: 2790 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك أبو هزاع أحمد البلوشي، وعبدالله المشجري، وعبدالله كديم، وطارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، محمد البلوشي.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صِفَةِ القِيامَةِ والجَنَّةِ والنّارِ،
قال الحافظ النووي رحمه الله: ((2) – بابٌ: فِي البَعْثِ والنُّشُورِ وصِفَةِ الأرْضِ يَوْمَ القِيامَةِ).
قال الإمام مسلم رحمه الله:
(28) – ((2790)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أبُو حازِمِ بْنُ دِينارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «يُحْشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى أرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ، كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيها عَلَمٌ لِأحَدٍ»
(29) – ((2791)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ داوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ ? عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتُ} [إبراهيم (48)] فَأيْنَ يَكُونُ النّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ يا رَسُولَ اللهِ فَقالَ: «عَلى الصِّراطِ»
==========
التمهيد:
سبق ذكر أمور تتعلق بيوم القيامة، ومن ذلك:
الأول: المراد بالإيمان باليوم الآخر
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ رحمه الله: (الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ: هو التَّصديقُ بيَومِ القيامةِ، وما اشتَمَلَ عليه مِنَ الإعادةِ بَعدَ المَوتِ، والنَّشْرِ، والحَشْرِ، والحِسابِ والميزانِ والصِّراطِ، والجَنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهما دارَا ثَوابِه وجَزائِه لِلمُحْسِنِينَ والمُسيئِينَ، إلَى غَيرِ ذلك مِمَّا صَحَّ نَصُّه، وثَبَتَ نَقلُه) [((المفهم)) (1/ 145)].
وبنحوه نص ابنُ دَقيقِ العِيدِ رحمه الله: [((شرح الأربعين النووية)) (ص: 30)].
والثاني: أسماءُ القيامةِ
سَمَّى الله اليَومَ الآخِرَ بعِدَّةِ أسماءٍ تَنويهًا بشَأنِه وتَنبيهًا للعِبادِ ليَخافوا منه، وكُلُّها أسماءٌ تَدُلُّ على عِظَمِ شَأنِه وشِدَّةِ هولِه وما يَلقاه النَّاسُ فيه من الشَّدائِدِ والأهوالِ.
ومن ذلك:
1 – يومُ القيامةِ:
قال اللهُ تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].
قال ابنُ عُثَيمين: (سُمِّيَ يَومَ القيامةِ لقيامِ أمورٍ ثَلاثةٍ فيه:
الأوَّلُ: قيامُ النَّاسِ من قُبورِهم لرَبِّ العالَمينَ؛ كما قال تعالى: {لِيَومٍ عظيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 5 – 6].
الثَّاني: قيامُ الأشهادِ الذينَ يَشهَدونَ للرُّسلِ وعلى الأمَمِ؛ لقَولِه تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
الثَّالِثُ: قيامُ العَدْلِ؛ لقَولِه تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]) [((القول المفيد)) (2/ 118)].
2 – يومُ البَعثِ:
قال اللهُ تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56].
قال ابنُ جَريرٍ: (فهذا يَومُ البَعثِ يَقولُ: فهذا يَومُ يُبعَثُ النَّاسُ من قُبورِهم ولَكِنَّكم كُنتُم لا تَعلَمونَ يَقولُ: ولَكِنَّكم كُنتُم لا تَعلَمونَ في الدُّنيا أنَّه يَكونُ، وأنَّكم مَبعوثونَ من بَعدِ المَوتِ؛ فلِذلك كُنتُم تُكذِّبونَ) [((تفسير ابن جرير)) (18/ 528)].
3 – يومُ الخروجِ:
قال اللهُ سُبحانَه: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42].
قال ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه: يَومَ خُروجِ أهلِ القُبورِ من قُبورِهم) [((تفسير ابن جرير)) (21/ 476)].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: («(4)) – (باب: في البعث، والنشور، وصفة الأرض يوم القيامة)
وينتظم الحديث على الباب كالتالي:
1) بيان المفردات
أولاً: المراد بالبعث:
والبعث في اللغة: يختلف تعريف البعث في اللغة باختلاف ما علق به، فقد يطلق ويراد به:
(1) – الإرسال: يقال بعثت فلانا أو ابتعثته أي أرسلته.
(2) – البعث من النوم: يقال: بعثه من منامه إذا أيقظه.
(3) – الإثارة: وهو أصل البعث، ومنه قيل للناقة: بعثتها إذا أثرتها وكانت قبل باركة.
وفي هذا يقول الأزهري [«تهذيب اللغة» ((2) / (334)) مادة: (بعث)]: (قال الليث: بعثت البعير فانبعث إذا حللت عقاله وأرسلته، لو كان باركا فأثرته).
(والبعث في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإرسال كقول الله تعالى: ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [الأعراف (103)]، معناه أرسلنا.
والبعث أيضا الإحياء من الله للموتى، ومنه قوله جل وعز: ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون [البقرة (56)]، أي أحييناكم.
وقال أبو هلال: (بعث الخلق: اسم لإخراجهم من قبورهم إلى الموقف، ومنه قوله تعالى: قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [يس (52)]) [«الفروق» ((284))].
وراجع أيضا بنحوه عن الراغب [«المفردات» (ص: (52))].
والبعث في الشرع يراد به:
إحياء الله للموتى وإخراجهم من قبورهم أحياء للحساب والجزاء.
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -: (البعث: وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة).
وقال السفاريني: (أما البعث فالمراد به المعاد الجسماني؛ فإنه المتبادر عند الإطلاق؛ إذ هو الذي يجب اعتقاده ويكفر منكره).
فالبعث هو: المعاد الجسماني فإنه المتبادر عند الإطلاق إذ هو الذي يجب اعتقاده ويكفر منكره، قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه (الروح) كشيخه وغيرهما: معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين، واليهود، والنصارى. وقال الجلال الدواني هو بإجماع أهل الملل وبشهادة نصوص القرآن بحيث لا يقبل التأويل كقوله تعالى: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} [يس: (78)].
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو حاتم، والإسماعيلي في (معجمه)، والحافظ الضياء في (المختارة)، وابن مردويه، والبيهقي في (البعث) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «جاء العاص بن وائل إلى رسول الله ? بعظم حائل ففته بيده فقال يا محمد، يحيي الله هذا بعد ما أرم؟ قال: نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم» فنزلت الآيات من آخر يس أولم ير الإنسان [يس: (77)] إلى آخر السورة)) [رواه الطبري في «تفسيره» ((20) / (554))، والحاكم ((2) / (466))، والضياء في «الأحاديث المختارة» ((4) / (108)). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي].
ثانيًا: تعريف النشور
والنشور في اللغة: النشر في اللغة يأتي بمعنى البسط، والانتشار، وتقلب الإنسان في حوائجه، ويأتي بمعنى التفرق.
قال الأزهري في باب (نشر): (قال الليث: النشر: نشر الريح الطيبة، وعن ثعلب، عن ابن الأعرابي قال: النشر: الحياة، والنشر: الريح الطيبة).
قال الأزهري: يقال: أنشر الله الموتى فنشروا: إذا حيوا، كما قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا … يا عجبا للميت الناشر
وقال الزجاج: يقال: نشرهم الله أي بعثهم، كما قال الله تعالى: وإليه النشور [الملك (15)]) [«تهذيب اللغة» ((11) / (338))].
والنشور في الاصطلاح: يطلق ويراد به معنى البعث، وهو انتشار الناس من قبورهم إلى الموقف للحساب والجزاء.
قال ابن كثير: (أي: بعثه بعد موته)، قال: (ومنه يقال: البعث والنشور) [«تفسير القرآن العظيم» ((4) / (472))].
وجاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: «أن رسول الله ? كان إذا أراد أن ينام قال: اللهم باسمك أموت وأحيا. وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيا نفسي بعد أن أماتها وإليه النشور» [رواه البخاري ((6314))] … [الموسوعة العقيدية، بتصرف].
وقال الشيخ ابن عثيمين: ” البعث لغة: الإرسال، والنشر. وشرعا: إحياء الأموات يوم القيامة.
والحشر لغة: الجمع. وشرعا: جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.
والبعث والحشر
حق ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين؛ قال الله تعالى: {قل بلى وربي لتبعثن}. وقال تعالى: {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}.
وأجمع المسلمون على ثبوت الحشر يوم القيامة.
ويحشر الناس حفاة لا نعال عليهم، عراة لا كسوة عليهم، غرلا لا ختان فيهم؛ لقوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده}. وقول النبي، ?: «إنكم تحشرون حفاة، عراة، غرلا، ثم قرأ: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} وأول من يكسى إبراهيم». متفق عليه.
