: 2805 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك أبو هزاع أحمد البلوشي، وعبدالله المشجري، وعبدالله كديم، وطارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، محمد البلوشي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في ((53)) – (كِتابُ ذِكْرِ المُنافِقِينَ، والقِيامَةِ، والجَنَّة، والنّارِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ)، (10) – بابُ: طَلَبِ الكافِرِ الفِداءَ بِمِلْءِ الأرْضِ ذَهَبًا
(51) – ((2805)) حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ أبِي عِمْرانَ الجَوْنِيِّ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ? قالَ: «يَقُولُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى لِأهْوَنِ أهْلِ النّارِ عَذابًا: لَوْ كانَتْ لَكَ الدُّنْيا وما فِيها، أكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِها؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أرَدْتُ مِنكَ أهْوَنَ مِن هَذا وأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ – أحْسِبُهُ قالَ: ولا أُدْخِلَكَ النّارَ – فَأبَيْتَ إلّا الشِّرْكَ»
(51) – حَدَّثَناهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ أبِي عِمْرانَ، قالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ ? بِمِثْلِهِ، إلّا قَوْلَهُ: «ولا أُدْخِلَكَ النّارَ» فَإنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ.
(52) – ((2805)) حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ القَوارِيرِيُّ، وإسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، ومُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، وابْنُ بَشّارٍ – قالَ إسْحاقُ: أخْبَرَنا، وقالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنا – مُعاذُ بْنُ هِشامٍ، حَدَّثَنا أبِي، عَنْ قَتادَةَ، حَدَّثَنا أنَسُ بْنُ مالِكٍ، أنَّ النَّبِيَّ ?، قالَ: «يُقالُ لِلْكافِرِ يَوْمَ القِيامَةِ: أرَأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ أيْسَرَ مِن ذَلِكَ»،
(53) – ((2805)) وحَدَّثَنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنا رَوْحُ بْنُ عُبادَةَ، ح وحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرارَةَ، أخْبَرَنا عَبْدُ الوَهّابِ يَعْنِي ابْنَ عَطاءٍ، كِلاهُما عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ? بِمِثْلِهِ. غَيْرَ أنَّهُ قالَ: «فَيُقالُ لَهُ: كَذَبْتَ، قَدْ سُئِلْتَ ما هُوَ أيْسَرُ مِن ذَلِكَ».
==========
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:
“قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ} أيْ: مَن ماتَ عَلى الكُفْرِ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ خَيْرٌ أبَدًا، ولَوْ كانَ قَدْ أنْفَقَ مِلْءَ الأرْضِ ذَهَبا فِيما يَراهُ قُرْبة، كَما سُئِلَ النَّبِيُّ ? عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعان -وكانَ يُقْرِي الضيفَ، ويَفُكُّ العانِي، ويُطعم الطَّعامَ-: هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقالَ: لا إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [رواه مسلم في صحيحه برقم ((214)) من حديث عائشة رضي الله عنها].
وكَذَلِكَ لَوِ افْتَدى بِمِلْءِ الأرْضِ أيْضًا ذَهَبًا ما قُبِلَ مِنهُ، كَما قالَ تَعالى: {ولا يُقْبَلُ مِنها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ} [البَقَرَةِ: (123)]، [وقالَ {لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ}] [البَقَرَةِ: (254)] وقالَ: {لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خِلالٌ} [إبْراهِيمَ: (31)] وقالَ {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أنَّ لَهُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِن عَذابِ يَوْمِ القِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنهُمْ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ} [المائِدَةِ: (36)]؛ ولِهَذا قالَ تَعالى هاهُنا: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ} فَعَطَفَ {ولَوِ افْتَدى بِهِ} عَلى الأوَّلِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ غَيْرُهُ، وما ذَكَرْناهُ أحْسَنُ مِن أنْ يُقالَ: إنَّ الواوَ زائِدَةٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. ويَقْتَضِي ذَلِكَ ألّا يُنْقِذَهُ مِن عَذابِ اللَّهِ شَيْءٌ، ولَوْ كانَ قَدْ أنْفَقَ مِثْلَ الأرْضِ ذَهَبا، ولَوِ افْتَدى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمِلْءِ الأرْضِ ذَهَبا، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحرِها.
وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا حجّاج، حَدَّثَنِي شُعْبَة، عَنْ أبِي عِمْرانَ الجَوْني، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ ? قالَ: «يُقالُ لِلرَّجُلِ مِن أهْلِ النّارِ يَوْمَ القِيامَةِ: أرَأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ ما عَلى الأرْضِ مِن شَيْءٍ، أكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ. قالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أرَدْتُ مِنكَ أهْوَنَ مِن ذَلِكَ، قَدْ أخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ أبِيكَ آدَمَ ألّا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأبَيْتَ إلا أنْ تُشْرِكَ». وهَكَذا أخْرَجاهُ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ.
طَرِيقٌ أُخْرى: قالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا رَوْح، حَدَّثَنا حَمّاد، عَنْ ثابِتٍ، عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «يُؤْتى بِالرَّجُلِ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ: يا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وجَدْتَ مَنزلَكَ؟ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ، خَيْرُ مَنزلٍ. فَيَقُولُ: سَلْ وتَمَنَّ. فَيَقُولُ: ما أسْألُ ولا أتَمَنّى إلا أنْ تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرار -لِما يَرى مِن فَضْلِ الشَّهادَةِ. ويُؤْتى بِالرَّجُلِ مِن أهْلِ النّارِ فَيَقُولُ لَهُ: يا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وجَدْتَ مَنزلَكَ؟ فَيَقُولُ: يا رَبِّ شَرُّ مَنزلٍ. فَيَقُولُ لَهُ: تَفْتَدِي مِني بِطِلاعِ الأرْضِ ذَهَبًا؟ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ، نَعَمْ. فَيَقُولُ: كَذَبْتَ، قَدْ سَألْتُكَ أقَلَّ مِن ذَلِكَ وأيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ، فيُرَد إلى النّارِ».
