ رَبِّ العالَمِينَ».
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [(21)]- ((21) – بابٌ فِي صِفَةِ الدَّجّالِ، وتَحْرِيمِ المَدِينَةِ عَلَيْهِ وقَتْلِهِ المُؤْمِنَ وإحْيائِهِ”).
وفي نسخة الإتيوبي رحمه الله: ((21)) – (بَابُ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ عَلَى الدَّجَّال، وَقَتْلِهِ الْمُؤْمِنَ، وَإِحْيَائِهِ)
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7345)] ((2938)) – الحديث
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الفقيه المدنيّ، (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) سعد بن مالك، (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدَّجَّالِ) قال في «الفتح»: كذا ورد من هذا الوجه مبهمًا، وقد ورد من غير هذا الوجه عن أبي سعيد رضي الله عنه ما لعله يؤخذ منه ما لم يُذْكَر، كما في رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد: «إنه يهوديّ، وإنه لا يولد له، وإنه لا يدخل المدينة، ولا مكة». أخرجه مسلم، وفي رواية عطية، عن أبي سعيد، رفعه، في صفة عين الدجال، كما تقدم، وفيه:» ومعه مثل الجنة والنار، وبين يديه رجلان، يُنذران أهل القرى، كلما خرجا من قرية دخل أوائله «، أخرجه أبو يعلى، والبزار، وهو عند أحمد بن منيع، مطولٌ، وسنده ضعيف، وفي رواية أبي الوداك، عن أبي سعيد، رفعه، في صفة عين الدجال أيضًا، وفيه:» معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء، يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء، تُدَخِّن «. انتهى [«الفتح» (16) / (592)، «كتاب الفتن» رقم ((7132))].
حديث: (معه من كل لسان …. )
قال محققو المسند (11752):
إسناده ضعيف لضعف مجالد: وهو ابن سعيد، وعبد المتعال بن عبد الوهَّاب: هو الأنصاري، ترجمه الحافظ في “التعجيل” ص 264 – 265، وذكر أن أبا أحمد الحاكم ذكره في “الكنى”، وذكر كذلك أن الرواة عنه ثلاثة، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح. يحيى بن سعيد: هو ابن أبان الأموي، وأبو الوداك: هو جَبْر بن نوف البكالي.
وأخرجه الحاكم 2/ 597 من طريق مروان بن معاوية، عن مجالد، به، بلفظ: “إني خاتم ألف نبي أو أكثر”. وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: مجالد ضعيف.
وأورده الهيثمي في “مجمع الزوائد” 7/ 346، وقال: رواه أحمد، وفيه مجالد بن سعيد، وثقه النسائي في روايةٍ، وقال في أخرى: ليس بالقوي، وضعفه جماعة.
[مسند أحمد 18/ 276 ط الرسالة]
وفي رواية البخاريِّ: «على أنقاب المدينة»، هو جمع نَقَب، بفتح النون، والقاف، بعدها موحدة، قال ابن وهب: المراد بها المداخل، وقيل: الأبواب، وأصل النقب: الطريق بين الجبلين، وقيل: الأنقاب: الطرق التي يسلكها الناس، ومنه قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} [ق: (36)].
(فَيَنْتَهِي)؛ أي: يصل الدجّال (إِلَى بَعْضِ السِّبَاخِ) بكسر المهملة، وتخفيف الموحّدة: جمع سَبَخة، بفتحتين، وهي الأرض الرملة التي لا تُنبت؛ لملوحتها، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرّة (الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ)؛ أي: من قِبَل الشام، (فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، هُوَ خَيْرُ النَّاسِ -أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ-) «أو» للشكّ من الراوي، وفي رواية البخاريّ: «فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خير الناس، أو من خيار الناس»، وفي رواية أبي الوداك عن أبي سعيد الآتية عند مسلم: «فيتوجه قِبَله رجل من المؤمنين، فيلقاه مسالح الدجال، فيقولون: أوَ ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فينطلقون به إلى الدجال بعد أن يريدوا قتله، فإذا رآه، قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي رواية عطية:» فيدخل القرى كلها غير مكة والمدينة، حُرِّمتا عليه، والمؤمنون متفرقون في الأرض، فيجمعهم اللَّه، فيقول رجل منهم: واللَّه لأنطلقنّ، فلأنظرنّ هذا الذي أنذرناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فيمنعه أصحابه خشية أن يُفتتن به، فيأتي حتى إذا أتى أدنى مسلحة من مسالحه، أخذوه، فسألوه ما شأنه؟ فيقول: أريد الدجال الكذاب، فيكتبون إليه بذلك، فيقول: أرسلوا به إليّ، فلما رآه عرفه».