وفي حديث عبد الله بن أنيس المرفوع الذي رواه أحمد: «يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا، بهما». قلنا: وما بهما؟ قال: “ليس معهم شيء». الحديث”. [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (5/ 60)].
2) الأدِلَّةُ على وُجوبِ الإيمانِ بالبَعثِ
أ) الأدلة من القرآن الكريم
نوع الله تعالى في القُرآن الكَريم طرق إثباتِ البَعث وتَأكيدِ وُقوعِه؛ منها:
أوَّلًا: الإقسامُ على وُقوعِ البَعثِ
قال اللهُ تعالى: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53].
قال السَّعديُّ: (يَقولُ تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ويَستَنبِئونَك أحَقٌّ هو أي: يَستَخبِرُك المُكَذِّبونَ على وَجهِ التَّعنُّتِ والعنادِ، لا على وجه التَّبَيُّنِ والرَّشادِ أَحَقٌّ هُوَ أي: أصحيحٌ حَشرُ العِبادِ، وبَعثُهم بَعدَ مَوتِهم ليَومِ المَعادِ، وجَزاءُ العِبادِ بأعمالِهم؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ؟ قُلْ لهم مُقسِمًا على صِحَّتِه، مُستَدِلًّا عليه بالدَّليلِ الواضِحِ والبُرهانِ: {إِيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} لا مِرْيَةَ فيه ولا شُبْهَةَ تَعتَريه. وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لله أن يَبعَثَكم، فكَما ابتَدَأ خَلقَكم ولَم تَكونوا شَيئًا، كذلك يُعيدُكم مَرَّةً أخرى ليُجازيَكم بأعمالِكم).
وقال اللهُ سُبحانَه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
قال ابنُ كثيرٍ: (هذه إحدى الآياتِ الثَّلاثِ التي لا رابِعَ لهنَّ، مِمَّا أمرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقسِمَ برَبِّه العَظيمِ على وُقوعِ المَعادِ لَمَّا أنكَرَه من أنكَرَه من أهلِ الكُفرِ والعنادِ، فإحداهُنَّ في سورةِ يونُسَ: ويَستَنبِئونَك أحَقٌّ هُوَ قَلْ إِيْ وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونُس: 53]، والثَّانيةُ هذه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ، والثَّالِثةُ في التَّغابُنِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].
قال مُجاهدٌ وقتادةُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يَغيبُ عنه، أي: الجَميعُ مُندَرِجٌ تَحتَ عِلمِه، فلا يَخفى عليه منه شَيءٌ، فالعِظامُ وإن تَلاشَتْ وتَفَرَّقَت وتَمَزَّقَت، فهو عالِمٌ أينَ ذَهَبَت وأينَ تَفَرَّقَت، ثُمَّ يُعيدُها كما بَدَأها أوَّلَ مَرَّةٍ، فإنَّه بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ).
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].
ثانيًا: التَّنبيهُ بالنَّشأةِ الأُولى على النَّشأةِ الثَّانيةِ
قال اللهُ تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 49 – 52].
ثالِثًا: التَّنبيهُ بإحياءِ الأرضِ بَعدَ مَوتِها على إحياءِ المَوتى
قال اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 – 7].
قال السَّعديُّ: (يَقولُ تعالى: يا أيُّها النَّاسُ إنْ كُنتُم في رَيبٍ من البَعثِ أي: شَكٍّ واشتِباهٍ، وعَدَمِ عِلمٍ بوُقوعِه، مَعَ أنَّ الواجِبَ عليكم أن تُصَدِّقوا رَبَّكم، وتُصَدِّقوا رُسُلَه في ذلك، ولَكِن إذا أبيتُم إلَّا الرَّيبَ، فهاكم دَليلينِ عَقليِّينِ تُشاهِدونَهما، كُلُّ واحِدٍ منهما يَدُلُّ دَلالةً قَطعيَّةً على ما شَكَكتُم فيه، ويُزيلُ عن قُلوبِكمُ الرَّيبَ. أحَدُهما: الِاستِدلالُ بابتِداءِ خَلقِ الإنسانِ، وأنَّ الذي ابتَدَأه سَيُعيدُه … والدَّليلُ الثَّاني، إحياءُ الأرضِ بَعدَ مَوتِها، فقال اللهُ فيه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً أي: خاشِعةً مُغبَرةً لا نَباتَ فيها ولا خَضرَ، فإذا أنزَلْنَا عليها الماءَ اهتَزَّتْ أي: تَحَرَّكَت بالنَّباتِ ورَبَتْ أي: ارتَفَعَت بَعدَ خُشوعِها، وذلك لزيادةِ نَباتِها، وأنبِتَتْ من كُلِّ زَوجٍ أي: صِنْفٍ من أصنافِ النَّباتِ بَهِيجٍ أي: يُبهِجُ النَّاظِرينَ، ويَسُرُّ المُتَأمِّلينَ، فهذانِ الدَّليلانِ القاطِعانِ يَدُلَّانِ على هذه المَطالِبِ الخَمسةِ، وهيَ هذه: ذَلِكَ الذي أنشَأ الآدَميَّ ممَّا وصفَ لَكم، وأحيا الأرضَ بَعدَ مَوتِها بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ أي: الرَّبُّ المَعبودُ، الذي لا تَنبَغي العِبادةُ إلَّا له، وعِبادَتُه هيَ الحَقُّ، وعِبادةُ غَيرِه باطِلةٌ. وأنَّه يُحْيِي المَوتَى كما ابتَدَأ الخَلقَ، وكَما أحيا الأرضَ بَعدَ مَوتِها. وأنَّه على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ كما أشهَدَكم من بَديعِ قُدرَتِه وعَظيمِ صَنْعَتِه ما أشهَدَكم. وأنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها فلا وَجهَ لاستِبعادِها. وأنَّ الله يَبعَثُ من في القُبورِ فيُجازيكم بأعمالِكم حَسَنِها وسَيِّئِها) [((تفسير السعدي)) (ص: 533)].
وقال اللهُ سُبحانَه: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50].
قال ابنُ كثيرٍ: (فانظُر إلى آثارِ رَحمتِ الله يَعني: المَطَرَ كيفَ يُحيي الأرضَ بَعدَ مَوتِها.
ثُمَّ نَبَّهَ بذلك على إحياءِ الأجسادِ بَعدَ مَوتِها وتَفَرُّقِها وتَمَزُّقِها، فقال: إنَّ ذلك لمُحيي المَوتى أي: إنَّ الذي فَعَلَ ذلك لقادِرٌ على إحياءِ الأمواتِ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ) [((تفسير ابن كثير)) (6/ 323)].
رابِعًا: التَّنبيهُ بخَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ على إحياءِ المَوتى
قال اللهُ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].
وقال اللهُ سُبحانَه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: {وَقَالوا أئِذَا كُنَّا عِظامًا ورُفاتًا أئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 99].
قال ابنُ جَريرٍ رحمه الله في تفسير هذه الآية: (يَقولُ تعالى ذِكرُه لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أولَم يَنظُرْ هؤلاء القائِلونَ من المُشرِكينَ أئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثونَ خَلقًا جَديدًا بعُيونِ قُلوبِهم، فيَعلَمونَ أنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، فابتَدَعَها من غَيرِ شَيءٍ، وأقامَها بقُدرَتِه، قادِرٌ بتِلك القُدرةِ على أن يَخلُقَ مِثلَهم أشكالَهم وأمثالَهم من الخَلقِ بَعدَ فنائِهم وقَبلَ ذلك، وأنَّ من قَدرَ على ذلك فلا يَمتَنِعُ عليه إعادَتُهم خَلقًا جَديدًا، بَعدَ أن يَصيروا عِظامًا ورُفاتًا) [((تفسير ابن جرير)) (15/ 97)].
خامِسًا: إخبارُ الله تعالى بما وقَعَ من البَعثِ الحِسِّيِّ المُشاهَدِ في الحَياةِ الدُّنيا
ومن ذلك:
1 – قِصَّةُ الذي مَرَّ على قَريةٍ وهيَ خاويةٌ على عُروشِها
قال اللهُ تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
وقال السَّعديُّ: (ولِنَجعَلَكَ آيةً للنَّاسِ على قُدرةِ الله وبَعثِه الأمواتَ من قُبورِهم، لتَكُونَ أنموذَجًا مَحسوسًا مُشاهَدًا بالأبصارِ، فيَعلَموا بذلك صِحَّةَ ما أخبَرَت به الرُّسُلُ) [((تفسير السعدي)) (ص: 112)].