ولِهَذا قالَ: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ وما لَهُمْ مِن ناصِرِينَ} أيْ: وما لَهُمْ مِن أحَدٍ يُنْقِذهم مِن عَذابِ اللَّهِ، ولا يجيرهم من أليم عقابه”. انتهى. [تفسير ابن كثير (2/ 72 – 73)].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [(13)]- (بابُ: طَلَبِ الكافِرِ الفِداءَ بِمِلْءِ الأرْضِ ذَهَبًا) “).
قال الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ-:
[(7057)] ((2805)) –
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ) – رضي الله عنه – (عَنِ النَّبِيِّ ?)؛ أنه (قالَ: «يَقُولُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى لأهْوَنِ أهْلِ النّارِ)؛ أي: لأسهلهم (عَذابًا) منصوب على التمييز، وهو أبو طالب، والد عليّ – رضي الله عنه
قال في «الفتح» بعد أن أورده بلفظ: «يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال: يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شرّ مضجع، فيقال له: هل تفتدي بقُراب الأرض ذهبًا، فيقول: نعم يا رب، فيقال له: كذبت»، قال: ظاهر سياقه أن ذلك يقع للكافر بعد أن يدخل النار، ويَحْتَمِل أن يراد بالمضجع هنا: مضجعه في القبر، فيلتئم مع الروايات الأخرى. انتهى [«الفتح» (15) / (62)].
المراد بالإرادة هنا: الإرادة الدينية الشرعية، وهي المرادفة للمحبة والرضا، يعني: قد أحببتُ منك ورضيتُ.
ولو كان المرادُ بها هنا: الإرادةَ الكونية لما تخلَّفت؛ لأن الإرادة الكونية القدرية لا يتخلف مرادها، وهي عامة للمؤمن والكافر.
وأما الإرادة الدينية الشرعية فقد يتخلف مرادها، وهي خاصة بالمؤمن. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 138)].
قال النوويّ: المراد بـ «أردت» في
الرواية الأُولى: طلبت منك، وأمرتك، وقد أوضحه في الروايتين الأخيرتين، بقوله: «قد سئلت أيسر» فيتعيّن تأويل «أردت» على ذلك؛ جمعًا بين الروايات؛ لأنه يستحيل عند أهل الحق أن يريد الله تعالى شيئًا، فلا يقع،
ومذهب أهل الحقّ أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات، خيرها، وشرّها، ومنها الإيمان والكفر، فهو -سُبْحانَهُ وتَعالى- مريد لإيمان المؤمن، ومريد لكفر الكافر؛
خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنه أراد إيمان الكافر، ولم يُرِد كفره، تعالى الله عن قولهم الباطل،
فإنه يلزم من قولهم إثبات العجز في حقه -سُبْحانَهُ وتَعالى-، وأنه وقع في ملكه مما لم يُرِده،
وأما هذا الحديث فقد بيّنّا تأويله،
وأما قوله: «فيقال له: كذبت»، فالظاهر أن معناه: أن يقال له: لو رددناك إلى الدنيا، وكانت لك كلها، أكنت تفتدي بها؟
فيقول: نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت أيسر من ذلك، فأبَيْت، ويكون هذا من معنى قوله تعالى: {ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام (28)]، ولا بدّ من هذا التأويل، ليُجْمَع بينه وبين قوله تعالى: {ولَوْ أنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الأرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ} [الزمر (47)]؛ أي: لو كان لهم يوم القيامة ما في الأرض جميعًا ومثله معه، وأمكنهم الافتداء لافتدوا. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (147) – (148)].
قال الراجحي معقبا: فقول النووي: “يستحيل عند أهل الحق أن يريد الله تعالى شيئًا فلا يقع”، إنما هو على مذهب الأشاعرة الذين ينكرون الإرادة الدينية.
والصواب: أن الإرادة إرادتان: إرادة كونية، وإرادة شرعية. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 139)].
وقال القاري -رَحِمَهُ الله
(وأنت في صُلب ادَم)
وفيه: إيماء إلى قضية الميثاق المشتمل على قوله تعالى: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} [الأعراف (172)]، والمراد منه: التوحيد، والعبادة على وجه التفريد، وإليه أشار بقوله: «أن لا تشرك بي شيئًا» وهو بدل، أو بيان لقوله: «أهون»، «فأبيت»؛ أي: كل شيء «إلا أن تشرك بي»؛ أي: فلا جَرَم لا أقبل منك، ولو افتديت بجميع ما في الأرض، كما قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أنَّ لَهُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِن عَذابِ يَوْمِ القِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنهُمْ} [المائدة (36)]، وقال في موضع آخر: {ولَوْ أنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الأرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ} [الزمر (47)].
قال الطيبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله [قال الإتيوبي معلقا: هذا السياق هو الذي وقع في «المشكاة»، وليس لفظ مسلم. انتهى.]: «لو أن لك ما في الأرض جميعًا»؛ أي: لو ثبت؛ لأن «لو» يقتضي الفعل الماضي، وإذا وقعت «أنّ» المفتوحة بعد «لو» كان حذف الفعل واجبًا؛ لأن ما في «أنّ» من معنى التحقيق والثبات منزّل منزلة
ذلك الفعل المحذوف.
وقوله: «أردت منك» ظاهر هذا الحديث موافق لمذهب المعتزلة، فإن المعنى: أردت منك التوحيد، فخالفت مرادي، وأتيت بالشرك،
وقال المظهر: الإرادة هنا بمعنى الأمر، والفرق بين الأمر والإرادة: أن ما يجري في العالم لا محالة كائن بإرادته -سُبْحانَهُ وتَعالى- ومشيئته، وأما الأمر فقد يكون مخالفًا لإرادته ومشيئته.