(فَيَقُولُ) ذلك الرجل (لَهُ)؛ أي: للدجّال، (أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ) وفي رواية عطية: «أنت الدجال الكذاب الذي أنذرناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم »، وزاد: «فيقول له الدجال: لتطيعني فيما آمرك به، أو لأشقنّك شقتين، فينادي، يا أيها الناس هذا المسيح الكذاب»، (فَيَقُولُ الدَّجَّالُ) لأتباعه الحاضرين لديه: (أَرَأَيْتُمْ)؛ أي: أخبروني (إِنْ قَتَلْتُ هَذَا) الرجل الذي حدّثكم بأني الدجال الكذّاب، (ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ) بعد قتله (أَتَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟)؛ أي: في أمر ألوهيتي، (فَيَقُولُونَ: لَا)؛ أي: لا نشكّ في ذلك، وفي رواية عطية: «ثم يقول الدجال لأوليائه»، وهذا يوضح أن الذي يجيبه بذلك أتباعه، ويردّ قول من قال: إن المؤمنين يقولون له ذلك؛ تَقِيّةً، أو مرادهم: لا نشكّ أي في كفرك، وبطلان قولك.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم : (فَيَقْتُلُهُ)؛ أي: يقتل الدجال ذلك الرجل (ثُمَّ يُحْيِيهِ) بعد قتله؛ استدراجًا من اللَّه، وفي رواية أبي الوداك: «فيأمر به الدجال، فيُشبح، فيُشبع ظهره وبطنه ضربًا، فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به، فيوشر بالميشار من مفرقه، حتى يفرق بين رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول: قم، فيستوي قائمًا»، وتقدّم في حديث النوّاس بن سَمعان: «فيدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه، فيقبل، ويتهلل وجهه، يضحك»، وفي رواية عطية: «فيأمر به، فيُمَدّ برجليه، ثم يأمر بحديدة، فتوضع على عُجْب ذَنَبه، ثم يشقه شقتين، ثم قال الدجال لأوليائه: أرأيتم إن أحييت لكم هذا، ألستم تعلمون أني ربكم؟ فيقولون: نعم، فيأخذ عصًا، فضرب أحد شقيه، فاستوى قائمًا، فلما رأى ذلك أولياؤه صدّقوه، وأحبوه، وأيقنوا بذلك أنه ربهم»، وعطية ضعيف.
قال ابن العربيّ: هذا اختلاف عظيم، يعني في قتله بالسيف، وبالميشار، قال: فيُجمع بأنهما رجلان يقتل كلًّا منهما قِتلةً غير قِتلة الآخر.
قال الحافظ: كذا قال، والأصل عدم التعدد، ورواية الميشار تفسر رواية الضرب بالسيف، فلعل السيف كان فيه فُلول، فصار كالميشار، وأراد المبالغة في تعذيبه بالقتلة المذكورة، ويكون قوله: «فضربه بالسيف» مفسرًا لقوله: إنه نشره.
وقوله: «فيقطعه جزلتين» إشارة إلى آخر أمره لَمّا ينتهي نشره.
قال الخطابيّ: فإن قيل: كيف يجوز أن يُجري اللَّه الآية على يد الكافر، فإن إحياء الموتى آية عظيمة من آيات الأنبياء، فكيف ينالها الدجال، وهو كذّاب، مُفْتَرٍ، يدعي الربوبية؟.
فالجواب أنه على سبيل الفتنة للعباد؛ إذ كان عندهم ما يدلّ على أنه مبطل، غير محقّ في دعواه، وهو أنه أعور، مكتوب على جبهته كافر، يقرؤه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسم الكفر، ونقص الذات، والقدر؛ إذ لو كان إلهًا لأزال ذلك عن وجهه، وآيات الأنبياء سالمة من المعارضة، فلا يشتبهان.
وقال الطبريّ: لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل لأهل الكذب، والإفك في الحالة التي لا سبيل لمن عاين ما أتى به فيها إلا الفصل بين المحقّ منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى عِلم الصادق من الكاذب، فمن، ظهر ذلك على يده فلا ينكر إعطاء اللَّه ذلك للكذابين، فهذا بيان الذي أعطيه الدجال من ذلك، فتنة لمن شاهده، ومحنة لمن عاينه. انتهى.
وفي الدجال مع ذلك دلالة بينةٌ لمن عقل على كذبه؛ لأنه ذو أجزاء مؤلمة، وتأثير الصنعة فيه ظاهر، مع ظهور الآفة به، من عَوَر عينيه، فإذا دعا الناس إلى أنه ربهم، فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوّي خلق غيره، ويعدله، ويحسّنه، ولا يدفع النقص عن نفسه، فأقل ما يجب أن يقول: يا من يزعم أنه خالق السماء والأرض صَوِّر نفسك، وعدّلها، وأزل عنها العاهة، فإن زعمت أن الرب لا يُحْدث في نفسه شيئًا، فأزل ما هو مكتوب بين عينيك.
وقال المهلَّب: ليس في اقتدار الدجال على إحياء المقتول المذكور ما يخالف ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم : «هو أهون على اللَّه من ذلك»؛ أي: من أن يُمَكَّن من المعجزات تمكينًا صحيحًا، فإن اقتداره على قتل الرجل، ثم إحيائه لم
يستمر له فيه، ولا في غيره، ولا استضرّ به المقتول إلا ساعة تألمه بالقتل، مع حصول ثواب ذلك له، وقد لا يكون وجد للقتل ألمًا؛ لقدرة اللَّه تعالى على دفع ذلك عنه.
وقال ابن العربيّ: الذي يظهر على يد الدجال من الآيات، من إنزال المطر، والخصب على من يصدقه، والجدب على من يكذبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنة ونار ومياه، تجري كل ذلك محنة من اللَّه، واختبارًا؛ ليهلك المرتاب، وينجو المتيقن، وذلك كله أمر مخوف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «لا فتنة أعظم من فتنة الدجال»، وكان يستعيذ منها في صلاته تشريعًا لأمته.
وأما قوله في الحديث الآخر عند مسلم: «غير الدجال أخوف لي عليكم» فإنما قال ذلك للصحابة؛ لأن الذي خافه عليهم أقرب إليهم من الدجال، فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف عليه يشتد الخوف منه على البعيد المظنون وقوعه به، ولو كان أشدّ [«الفتح» (16) / (592) – (594)].
