2804 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك أبو هزاع أحمد البلوشي، وعبدالله المشجري، وعبدالله كديم، وطارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، محمد البلوشي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في ((53)) – (كِتابُ ذِكْرِ المُنافِقِينَ، والقِيامَةِ، والجَنَّة، والنّارِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ)، (9) – بابُ: لا أحَدَ أصْبَرُ عَلى أذًى مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
(49) – ((2804)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، وأبُو أُسامَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أبِي مُوسى، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لا أحَدَ أصْبَرُ عَلى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، إنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، ويُجْعَلُ لَهُ الوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعافِيهِمْ ويَرْزُقُهُمْ»،
(49) – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وأبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ، قالا: حَدَّثَنا وكِيعٌ، حَدَّثَنا الأعْمَشُ، حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أبِي مُوسى، عَنِ النَّبِيِّ ? بِمِثْلِهِ، إلّا قَوْلَهُ «ويُجْعَلُ لَهُ الوَلَدُ» فَإنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ.
(50) – ((2804)) وحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قالَ: قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ، قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «ما أحَدٌ أصْبَرَ عَلى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعالى، إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا ويَجْعَلُونَ لَهُ ولَدًا وهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ ويُعافِيهِمْ ويُعْطِيهِمْ».
==========
التمهيد:
قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: قال الله تعالى: ((كذَّبني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. وشتمني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. فأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: إنّ لي ولدًا، وأنا الأحد الصَّمد الذي لم يلد ولم يولدْ، ولم يكُن له كفوًا أحد)) [أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة الإخلاص، برقم (4974)]،
فالله تعالى يدرّ على عباده الأرزاق المطيع منهم والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته وتكذيبه وتكذيب رسله والسعي في إطفاء دينه، والله تعالى حليم على ما يقولون وما يفعلون، يتتابعون في الشرور، وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر لأنّه عن كمال قدرة، وكمال غنىً عن الخلق، وكمال رحمة وإحسان، فتبارك الربُّ الرحيم الذي ليس كمثله شيء، الذي يحب الصابرين ويعينهم في كل أمرهم [الحق الواضح المبين، ص (57) – (58)، بتصرف يسير].
تبويبات الأئمة:
بَابُ لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ
49 – (2804) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى
أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ.»
صحيح مسلم (8/ 133 ط التركية)
بوب عليه البخاري:
71 – باب: الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى
صحيح البخاري (5/ 2262 ت البغا)
بوب عليه البيهقي:
بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّبْرِ
الأسماء والصفات – البيهقي (2/ 481)
بوب عليه ابن بلبان:
ذِكْرُ الْإِخْبَارِ عَنْ تَفَضُّلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ يَسْتَوْجِبُ مِنْهُ أَنْوَاعَ النِّقَمِ
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/ 407)
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [(12)]- (بابٌ: لا أحَدَ أصْبَرُ عَلى أذًى مِنَ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ-) “).
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7054)] ((2804)) (ليدعون له ولدًا) قالوا اتخذوا الله ولدًا، كقول النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله … وفيه أنه يطلق الصبر عليه تعالى وثبت في صفاته الصبور.”. [التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 236)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: الحقّ أن الصبر صفة من صفات الله -عَزَّ وجَلَّ- وردت في نصوص الكتاب السُّنَّة، فلا تفسّر بلازمها، وإنما نثبتها على معناها الحقيقيّ، دون المجازيّ على ما يليق بجلاله -سُبْحانَهُ وتَعالى-، ولا يلزم من إثباتها على الوجه اللائق به -سُبْحانَهُ وتَعالى- محذور؛ إذ تفسيرها بحبس النفس على المكروه هو معناها بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة للخالق، فلها معنى يليق بجلاله، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وعمدة العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال في «العمدة»: قيل: إنه منزه عن الأذى، وأجيب بأن المراد به أذى يلحق أنبياءه؛ إذ في إثبات الولد إيذاء للنبيّ ?؛ لأنه تكذيب له، وإنكار لمقالته. انتهى، وقد عرفت ما فيه، يعني من فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام الاتيوبي
قال ابن القيم في الصواعق
وليس أذاه سبحانه من جنس الأذى الحاصل للمخلوقين كما أن سخطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” ومما ينبغي أن يتفطن له أن لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره، وضعف أثره من الشر والمكروه، ذكره الخطابي وغيره، وهو كما قال، واستقراء موارده يدل على ذلك، مثل قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى).