قال الطيبيّ: توضيحه: أن الأمر بالإيمان توجه على عامة المكلفين، وتعلقت مشيئة الإيمان ببعضهم، وإرادة الكفر ببعضهم، ولذا قال تعالى: {ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الهُدى} [الأنعام (35)] وقال سبحانه: {ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنهُمْ مَن آمَنَ ومِنهُمْ مَن كَفَرَ ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} [البقرة (253)] وقال: {لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا} [الرعد (31)]، وقال: {فَرِيقًا هَدى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف (30)].
قال الطيبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: الأظهر أن تُحمل الإرادة هنا على أخذ الميثاق في قوله تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف (172)] الآية بقرينة قوله: «وأنت في صلب آدم»، فقوله: «أبيت إلا أن تشرك بي» إشارة إلى قوله تعالى: {أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ} [الأعراف (173)]،
ويُحمل الآباء هنا على نقض العهد، ….. ثم نقل ابن حجر احتمال آخر موافقا لمذهب أهل السنة الإرادة تُطلق بإزاء شيئين: إرادة تقدير، وإرادة رضا”.
هو معنى قول أهل السُّنَّة: الإرادة من الله نوعان:
إرادة كونيّة، وهي المتعلّقة بجميع الكائنات، وهي بمعنى المشيئة؛ كقوله تعالى: {فَعّالٌ لِما يُرِيدُ ((16))} [البروج (16)]،
وإرادة شرعيّة، وهي المتعلّقة بما يحبّه ويرضاه؛ كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة (185)]. انتهى كلام البرّاك، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -، هذا متّفقٌ عليه.
* فقه الحديث وفوائده:
1 – (منها)؛ إثبات صفة الكلام لله تعالى، يكلّم من يشاء بما يشاء، كما يقول لأهون أهل النار الكلام المذكور في الحديث.
2 – (ومنها): إثبات أن الله -عَزَّ وجَلَّ- أخذ العهد والميثاق على بني آدم كلهم، وهم في صلب آدم -عَلَيْهِ السَّلامُ-، فمنهم من وفى بعهده، فسعد السعادة الأبديّة، ومنهم من امتنع من الوفاء، بل غدر، وعصى، وتمرّد، فشقي الشقاء الأبديّ، ونعوذ بالله تعالى من ذلك، وهذا هو الذي أشارت إليه الآية: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} [الأعراف (172)].
3 – (ومنها): ما قاله النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: في هذا الحديث دليل على أنه يجوز
أن يقول الإنسان: الله يقول، وقد أنكره بعض السلف، وقال: يكره أن يقول: الله يقول، وإنما يقال: قال الله، وقد قدمنا فساد هذا المذهب، وبينّا أن الصواب جوازه، وبه قال عامة العلماء، من السلف، والخلف، وبه جاء القرآن العزيز في قوله تعالى: {واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ} [الأحزاب (4)]، وفي «الصحيحين» أحاديث كثيرة مثل هذا، والله أعلم. انتهى. [البحر المحيط الثجاج].
قال الراجحي:
فيه: جواز قول: يقول الله تبارك وتعالى، أو قال الله تعالى.
وفيه: إثبات القول والكلام لله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)).
4 – (ومنها): أن هذا يقال لأهون أهل النار عذابًا، لكن لا ينفعه الفداء ما دام قد مات على الشرك، كما أخبر تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 139)].
5 – (ومنها): أقدمية التوحيد على الشرك؛ أخذ الميثاق، قال تعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ عَلى أنفُسِهِمْ ألَسْتَ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أن تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ}، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ? قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ … الحديث. وفطرية التدين وأصالته في حياة البشرية، كما قال تعالى: {فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ?: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (2) هل تحسون فيها من جدع اء». وكون الناس كانوا أمة واحدة على الهدى وعلى شريعة من الحق، قال تعالى: {كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأنزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ}، وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك في قراءة عبد الله: {كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} فاخْتَلَفُوا».
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): عذاب أهل النار، وصوره
(مقدمة) سبق ذكر ما يتعلق فيما يتعلق بالإيمان بالجنة والنار
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
[التعريف] “الجنة والنار:
الجنة لغة: البستان الكثير الأشجار، وشرعًا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للمتقين.
والنار لغة: معروفة، وشرعًا: الدار التي أعدها الله في الآخرة للكافرين.
* وهما مخلوقتان الآن؛ لقوله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران (133)].
وفي النار: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِين} [البقرة (24)]. والإعداد: التهيئة. ولقوله ? حين صلى صلاة الكسوف: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع منها». متفق عليه.
* والجنة والنار لا تفنيان؛ لقوله: {جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا} [البينة (8)]. والآيات في تأبيد الخلود في الجنة كثيرة،
وأما في النار فذكر في ثلاثة مواضع في النساء: {ولا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا، إلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبَدًا} [النساء (168)، (169)].
وفي الأحزاب: {إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكافِرِينَ وأعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا، خالِدِينَ فِيها أبَدًا} [الأحزاب (64)، (65)].
وفي الجن: {ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبَدًا} [الجن (23)].
وقال الله تعالى: {إنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف (74)، (75)].
* مكان الجنة والنار:
الجنة في أعلى عليين؛ لقوله تعالى: {كَلاَّ إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين (18)]. وقوله ? في حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر: «فيقول الله -عزوجل- اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض».
* والنار في أسفل سافلين؛ لقوله تعالى: {كَلاَّ إنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين (7)]. وقوله ? في حديث البراء بن عازب السابق: «فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى» (118).
* أهل الجنة وأهل النار:
أهل الجنة كل مؤمن تقي؛ لأنهم أولياء الله، قال الله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} [آل عمران (133)]. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ} [الحديد (21)].
وأهل النار كل كافر شقي؛ قال الله تعالى في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} [البقرة (24)]. {فَأمّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّار} [هود (106)].
* ذبح الموت:
الموت زوال الحياة، وكل نفس ذائقة الموت، وهو أمر معنوي غير محسوس بالرؤية، ولكن الله تعالى يجعله شيئًا مرئيا مجسما، ويُذْبَح بين الجنة والنار لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي ? قال: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناديًا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» ثم قرأ: {وأنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم (39)].