(فَيَقُولُ) ذلك الرجل (حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الآنَ) وفي رواية البخاريّ: «مني اليوم»، وفي رواية أبي الوداك: «ما ازددت فيك إلا بصيرةً، ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يَفعل بعدي بأحد من الناس»، وفي رواية عطية: «فيقول له الدجال: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنا الآن أشدّ بصيرة فيك مني، ثم نادى في الناس، يا أيها الناس هذا المسيح الكذاب، من أطاعه فهو في النار، ومن عصاه فهو في الجنة».
ونقل ابن التين عن الداوديّ أن الرجل إذا قال ذلك للدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، كذا قال، والمعروف أن ذلك إنما يحصل للدجال إذا رأى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم : (فيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ) وفي رواية أبي الوداك:» فيأخذه الدجال ليذبحه، فيُجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاس، فلا يستطيع إليه سبيلًا «، وفي رواية عطية:» فقال له الدجال: لتطيعني أو لأذبحنك، فقال: واللَّه لا أطيعك أبدًا فأمر به، فأُضجع، فلا يقدر عليه، ولا يتسلط عليه مرة واحدة «، زاد في رواية عطية:» فأخذ يديه ورجليه، فألقي في النار، وهي غبراء ذات دخان «، وفي رواية أبي الوداك:» فيأخذ بيديه، ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس أنه قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة «، زاد في رواية عطية:» قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «ذلك الرجل أقرب أمتي مني، وأرفعهم درجة»، وفي رواية أبي الوداك: «هذا أعظم شهادة عند رب العالمين»، ووقع عند أبي يعلى وعبد بن حميد، من رواية حجاج بن أرطاة، عن عطية: «أنه يُذبح ثلاث مرات، ثم يعود ليذبحه الرابعة، فيضرب اللَّه على حلقه بصفيحة نحاس، فلا يستطيع ذبحه»، والأول هو الصواب.
ووقع في حديث عبد اللَّه بن عمرو، رفعه، في ذكر الدجال: «يدعو برجل لا يسلطه اللَّه إلا عليه. . .»، فذكر نحو رواية أبي الوداك، وفي آخره: «فيهوي إليه بسيفه، فلا يستطيعه، فيقول: أخروه عني»، وقد وقع في حديث عبد اللَّه بن معتمر: «ثم يدعو برجل فيما يرون، فيؤمر به، فيقتل، ثم يقطع أعضاءه كل عضو على حدة، فيفرق بينها، حتى يراه الناس، ثم يجمعها، ثم يضرب بعصاه، فإذا هو قائم، فيقول: أنا اللَّه الذي أُميت وأُحيي، قال: وذلك كله سِحر، سَحَر أعين الناس، ليس يعمل من ذلك شيئًا»، وهو سند ضعيف جدًّا. (((أخرجه الطبرانى كما فى مجمع الزوائد (7/ 341) قال الهيثمى: فيه سعيد بن محمد الوراق، وهو متروك)))
وفي رواية أبي يعلى من الزيادة: «قال أبو سعيد: كنا نرى ذلك الرجل عمر بن الخطاب؛ لِمَا نعلم من قوته، وجَلَده».
وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ الْخَضِرُ) «أبو إسحاق» هذا هو إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه النيسابوريّ المتوفى في رجب سنة ((308) هـ)، تلميذ الإمام مسلم، راوي كتابه هذا، ثم إن هذا الذي قاله من أن الرجل الذي يقتله الدجال، ثم يحييه أنه الخضر عليه الصلاة والسلام، وكذلك معمر في «جامعه» في إثر هذا الحديث، مما لا دليل عليه، وقد قدّمنا في مناقب الخضر أن الصحيح أنه ليس حيًّا في زمنه عليه الصلاة والسلام، فكيف بزمن الدجال؟ فلتراجع ترجمته، ولتقرأها بالإمعان، واللَّه المستعان.
وهذا الذي قلته من أن أبا إسحاق هو تلميذ مسلم، هو الذي قاله القاضي عياض، والنوويّ؛ وأبو العبّاس القرطبيّ، وخالف في ذلك أبو عبد اللَّه القرطبيّ تلميذ أبي العبّاس، في «تذكرته»، فقال: هو أبو إسحاق السبيعيّ، وقد ردّ عليه الحافظ في «الفتح»، ودونك عبارته، قال بعد إيراد النصّ المذكور: كذا أطلق، فظنّ القرطبيّ [أراد أبا عبد اللَّه القرطبيّ صاحب «التذكرة»، وهو تلميذ لأبي العبّاس القرطبيّ] أن أبا إسحاق المذكور هو السبيعيّ أحد الثقات من التابعين، ولم يُصِب في ظنه، فإن السند المذكور لم يجر لأبي إسحاق فيه ذِكر، وإنما أبو إسحاق الذي قال ذلك، هو إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد، راوي «صحيح مسلم» عنه، كما جزم به عياض، والنوويّ، وغيرهما، وقد ذكر ذلك القرطبي في «تذكرته» أيضًا قبل ذلك، فكأن قوله في الموضع الثاني السبيعي سَبْق قلم، ولعل مستنده في ذلك ما قاله معمر في «جامعه» بعد ذكر هذا الحديث: قال معمر: بلغني أن الذي يقتل الدجال: الخضر، وكذا أخرجه ابن حبان من طريق عبد الرزاق، عن معمر، قال: كانوا يرون أنه الخضر، وقال ابن العربيّ: سمعت من يقول: إن الذي يقتله الدجال هو الخضر، وهذه دعوى لا برهان لها.