ولهذا قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وقال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟)، وقال: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ)، وقد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي)، وقال سبحانه في كتابه: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا).
فبين أن الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم، لكن يؤذونه تبارك وتعالى إذا سبوا مقلب الأمور، وجعلوا له سبحانه ولدا أو شريكا، أو آذوا رسله وعباده المؤمنين ” انتهى من “الصارم المسلول” (2/ 118 – 119).
وقال في «الفتح»: وقوله في الحديث: «أصبر» أفعل تفضيل من الصبر، ومن أسمائه الحسنى -سُبْحانَهُ وتَعالى-: «الصبور»، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة، والمراد بالأذى أذى رسله، وصالحي عباده، لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به، لكونه صفة نقص، وهو منزه عن كل نقص، ولا يؤخر النقمة قهرًا، بل تفضلًا، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة، والولد عن الله أذى لهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم، والاستعظِامِ لمقالتهم، ومنه قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ} [الأحزاب (57)]، فإن معناه: يؤذون أولياء الله، وأولياء رسوله، فأقيم المضاف مقام المضاف إليه. انتهى [» الفتح” (17) / (310) – (311)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد علمت فيما سبق أنه لا يلزم في وصفه تعالى بما ثبت في النصّ محذور أبدًا، فإنا نثبت ما أثبته -سُبْحانَهُ وتَعالى- لنفسه، على مراده -عَزَّ وجَلَّ-، لا على ما نَصِف به المخلوق، فللَّه -سُبْحانَهُ وتَعالى- صفاته العليّة اللائقة بجلاله، وللمخلوق صفاته الدنيّة اللائقة به، فلا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} “. انتهى.
وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
وحديث أبي موسى الأشعريّ – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
* فقه الحديث وفوائده:
(1) – (منها): إثبات صفة الصبر لله -سُبْحانَهُ وتَعالى- على ما يليق بجلاله، وأن صبره أتمّ أنواع الصبر.
(2) – (ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن الصبر على تحمّل الأذى محمود، وتَرْك الانتقام ممدوح، ولهذا كان جزاء الصبر غير محصور؛ إذ الصبر والحلم في الأمور هو التخلق بأخلاق مالك أزِمّة الأمور، وبالصبر يُفتح كل باب مُغلَق، وبسهل كل صعب مرتجّ، وهنا سرّ بديع، وهو أن من تعلق بصفة من صفاته تعالى أدخلته تلك الصفة عليه، وأوصلته إليه، فهو الصبور.
(3) – (ومنها): أن فيه إبانةً عن كرم الله -عَزَّ وجَلَّ-، وصفحه، وفضله، في تأخير معاجلة العذاب، وإدرار الرزق على مؤذيه، فهذا كرمه في معاملة أعدائه، فما ظنك بمعاملة أصفيائه.
(4) – (ومنها): أن فيه الحثّ على تحمل الأذى فيما يؤلم العبد؛ ليُجازى غدًا جزاء الصابرين، {إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر (10)]، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7055)] ( … ) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قوله: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله) أصبر على أذى في هذا وصف لله عز وجل بالصبر والتحمل من عباده،
وفيه: إثبات الأذية لله عز وجل أن الله سبحانه وتعالى يتأذى.
ولكن هل الصبر صفة عيب أو صفة كمال؟
لا شك أنه صفة كمال، وأن الإنسان يثني عليه بالصبر، والرب عز وجل يثني عليه بالصبر.