2 – طلبُ إبراهيمَ مِن رَبِّه مُشاهدةَ إحياءِ الموتى
قال اللهُ تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260].
قال السَّعديُّ: (هذا فيه أيضًا أعظَمُ دَلالةٍ حِسِّيَّةٍ على قُدرةِ الله وإحيائِه الموتى للبَعثِ والجَزاءِ، فأخبَرَ تعالى عن خَليلِه إبراهيمَ أنَّه سَألَه أن يُريَهُ ببَصَرِه كيفَ يُحيي المَوتى؛ لأنَّه قد تَيَقَّنَ ذلك بخَبرِ الله تعالى، ولَكِنَّه أحَبَّ أن يُشاهِدَه عِيانًا ليَحصُلَ له مرتبةُ عَينِ اليَقينِ) [((تفسير السعدي)) (ص: 112)].
3 – مَوتُ بني إسرائيلَ الذينَ طَلَبوا رُؤيةَ رَبِّهم، فأخذَتهمُ الصَّاعِقةُ، ثُمَّ بَعثَهمُ اللهُ
قال اللهُ سُبحانَه: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55].
قال ابنُ عُثَيمين: (قَولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكم من بَعدِ مَوتِكم: أصلُ «البَعثِ» في اللُّغةِ: الإخراجُ، ويُطلَقُ على الإحياءِ، كما هذه الآية، ويَدُلُّ على أنَّ المُرادَ به الإحياءُ هنا قَولُه تعالى: مِن بَعدِ مَوتِكم وهو مَوتٌ حَقيقيٌّ، وليس نَومًا؛ لأنَّ النَّومَ يُسَمَّى وفاةً ولا يُسَمَّى مَوتًا، كما في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكَمُ باللَّيْلِ ويَعلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنَّهَارِ [الأنعام: 60]، وقَولِه تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حينَ مَوْتِهَا والَّتِي لَم تَمُتْ في مَنامِها [الزمر: 42]. وقَولُه تعالى: بَعَثْناكم من بَعدِ مَوتِكم: هذه نَعمةٌ كبيرةٌ عليهم أنَّ اللهَ تعالى أخذَهم بهذه العُقوبةِ، ثُمَّ بَعثَهم ليَرتَدِعوا ويَكونَ كفَّارةً لهم؛ ولِهذا قال تعالى: لَعَلَّكمُ تَشْكُرونَ أيْ: تَشْكُرونَ اللهَ سُبحانَه وتعالى، و «لَعَلَّ» هنا للتَّعليلِ. وهذه إحدى الآياتِ الخَمسِ التي في سورةِ البَقرةِ التي فيها إحياءُ الله تعالى المَوتى، والثَّانيةُ: في قِصَّةِ صاحِبِ البَقرةِ، والثَّالِثةُ: في الذينَ خَرجوا من ديارِهم وهم ألوفٌ حَذَرَ المَوتِ، فقال اللهُ لهم: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة: 243]، والرَّابِعةُ: في قِصَّةِ الذي مَرَّ على قَريةٍ وهيَ خاويةٌ على عُروشِها، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِه اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه [البقرة: 259]، والخامِسةُ في قِصَّةِ إبراهيمَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَم تُؤمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي … [البقرة: 260] الآية. واللهُ تعالى على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ) [((تفسير ابن عثيمين – الفاتحة والبقرة)) (1/ 192)].
4 – إخبارُ اللهِ عن قَتيلِ بني إسرائيلَ الذي أعادَ اللهُ إليه الحَياةَ بَعدَ ما قُتِلَ وأخبَرَ عن قاتِلِه
قال اللهُ تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].
قال السَّمعانيُّ: (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى لأنَّه أراهم إحياءَ المَقتولِ حينَ ضُربَ ببَعضِ البَقرةِ) [((تفسير السمعاني)) (1/ 94)].
وقال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى أي: فضَربوه فحَيِيَ. ونَبَّه تعالى على قُدرَتِه وإحيائِه الموتى بما شاهدوه من أمرِ القَتيلِ، جَعَلَ تَبارَك وتعالى ذلك الصُّنعَ حُجَّةً لهم على المَعادِ، وفاصِلًا ما كان بينَهم من الخُصومةِ والفَسادِ) [((تفسير ابن كثير)) (1/ 303)].
5 – إخبارُ اللهِ تعالى عن إماتةِ آلافٍ من النَّاسِ خَرجوا من ديارِهم حَذَرَ المَوتِ، فأماتهمُ اللهُ ثُمَّ أحياهم
قال اللهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243].
قال ابنُ عُثَيمين: (قَولُه تعالى: إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ لَم يُبَيِّنِ اللهُ عزَّ وجَلَّ مَن هؤلاء الذينَ خَرَجوا؛ فقيلَ: إنَّهم من بني إسرائيلَ، وقيلَ: إنَّهم من غَيرِهم، والمُهمُّ القِصَّةُ والقَضيَّةُ التي وقَعَت، ومِن ديارِهم أي: من بُيوتِهم، وأحيائِهم التي يَأوُونُ إليها، وهم أُلُوفٌ: الجُملةُ في مَوضِعِ نَصْبٍ على الحالِ من الواوِ في خَرَجوا، وكَلِمةُ: ألوفٌ جَمعُ ألْفٍ، وهو من صيَغِ جُموعِ الكَثرةِ؛ فقيلَ: إنَّهم ثَمانيةُ آلافٍ، وقيلَ: ثَمانونَ ألفًا، وإذا نَظَرتَ إلى صيغةِ اللفظِ -وهم ألوفٌ- تَجِدُ أنَّها تَدُلُّ على أنَّهم أكثَرُ من ثَمانيةِ آلافٍ، وأنَّهم عالَمٌ كثيرٌ، وحَذَرَ المَوتِ مَفعولٌ لأجلِه، … وهَل هذا المَوتُ طَبيعيٌّ؛ لأنَّه نَزَلَ في أرضِهم وباءٌ، أوِ المَوتُ بالقِتالِ في سَبيلِ الله؟ في ذلك قَولانِ لأهلِ العِلمِ: ….. ).
6 – إخبارُ اللهِ تعالى عن أصحابِ الكَهفِ حَيثُ أنامَهمُ اللهُ تعالى فيه مُدَّةً طَويلةً ثُمَّ بَعثَهم من نَومِهم:
قال اللهُ عَزَّ وجلَّ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 9 – 12].
قال البَيضاويُّ في تَفسيرِ قَولِه تعالى فيهم: وكَذلك بَعَثْنَاهم ليَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ: (وكَذلك بَعَثْنَاهُمْ وكَما أنَمناهم آيةً بَعَثناهم آيةً على كمالِ قُدرَتِنا. ليَتَساءَلوا بينَهم ليَسألَ بَعضُهم بَعضًا فتَعَرِفوا حالَهم وما صَنَعَ اللهُ بهم فيزدادوا يَقينًا على كمالِ قُدرةِ الله تعالى، ويَستَبصِروا به أمرَ البَعثِ ويَشْكُروا ما أنعَمَ اللهُ به عليهم). [((تفسير البيضاوي)) (3/ 276)].
ب) الأدلة من السنة
1 – عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كذَبَني ابنُ آدَمَ ولَم يَكُنْ له ذلك، وشَتمَني ولَم يَكُن له ذلك؛ فأمَّا تَكذيبُه إيَّايَ فقولُه: لَن يُعيدَني كما بَدَأني. وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهونَ عَلَيَّ مِن إعادَتِه، وأمَّا شَتْمُه إيَّايَ فقَولُه: اتَّخَذَ اللهُ ولَدًا. وأنا الأحَدُ الصَّمدُ لَم ألِدْ ولَم أُولَدْ ولَم يَكُنْ لي كُفْأً أحَدٌ)) [أخرجه البخاري (4974)].
2 – عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الإنسانِ عَظمًا لا تَأكُلُه الأرضُ أبَدًا فيه يُرَكَّبُ يَومَ القيامةِ. قالوا: أيُّ عَظمٍ هو يا رَسولَ اللهِ؟ قال: عَجْبُ الذَّنَبِ)) [أخرجه البخاري (4814) بنحوه، ومسلم (2955) واللَّفظُ له].