قال الحافظ: وقد تمسك من قاله بما أخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي عبيدة بن الجراح، رفعه، في ذكر الدجال: «لعله أن يدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي. . .» الحديث، ويعكر عليه قوله في رواية مسلم المتقدّمة: «شابّ ممتلئ شبابًا»، ويمكن أن يجاب بأن من جملة خصائص الخضر أن لا يزال شابًّا، ويحتاج إلى دليل. انتهى كلام الحافظ [«الفتح» (16) / (596)].
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: كلام الحافظ هذا ليس واضحًا في تحقيق هذه المسألة إلا أن آخر كلامه، وهو قوله: ويحتاج إلى دليل، هو محور المسألة، فكلّ من قال: إنه الخضر نقول له: أين دليلك على هذا من النصوص الصحيحة؟، فكل ما ذكرتم إنما هي بلاغات، لا تغني شيئًا، والصواب من أقوال أهل العلم، وهو مذهب البخاريّ وغيره أن الخضر ليس حيًّا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فكيف بعده؟ وأما الذي يدّعون حياته، فجلّ مستندهم أحاديث ساقطة، ورؤيا مناميّة -كما حقَّقها الحافظ في مؤلف له خاصّ بالخضر وكلها لا اعتماد عليها في إثبات هذه المسألة، فالحقّ أحقّ أن يتبع، ولتراجع ما تقدّم في ترجمة الخضر؛ في «المناقب»، تزدد علمًا، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: رواية شعيب عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في» صحيحه”، فقال:
((6713)) – الحديث
تنبيه: رواية عطية:» قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « … ذلك الرجل أقرب أمتي مني، وأرفعهم درجة … ». أخرجها الحاكم (8621) مطوله قتل الحاكم: هذا أعظم حديث في ذكر الدجال تفرد به عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري ولم يحتج الشيخان بعطيه. وعلق الذهبي: عطيه ضعيف
وفي المطالب العالية: (4523) – وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ: حدَّثنا حُسَيْنُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم … مطول جدا بذكر الدجال ويأجوج ومأجوج وذكر الحشر يوم القيامة. قال ابن حجر:
وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْهُ قِصَّةَ الشَّفَاعَةِ، وَقِصَّةَ بَعْثِ النَّارِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَفِي سِيَاقِ هَذَا بَعْضُ مُخَالَفَةٍ وَمَا فِي الصحيح أصح، وبالله التوفيق.
قال المحقق:
الحديث بهذا الإِسناد ضعيف، لأنه مسلسل بالضعفاء. ثم ذكر أن له طرق ومدارها على عطيه وبعض ألفاظه يشهد له أحاديث في مسلم وحديث مجالد.
شرح الحديث:
(الْمَسَالِحُ) بفتح الميم، وكسر اللام: جمع المسلحة، وهم القوم ذوو السلاح، يحفظون الثغور، وقوله: (مَسَالِحُ الدَّجَّالِ) مرفوع على الإبدال، وفيه إشارة إلى أن اللام عِوَض عن المضاف إليه، أو اللام للعهد [«مرقاة المفاتيح» (16) / (7)]،
(فَيُشَبَّحُ) بضمّ أوله، وتشديد الموحّدة المفتوحة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُمَدّ للضرب، وفي نسخة: «فيُشجّ»، (فَيَقُولُ) الدجال تأكيدًا، وتغليظًا، وتشديدًا: (خُذُوهُ)؛ أي: امسكوه أخذًا شديدًا، (وَشُجُّوهُ) بضم الشين المعجمة، وتشديد الجيم؛ أي: اكسروا رأسه، قال القاري: وفي نسخة -أي: من «المشكاة» -: «فشبحوه» بفتح الشين، وكسر الموحّدة، فحاء مهملة؛ أي: مُدّوه على بطنه، أو على قفاه، يقال: تشبّح الحرباء على العود؛ أي: امتد، وتشبيح الشيء: جَعْله عريضًا. انتهى [«مرقاة المفاتيح» (16) / (7)].
وقال النوويّ: قوله: «يشبح» بشين معجمة، ثم باء موحّدة، وحاء مهملة، وكذا «شَبِّحوه»؛ أي: مُدُّوه على بطنه، وجاء أيضًا: «شُجّوه» بجيم مشددة، من الشج، وهو الجرح في الرأس، ثم قال: وهذه الرواية أصحّ عندنا، وقوله: «فيؤشر» الرواية فيه بالهمزة، و «المئشار» بهمز بعد الميم، وهو الأفصح، ويجوز تخفيف الهمز فيهما، فتُجعل في الأول واوًا، وفي الثاني ياء، ويجوز المنشار، بالنون، وعلى هذا يقال: نشرت الخشبة، و «مفرقه» بكسر الراء: وسطه، يعني وسط فرقه، أو وسط رأسه. انتهى [«شرح النوويّ» (18) / (73)].
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم : (ثُمَّ يَمْشِي) وفي نسخة: «ثم يمرّ» (الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ)؛ أي: الشقتين من الرجل؛ تخييلًا لتحقيق القتل
وقال القاري: وأما قول الراوي: «فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين» فالمراد بها قَتْله الأول، فتأمل، فإنه موضع الزلل، والخطل، والوجل، كما وقع فيه الطيبيّ بقوله: «فيحسب الناس أن الدجال قذفه فيما يزعم أنه ناره، وإنما ألقي في الجنة، وهي دار البقاء»، يدل عليه قوله: «هذا أعظم الناس شهادة»، ونحوه قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ((169)) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [آل عمران: (169)، (170)]؛ أي: يسرحون في ثمار الجنة.