الأذى هل التأذي بما يؤذي صفة نقص؟
لا، ليست صفة نقص؛ لأنه لا يلزم من الأذى الضرر، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى يتأذى، ولكنه لا يتضرر؛ كما قال الله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة}، هذا في القرآن، وفي الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر)، لكنه قال في القرآن: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا … }، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)،
والأذى لا يدل على ضعف المتأذي، فإن الرجل قد يتأذى بالرائحة الكريهة ولكنها لا تضره، ولا يدل على ضعفه، بل قد يدل على كماله إذا تأذى بما يؤذي حقيقة. يقول: (يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم) يعني: أنهم يقولون أنا عندي يدعون ولا يدّعون، عندكم نسختان يدّعون له الولد، أي: يقولون إن لله ولدا، كما قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال المشركون الملائكة بنات الله، وهو يعافيهم ويرزقهم، هذه نتيجة الصبر، أنه يعافيهم ويرزقهم مع أنهم يدعون له الولد.
ودعوى الولد لله عز وجل تتضمن شيئين:
الشيء الأول: تكذيب الله عز وجل؛ فإن الله عز وجل نفى أن يكون له ولد، بل نزه نفسه عن ذلك: {سبحانه أن يكون له ولد}،
والشيء الثاني: وصف الله بالنقص؛ لأنه لا يحتاج إلى الولد إلا من كان ناقصا، يحتاج إلى الولد ليعينه في مهماته وليبقى نسله بعده؛ لأن الإنسان إذا مات بلا نسل نُسي ولم يأت له ذكر، اللهم إلا من علم أو صدقة جارية أو ما أشبه ذلك.
على كل حال هؤلاء آذوا الله عز وجل بدعوى الولد، ومع ذلك يعافيهم ويرزقهم، ولولا صبره تبارك وتعالى لأهلكهم؛ {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}، إذن الشاهد من هذا الحديث قوله: (يعافيهم ويرزقهم) يعافيهم في أبدانهم من الأمراض ويعافيهم في أعراضهم من أن تنتهك، ويرزقهم أيضا مع العافية رزق.
وفي هذا الحديث من الصفات إثبات صفة الصبر؛ لقوله: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله)، وهل هو حقيقي؟
الجواب: نعم حقيقي، ولكنه لا يشبه صبر المخلوق؛ لأن المخلوق قد يصبر لكن مع تضجر وتململ، أما الرب جل وعلا فلا، لا يلحقه من صبره شيء كما يلحق المخلوق من صبره.
وفيه: إثبات أن الله يرزق ويعافي لقوله: (يعافيهم ويرزقهم)، وهل نشتق من يرزقهم اسما؟
لا، لكن جاء الاسم إن الله هو الرزاق، هل نشتق من يعافي اسما؟
لا، ولهذا لا يسمى الله بالمعافي، لكن يُخبر عنه أنه يعافي من الأمراض القلبية والبدنية، (واشف أنت
الفرق بين الحلم والصبر: الحلم ألا يعجل بالعقوبة مع أنه قدر لا يصبر، لكن الصبر يتحمل نحن نقولها بالنسبة لنا، يتحمل الإنسان ولا يفكر بالعقوبة، والحليم يفكر بالعقوبة ولكنه لا يعجل [الشيخ محمد بن صالح العثيمين شرح كتاب التوحيد-03 a/ صحيح البخاري].
وفي فتوى للشيخ ابن باز حول صفه الصبر والحلم
س: السائلة / أم تماضر تسأل: ما الفرق بين الحلم والصبر الذي من صفات الله عز وجل؟.
ج: الحلم هو عدم معاجلة العاصي بالعقوبة، فهو سبحانه موصوف بالحلم جل وعلا، وهو أيضا موصوف بالصبر كما في الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم»، الصبر يعني عدم العجلة بالعقوبة، كونه يصبر لا يعاجل عباده بالعقوبة مع شرك الكثير وظلمهم وعدوانهم، كما قال تعالى: {وما أكْثَرُ النّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وقال سبحانه: {وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ومع هذا يمهلهم، كما قال عز وجل: {ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصارُ} ففي هذا الحلم والصبر جميعا. [فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر، السؤال الأول من الشريط رقم ((394))].
وفي كتاب توفيق الرب المنعم (8/ 137): “هذا الحديث يدل على أنه لا يسلم من أذى الخلق أحد؛ فهؤلاء الكفرة خلقهم الله عز وجل، وأوجدهم من العدم، ومع ذلك يجعلون له ندًّا، ويجعلون له ولدًا، والله سبحانه وتعالى يرزقهم ويعافيهم، فلا أحدَ أصبرُ منه تعالى، فهو الحليم الذي لا يعاجِل عباده بالعقوبة.