أخرجه البخاري في تفسير هذه الآية (119)، وروى نحوه في صفة الجنة والنار من حديث ابن عمر مرفوعًا (120). انتهى المراد. [تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين (131 – 134)].
وأما عن عذاب أهل النار وصوره، فيتلخص كالتالي:
أولاً: ”
إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة: {يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِن عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وصاحِبَتِهِ وأخِيهِ وفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ ومَن فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إنَّها لَظى} [المعارج (11) – (16)]. وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر.
ثانيًا:: صور من عذابهم
[النصوص في] تفاوت عذاب أهل النار
لما كانت النار دركات بعضها أشد عذابًا، وهولًا من بعض كان أهلها متفاوتون في العذاب، ففي الحديث الذي يرويه مسلم وأحمد عن سمرة، عن النبي ? قال في أهل النار: «إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته (وفي رواية) إلى عنقه» [رواه مسلم ((2845))].
وقد حدثنا الرسول ? عن أخف أهل النار عذابًا، ففي (صحيح البخاري) عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبي ? يقول: «إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه» [رواه البخاري ((6561))]. وفي رواية أخرى في (صحيح البخاري) أيضًا عن النعمان بن بشير: «إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل في القمقم». [رواه البخاري ((6562))].
وفي رواية النعمان بن بشير عن مسلم: «إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا» [رواه مسلم ((213))].
وفي (صحيح مسلم) عن أبي سعيد الخدري أن النبي ? قال: «إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل نعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه» [رواه مسلم ((211))]
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انه سمع رسول الله ? وذُكر عنده عمه أبو طالب، فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه» [رواه البخاري ((3885))، ومسلم ((210))].
* وقد جاءت النصوص القرآنية مصدقة لتفاوت أصحاب النار في العذاب؛ كقوله تعالى: {إنَّ المُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النارِ ولَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: (145)]، وقوله: {ويَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ} [غافر: (46)]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ العَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل (88)].
يقول القرطبي في هذا الموضوع: “فصل: هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك في أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر مساويًا لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين.
ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي ? إلى ضحضاح لنصرته إياه، وذبه عنه وإحسانه إليه؟ وحديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب، ويصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين.
إلا أن الله تعالى بميتهم إماتة حسب ما تقدم بيانه.
” [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1) / (886)].
وقال ابن رجب: واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي أدخلوا بها النار .. ، ثم ساق الأدلة الدالة على ذلك، وساق قول ابن عباس: ليس عقاب من تغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك … ثم قال ابن رجب: وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أهل الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم بحسنات أخرى له أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار. [التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (1) / (181)، وما بعدها].
تنبيه: سيأتي النقل في آخر البحث إن شاء الله هل الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر.
ثالثًا: إنضاج الجلود
إن نار الجبار تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلودًا أخرى غير تلك التي احترقت، لتحترق من جديد، وهكذا دواليك، {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُودًا غَيْرَها لِيَذُوقُوا العَذابَ إنَّ اللهَ كانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء (56)].
رابعًا:: الصهر
من ألوان العذاب صب الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم {فالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ والجُلُود} [الحج: (19) – (20)].
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي ? قال: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعود كما كان»، وقال: حسن غريب صحيح [رواه الترمذي ((2582))، وأحمد ((2) / (374)) ((8851))، والحاكم ((2) / (419)). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه ابن القطان في الوهم والإيهام ((4) / (375))، والألباني في «السلسلة الصحيحة» ((3470))].
خامسًا: اللفح
أكرم ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهانا الرسول ? عن ضرب الوجه، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عميًا وصما وبكمًا {ومَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أوْلِياء مِن دُونِهِ ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا مأواهم جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: (97)]، ويلقون في النار على وجوههم {ومَن جاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلا ما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: (90)]. وتلفح النار وجوههم وتغشاها أبدًا لا يجدون حائلا يحول بينهم وبينها {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النارَ ولا عَن ظُهُورِهِمْ ولا هُمْ يُنصَرُونَ} [الأنبياء: (39)]، {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النارُ وهُمْ فِيها كالِحُونَ} [المؤمنون: (104)]، {سَرابِيلُهُم مِّن قَطِرانٍ وتَغْشى وُجُوهَهُمْ النارُ} [إبراهيم: (50)]، {أفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ وقِيلَ لِلظالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: (24)]، وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أطَعْنا اللَّهَ وأطَعْنا الرَّسُولا} [الأحزاب (66)]،
سادسًا: السحب
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم {إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: (47) – (48)]، ويزيد من آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إذِ الأغْلالُ فِي أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: (70) – (72)]، قال قتادة: يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة.
سابعًا: تسويد الوجوه
يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأما الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أكْفَرْتُم بَعْدَ إيمانِكُمْ فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: (106)]، وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم {والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللهِ مِن عاصِمٍ كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أصْحابُ النارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [يونس (27)].
ثامنًا: إحاطة النار بالكفار
أهل النار هم الكفار الذين أحاطت بهم ذنوبهم ومعاصيهم، فلم تبق لهم حسنة، كما قال تعالى في الرد على اليهود الذين قالوا: {لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة، بَلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أصْحابُ النارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [البقرة: (81)]، ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافرًا مشركًا، يقول صديق حسن خان: «المراد بالسيئة هنا الجنس، ولابد أن يكون سببها محيطًا بها من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة، وسدت عليها مسالك النجاة، والخلود في النار هو للكفار والمشركين، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج لما ثبت في السنة متواترًا من خروج عصاة الموحدين من النار».
ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهادٌ ومِن فَوْقِهِمْ غَواشٍ وكَذَلِكَ نَجْزِي الظالِمِينَ} [الأعراف: (41)]. والمهاد ما يكون من تحتهم، والغواش جمع غاشية، وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشاهُمُ العَذابُ مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ ويَقُولُ ذُوقُوا ما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: (55)]، وقال في موضع آخر: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النارِ ومِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فاتَّقُونِ} [الزمر: (16)]، وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر: {وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكافِرِينَ} [التوبة: (49)]. وقد فسر بعض السلف المهاد بالفرش، والغواش باللحف.
وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، ذلك أن للنار سورًا يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى: {وقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شاء فَلْيُؤْمِن ومَن شاء فَلْيَكْفُرْ إنا أعْتَدْنا لِلظالِمِينَ نارًا أحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وإن يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماء كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وساءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: (29)]. وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها.
تاسعًا: إطلاع النار على الأفئدة
ذكرنا أن أهل النار يضخم خلقهم في النار شيئًا عظيمًا، ومع ذلك فإن النار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وما أدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي ولا تَذَرُ لَواحَةٌ لِّلْبَشَرِ} [المدثر: (26) – (29)]، قال بعض السلف في قوله: (لا تبقي ولا تذر)، قال: (تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك). وقال الحق تبارك وتعالى: {كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ وما أدْراكَ ما الحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلى الأفْئِدَة} [الهمزة: (4) – (7)]. قال محمد بن كعب القرظي: (تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه). وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: (تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء، لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي).
عاشرًا: اندلاق الأمعاء في النار
في (الصحيحين) عن أسامة بن زيد عن النبي ? قال: «يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه». [رواه البخاري ((3267))، ومسلم ((2989))]، ومن الذين يجرون أمعاءهم في النار عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين العرب، وقد رآه الرسول ? يجر قصبه في النار، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب». [رواه البخاري ((3521))، ومسلم ((2856))].
الحادي عشر: قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم
أعد الله لأهل النار في النار سلاسل وأغلالًا وقيودًا ومطارق {إنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وأغْلالًا وسَعِيرًا} [الإنسان: (4)] {إنَّ لَدَيْنا أنكالًا وجَحِيمًا وطَعامًا ذا غُصَّةٍ وعَذابًا ألِيمًا} [المزمل: (12) – (13)]، والأغلال توضع في الأعناق {وجَعَلْنا الأغْلالَ فِي أعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلا ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: (33)]، {إذِ الأغْلالُ فِي أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: (71)]، والأنكال: القيود، سميت أنكالًا؛ لأن الله يعذبهم وينكل بهم {إنَّ لَدَيْنا أنكالًا وجَحِيمًا} [المزمل: (12)]، والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعًا فاسْلُكُوهُ} [الحاقة: (30) – (32)]. وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم، {ولَهُم مَّقامِعُ مِن حَدِيدٍ كُلَّما أرادُوا أن يَخْرُجُوا مِنها مِن غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ} [الحج: (21) – (22)]. [الموسوعة العقدية – الدرر (5/ 212)، بتصرف يسير].
(المسألة الثانية): أشد وأهون أهل النار عذابًا
أولاً: أشد أهل النار عذابًا:
أشد أهل النار عذابًا إبليس، ثم الأخبث فالأخبث من نُوّابه وجنوده.
(1) – قال الله تعالى: {ألْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ ((24)) مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ((25)) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَألْقِياهُ فِي العَذابِ الشَّدِيدِ ((26))} [ق (24) – (26)].
(2) – وقال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ((68)) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أيُّهُمْ أشَدُّ عَلى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ((69)) ثُمَّ لَنَحْنُ أعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أوْلى بِها صِلِيًّا ((70))} [مريم (68) – (70)].
(3) – وقال الله تعالى: {وحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذابِ ((45)) النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ ((46))} [غافر (45) – (46)].
(4) – وقال الله تعالى: {إنَّ المُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ ولَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ((145))} [النساء (145)].
(5) – وقال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ العَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ ((88))} [النحل (88)].
(6) – وعَنْ عَبْداللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله ? «إنّ أشَدّ النّاسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ المُصَوّرُونَ». متفق عليه.
(7) – وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النّارِ يَوْمَ القِيامَةِ لَها عَيْنانِ تُبْصِرانِ وأُذنانِ تَسْمَعانِ ولِسانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ إنِّي وُكِّلْتُ بثلاَثةٍ بكُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ وبكُلِّ مَن دَعا مَعَ الله إلَهًا آخَرَ وبالمُصَوِّرِينَ». أخرجه أحمد والترمذي [صحيح].
فإذا كان يصور للشرك فهو من أشد أهل الكفر عذابا
وإذا كان عاصي فهو أشد أهل المعاصي عذابا
ثانيًا: أهون أهل النار عذابًا:
سبق ذكر حديث النعمان وابن عباس
رابعًا: أعظم عذاب أهل النار:
العذاب في النار نوعان:
عذاب على الأبدان بالنار والإحراق .. وعذاب على الأرواح بالإهانة والصغار،
وحجابهم عن رؤية ربهم، وهذا أعظمها. [موسوعة الفقه الإسلامي].
(المسألة الثالثة):
قال الحافظ الحكمي رحمه الله بعد أن ذكر في «فَصْلٌ»: والإيمانُ بِكِتابَةِ المَقادِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ تَقادِيرَ:
«الأوَّلُ» التَّقْدِيرُ الأزَلِيُّ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ عِنْدَما خَلَقَ اللَّهُ تَعالى القَلَمَ؛ … ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كانَ اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ، وكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شيء، وخلق السماوات والأرْضَ. فَنادى مُنادٍ: ذهبت ناقتك يابن الحُصَيْنِ، فانْطَلَقْتُ فَإذا هِيَ يَقْطَعُ دُونَها السَّرابُ، فَواللَّهِ لَوَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ تَرَكْتُها» [البخاري «(6) / (286)» في بدء الخلق].
«فَصْلٌ»: التَّقْدِيرُ «الثّانِي» مِن تَقادِيرِ الكِتابَةِ: كِتابَةُ المِيثاقِ يَوْمَ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ. (وسيأتي نقله)
«فَصْلٌ» التَّقْدِيرُ «الثّالِثُ» العُمْرِيُّ عِنْدَ تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ.