قال القاري: أقول: فهذا مناقض لقوله: «إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس»، اللَّهُمَّ إلا أن يقال: المراد بقوله: «لا يفعل بعدي»؛ أي: بعد قتلي ثانيًا بأحد من الناس؛ أي: غيري، ولا يخفى بُعده، واللَّه تعالى أعلم.
قال الإتيوبي عفا اللَّه عنه: لا يخفى على من تأمل أن المراد بقوله هنا «وإنما ألقي في الجنة» هو الذي تقدّم في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «معه جنة ونار، فناره جنّة، وجنّته نار»، فيُلقيه الدجال في ناره التي يدعي أنها نار، فإذا ألقاه فيها، قلبها اللَّه له جنة، يتنعّم فيها المؤمن، واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، وللَّه الحمد والمنّة. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
وقد تقدم في الباب السابق ما يتعلق بالباب.
قال ابن تيمية:
وهؤلاء الاتحادية لما فهموا قول هؤلاء الذين لا حقيقة للرؤية عندهم إلا زوال حجاب في الإنسان كالآفة التي فيه المانعة من الرؤية قالوا إنه يمكن زوال هذا الحجاب فتحصل المشاهدة وضموا ذلك إلى بقية أصولهم الفاسدة من أنه ليس مباينا لعباده بل هو الوجود المطلق فقالوا يرى
في الظاهر وإن كانت ذاته لا ترى بحال.
وهذا الكلام هو تعطيل للخالق ولرؤيته ودعوى الربوبية لكل أحد كما قال صاحب الفصوص: «ولما كان فرعون في منصب التحكم وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيهم ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} وإن كان عين الحق».
فإذا كان قد جعل فرعون صادقا في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} وهو عنده عين الحق فالدجال أيضا أحق بهذا الصدق فإنه يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج الخربة كنوزها تتبعه.
بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (1) / (482)
ومن كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين:
وقال القاضي عياض: «هذه الأحاديث الَّتي أدخلَها مسلم في قصة الدَّجال، حُجَّة أهل الحقِّ في صحَّة وجوده، وأنَّه شخصٌ معيَّن، ابتلى الله به عبادَه، وأقدره على أشياء مِن قدرته؛ ليَتميَّز الخبيث مِن الطيِّب .. هذا مذهب أهل السُّنة، وجماعة أهل الفقه والحديث ونُظَّارهم».
وقال أبو العبَّاس القرطبي: «فائدة الإنذار -أي بالدجَّال-: الإيمانُ بوجوده، والعزم على معاداتِه، ومخالفته، وإظهار تكذيبه، وصدقِ الالتجاء إلى الله تعالى في التعوُّذ مِن فتنتِه؛ وهذا مذهب أهل السُّنة، وعامَّة أهل الفقه والحديث؛ خِلافًا لمِن أنكرَه» …
وأمَّا المعارضة الثَّانية: وهو دَعواهم أنَّ هذه الأحاديث نَسَبت جُملةً مِن الخوارقِ للدَّجَال تُضاهي أكبر الآيات التي أيَّد الله بها أولي العزم … إلخ؛ فالجواب عنها أن يُقال
إنَّ منشأ الخطأ عند هؤلاء راجعٌ في حقيقتِه إلى إغفال أمرين مهِمَّين:
الأمر الأول: النَّظر في حقيقةِ دعوى الدَّجال التي يدَّعيها لنفسِه:
فإنَّ دعوى الدَّجَّال الَّتي تصحبُها تلك الخوارق هي دَعوى الرُّبوبية، لا النُّبوَّة والرِّسالة! وعلى هذا، فاقترانُ هذه الخوارق بدعواه، ومُضاهاتها لآياتِ الأنبياءِ ليست مَثار إشكال؛ لكونِه لم يَدَّع الرِّسالة أصلًا حتَّى يُقال: إنَّ هذه الخوارق مُعجزات وآيات قامت مَقام تصديقِ الله تعالى له.
الأمر الثَّاني: النَّظر في ما اقترنَ بالدَّجالِ مِن أحوال وصفات، تُبرهن على حقيقةِ أمرِه، وتكشِف عن زَيْفِ دَعواه:
وهو أنَّ الدَّجال مَوسوم بصفاتٍ وعلاماتٍ تقوم مَقام تكذيبِه فيما يدَّعيه؛ سواء مِن أمرِ الرُّبوبية أو الألوهيَّة، وهذه الأمور المُقترِنة معه تُبطِل أثرَ تلك الخوارق، وتَزيدُ اليقينَ عند المؤمنين بكذبه؛ وإلَاّ لمَا كان للنبَّي صلى الله عليه وسلم فَضلٌ ومَزيَّة على غيره مِن الرُّسل في الإبانةِ عن أمر الدَّجال، ولا في قولِه لهم: «ألا أحدِّثكم حديثًا عن الدَّجال ما حدَّث به نبيٌّ قومَه؟ .. » الحديث، ولَمَا كان في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنْ يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حجيجُه دونكم، وإنْ يخرج ولستُ فيكم فأمرُؤٌ حجيجُ نفسه» فائدةٌ تُذكر.
فإنَّ المقصودَ من قولِه صلى الله عليه وسلم: « .. فامرؤٌ حَجيجُ نفسه» أنَّ الدَّجال إنْ خرجَ ولستُ فيكم «فليحتجَّ كلُّ امرئٍ عن نفسِه بما أعلمتُه مِن صِفته، وبما يدلُّ عليه العقلُ مِن كذبه في دعوى الإلهيَّة؛ وهو خَبرٌ بمعنى الأمر، مع ما فيه مِن التَّنبيه على النَّظر عند المُشكلات، والتَّمسُّك بالأدلَّة الواضحات».