قال القاضي: ((والصبور من أسماء الله عز وجل)) [إكمال المعلم، للقاضي عياض ((8) / (336))].
وإثبات اسم ((الصبور)) لله تعالى فيه كلام لأهل العلم.”. انتهى.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى):
قال ابن القيم:
جاء في القرآن والسُّنَّة وصفُه بالمحبة والرِّضى والفرح والضحك، ووصفه بأنه يصبر على ما يُؤذيه، وإن كان العباد لا يبلغون نفعه فينفعونه ولا ضره فيضرونه. والذي نفاه هؤلاء يُدرجون تحته ما وصف به نفسه، وهو إبطالٌ لِمَا جاءت به الرسلُ، ونزلت به الكتبُ، ولِمَا خُلق الخلق لأجله؛ فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كُتبه، ليدعو الخلق إلى ما يُحبُّه ويرضاه، وينهاهم عمَّا يبغضه ويسخطه. وقد أخبر رسوله عنه من محبته ورضاه وفرحه وضحكه وتَبَشْبُشِه بأوليائه وأحبائه وأهل طاعته، وعن غضبه وسَخَطه وبغضه ومقته وكراهته لأعدائه وأهل مخالفته، ممَّا يضيق هذا المكان عن استقصائه.
وعلى هذا الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح، وقد ذكرناها مستوفاةً في كتاب «المفتاح» وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلًا.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن ربه تعالى: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». وقال: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ، يَجْعَلُونَ لَهُ الْوَلَدَ وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ». وقال حاكيًا عن ربِّه: «شَتَمَنِي ابنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَّبَني ابنُ آدَمَ؛ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ». وقد فرَّق الله بين أذاه وأذى رسوله وأذى المؤمنين والمؤمنات، فقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اُللَّهُ فِي اِلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَاَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اَكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 57 – 58]. وليس أذاه سبحانه من جِنس الأذى الحاصل للمخلوقين، كما أن سَخَطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين.
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة – ط عطاءات العلم (2/ 1025)
وقال أيضا:
قولهم: «أيّ حكمة في خلق إبليس وجنوده؟» ففي ذلك من الحِكَم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله.
فمنها: أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه، ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه، واللجَأ إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه … فذكر حكما كثيرة وقال:
ومنها: أنّ حَمْده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فله الحمد التام الكامل على هذا وهذا ..
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يُظْهِر لعباده حلمَهُ وصبرَهُ وأناتَهُ وسعَةَ رحمته وجوده، فاقتضى ذلك خَلْق مَن يُشرك به، ويضادّه في حكمه، ويجتهد في مخالفته، ويسعى في مساخطه، بل يشتمه سبحانه، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات، ويرزقه ويعافيه، ويمكّن له من أسباب ما يلتذّ به من أصناف النعم، ويجيب دعاءه، ويكشف عنه السوء، ويعامله من برِّه وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من حكمة وحمد، وتحبُّب إلى أوليائه، وتعرّف إليهم بأنواع كمالاته.
كما في «الصحيح» عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم».
وفي «الصحيح» عنه – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن ربه: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفؤًا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته».
وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذِّب ويعافيه ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله بسيئاته حسنات، ويتلطّف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله إليه، ويأمرهم بأن يُلينوا له القول ويرفقوا به ..
فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقًا يُظهر فيهم أحكامها وآثارها، فلمحبته للعفو خَلَق مَنْ يحسن العفو عنه، ولمحبته للمغفرة خَلَق مَنْ يغفر له، ويحلم عنه، ويصبر عليه ولا يعاجله، بل يكون تحت أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته خَلَق مَنْ يظهر فيهم عدله وحكمته، ولمحبته للجود والإحسان والبر خَلَق مَنْ يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان، فلولا خَلْق مَن تجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحِكَم والمصالح، وأضعافها وأضعاف أضعافها.
فتبارك الله رب العالمين، وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة، والنعم السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمة باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة.
وهذا باب إنما ذكرنا منه قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه ..