«فَصْلٌ» والرّابِعُ التَّقْدِيرُ الحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ.
«فَصْلٌ» والخامِسُ التَّقْدِيرُ اليَوْمِيُّ وهُوَ سَوْقُ المَقادِيرِ إلى المَواقِيتِ.
وقال رحمه الله في: التَّقْدِيرُ «الثّانِي» مِن تَقادِيرِ الكِتابَةِ: كِتابَةُ المِيثاقِ يَوْمَ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ،
قالَ تَعالى: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعْرافِ: (172) – (173)] وقالَ تَبارَكَ وتَعالى: {وما وجَدْنا لِأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ وإنْ وجَدْنا أكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} [الأعْرافِ: (102)].
وقالَ الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: حَدَّثَنا مُعاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أبُو إسْحاقَ الفَزارِيُّ حَدَّثَنا الأوْزاعِيُّ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ ألْقى عَلَيْهِمْ مِن نُورِهِ يَوْمَئِذٍ فَمَن أصابَهُ مِن نُورِهِ يَوْمَئِذٍ اهْتَدى ومَن أخْطَأهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أقُولُ جَفَّ القَلَمُ عَلى عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. [أحمد «(2) / (176) و (197)» والترمذي «(5) / (26) / ح (2643)» في الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: هذا حديث حسن، وابن حبان في صحيحه «(8) / (16) -إحسان» والحاكم في المستدرك «(1) / (30)» والآجري في الشريعة «(175)». وهو حديث صحيح].
وقالَ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: حَدَّثَنا هُشَيْمٌ وسَمِعْتُهُ أنا مِنهُ قالَ حَدَّثَنا أبُو الرَّبِيعِ عَنْ يُونُسَ عَنْ أبِي إدْرِيسَ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ? قالَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ اليُمْنى فَأخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضاءَ كَأنَّهُمُ الذَّرُّ، وضَرَبَ كَتِفَهُ اليُسْرى فَأخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْداءَ كَأنَّهُمُ الحُمَمُ، فَقالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: إلى الجَنَّةِ ولا أُبالِي، وقالَ لِلَّذِي فِي كَفِّهِ اليُسْرى: إلى النّارِ ولا أُبالِي» [أحمد وابنه في الزوائد «(6) / (441)» وإسناده صحيح].
وقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ سوار حدثنا الليث -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ- عَنْ معاوية بن راشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتادَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ أخَذَ الخَلْقَ مِن ظَهْرِهِ وقال: هَؤُلاءِ فِي الجَنَّةِ ولا أُبالِي وهَؤُلاءِ فِي النّارِ ولا أُبالِي» قالَ: فَقالَ قائِلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلى ماذا نَعْمَلُ؟ قالَ: «عَلى مَواقِعِ القَدَرِ». وفِي البابِ عَنْ مَعاذٍ ونَضْرَةَ عَنْ رَجُلٍ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ? وحَدِيثُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذا رِجالُهُ رِجالُ الصَّحِيحَيْنِ إلى الصَّحابِيِّ.
وقالَ الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: حَدَّثَنا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا جَرِيرٌ -يَعْنِي ابْنَ أبِي حازِمٍ- عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ ? قالَ:» أخَذَ اللَّهُ تَعالى المِيثاقَ مِن ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمانَ -يَعْنِي عَرَفَةَ- فَأخْرَجَ مِن صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأها فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ، أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ} [الأعْرافِ: (172)] صَحَّحَهُ الحاكِمُ [أخرجه أحمد «(1) / (272)»، وغيره، وسنده صحيح. وقد تقدم موقوفا من قول ابن عباس رضي الله عنهما. وذكر ابن كثير أن وقفه أصح].
ورَوى ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي زَوائِدِهِ عَلى مُسْنَدِ أبِيهِ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الرَّبالِيُّ حَدَّثَنا المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ سَمِعْتُ أبِي يُحَدِّثُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ عَنْ رَفِيعٍ أبِي العالِيَةِ عَنْ أُبَّيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: {وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ عَلى أنْفُسِهِمْ} [الأعْرافِ: (172)] الآيَةَ. قالَ: «جَمَعَهُمْ فَجَعَلَهُمْ أرْواحًا ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا ثُمَّ أخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ والمِيثاقَ وأشْهَدَهُمْ عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا: بَلى. قالَ: فَإنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّماواتِ السَّبْعَ والأرَضِينَ السَّبْعَ، وأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أباكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ لَمْ نَعْلَمْ بِذَلِكَ. اعْلَمُوا أنَّهُ لا إلَهَ غَيْرِي ولا رَبَّ غَيْرِي فَلا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا إنِّي سَأُرْسِلُ إلَيْكُمْ رُسُلِي يُذَكِّرُونَكُمْ عَهْدِي ومِيثاقِي وأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي. قالُوا: شَهِدْنا بِأنَّكَ رَبُّنا وإلَهُنا لا رَبَّ غَيْرُكَ. فَأقَرُّوا بِذَلِكَ» الحَدِيثِ. وقالَ الإمامُ الحاكِمُ: صَحِيحُ الإسْنادِ ولَمْ يُخَرِّجاهُ. [عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند «(5) / (135)» وابن جرير «(9) / (115)» وابن منده في الرد على الجهمية «ح (30)» والحاكم «(2) / (323)» وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وأخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ واللالكائي وابن مردويه وابن عساكر في تاريخه كما في الدر المنثور «(3) / (600)»].
وقالَ البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ حَدَّثَنا غَنْدُرٌ حَدَّثَنا شُعْبَةُ عَنْ أبِي عِمْرانَ قالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ? قالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعالى لِأهْوَنِ أهْلِ النّارِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ: لَوْ أنَّ لَكَ ما فِي الأرْضِ مِن شَيْءٍ أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدْتُ مِنكَ أهْوَنَ مِن هَذا وأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بِي، فَأبَيْتَ إلّا أنْ تُشْرِكَ بِي» ورَواهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ (1).