3 – عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بينَ النَّفخَتينِ أربَعونَ – قالوا: يا أبا هُريرةَ أربَعونَ يَومًا؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربَعونَ شَهرًا؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربَعونَ سَنةً؟ قال: أبيتُ، ثُمَّ يُنزِلُ اللهُ من السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما يَنبُتُ البَقْلُ، قال: وليس من الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبلى إلَّا عَظمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنه يُرَكَّبُ الخَلقُ يَومَ القيامةِ)) [أخرجها البخاري (4935)، ومسلم (2955) واللَّفظُ له].
4 – حَديثُ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ الله عنهما وفيه: ((ثُمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ، فلا يَسمَعُه أحَدٌ إلَّا أصغى لِيتًا ورَفعَ ليتًا. قال: وأوَّلُ مَن يَسمَعُه رَجُلٌ يَلوطُ حَوضَ إبلِه. قال: فيَصعَقُ ويَصعَقُ النَّاسُ. ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ -أو قال: يُنزِلُ اللهُ- مَطَرًا كأنَّه الطَّلُّ أوِ الظِّلُّ – نُعمانُ الشَّاكُّ- فتَنبُتُ منه أجسادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنفَخُ فيه أُخرى، فإذا هم قيامٌ يَنظُرونَ، ثُمَّ يُقالُ: يا أيُّها النَّاسُ هَلُمَّ إلى رَبِّكم. وقِفُوهم إنَّهم مَسئولونَ. قال: ثُمَّ يُقالُ: أخرِجوا بَعْثَ النَّارِ. فيقالُ: مِن كم؟ فيقالُ: من كُلِّ ألفٍ تِسعَمِائةٍ وتِسعةً وتِسعينَ. قال: فذاك يَومُ يَجعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا، وذلك يَومُ يُكشَفُ عن ساقٍ)) [أخرجه مسلم (2940)].
3) أقوال العلماء
أولاً: وقد أجمَعَ أهلُ العِلمِ على ثُبوتِ البَعثِ.
فنَقلَ أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ إجماعَ أهلِ السُّنَّةِ على ذلك فقال: (أجمَعوا على أنَّ عَذابَ القَبرِ حَقٌّ … وعلى أنَّ اللهَ تعالى يُعيدُهم كما بَدَأهم حُفَاةً عُراةً غُرْلًا، وأنَّ الأجسادَ التي أطاعَت وعَصَت هيَ التي تُبعَثُ يَومَ القيامةِ، وكَذلك الجُلودُ التي كانت في الدُّنيا والألسِنةُ والأيدي والأرجُلُ هيَ التي تَشهَدُ عليهم يَومَ القيامةِ) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 159 – 161).
ثانيًا: وأجمَعوا على كُفرِ من أنكَرَ البَعثَ يَومَ القيامةِ.
1 – قال ابنُ حَزْمٍ: (اتَّفَقَ جَميعُ أهلِ القِبلةِ على تَنابُذِ فِرَقِهم على القَولِ بالبَعثِ في القيامةِ، وعلى تَكفيرِ من أنكَرَ ذلك) ((الفصل)) (4/ 66).
2 – قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (إنَّ من شَرطِ الشَّهادةِ التي بها يُخرَجُ من الكُفرِ إلى الإيمانِ مَعَ الإقرارِ بأنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ: الإقرارَ بالبَعثِ بَعدَ المَوتِ، وقد أجمَعَ المُسلِمونَ على أنَّ من أنكَرَ البَعثَ فلا إيمانَ له ولا شَهادةَ، وفي ذلك ما يُغني ويَكفي مَعَ ما في القُرآنِ من تَأكيدِ الإقرارِ بالبَعثِ بَعدَ المَوتِ، فلا وجْهَ للإنكارِ في ذلك) ((التمهيد)) (9/ 116).
3 – قال ابنُ تَيميَّةَ عن الرَّجُلِ الذي أمرَ أهلَه أن يَحرِقوه ويذرُّوه في الرِّيحِ حَتَّى لا يَبعَثَه اللهُ تعالى: (فهذا رَجُلٌ شَكَّ في قُدرةِ الله وفي إعادَتِه إذا ذُرِّيَ، بَلِ اعتَقَدَ أنَّه لا يُعادُ، وهذا كُفرٌ باتِّفاقِ المُسلِمينَ) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 231).
4 – قال السَّفارينيُّ: (اعلَم أنَّه يَجِبُ الجَزمُ شَرعًا أنَّ اللهَ تعالى يَبعَثُ جَميعَ العِبادِ، ويُعيدُهم بَعدَ إيجادِهم بجَميعِ أجزائِهمُ الأصليَّةِ، وهيَ التي من شَأنِها البَقاءُ من أوَّلِ العُمرِ إلى آخِرِه، ويَسوقُهم إلى مَحْشَرِهم لفَصلِ القَضاءِ؛ فإنَّ هذا حَقٌّ ثابِتٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ سَلَفِ الأمَّةِ) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 158).
5 – قال السَّعديُّ: (هذا الأصلُ الثَّالِثُ من الأصولِ التي اتَّفَقَت عليها الرُّسُلُ والشَّرائِعُ كُلُّها، وهيَ: التَّوحيدُ، والرِّسالةُ، وأمرُ المَعادِ وحَشرُ العِبادِ. وهذا قد أكثَرَ اللهُ من ذِكرِه في كِتابِه الكَريمِ، وقَرَّرَه بطُرُقٍ مُتَنَوِّعةٍ:
منها: إخبارُه وهو أصدَقُ القائِلينَ عنه وعَمَّا يَكونُ فيه من الجَزاءِ الأوفى، مَعَ إكثارِ الله من ذِكرِه؛ فقد أقسَمَ عليه في ثَلاثةِ مَواضِعَ من كِتابِه، كقَولِه: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة: 1].
ومنها: الإخبارُ بكَمالِ قُدرةِ الله تعالى، ونَفوذِ مَشيئَتِه، وأنَّه لا يُعجِزُه شَيءٌ، فإعادةُ العِبادِ بَعدَ مَوتِهم فردٌ من أفرادِ آثارِ قُدرَتِه.
ومنها: تَذكيرُه العِبادَ بالنَّشأةِ الأُولى، وأنَّ الذي أوجَدَهم ولَم يَكَونوا شَيئًا مَذكورًا، لا بُدَّ أن يُعيدَهم كما بَدَأهم، وأنَّ الإعادةَ أهونُ عليه، وأعادَ هذا المَعنى في مَواضِعَ كثيرةٍ بأساليبَ مُتَنَوِّعةٍ.
ومنها: إحياؤُه الأرضَ الهامِدةَ المَيِّتةَ بَعدَ مَوتِها، وأنَّ الذي أحياها سَيُحيي المَوتى، وقَرَّرَ ذلك بقُدرَتِه على ما هو أكبَرُ من ذلك، وهو خَلقُ السَّمَواتِ والأرضِ، والمَخلوقاتِ العَظيمةِ، فمَتى أثبَتَ المُنكِرونَ ذلك، ولَن يَقدِروا على إنكارِه، فلِأيِّ شَيءٍ يَستَبعِدونَ إحياءَ المَوتى؟
وقَرَّرَ ذلك بسَعةِ عِلمِه، وكَمالِ حِكمتِه، وأنَّه لا يَليقُ به، ولا يَحسُنُ أن يَترُكَ خَلْقَه سُدًى مُهمَلينَ، لا يُؤمَرونَ ولا يُنهَونَ، ولا يُثابونَ ولا يُعاقَبونَ. وهذا طَريقٌ قَرَّرَ به النُّبوَّةَ وأمرَ المَعادِ.
ومِمَّا قَرَّرَ به البَعثَ ومُجازاةَ المُحْسِنينَ بإحسانِهم، والمَسيئينَ بإساءتِهم: ما أخبَرَ به من أيَّامِه وسُنَنِه سُبحانَه في الأمَمِ الماضيةِ والقُرونِ الغابِرةِ. وكَيفَ نَجَّى الأنبياءَ وأتباعَهم، وأهلَك المُكَذِّبينَ لهمُ المُنكِرينَ للبَعثِ، ونَوَّعَ عليهمُ العُقوباتِ، وأحَلَّ بهمُ المَثُلَاتِ، فهذا جَزاءٌ مُعَجَّلٌ ونَموذَجٌ من جَزاءِ الآخِرةِ أراه اللهُ عِبادَه؛ ليَهلِكَ من هَلَك عن بَينةٍ، ويَحيا من حَيَّ عن بَينةٍ.