والمؤمن ببصيرتِه يُسدِّده الله تعالى، فينكشِف له في أَزمانِ الفِتنِ ما لا ينكشفُ لغيره، ويَتبيَّن له صدق الصَّادق، وافتراء المفتري، والدَّجال أكذب الخلق، وكَذبه ظاهر، لا يُنفَق على أهلِ اليقين …
وأمَّا المعارض الخامس: في دعوى المخالفِ تناقضَ أحاديث الدَّجال في تحديدِ شخصِه، أو في زمانِ خروجِه ومكانِه، أو في خوارِقه الَّتي تكون معه؛ فإنَّا نبيِّن زيفَ دعاوي التَّناقض هذه كلًّا على حِدة:
فأمَّا دعواه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يشكُّ في ابن صيَّاد هل هو الدَّجال أم لا، مع أنَّه وَصَف الدَّجال بصفاتٍ لا تنطبق على ابن صيَّاد: فالحقُّ أنَّ الاختلافَ في ابنِ الصَّياد لا يُنكَر وقوعه بين العلماء، «وأشكلَ أمرُه، حتَّى قيل فيه كلُّ مَقيل»
والَّذي يَقتضيه المنهج العلميُّ الصَّحيح هنا: الرُّجوع بهذا الاختلاف وأدلَّته إلى قواعد الجمع، ثمَّ التَّرجيح بضوابطه إن تَعذَّرت الأولى، أمَّا أن يُقدم المخالف على قفزِ تلكم المراحلِ المنهجيَّة، والرِّضا بعدُ بإسقاطِ الأدلَّة كلِّها بدعوى الاضطراب: فنَأيٌ عن الجادَّة الَّتي تَوَالى الأصوليُّون على التَّوصيةِ بسلوكِها في مثل هذه القضايا النَّقليَّة.
فمن ذلك: ذهاب بعضِ أهلِ العلمِ إلى كونِ ابن الصَّياد هو المسيح الدَّجال، وأنَّه هو الخارج آخر الزَّمان، واستشهدوا بما مَرَّ عن محمَّد بن المنكدر قال: «رأيتُ جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحلف بالله أنَّ ابن الصَّائد الدَّجال، قلت: تحلف بالله؟! قال: إنِّي سمعت عمرَ يحلف على ذلك عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النَّبي صلى الله عليه وسلم»، وبقول جابر رضي الله عنه أيضًا: «فقَدْنا ابنَ الصيَّاد يوم الحَرَّة»، وتأوَّلوا فقدَه هذا برجوعِه إلى جزيرتِه الَّتي رآه فيها تَميم الدَّاري مُوثَّقًا!
يقول النَّووي: «أمَّا احتجاجُه هو -أي ابن الصَّياد على مَن اتَّهمه بأنَّه الدَّجال- بأنَّه مُسلم، والدَّجال كافر، وبأنَّه لا يولد للدَّجال، وقد وُلِد له هو، وأن لا يدخل مكَّة والمدينة، وأنَّ بن صيَّاد دخل المدينة، وهو متوجِّه إلى مكَّة: فلا دلالة له فيه، لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أخبر عن صِفاته وقتَ فتنتِه وخروجِه في الأرض»
وذهب غير هؤلاء إلى أنَّ المسيح الدَّجال الخارجَ آخر الزَّمان غير ابن الصَّياد الَّذي عاش في المدينة زمنَ النُّبوة، فإنَّ هذا «كان دجَّالًا مِن الدَّجاجلة، ثمَّ تِيب عليه بعد ذلك، فأظهرَ الإسلام، والله أعلمُ بَضميرِه وسَريرتِه».
ودليلهم على ذلك: حديثُ تميم الدَّاري رضي الله عنه الطَّويل المشهور في «صحيح مسلم»، وقد مرَّ أنَّه أخبرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بلُقياه المسيحَ الدَّجالَ -بتقديرٍ مِن الله تعالى- مُوثقًا في دِيرٍ بإحدى الجُزر النَّائية في البحر، فذكره له بأوصافٍ تخالف ما عليه ابنَ الصَّياد.
وحملَ بعضُ هؤلاءِ جزمَ عمر رضي الله عنه على أنَّ ابن الصَّياد هو المسيحُ الدَّجال على عدم اطِّلاعِه على حديث تميمٍ وقتَ حلِفِه، وحملوا جزمَ جابر رضي الله عنه لمَّا رأى سكوتَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عند حلف عمر رضي الله عنه بأنَّه اجتهادٌ منه مَنقوض، وذلك أنَّ «الظَّاهر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكُن قد أُوحِيَ إليه وقتئذٍ في أمره بشيءٍ، وإنَّما أوحي إليه بصفاتِ الدَّجال، وكان في ابن صيَّاد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء».
فكان سِرُّ سكوتِه صلى الله عليه وسلم على حَلفِ عمرَ: عَدمُ تحقُّقِه مِن بطلانِ ما حَلف عليه، فلا يُعَدُّ هذا السُّكوت في هذه الحالة تقريرًا، خصوصًا إذا عُلِم أنَّ مِن شرط العَمل بالتَّقرير: ألَّا يعارضَه تَصريحٌ يخالفه.
فبهذا يرجُح عندي أنَّ قول مَن نفى أن يكون المسيح الدَّجال هو ابن الصَّياد هو الأصوب
ومهما يكُن أحدُ القَولين هو الصَّواب، فكِلا قائلَيْه من أهل العلم قد أصابَ المنهجَ الصَّحيح، بسلوكهم لسبيل الجمعِ والتَّرجيح بين أدلَّة الباب، بدلَ الإقدامِ على خطيئة الطَّعنِ في البابِ جملةً.