والأحادِيثُ فِي هَذا البابِ كَثِيرَةٌ، وقَدْ قَدَّمْنا مِنها جُمْلَةً وافِيَةً فِي أوَّلِ هَذا الشَّرْحِ عِنْدَ الكَلامِ عَلى المِيثاقِ. ولِلَّهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ”. انتهى المراد. [معارج القبول بشرح سلم الوصول (3/ 930)].
—
– تمتيع الكافر في الدنيا وعذابه في الاخرة
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمةً واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً)
وما دلت عليه هذه الآيات من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى، كقوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة: (126)]
وقد بين تبارك وتعالى في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: (44) – (45)]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: (44) – (45)].
وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر،)، فالدنيا جنة الكافر؛ لأن من ضمن حكمة الله سبحانه وتعالى في التوسعة على الكافر في الدنيا أنه يكافئه مقابل ما يعمل من الأعمال الحسنة، كبر الوالدين، وصدق الوعد، والإحسان إلى الفقير واليتيم والمسكين، وغير ذلك مما يسمونه بالأشياء الإنسانية، فإذا عملها وهو يريد بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فقد يجازى بها في الدنيا؛ لأنها لا تنفعه على الإطلاق في الآخرة؛ لأنه لا يسمى عملاً صالحاً؛ لأنه يفتقد شرط الإيمان، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل: (97)]، فلابد أن يكون مؤمناً، فالذي بدون الإيمان قد ينفعه في الدنيا فقط، لكن لا يمكن أن ينفعه في الآخرة، ونقول: (قد) لأنه لا ينال ذلك إلا بمشيئة الله، كما قال تعالى في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: (18)]، فالمنفعة معلقة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيعطى الكافر في الدنيا مقابل الأعمال الحسنة التي يعملها؛ لأن هذه هي الجنة والفرصة الوحيدة لأن يثاب على هذا العمل، أما في الآخرة فلا يمكن أن ينتفع ويثاب على عمله.
رابعا قال ابن عثيمين —في تفسيره
{يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُو ءُ الدَّارِ} [غافر (52)]
المراد بـ {الظَّالِمِينَ} هنا الكافرون، قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة (254)] {مَعْذِرَتُهُمْ} عندي بالشرح قال: (عُذْرهم أو اعتذارهم) يعني: عذرهم فيما سبق، أو اعتذارهم فيما لحق في ذلك اليوم، هم يعتذرون لكن لا يُقْبَل {لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات (36)].
({وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر (52)] أي البعد من الرحمة قيل: إن اللام هنا بمعنى (على) كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ} [البقرة (161)] عليهم، فاللام هنا بمعنى (على)، والصواب أن اللام على بابها، وأنها ليست بمعنى (على)، بل هي بمعنى الاستحقاق؛ لكن ما يوافق ظاهر اللفظ هو الأولى.
{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر (52)] اللعنة هي البعد عن الرحمة، وقوله: {اللَّعْنَةُ} لم يُبَيِّن ممن فتعم {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة (161)]، وفي آية أخرى {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} فكل شيء يلعنهم، نسأل الله العافية.
({وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} يقول المؤلف: (شدة عذابها) ولكن لو قيل: إن سوء الدار: ما يسوء من العذاب الشديد وغير الشديد لكان أعم.
(المسألة الرابعة): الأحاديث القدسية
أولاً: الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله
قال الشيخ محمد أمان الجامي: “الأحاديث القدسية من كلام الله على أصح قولي أهل العلم,
وبعض أهل العلم تأثر باصطلاح الأشاعرة وقال: إن “الأحاديث القدسية من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنا”،
وتورط في عقيدة الأشاعرة من حيث لم يفطن, الأشاعرة إنما قالوا هذا؛ لأن الكلام اللفظي عندهم مستحيل على الله, القرآن نفسه عند الأشاعرة ليس بكلام الله، فانطلاقا من هذه القاعدة عندهم الأحاديث القدسية ليست من كلام الله.
لذلك ينبغي أن يفطن الكاتب والمؤلف في هذا الوقت لهذه القاعدة؛ لأن هذه القاعدة دخلت في علم الأصول، ومصطلح الحديث، وانطلت على بعض الناس وانخدعوا بها، فأخذوها كأنها قضية مسلمة”. [قرة عيون السلفية:34 – 35، للشيخ محمد أمان الجامي].
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله:
” الحديث القدسي فهو كلام منسوب إلى الله، نسبه النبي ? إلى الله يقال له: حديث قدسي، يعني حديث عن الله -جل وعلا- وهو أيضًا يعتبر من كلام الله لفظه ومعناه، كما إذا ثبت عن النبي ? قال الله كذا فيعتبر من كلام الله، هذا هو الصحيح لفظه ومعناه، في الحديث يقول الله -جل وعلا-: ((يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم))، هكذا قال النبي ? عن الله عزوجل.
وهكذا ما جاء في معناه من الأحاديث التي ينقل النبي ?، ينقلها النبي ? عن الله يقول: هذا كلام الله هذا يسمى حديثًا قدسيًا، ولكن ليس له حكم في القرآن، ليس بمعجز … “. انتهى المراد، ثم ذكر جملة من الفروق. [الفروق بين القرآن والحديث القدسي، نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله].
ثانيًا: الفرق بين الحديث القدسي والقرآن
قال الشيخ ابن عثيمين:
” ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها: أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لايتعبد الله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله عزّ وجل تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: (إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر: (9))؛ والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها: أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسّه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفًا أجمع القراء عليه؛ لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئًا منها مدعّيًا أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي ? قاله؛ لكان كافرًا لتكذيبه النبي ?”. انتهى. [شرح الأربعين النووية للعثيمين ص (236 – 237)].