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل – ط عطاءات العلم (2/ 245)
قال ابن القيم:
ولما كان اسمه “الحليم” أَدخل في الأوصاف، واسم “الصبور” في الأفعال، كان الحلم أصل الصبر، فوقع الاستغناء به في القرآن عن اسم ” الصبور”، واللَّه أعلم
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين – ط عطاءات العلم (1/ 539)
قال السعدي:
– الصبور:
” الصبور مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم”
وبما ثبت أيضاً في الصحيح قال الله تعالى: “كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه أياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد” والله تعالى يدر على عباده الأرزاق المطيع منهم، والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته، وتكذيبه، وتكذيب رسله، والسعي في اطفاء دينه، والله تعالى حليم صبور على ما يقولون، وما يفعلون، يتتابعون في الشرور وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر، لأنه عن كمال قدره وكمال غنى عن الخلق وكمال رحمه وإحسان، فتبارك الرب الرحيم الذي ليس كمثله شيء الصبور الذي يحب الصابرين ويعينهم في كل أمرهم”
ــــــــــــــــــــــــ
قال المحقق: وصف الله عز وجل بالصبر ثابت كما في حديث أبي موسى وسيأتي في الشرح.
أما اسم الصبور، فلم أقف على نص يدل على ثبوت هذا الاسم لله تعالى، والله أعلم
تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (ص211)
(المسألة الثانية):
قال ابن رجب الحنبلي (ت (795)) رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص:
فقولُه: (قُلْ) هذا افتتاحٌ للسورةِ بالأمرِ بالقول، كما في المعوذتينِ وسورةِ الجنَ.
وقدْ سُئلَ النبيُّ ? عنِ المعوذتينِ فقال: «قِيلَ لي فقلتُ»
وذلكَ إشارةٌ منهُ إلى أنّه ? مبلغٌ مَحْضٌ لِما يُوحى إليه، ليسَ فيه تصرفٌ لِما أوحاهُ اللَهُ إليه بزيادة ولا نقصٍ، وإنّما هُوَ مُبَلِّغٌ لكلامِ ربِّه كَما أوحاهُ إليهِ،
و (أحَدٌ): اسمٌ مِن أسماءِ اللَّه يُسمّى اللَّهُ به، ولا يُسمّى غيرُه من الأعيانِ، فلا يسمّى شيءٌ من الأشياءِ أحدًا في الإثباتِ إلا في الأعدادِ المطلقةِ.
وإنما يُسمّى به في النفْي وما أشبهَهُ من الاستفهامِ والنهيِّ، والشرطِ كقوله: (ولَمْ يَكُن لَّه كفُوًا أحَدٌ)، وقولِهِ: (هَلْ تُحِسُّ مِنهُمْ مِن أحَدٍ).
وقولِهِ: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحَدًا)، وقوِلهِ: (وإنْ أحَدٌ منَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) ونحوه.
والأحدُ: هو الواحدُ في إلاهيته ورُبُوبيته، وفسَّرهُ أهلُ الكلامِ، بما لا يتجزأُ ولا ينقَسِمُ، فإنْ أُريدَ بذلكَ أنًّه ليسَ مؤلفًا مركَّبًا منْ أجزاءٍ متفرقة فصحيحٌ، أو أنّه غيرُ قابلٍ للقسمةِ فصحيحٌ، وإنْ أُريدَ أنّه لا يتميَزُ منه شيءٌ عن شيءٍ، وهو المرادُ بالمجسمِ عندهم فباطلٌ.
قال ابنُ عقيلٍ: الذي يَصِحُّ من قولِنا معَ إثباتِ الصفاتِ أنه واحد في إلاهيتِهِ لا غيرُ.
والأحدُ هو الواحدُ. قالَ ابنُ الجوزيّ: قالَهُ ابنُ عباسٍ وأبو عبيدةَ، وفرَّقَ قومٌ بينهما.