وأمَّا عن التَّعارض الثَّاني: في دعوى (رشيد رضا) أنَّ بعضَ الرِّوايات تُصرِّح بأنَّه يكون مع الدَّجال جبالٌ من خبزٍ ونهر أو أنهار من ماء وعسل .. إلخ، في حين أنَّ ما رواه الشَّيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ينفي ذلك عنه، حيث قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم: لأنَّهم يقولون إنَّ معه جبل خبزٍ ونهر ماء، فقال صلى الله عليه وسلم: هو أهون على الله مِن ذلك.
فجوابه: سائرٌ على منوالِ ما سبق تقريره مِن الجواب على دعوى التَّعارض قبله، ذلك أنَّ «إعمالَ الدَّليلين أَوْلَى مِن إهمالِها»، ثمَّ التَّرجيح إن استحكَم العجز عن الجمع، وقد سبق تقريره.
فنقول: إنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم: «هو أَهْوَن على الله مِن ذلك» مُحتمل مَعنَيْين:
المعنى الأوَّل: أَنَّ الدَّجالَ أهونُ مِن أن يُجرِيَ الله على يديه هذه الخوارق؛ وإنَّما هو تخيِيل، وسِحرٌ يَسحر به أعينَ النَّاس.
وهذا المعنى اختاره الطَّحاويُّ في تفسيرِ الحديث، فقَرَّر أنَّ ما يُظهِره الدَّجال ليس إلَّا تخييلًا ومَخْرَقةً لا حقيقةَ تحتها، واستدلَّ تأييدًا لذلك بحديثِ أبي الزُّبير عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: « .. ثمَّ يأمرُ السَّماءَ فتُمطر فيما يَرى النَّاس، ويقتلُ نفسًا ثمَّ يحييها فيما يَرى النَّاس».
وعلى الطَّريقة نفسِها في الجمعِ سارَ ابن حبَّان البُستي، فقرَّر أنَّ «إنكارَ المصطفى صلى الله عليه وسلم على المغيرة بأنَّ مع الدَّجال أنهار الماء، ليس يُضادُّ خبرَ أبي مسعود رضي الله عنه الَّذي ذكرناه، لأنَّه أَهْوَن على الله مِن أن يكون معه نهرٌ الماء يجري، والَّذي معه يرى أنَّه ماءٌ ولا ماءٌ، من غير أن يكون بينهما تَضادٌّ».
والمعنى الثَّاني: أنَّه أَهْون مِن أن يجعلَ ما يخلقه الله تعالى على يَديه مُضِلًّا للمؤمنين، ومشكِّكًا لقلوبِ الموقنين.
يقول القاضي عياض: «قوله في هذا الحديث: « .. هو أهْوَن على الله مِن ذلك»، أي: مِن أن يجعلَ ما يخلقُه على يدِه مُضِلًّا للمؤمنين، ومُشكِّكًا لقلوبِ المُوقنين؛ بل يزيد الَّذين آمنوا إيمانًا، وليرتاب الَّذين في قلوبهم مَرض والكافرون».
وقال ابن حجر: « .. فدلَّ ما ثَبت مِن ذلك على أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: « .. هو أهون على الله من ذلك» ليس المراد به ظاهره، وأنَّه لا يجعل على يديه شيئًا مِن ذلك؛ بل هو على التَّأويل المَذكور»، يعني: تفسيرَ القاضي عياض السَّالف الذِّكر.
فلمَّا أن كان هذا اللَّفظ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتملًا لكِلا هذين المعنيين؛ كان المُتعيَّن البحث عمَّا يزيح أحد الاحتمالين؛ فوجدنا أنَّ الأحاديث الأخرى قد أبانت عن أنَّ ما مع الدَّجال من الخوارق على بابها وظاهرها، فلم يسعنا حينئذٍ إلَّا المصير إليها، واتِّخاذها أصلًا مُحكما يُردُّ إليها ما تشابه من الألفاظ.
فأمَّا استدلالُ الطَّحاوي بحديثِ جابر رضي الله عنه: فلا يستقيم له إلَّا بعد التَّسليم بصحَّة ثبوتِه؛ وهذا ما لا يتمُّ له؛ لتفرُّد أبي الزُّبير عن جابر صلى الله عليه وسلم بتلك الزِّيادة الَّتي لم تقع في الأحاديث الأخرى، أعني قولَه: «فيما يرى النَّاس»، فهي زيادةٌ تخالف رواياتِ الثِّقاتِ للحديث، لا أعلمها إلَّا مِن رواية أبي الزُّبير عن جابر
فكيف تثبت هذه الزِّيادة أنَّ الإمطارَ مجرَّد تخيُّلٍ لا حقيقة له، وقد أنبتت الأرض منه حقيقةً، وأكل النَّاس مِمَّا أخرجت؟!
وإن كان الدَّجال قد خيَّل للنَّاسِ شَقَّ الشَّاب المؤمن فِلْقَتين، ثمَّ أرجعَه كما كان حيًّا، فهل يُعقل أنَّ الشَّابَ المفعول به ذاك قد شملَه ذاك التَّخييل وقد صرخ بوقوعه؟! وإلَّا فما منعه أن يجهر في النَّاس أنَّ ما أجراه الدَّجال عليه مجرَّد تخييلٍ وتدليسٍ لا حقيقة له لم يُمَسَّ فيه بسوء؟! في حين أنَّ الرِّوايات الصَّحيحة تُثبت أنَّ الشَّابَ قد تَيقَّن أنَّه قد أُحْيِيَ بعد مَقتلِه، فزاد بذلك يَقينُه بما كان أخبرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن كونِ ذلك على الحقيقة!