وقال الشيخ محمد أمان:
“ذكر أهل العلم الفروق وهي كثيرة منها:
– الأحاديث القدسية لا تصح بها الصلاة،
– الأحاديث القدسية لا يتعبد بتلاوتها،
– والأحاديث القدسية يجوز أن يكون فيها ضعيف وصحيح من حيث الإسناد،
– ويجوز روايتها بالمعنى دون القرآن , القرآن لا تجوز روايته بالمعنى؟
هذه الفروق أثبتها بعض أهل العلم, بهذا نفرق بين القرآن وبين الأحاديث القدسية”. [قرة عيون السلفية: 34].
مسألة:
التفصيل في مسألة الصغائر عند ابن رجب:
قال ابن رجب:
المسألة الثانية: أنَّ الصغائر هل تجبُ التَّوبةُ منها كالكبائر أم لا؟ لأنَّها تقع مكفرةً باجتناب الكبائر، لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}. هذا ممَّا اختلف الناسُ فيه.
فمنهم من أوجب التوبة منها، وهو قولُ أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم.
وقد أمرَ الله بالتوبةِ عَقيبَ ذكر الصغائرِ والكبائرِ، فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} إلى قوله
: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وأمر بالتوبة من الصَّغائر بخصوصها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
ومن النَّاس من لم يُوجب التوبة منها، وحكي عن طائفةٍ من المعتزلة، ومن المتأخرين من قال: يجبُ أحد أمرين، إمَّا التوبةُ منها، أو الإتيانُ ببعض المكفِّرات للذُّنوب من الحسنات.
وحكى ابنُ عطية في ” تفسيره ” في تكفير الصَّغائر بامتثالِ الفرائض واجتناب الكبائر قولين:
أحدهما – وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث -: أنَّه يُقطع بتكفيرها بذلك قطعاً، لظاهر الآية والحديث.
والثاني – وحكاه عن الأصوليين -: أنَّه لا يُقطع بذلك، بل يُحمل على غلبة الظنِّ وقوَّة الرجاء، وهو في مشيئة الله – عز وجل -، إذ لو قطع بتكفيرها لكانتِ الصَّغائرُ في حكم المباح الذي لا تَبِعَةَ فيه، وذلك نقضٌ لِعُرى الشريعة قلت: قد يقال: لا يُقطع بتكفيرها؛ لأنَّ أحاديث التَّكفير المطلقة بالأعمال جاءت مقيَّدة بتحسين العمل، كما ورد ذلك في الوضوء والصَّلاة، وحينئذٍ فلا يتحقَّق وجودُ حسن العملِ الذي يوجب التَّكفير، وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابنُ عطية ينبني الاختلافُ في وجوب التوبة من الصغائر.
وقد خرَّج ابنُ جرير من رواية الحسن: أنَّ قوماً أتوا عمر، فقالوا: نرى أشياءَ من كتاب الله لا يُعْمَلُ بها، فقال لرجلٍ منهم: أقرأتَ القرآن كُلَّه؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيته في نفسك؟ قال: اللهمَّ لا، قال: فهل أحصيتَه في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثَرِك؟ ثم تتبَّعهم حتَّى أتى على آخرهم، ثم قال: ثكِلَت عمرَ أمُّه، أتكلفونه أنْ يُقيمَ على النَّاس كتاب الله؟ قد علم ربُّنا أنَّه سيكون لنا سيئات، قال: وتلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}.
وبإسناده عن أنس بن مالك: أنَّه قال: لم أرَ مثلَ الذي بلغنا عن ربِّنا تعالى، ثم لم نَخْرُجْ له عن كلِّ أهلٍ ومالٍ، ثم سكت، ثم قال: والله لقد كلَّفنا ربنا أهونَ من ذلك، لقد تجاوزَ لنا عمَّا دونَ الكبائر، فمالنا ولها، ثم تلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}
وخرَّجه البزار في ” مسنده ” مرفوعاً، والموقوف أصحُّ.
وقد وصف الله المحسنينَ باجتناب الكبائر قال تعالى: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}.
وفي تفسير اللمم قولان للسَّلف:
أحدهما: أنَّه مقدمات الفواحش كاللمس والقبلة.
وعن ابن عباس: هو ما دُونَ الحدِّ من وعيد الآخرة بالنار وحدِّ الدُّنيا.
والثاني: أنَّه الإلمامُ بشيء من الفواحش والكبائر مرَّةً واحدةً، ثم يتوبُ منه، وروي عن ابن عباس وأبي هريرة، وروي عنه مرفوعاً بالشَّكِّ في رفعه، قال: اللمة من الزنى ثم يتوب فلا يعود، واللمة من شرب الخمر، ثم يتوب فلا يعود، واللمة من السرقة، ثم يتوب فلا يعود.
ومن فسَّر الآية بهذا قال: لابدَّ أنْ يتوبَ منه بخلاف مَنْ فسَّره بالمقدِّمات، فإنَّه لم يشترط توبة.
والظاهرُ أنَّ القولين صحيحان، وأنَّ كليهما مرادٌ من الآية، وحينئذٍ فالمحسنُ: هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادراً ثم يتوبُ منها، ومن إذا أتى بصغيرةٍ كانت مغمورةً في حسناته المكفرة لها، ولابدَّ أنْ لا يكون مُصِراً عليها، كما قال تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وروي عن ابن عباس أنَّه قال: لا صَغيرة مع الإصرار، ولا كبيرةَ مع الاستغفار، وروي مرفوعاً من وجوهٍ ضعيفةٍ.
وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها، فلا بُدَّ للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش، وقال الله – عز وجل -: {وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
فهذه الآيات تضمَّنت وصفَ المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم مِنَ الإيمان والتوكلِ، وإقام الصَّلاةِ، والإنفاق مما رزقهمُ الله، والاستجابة لله في جميع طاعاته، ومع هذا فهم مجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش، فهذا هو تحقيقُ التقوى،
ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عندَ الغضبِ، وندبهم إلى العفو والإصلاح.
جامع العلوم والحكم (ص420 ت الفحل)