سؤالٌ: قوله: (اللَّهُ أحَدٌ) ولم يقل الأحد كما قال: (الصَّمَدُ)؟
جوابه: أنّ الصمدَ يُسمّى به غيرُ اللَّهِ كما يأتِي ذكرُهُ، فأتى فيه بالألفِ واللامِ ليدلَّ على أنّه – سبحانه – هو المستحقُ لكمالِ الصَّمَديّةِ، فإنّ الألفَ واللام تأتي لاستغراقِ الجنسِ تارةَّ، ولاستغراقِ خصائصَ أخرى، كقولِهِ: زيدٌ هو الرجلُ أي: الكاملُ في صفاتِ الرجولةِ فكذلكَ قولُهُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ) أى: الكاملُ في صفاتِ الصمديَّةِ.
وأما الأحدُ فلم يَتَّسِمْ به غيرُ اللَّهِ فلمْ يحتجْ فيه إلى الألفِ واللامِ.
قولُهُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ) أعادَ الاسمَ المبتدأ تأكيدًا للجملةِ وخبرُة الصمدُ.
وقيلَ: هو نعتٌ والخبرُ ما بعدَهُ.
والصمدُ: اختلفتْ عِباراتُ السَّلفِ في معناه، وهي متقاربة أو متفقةٌ والمشهور منها قولان:
أحدُهما: أنّ الصمدَ هو السَّيدُ الذي تصْمُدُ إليه الخلقُ في حوائجِهِم ومطالبِهِم، وهو مرويٌ عَنْ ابنِ عباسٍ وغيرِه من السلفِ.
قالَ ابنُ الأنباريِّ: لا خلافَ بينَ أهلِ اللغةِ أنّ الصمدَ: السيدُ الذي ليس فوقَه أحد، الذي يصمُدُ إليه الناسُ في حوائجِهِم وأمورِهِم.
وفي «تفسيرِ ابنِ أبي حاتمٍ» بإسنادِهِ عن عكرمةَ عنِ ابنِ عباسٍ قال: الصمدُ: الذي تصمدُ إليه الأشياءُ إذا نزَلَ بهم كربةٌ، أو بلاء.
وعن إبراهيمَ قال: الذي يَصْمُدُ إليه العبادُ في حوائجِهِم.
وعنْ عليِّ بنِ أبي طلحةَ عنْ ابنِ عباسٍ، قالَ: الصمدُ: السيدُ الذي قدْ كَمُل في سؤدَدِهِ، والشَّرِيفُ الذي قدْ كَمُلَ في شرَفِهِ، والعظيمُ الذي قدْ كَمُلَ في عظمتِهِ، والحليمُ الذي قدْ كَمُلَ في حِلْمِهِ، والعليمُ الذي قد كَمُلَ في عِلْمِهِ، والحكيمُ الذي قدْ كَمُلَ في حكمتِهِ، وهو الذي قدْ كَمُلَ في أنواع الشرفِ والسُّؤددِ.
وهو اللَّهُ – سبحانه – هذه صفتُهُ لا تنبغِي إلا له، ليس له كفوٌ وليسَ كمثلِهِ شيءٌ، سبحان اللَّهِ الواحدِ القهارِ.
والقولُ الثاني: أنّ الصمدَ الذي لا جوفَ له، وأنّه الذي لا يأكلُ ولا يشربُ والذي لا حشوَ له، وأنّه الذي لا يدْخلُ فيه شيءٌ، ولا يخرجُ منه شيءٌ.
ونحوُ هذه العباراتِ المتقاربةِ في المعنى.
ورُوي ذلك عنْ ابنِ مسعودٍ، وقدْ سبقَ في حديثِ أبي هريرةَ المذكورِ في أوَّلِ تفسيرِ السورةِ: والصمدُ الذي ليسَ بأجوفَ.
ورُوي عن ابن عباسِ أيضًا وعكرمةَ: الصمدُ الذي لا يَطْعَمُ.
وعنه: الصمدُ: الذي لم يخرجْ منه شيءٌ.
وعنِ الشعبيِّ: الصمدُ: الذي لا يأكلُ ولا يشربُ.
وقال طائفةٌ: الصمدُ: الذي لم يلدْ ولم يُولدْ، كأنّهم جَعَلُوا ما بعدَهُ تفسيرًا له، وهو مما تقدَّم أنّه الذي لم يَنْفَصِلْ منه شيء. ورويَ ذلك عن أبيّ بنِ كعبٍ والربيع بنِ أنسٍ.