مِن هنا نتبيَّن: أنَّ ما ذهب إليه الطَّحاوي وابن حبَّان مِن تأويلٍ لمِا مع الدَّجال من الخوارق على معنى التَّمويه والتَّخييل تردُّه تلك الأحاديث البيِّنة الدالَّة على أنَّ ما يُظهِره الله على يَديه مِن أمرِ السَّماء بالإمطار فتُمطر، والأرضِ فتُنبت، واتِّباع كنوز الأرض له كيعاسيب النَّحل، وقتْله ذلك الشَّاب ثمَّ إحيائه له: كلُّه حقيقةٌ لا مَخْرقة، وليس هناك ما يَمنع من جريانِ تلك الخوارق على يَديه، والزَّمن زَمن انخراق السُّنَن.
ولذا قال أبو العبَّاس القرطبي: «أمَّا مَن قال: إنَّ ما يأتي به الدجَّال حِيَلٌ ومخارق فهو مَعزول عن الحقائق؛ لأنَّ ما أخبر به النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن تلك الأمور حقائق لا يحيل العقل شيئًا منها، فوَجَب إبقاؤها على حقائِقها».
ولا ريب أنَّ مثل الطَّحاوي وابن حبَّان لا يشملهما كلام القرطبيِّ هذا، لأنَّ مَردَّ تأويل هذين الإمامين ليس عن شبهةٍ عقليَّة -كما دأبُ المُحْدَثين- بل كان عن شبهةٍ نقليَّة؛ كما مَرَّ معنا مِن استدلالهم بروايةِ: « .. فيما يَرى النَّاس»، مع ما يعلمانه مِن الأحاديث الَّتي فيها ذِكرٌ لتلك الخوارق.
هذا كي لا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ تأويلهم نابعٌ عن استشكالٍ عَقليٍّ مَحْضٍ فيُتَّخَذ ذلك وليجةً للاعتضادِ به، وبيان مَآخذ أهلِ العلم، ونفيُ مَوارد الظُّنون عنهم، مِمَّا يَتغيَّاه هذا البحث؛ لقطعِ علائقِ المتأوِّلين المُتعلِّقين بأذيالِهم؛ فضلًا عن كونِ ذلك مِن لوازمِ الدِّيانة.
وأمَّا عن التَّعارض الثَّالث: في دعوى اختلافِ الرِّواياتِ في المكانِ الَّذي يخرج منه المسيح الدَّجال:
فإنَّ الدَّجال خارجٌ مِن المشرقِ قولًا واحدًا، وهو ما أشارت إليه أكثر الأحاديثِ في هذا الباب، «ثمَّ جاء في روايةٍ أنَّه يخرج مِن خُراسان، أخرج ذلك أحمد والحاكم مِن حديث أبي بكر رضي الله عنه، وفي أخرى أنَّه يخرج مِن أصبهان، أخرجها مسلم».
ولا تعارض بين هذه الجهات الثَّلاثة، لأنَّ أصبهان جزءٌ من بلاد خراسان، وخراسان واقعة شرق الجزيرة العربيَّة. ج (1) ذوالَّذي يظهر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث الجسَّاسة خروجَ الدَّجال مِن بحر الشَّام أو بحر اليَمن قد رجعَ عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم في آخر الرِّواية نفسها، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ألَا إنَّه في بحر الشَّام، أو بحر اليَمن، .. لا بل من قِبل المشرق ما هو! مِن قِبل المشرق ما هو! مِن قِبل المشرق ما هو!»، وأوْمأَ بيده إلى المشرقِ.
يقول أبو العبَّاس القرطبي في هذه الجُمَل النَّبويَّة: «كلُّه كلامٌ ابتُدِئ على الظَّن، ثمَّ عَرض الشَّك أو قصد الإبهام، ثمَّ نَفى ذلك كلَّه، وأضربَ عنه بالتَّحقيق، فقال: لا، بل مِن قبل المشرق؛ ثمَّ أكَّد ذلك بـ (ما) الزَّائدة، وبالتَّكرار اللَّفظي، وهذا لا بُعدَ فيه؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بَشرُّ يظنُّ ويشكُّ، كما يَسهو ويَنسى، إلَّا أنَّه لا يَتمادى، ولا يُقَرُّ على شيءٍ من ذلك، بل يُرشَد إلى التَّحقيقِ، ويُسلك به سواء الطَّريق»
والحاصل مِن هذا: أنَّه صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنَّ الدجَّال المذكورَ في بَحرِ الشَّام؛ لأنَّ الظَّن أنَّ تميمًا رَكِب في بحر الشَّام، ثمَّ عرَض له احتمالُ أنَّه في بحرِ اليَمن؛ لقربه مِن أرض الشَّام، ثمَّ أطلعه العليمُ الخبير على تحقيقِ ذلك فحَقَّق.
أمَّا ما جاء في حديث النَّواس بن سمعان رضي الله عنه مِن أنَّ الدَّجال سيخرج من خلَّة بين العراقِ والشَّام: فيُحمَل على تعدُّدِ خروجه، فيكون «مُبتدأ خروجِ الدَّجال مِن خراسان، ثمَّ يخرج إلى الحجازِ فيما بين العراق والشَّام» خروجَه الأكبرَ، قصدَ استئصالِ جذرِ من جذور الإسلامِ مِن أصلِه. …
[المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين 2/ 1069]
وراجع أيضا دفع دعوى المعارض العقلي لأحاديث متعلقة بالاعتقاد