ومن ذلك: ما أرى اللهُ عِبادَه من إحيائِه الأمواتَ في الدُّنيا كما ذَكَرَه اللهُ عن صاحِبِ البَقرةِ، والألوفَ من بني إسرائيلَ، والذي مَرَّ على قَريةٍ وهيَ خاويةٌ على عُروشِها، وقِصَّةُ إبراهيمَ الخَليلِ والطُّيورِ، وإحياءُ عيسى بن مَريَم للأمواتِ، وغَيرُها مِمَّا أراه اللهُ عِبادَه في هذه الدَّارِ، ليَعلَموا أنَّه قَويٌّ ذو اقتِدارٍ، وأنَّ العِبادَ لا بُدَّ أن يَرِدُوا دارَ القَرارِ، إمَّا الجَنَّةَ أوِ النَّارَ.
وهذه المَعاني أبداها اللهُ وأعادَها في مَحالَّ كثيرةٍ. والله أعلَمُ) ((القواعد الحسان)) (ص: 25).
6 – قال ابنُ بازٍ: (وهَكَذا لَو أنكَرَ البَعثَ بَعدَ المَوتِ، أو أنكَرَ الجَنَّةَ أو أنكَرَ النَّارَ، كَفرَ بإجماعِ المُسلِمينَ، ولَو قال: أشهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ الله؛ لأنَّ إنكارَه لهذه الأمورِ تَكذيبٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَكذيبٌ لله فيما أخبَرَ به في كِتابِه) ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 117).
وقال أيضًا: (وهَكَذا من شَكَّ في الآخِرةِ … هَل هناك بَعثٌ ونُشورٌ؟ هَل يَبعَثُ اللهُ الموتى؟ هَل هناك جَنَّةٌ؟ هَل هناك نارٌ؟ ما عِندَه إيمانٌ ويَقينٌ، بَل عِندَه شَكٌّ، هذا يَكونُ كافِرًا، حَتَّى يُؤمِنَ بالبَعثِ والنُّشورِ وبِالجَنةِ والنَّارِ، وأنَّ الله أعَدَّ الجَنةَ للمُتَّقينَ المُؤمِنينَ، وأعَدَّ النَّارَ للكافِرينَ، لا بُدَّ من إيمانِه بهذا بإجماعِ المُسلِمينَ) ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 121).
7 – قال ابنُ عُثَيمين: (البَعثُ: حَقٌّ ثابِتٌ دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ المُسلِمينَ؛ قال اللهُ تعالى: ثُمَّ إنَّكم بَعدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القيامةِ تُبْعَثُونَ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يُحشَرُ النَّاسُ يَومَ القيامةِ حُفاةً غُرْلًا. مُتَّفَقٌ عليه. وأجمَع المُسلِمونَ على ثُبوتِه، وهو مُقتَضى الحِكمةِ، حَيثُ تَقتَضي أن يَجعَلَ اللهُ تعالى لهذه الخَليقةِ مَعادًا يُجازيهم فيه على ما كلَّفَهم به على ألسِنةِ رُسُلِه، قال اللهُ تعالى: أفحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْنَاكُمْ عَبثًا وأنَّكم إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، وقال لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلْيَكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ … وقد أنكَرَ الكافِرونَ البَعثَ بَعدَ المَوتِ زاعِمينَ أنَّ ذلك غَيرُ مُمكِنٍ، وهذا الزَّعمَ باطِلٌ دَلَّ على بُطلانِه الشَّرعُ والحِسُّ والعَقلُ) ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (5/ 127).
ومِن أقوالِ أهلِ العِلمِ في شَأنِ البَعثِ:
1 – قال أبو حَنيفةَ: (نُقِرُّ بأنَّ اللهَ تعالى يُحيى هذه النُّفوسَ بَعدَ المَوتِ، ويَبعَثُهم، في يَومٍ كان مِقدارُه خَمسينَ ألفَ سَنةٍ بالجَزاءِ والثَّوابِ وأداءِ الحُقوقِ؛ لقَولِه تعالى: وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ) ((شرح وصية الإمام أبي حنيفة)) للبابرتي (ص: 145).
2 – قال السَّفارينيُّ: (اعلَمْ أوَّلًا أنَّ المَعادَ الجُسمانيَّ حَقٌّ واقِعٌ وصِدقٌ صادِعٌ، دَلَّ عليه النَّقلُ الصَّحيحُ والنَّصُّ الصَّحيحُ، ولَم يَمنَعْه العَقلُ ولَم يُحِلْه؛ فوَجَبَ الإيمانُ بموجِبِه، وهو أنَّ اللهَ يَبعَثُ المَوتى من القُبورِ بأن يَجمَعَ أجزاءَهمُ الأصليَّةَ ويُعيدَ الأرواحَ إليها؛ لقَولِه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ [يس: 79]. والآياتُ القُرآنيَّةُ في ذلك كثيرةٌ جِدًّا، والأحاديثُ النَّبَويَّةُ طافِحةٌ به؛ فلا جَرمَ لا يُنكِرُه إلَّا كافِرٌ مُلحِدٌ، وزِنديقٌ قد عَتى وتَمَرَّدَ، وعدِمَ التَّوفيقَ) ((لوائح الأنوار السَّنية)) (2/ 219).
3 – قال مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (الأجسادُ تُبعَثُ فتُجازى، والنُّصوصُ في بَعثِ هذا الجَسَدِ نَفسِه أصرَحُ شَيءٍ، وما استَنكَرَ أبو جَهلٍ إلَّا هذا، لَكِن جاءَ أناسٌ تَتَلَمَذوا على الإفرِنجِ ولا دَرُوا أنَّه مَسلَكُ أبي جَهلٍ وأضرابِه، ويُعطى أحَدُهمُ الشَّهادةَ العالميَّةَ؟! فإنسانٌ يُنكِرُ حَقيقةَ البَعثِ، أيُّ شَيءٍ عِندَه من بَحثٍ أو دينٍ؟! ليس عِندَه إلَّا أنَّه أعرَضَ عن القُرآنِ وقَبِلَ رَمْيَ أعدائِه إيَّاه، وهذا داءٌ قَديمٌ وحَديثٌ، لا يَرَونَ العِلمَ إلَّا ما هو حَديثٌ، مَعَ أنَّهم يَتَناقَضونَ ولا يَستَقيمونَ على قَولٍ، فهم يَقولونَ: إنَّ الأصولَ المَنطِقيَّةَ هَذَّبَتْها القِدَمُ، وكَذا وكَذا) ((فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ)) (1/ 243). [الموسوعة العقيدة، بتصرف].
4) حَشرُ الخَلائِقِ وصِفَتُه
أولاً: سبق تعريف الحشر لغة واصطلاحًا
عند نقل قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
ويطلق الحشر على يوم القيامة، وهو سوق الناس وجمعهم إلى المحشر لحسابهم، كما ظهر في التعريفات السابقة.
وقال ابن حجر في بيان معنى الحشر: أنه (حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعا إلى الموقف. قال الله عز وجل: ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [الكهف (47)]) [«فتح الباري» ((4) / (379))].
ثانيًا: صفة الحشر
يحشر الله الناس في الموقف وتدنو منهم الشمس قدر ميل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فيشق على الناس هذا اليوم العظيم ويبلغ فيهم العرق مبلغا عظيما فيلجمهم، أي يصل إلى أفواههم كما أشار بذلك النبي ? إلى فيه. وبعضهم يصل إلى حقويه، وبعضهم إلى ركبتيه .. وإلى كعبيه، وذلك بحسب أعمالهم ولا ينجو من هذا العرق إلا من كتب الله له النجاة من ذلك، ومن هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله في ظله فيكونون تحت ظل الله الذي يخلقه يوم لا ظل إلا ظله.
نص كلام شيخ الإسلام في المسالة: قال –رحمه الله-: ( … وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق) [«الواسطية» «مجموع الفتاوى» ((3) / (145))].
ذكر مستند الإجماع على دنو الشمس من الناس يوم القيامة ولجومهم بالعرق: روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله ? يقول: (تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى يكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما وأشار رسول الله ? بيده إلى فيه) [رواه مسلم ((2864))]. [المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: (873)].
ثالثًا: صفة أرض المحشر
أحاديث الباب
وفي (الصحيحين) أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ? يقول: «يقبض الله تعالى: الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض»،
وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ? قال: «إن الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك».
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَجَمَعُ اللهُ النَّاسَ الأوَّلينَ والآخِرينَ في صَعيدٍ واحِدٍ، يُسمِعُهمُ الدَّاعي ويَنْفُذُهمُ البَصَرُ، وتَدنو الشَّمسُ، فيَبلُغُ النَّاسَ من الغَمِّ والكَربِ ما لا يُطيقونَ ولا يَحتَمِلونَ)) [أخرجه مطولًا: البخاري (4712) واللَّفظُ له، ومسلم (194)].