فقد تَضَمَّنتْ هذه السورةُ العظيمةُ نفْيَ نوعينِ عنِ اللَّهِ تعالى:
أحدُهُما: المماثلةُ، ودلَّ على نفيها قولُهُ تعالى: (ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أحَدٌ) مع دلالةِ قولِهِ: (قلْ هُوَ اللَّه أحَدٌ) على ذلكَ، لأنّ أحَدِيتهُ تقتضِي أنّه متفردٌ بذاتِه، وصفاتِهِ، فلا يشاركُهُ في ذلكَ أحدٌ.
والثاني: نفْيُ النقائصِ والعيوبِ، وقد نفى منها التولُّدَ منَ الطرفينِ.
وتضَمَّنتْ إثباتَ جميعَ صفاتِ الكمالِ بإثباتِ الأحديّةِ،
فالصمديّةُ تُثبتُ الكمالَ المنافيَ للنقائصِ، والأحديّةُ تُثْبِتُ الانفرادَ بذلك. فإنّ الأحديةَ تَقْتضِي انفرادَهُ بصفاتِهِ وامتيازَهُ عَنْ خَلْقِهِ بذاتِهِ وصفاتِهِ، والصمديةُ إثباتُ جميع صفاتِ الكمالِ ودوامِها وقِدَمِها، فإنّ السيدَ الذي يُصْمَدُ إليه لا يكونُ إلا مُتَّصِفًا بجميع صفاتِ الكمالِ الَّتي استحقَّ لأجْلِها أنْ يكونَ صَمَدًا، وأنّه لمْ يزلْ كذلك ولا يزالُ، فإنّ صمديتَهُ مِن لوازمِ ذاتهِ لا تنفكُّ عنهُ بحالٍ.
ومنْ هُنا فُسِّر الصمدُ بالسيدِ الذي قَدْ انتهى سؤُددُه، وفَسَّرَهُ عكرمةُ: بالذي لَيْسَ فوقَهُ أحدٌ.
ورُويَ عَنْ عليٍّ وعنْ كَعْبٍ أنَّه: الَّذي لا يكافِئُه أحدٌ في خَلْقِهِ.
وعنْ أبي هريرةَ قالَ: هو المُسْتَغِني عَنْ كُلِّ أحَدٍ، المحتاجُ إليه كُلُّ أحدٍ.
وعنْ سعيدِ بن جبيرٍ قالَ: هو الكاملُ في جميع صفاتِهِ وأفعالِهِ.
وعَنِ الربيع قالَ: هوَ الذي لا تعْتريهِ الآفاتُ.
وعنْ مقاتلِ بنِ حيانَ قالَ: هوَ الذي لا عَيْبَ فِيهِ.
وعنْ ابنِ كيسانَ: هوَ الذي لا يُوصفُ بصفَتِهِ أحدٌ.
وعنْ قتادةَ: الصمدُ: الباقِي بَعْدَ خَلقِه، وعَنْ مجاهدٍ ومَعْمَرٍ: هُوَ الدائمُ.
وعَنْ مُرَّةَ الهمدانيِّ: هوَ الَّذي لا يَبْلى ولا يَفْنى.
وعنه أيضًا: هو الذي يحكمُ ما يريدُ، ويفعلُ ما يشاءُ؛ لا مُعَقِّبَ لحكمِهِ ولا رادَّ لقضائِهِ.
فقد تَضَمَّنَتْ هذه السورةُ العظيمةُ إثباتَ صفاتِ الكمالِ، ونفيَ النقائصِ والعيوب مِن خصائصِ المخلوقينَ مِن التولدِ والمماثلةِ.
فهذه السورةُ هِيَ نسبُ الرحمنِ وصفتُه، وهيَ التي أنزلَها اللَهُ في نفي ما أضافَ إليه المبطلونَ من تمثيل، وتجسيم، وإثباتِ أصل وفرع، فدخَلَ فيها ما يقولُه مَن يقولُ من المشركينَ، والصابئةِ، وأهلِ الكتابِ، ومن دخلَ فيهم من منافِقِي هذهِ الأمةِ من تولدِ الملائكةِ أوِ العقولِ، أوِ النفوسِ، أوِ بعضِ الأنبياءِ، أو غيرِ الأنبياءِ.
ودخلَ فيها ما يقولُه مَن يقولُ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ من تولدِهِ عن غيرِه كالذينَ قالُوا في المسيح: إنّه اللَهُ، والذينَ يقولونَ في الدجالِ: إنَهُ اللَّهُ، والذين يقولون ذلك في عليٍّ وغيرِه.
ودخلَ ما يقولُه من يقولُ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ من إثباتِ كفوٍ له في شيءٍ من الأشياءِ، مثل من يجعلُ له بتشبيهِهِ، أو بِتَجْسيمِهِ، كفوًا له أو يجعلُ لَهُ بعبادةِ غيرِه كُفؤا، أو يجعلُ لَهُ بإضافةِ بعضِ خلقِهِ إلى غيرِه كُفوًا فلا كفوَ لهُ في شيءٍ من صفاتِهِ، ولا في ربوبيتِهِ ولا في إلاهيته.
فتضمنتْ هذه السورةُ تنزيهُهُ، وتقديسُهُ، عَنِ الأصولِ والفروع، والنظراءِ.
والأمثالِ.
وليسَ في المخلوقاتِ شيءٌ ألا ولا بدَّ أنْ يُنسبَ إلى بعضِ هذه الأعيانِ والمعانِي، فالحيوانُ من الآدمي وغيرِه لا بدَّ أنْ يكونَ له إما والد، وإمًّا مولودٌ، وإمّا نظيرٌ هو كفؤُه، وكذلك الجنُّ، والملائكةُ، كما قالَ تعالى: (ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ).
قالَ بعضُ السلفِ: (لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ) فتعلمونَ أنّ خالقَ الأزواج واحدٌ.
قالَ تعالى: (والشَّفْعِ والوَتْرِ)، قالَ مجاهد: كلّ شيءٍ خلَقهُ اللَّهُ فهو شفع قالَ تعالى: (ومِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ).
الكفرُ والإيمانُ، والهدى والضلالة، والشقاوةُ والسعادةُ، والليلُ والنهارُ.
والسماءُ والأرْضُ، والبر والبحر، والشمسُ والقمرُ، والجنّ والإنسُ، والوترُ اللَّهُ تباركَ وتعالى.
وهو الذي ذكرهُ البخاريُّ في «صحيحِهِ» فإنه يعتمدُ قولَ مجاهدٍ لأنّه أصَح
التفسيرِ، قالَ الثوريُّ: إذا جاءَكَ التفسيرُ عَنْ مُجاهدٍ فحسبُكَ به، واختارَهُ الشيخُ مجدُ الدينِ ابنِ تيميةَ.
وحقيقةُ الكفؤ: هُوَ المُساوِي والمُقاومُ، فلا كفوَ لَهُ تعالى في ذاتِهِ، ولا في صِفاتِهِ، ولا في أسمائِهِ، ولا في أفعالِهِ، ولا في ربوبيتِه، ولا فِي إلاهيتهِ.
ولهذا كانَ الإيمانُ بالقدرِ نظامَ التوحيدِ، كَما قالَ ابنُ عبًّاسٍ، لأنّ القدريةَ جعلُوا له كُفُوًا في الخلقِ.
وأمّا توحيدُ الإلَهيةِ فالشركُ فيهِ تارة يوجبُ الكفرَ والخروجَ مِنَ الملةِ.
والخلودَ في النارِ، ومنهُ ما هُو أصغرُ كالحلفِ بغيرِ اللَّهِ والنذرِ لهُ، وخشيةِ غيرِ اللَّهِ ورجائِهِ والتوكلِ عليهِ والذلِّ لَهُ وقولِ القائلِ: ما شاءَ اللَّهُ وشئْتَ.
ومنهُ ابتغاءُ الرزق مِن عندِ غيرِ اللَّه، وحَمْدُ غيره على ما أعْطى، والغنيةُ بذلكَ عَنْ حمدِهِ، ومنهُ العملُ لغيرِ اللَهِ وهو الرياءُ، وهوَ أقسام.
آخرُه والحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ. [تفسير ابن رجب الحنبلي، (2/ 673وما بعدها)، بتصرف].