قال ابنُ حَجَرٍ: (قال النَّوَويُّ: الصَّعيدُ: الأرضُ الواسِعةُ المُستَويةُ. ويَنفُذُهم -بفَتحِ أوَّلِه وسُكونِ النُّونِ وضَمِّ الفاءِ، بَعدَها ذالٌ مُعجَمةٌ- أي: يَخرِقُهم، بمُعجَمةٍ وقافٍ، حَتَّى يَجوزَهم، وقيلَ: بالدَّالِ المُهمَلةِ، أي: يَستَوعِبُهم، قال أبو عُبيدةَ: مَعناه: يُنْفُذُهم بَصَرُ الرَّحمَنِ حَتَّى يَأتيَ عليهم كُلِّهم، وقال غَيرُه: المُرادُ بَصَرُ النَّاظِرينَ، وهو أَولى، وقال القُرطُبيُّ: المَعنى أنَّهم يُجمَعونَ في مَكانٍ واحِدٍ بحَيثُ لا يَخفى منهم أحَدٌ لَو دَعاهم داعٍ لسَمعوه، ولَو نَظَرَ إليهم ناظِرٌ لأدرَكَهم. قال: ويُحتَمَلُ أن يَكونَ المُرادُ بالدَّاعي هنا مَن يَدعوهم إلى العَرضِ والحِسابِ؛ لقَولِه: يَومَ يَدْعُ الدَّاعِ) [((فتح الباري)) (11/ 447)].
وقال ابنُ عُثَيمين: (إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى يَجمَعُ الأوَّلينَ والآخِرينَ في صَعيدٍ واحِدٍ مُتَساوٍ، يُسمِعُهمُ الدَّاعي ويَنفُذُهمُ البَصَرُ، نَحنُ في الدُّنيا لَسنا على أرضٍ مُتَساويةٍ، بَل على أرضٍ تُشبِه الكُرةَ؛ ولِذلك لا يَنفُذُ البَصَرُ إلى ما وراءَ المُنحَنى؛ مُنحَنى الكُرةِ، ولا يُسمعُ الدَّاعي، لَكِن في الآخِرةِ يَقولُ الله عزَّ وجَلَّ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [الانشقاق: 3] يَعني: تُمَدُّ مَدًّا واحِدًا ليس فيها جِبالٌ ولا انحِناءٌ ولا مَساكِنُ؛ ولِهذا يُسمِعُهمُ الدَّاعي؛ لأنَّه لا يوجَدُ شَيءٌ يَرُدُّ الصَّوتَ، ويَنفُذُهمُ البَصَرُ: يُرى أقصاهم كما يُرى أدناهم، فيُحشَرُ الخَلائِقُ كُلُّهم على هذه الأرضِ المَسطوحةِ، لا جِبالَ ولا أنهارَ ولا شِعابَ ولا غَيرَها) [((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 234)].
وَوَقَعَ خِلافٌ في أرضِ المَحْشَرِ فهَل هيَ أرضٌ أخرى غَيرُ أرضِ الدُّنيا أو هيَ ذاتُها مَعَ تَبديلِ صِفاتِها إلى صِفاتٍ أخرى؟
قال اللهُ تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48].
قال ابنُ الجَوزيِّ: (في مَعنى تَبديلِ الأرضِ قَولانِ:
أحَدُهما: أنَّها تلك الأرضُ، وإنَّما يُزادُ فيها ويُنقَصُ منها، وتَذهَبُ آكامُها وجِبالُها وأوديَتُها وشَجَرُها، وتُمَدُّ مَدَّ الأديمِ، رَوى هذا المَعنى أبو صالِحٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ. وقد رَوى أبو هُريرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غَيرَ الأرضِ قال: ((يَبْسُطُها ويَمُدُّها مَدَّ الأديمِ)).
والثَّاني: أنَّها تُبَدَّلُ بغَيرِها) [((تفسير ابن الجوزي)) (2/ 520)].
وقال السَّعديُّ: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيرَ الأَرْضِ والسَّمَوَاتُ تُبَدَّلُ غَيرَ السَّمَواتِ، وهذا التَّبديلُ تَبديلُ صِفاتٍ، لا تَبديلُ ذاتٍ؛ فإنَّ الأرضَ يَومَ القيامةِ تُسوَّى وتُمَدُّ كمدِّ الأديمِ ويُلقى ما على ظَهرِها من جَبَلٍ ومَعلَمٍ، فتَصيرُ قاعًا صَفْصفًا، لا تَرى فيها عِوَجًا ولا أَمْتًا) ((تفسير السعدي)) (ص: 428).
وقال حافِظٌ الحَكَميُّ: (تَبديلُ الأرضِ والسَّمَواتِ هو تَغييرُها من حالٍ إلى حالٍ، وإلَّا فهيَ هيَ. واللهُ أعلَمُ) [((معارج القبول)) (2/ 782)].
عن عائِشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قَولِه عزَّ وجَلَّ: يَومَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَوَاتُ [إبراهيم: 48] فأينَ يَكونُ النَّاسُ يَومَئِذٍ يا رَسولَ الله؟ فقال: ((على الصِّراطِ)) أخرجه مسلم (2791).
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (إنَّ المُرادَ بتَبديلِ الأرضِ المَذكورةِ في قَولِه تعالى: يَومَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ إنَّه تَبديلُ ذاتٍ بذاتٍ، فيُذهَبُ بهذه الأرضِ ويُؤتى بأرضٍ أُخرى، وهو قَولُ جُمهورِ العُلَماءِ، وقال الحَسَن: تُبَدَّلُ صورَتُها ويُطَهَّرُ دَنَسُها. وقال ابنُ عَبَّاسٍ: تُبَدَّلُ آكامُ الأرضِ ونُجومُ السَّماءِ، … وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَوابِ عائِشةَ رَضِيَ الله عنها: ((على الصِّراطِ)) ظاهرُه الصِّراطُ الذي هو جِسرٌ مَمدودٌ على مَتنِ جَهنَّمَ، كما قد قال في الحَديثِ المُتَقَدِّمِ: هم في الظُّلْمةِ دونَ الجِسرِ، أي: على الجِسرِ. قُلتُ: وهذا كُلُّه مُمكِنٌ، والقُدرةُ صالِحةٌ، ومنَ المُمكِنِ أن يُعدِمَ اللهُ الأرضَ التي يَخرُجونَ منها، ويُوجِدَ أرضًا أخرى وهم عليها ولا يَشعُرونَ بذلك) ((المفهم)) (7/ 351).
وقال علي القاري: (اختُلِفَ في تَبديلِ الأرضِ والسَّمَواتِ؛ فقيل: تُبَدَّلُ أوصافُها فتسيرُ على الأرضِ جِبالُها، وتُفَجَّرُ بحارُها، وتُجعَلُ مُستَويةً لا تَرى فيها عِوَجًا ولا أَمْتًا، وتُبَدَّلُ السَّمَواتُ بانتِشارِ كواكِبِها، وكُسوفِ شَمسِها، وخُسوفِ قَمَرِها. وقيلَ: يُخلَقُ بَدَلَها أرضٌ وسَماواتٌ أُخَرُ. وعن ابنِ مَسعودٍ وأنسٍ: يُحشَرُ النَّاسُ على أرضٍ بَيضاءَ لَم يُخطِئْ عليها أحَدٌ خَطيئةً. والظَّاهرُ من التَّبديلِ تَغييرُ الذَّاتِ، كما يَدُلُّ عليه السُّؤالُ والجَوابُ؛ حَيثُ قالت: ((فأينَ يَكونُ النَّاسُ يَومَئِذٍ؟ قال: على الصِّراطِ)): المَعهودِ عِندَ النَّاسِ، أو جِنسِ الصِّراطِ، واللهُ تعالى أعلَمُ).
وعن ثَوبانَ رَضِيَ الله عنه أنَّ حَبرًا من اليَهودِ سَألَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بضعةَ أسئِلةٍ؛ منها: أينَ يَكونُ النَّاسُ يَومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غَيرَ الأرضِ والسَّمَواتُ؟ فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هُم في الظُّلْمةِ دونَ الجِسرِ)).
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيِّ: (قَولُه: ((أينَ يَكونُ النَّاسُ يَومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غَيرَ الأرضِ)) هذا يَدُلُّ على أنَّ مَعنى هذا التَّبديلِ: إزالةُ هذه الأرضِ، والإتيانُ بأرضٍ أخرى، لا كما قاله كثيرٌ من النَّاسِ: أنَّها تُبَدَّلُ صِفاتُها وأحوالُها فتُسوَّى آكامُها … يُحشَرُ النَّاسُ على أرضٍ بَيضاءَ عَفراءَ، ليس فيها عَلَمٌ لأحَدٍ، وهذا الحَشرُ هو جَمعُهم فيها بَعدَ أن كانوا على الصِّراطِ، واللهُ أعلَمُ) ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3508).
وقال ابنُ حَجَرٍ: (أمَّا ما أخرَجَه مُسلِمٌ عن عائِشةَ أنَّها سَألَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن هذه الآيةِ: يَومَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيرَ الأرضِ أينَ يَكونُ النَّاسُ حينَئِذٍ؟ قال: ((على الصِّراطِ)). وفي رِوايةِ التِّرمِذيِّ: ((على جِسرِ جَهَنَّمَ)). ولِأحمَدَ من طَريقِ ابنِ عَباسٍ عن عائِشةَ: ((على مَتنِ جَهنَّمَ)). وأخرَجَ مُسلِمٌ أيضًا من حَديثِ ثَوبانَ مَرفوعًا: ((يَكونونَ في الظُّلمةِ دونَ الجِسرِ)). فقد جَمَعَ بينَها البَيهَقيُّ بأنَّ المُرادَ بالجِسرِ الصِّراطُ … وأنَّ في قَولِه: ((على الصِّراطِ)) مَجازًا لكَونِهم يُجاوِرونَه؛ لأنَّ في حَديثِ ثَوبانَ زيادةً يَتَعَيَّنُ المَصيرُ إليها لثُبوتِها، وكَأنَّ ذلك عِندَ الزَّجْرةِ التي تَقَعُ عِندَ نَقلِهم من أرضِ الدُّنيا إلى أرضِ المَوقِفِ. ويُشيرُ إلى ذلك قَولُه تعالى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ).
قال القُرطُبيُّ: (هذه الأحاديثُ تَنُصُّ على أنَّ السَّمَواتِ والأرضَ تُبَدَّلُ وتُزالُ، ويَخلُقُ اللهُ أرضًا أُخرى يَكونُ النَّاسُ عليها بَعدَ كونِهم على الجِسرِ) أخرجه مسلم (315) مطولًا.
سيأتي ذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
رابعًا: صِفةُ حَشرِ الخَلْقِ
أ) هناك صِفاتٌ عامَّةٌ يُحشَرُ عليها جَميعُ البَشَرِ، وهيَ حَشرُهم حُفاةً عُراةً غُرْلًا.
عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تُحشَرونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، قالت عائِشةُ: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، الرِّجالُ والنِّساءُ يَنظُرُ بَعضُهم إلى بَعضٍ؟! فقال: الأمرُ أشَدُّ من أن يُهِمَّهم ذاك! ثم قرأ: كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) أخرجه البخاري (6527) واللَّفظُ له، ومسلم (2859).
قال النَّوَويُّ: (((حُفاةً عُراةً غُرْلًا)) الغُرْلُ بضَمِّ الغينِ المُعجَمةِ وإسكانِ الرَّاءِ، مَعناه: غَيرُ مُختونينَ، جَمعُ أغرَلَ، وهو الذي لَم يُختَنْ، وبَقِيَت مَعَه غُرْلَتُه وهيَ قُلفَتُه، وهيَ الجِلدةُ التي تُقطَعُ في الخِتانِ … والحُفاةُ جَمعُ حافٍ، والمَقصودُ أنَّهم يُحشَرونَ كما خُلِقوا لا شَيءَ مَعَهم ولا يُفقَدُ منهم شَيءٌ حَتَّى الغُرلةُ تَكونُ مَعَهم) ((شرح مسلم)) (17/ 193).
قال ابنُ تَيميَّةَ: (تَقومُ القيامةُ التي أخبَرَ اللهُ بها في كِتابِه وعلى لسانِ رَسولِه، وأجمَعَ عليها المُسلِمونَ، فيَقومُ النَّاسُ من قُبورِهم لرَبِّ العالَمينَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، وتَدنو منهمُ الشَّمسُ ويُلجِمُهمُ العَرَقُ) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 145).
وقال ابنُ عُثَيمين: (ومِمَّا يَدخُلُ في الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ: أن يُؤمِنَ الإنسانُ بما يَكونُ في نَفسِ اليَومِ الآخِرِ، وذلك أنَّه إذا نُفِخَ في الصُّورِ النَّفخةُ الثَّانيةُ قامَ النَّاسُ في قُبورِهم لله رَبِّ العالَمينَ حُفاةً ليس عليهم نِعالٌ، وعُراةً ليس عليهم ثيابٌ، وغُرْلًا ليس مُختونينَ، وبُهْمًا ليس مَعَهم مالٌ، كُلُّ النَّاسِ حَتَّى الأنبياءِ والرُّسُلِ يُبعَثونَ هَكَذا، كما قال اللهُ تعالى: كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه [الأنبياء: 104]، فكَما أنَّ الإنسانَ يَخرُجُ من بَطنِ أمِّه هَكَذا عاريًا غَيرَ مُنتَعِلٍ، غَيرَ مَختونٍ، ليس معه مالٌ، فكَذلك يَخرُجُ من بَطنِ الأرضِ يَومَ القيامةِ على هذه الصِّفةِ، يَقومونَ لرَبِّ العالَمينَ الرِّجالُ والنِّساءُ، والصِّغارُ والكِبارُ، والكُفَّارُ والمُؤمِنونَ، كُلُّهم على هذا الوَصفِ حُفاةً غُرْلًا بُهمًا، ولا يَنظُرُ بَعضُهمُ إلى بَعضٍ؛ لأنَّه قد دَهاهم من الأمرِ ما يَشغَلُهم عن نَظَرِ بَعضِهم إلى بَعضٍ، فالأمرُ أعظَمُ من أن يَنظُرَ بَعضُ النَّاسِ إلى بَعضٍ. رُبَّما تَكونُ المَرأةُ إلى جَنبِ الرَّجُلِ ولا يَنظُرُ إليها ولا تَنظُرُ إليه، كما قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: فإذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ [عبس: 33 – 37]). [((شرح رياض الصالحين)) (1/ 457)].
ب) وهناك صِفاتٌ خاصَّةٌ يَأتي بها بَعضُ الخَلائِقِ، وهيَ هَيئاتٌ مُختَلِفةٌ بَعضُها حَسَنٌ، وبَعضُها قَبيحٌ، بحَسَبِ ما قَدَّموه من خَيرٍ وشَرٍّ.
عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((يُبعَثُ كُلُّ عَبدٍ على ما مات عليه)) أخرجه مسلم (2878).
قال النَّوَويُّ: (قال العُلَماءُ: مَعناه: يُبعَثُ على الحالةِ التي مات عليها). [((شرح مسلم)) (17/ 210)].
وقال علي القاري: (((يُبعَثُ)) أي: يُحشَرُ يَومَ القيامةِ ((كُلُّ عَبدٍ على ما مات عليه)) أي: من العَمَلِ خَيرًا كان أو شَرًّا، فيُجازى به) [((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3350)].
وقال ابنُ عَلَّانَ: (فيه تَحريضٌ للإنسانِ على حُسنِ العَمَلِ ومُلازَمةِ السَّنَنِ المُحَمَّديِّ في سائِرِ الأحوالِ، والإخلاصِ لله تعالى في الأقوالِ والأعمالِ؛ ليَموتَ على تلك الحالةِ الحَميدةِ، فيُبعَثَ كذلك) [((دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين)) (2/ 346)]. [الموسوعة العقيدة، بتصرف].
5) وأما (وصفة الأرض يوم القيامة) فسيأتي في شرح الحديث.
شرح أحاديث الباب:
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7029)] ((2790)) – (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، حدثني أبو حازم بن دينار، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ?: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، عفراء؛ كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد»).
شرح الحديث:
(عن سهل بن سعد) – رضي الله عنهما -؛ بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبو العباس الصحابي ابن الصحابي – رضي الله عنهما -، مات سنة ثمان وثمانين، وقيل: بعدها، وقد جاز المائة (ع)، وهو آخر من مات من الصحابة – رضي الله عنهم – بالمدينة على بعض الأقوال، أنه (قال: قال رسول الله ?: «يحشر) بضم أوله، مبنيا للمفعول، (الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، عفراء) قال الخطابي: العفر: بياض ليس بالناصع، وقال عياض: العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلا، ومنه سمي عفر الأرض، وهو وجهها، وقال ابن فارس: معنى عفراء: خالصة البياض، وقال الداودي: شديدة البياض، كذا قال، والأول هو المعتمد [» الفتح «(15) / (17)،» كتاب الرقاق” رقم ((6521))].
(كقرصة النقي) بفتح النون، وكسر القاف، أي: الدقيق النقي من الغش، والنخال، قاله الخطابي.
وقال النووي: العفراء بالعين المهملة، والمد: بيضاء إلى حمرة، والنقي بفتح النون، وكسر القاف، وتشديد الياء: هو الدقيق الحورى، وهو الدرمك [«الدرمك» بوزن جعفر: الدقيق الحورى] وهو الأرض الجيدة، قال القاضي: كأن النار غيرت بياض وجه الأرض إلى الحمرة.
قال: وقوله: (ليس فيها علم لأحد) هو بفتح العين، واللام؛ أي: ليس بها علامة سكنى، أو بناء، ولا أثر. انتهى [«شرح النووي» (17) / (134)].
وقوله: (ليس فيها علم لأحد») هكذا في رواية مسلم موصولا بالحديث، وفيه إدراج، فقد أخرج الحديث البخاري، ثم قال في آخره: «قال سهل، أو غيره: ليس فيها معلم لأحد»، فبين أنه ليس موصولا بالحديث، وإنما هو من كلام سهل، أو غيره، فتنبه.
وقال في «الفتح»: قوله: «قال سهل، أو غيره: ليس فيها معلم لأحد» هو موصول بالسند المذكور، وسهل هو راوي الخبر، وأو للشك، والغير المبهم لم أقف على تسميته، ووقع هذا الكلام الأخير لمسلم من طريق خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر مدرجا بالحديث، ولفظه: «ليس فيها علم لأحد»، ومثله لسعيد بن منصور، عن ابن أبي حازم، عن أبيه، و «العلم»، و «المعلم» بمعنى واحد.
قال الخطابي: يريد أنها مستوية، والمعلم بفتح الميم، واللام، بيتهما مهملة ساكنة، هو الشيء الذي يستدل به على الطريق.
وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات؛ كالجبل، والصخرة البارزة، رفيه تعريض بأرض الدنيا، وأنها ذهبت، وانقطعت العلاقة منها، وقال الداودي: المراد: أنه لا يحوز أحد منها شيئا، إلا ما أدرك منها، والله تعالى أعلم.
وحديث سهل بن سعد – رضي الله عنهما – هذا متفق عليه.
فوائد الحديث وفقه:
(1) – (منها): أن فيه دليلا على عظيم القدرة، والإعلام بجزئيات يوم القيامة؛ ليكون السامع على بصيرة، فيخلص نفسه من ذلك الهول؛ لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس، وحملها على ما فيه خلاصها، بخلاف مجيء الأمر بغتة.
(2) – (ومنها): أن فيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدا.
(3) – (ومنها): أن الحكمة في صفة الأرض المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل، وظهور حق، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه -سبحانه وتعالى- على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته، ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده، قاله ابن أبي جمرة -رحمه الله-. [«بهجة النفوس» (4) / (213) – (214)].
(4) – (ومنها): أن فيه إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمحلت، وأعدمت، وأن أرض الموقف تجددت. [«الفتح» (15) / (17)، «كتاب الرقاق» رقم ((6521))]، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله -عز وجل-: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [إبراهيم (48)]:
(اعلم): أنه قد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بهذه الآية، هل معنى تبديلها: تغيير ذاتها وصفاتها، أو تغيير صفاتها فقط؛
[القول الأول]: وحديث الباب يؤيد الأول، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والطبري في تفاسيرهم، والبيهقي في «الشعب» من طريق عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – في قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم (48)] قال: تبدل الأرض أرضا كأنها فضة، لم يسفك فيها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة، ورجاله رجال الصحيح، وهو موقوف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعا، وقال: الموقوف أصح.
قال الإتيوبي عفا الله عثه: لكن الموقوف في مثل هذا مرفوع حكما؛ لأنه مما لا ينال بالرأي، فتنبه، والله تعالى أعلم.
وأخرجه الطبري، والحاكم من طريق عاصم، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود – رضي الله عنه – بلفظ: «أرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة»، ورجاله موثقون أيضا، ولأحمد من حديث أبي أيوب – رضي الله عنه -: «أرض كالفضة البيضاء، قيل: فأين الخلق يومئذ؟ قال: هم أضياف الله، لن يعجزهم ما لديه».
وللطبري من طريق سنان بن سعد، عن أنس – رضي الله عنه – مرفوعا: «يبدلها الله بأرض من فضة، لم يعمل عليها الخطايا».
وعن علي – رضي الله عنه – موقوفا نحوه.
ومن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «أرض كأنها فضة، والسماوات كذلك».
وعن علي: «والسماوات من ذهب».
وعند عبد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال: «بلغنا أن هذه الأرض -يعني: أرض الدنيا- تطوى، وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها».
وفي حديث الصور الطويل: «تبدل الأرض غير الأرض، والسماوات، فيبسطها، ويسطحها، ويمدها مد الأديم العكاظي، لا ترى فيها عوجا، ولا أمتا، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى، ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان عليها». انتهى.
وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول، ويؤيده قوله تعالى: {وإذا الأرض مدت ((3)) وألقت ما فيها وتخلت ((4))} [الانشقاق (3) – (4)].
[القول الثاني]:
وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها، فمستنده ما أخرجه الحاكم، عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه ما-، قال: «إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الخلائق».
ومن حديث جابر – رضي الله عنه – رفعه: «تمد الأرض مد الأديم، ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه»، ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه.
ووقع في تفسير الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قال: «يزاد فيها، وينقص منها، ويذهب آكامها، وجبالها، وأوديتها، وشجرها، وتمد مد الأديم العكاظي» وعزاه الثعلبي في «تفسيره» لرواية أبي هريرة، وحكاه البيهقي عن أبي منصور الأزهري،
وهذا وإن كان ظاهره يخالف القول الأول، فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا، لكن أرض الموقف غيرها، ويؤيده ما وقع في الحديث الآتي في الباب التالي أن أرض الدنيا تصير خبزة، والحكمة في ذلك: ما تقدم أنها تعد لأكل المؤمنين منها في زمان الموقف، ثم تصير نزلا لأهل الجنة.
وأما ما أخرجه الطبري من طريق المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: «الأرض كلها تأتي يوم القيامة»، فالذي قبله عن ابن مسعود أصح سندا، ولعل المراد بالأرض في هذه الرواية: أرض البحر،
فقد أخرج الطبري أيضا من طريق كعب الأحبار، قال: يصير مكان البحر نارا.
وفي تفسير الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب – رضي الله عنه -: تصير السماوات جفانا، ويصير مكان البحر نارا.
وأخرج البيهقي في «البعث» من هذا الوجه في قوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ((14))} [الحاقة (14)] قال: يصيران غبرة في وجوه الكفار.
قال الحافظ -رحمه الله-: ويمكن الجمع بأن بعضها يصير نارا، وبعضها غبارا، وبعضها يصير خبزة.
وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أنها سألت النبي ? عن هذه الآية: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} أين يكون الناس حينئذ؟ قال: «على الصراط»، وفي رواية الترمذي: «على جسر جهنم»، ولأحمد من طريق ابن عباس، عن عائشة: «على متن جهنم».
وأخرج مسلم أيضا من حديث ثوبان – رضي الله عنه – مرفوعا: «يكونون في الظلمة
دون الجسر»،
فقد جمع بينها البيهقي،
بأن المراد بالجسر: الصراط، وأن في قوله: «على الصراط» مجاز لكونهم يجاوزونه؛ لأن في حديث ثوبان زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها، وكان ذلك عند الزجرة التي تقع عند نقلهم من أرض الدنيا إلى أرض الموقف، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ((21)) وجاء ربك والملك صفا صفا ((22))} [الفجر (21) – (22)].
* واختلف في السماوات أيضا، فتقدم قول من قال: إنها تصير جفانا،
وقيل: إنها إذا طويت تكور شمسها، وقمرها، وسائر نجومها، وتصير تارة كالمهل، وتارة كالدهان.
وأخرج البيهقي في «البعث» من طريق السدي، عن مرة، عن ابن مسعود، قال: السماء تكون ألوانا؛ كالمهل، وكالدهان، وواهية، وتشقق، فتكون حالا بعد حال.
وجمع بعضهم
بأنها تنشق أولا، فتصير كالوردة، وكالدهان، وواهية، وكالمهل، وتكور الشمس والقمر وسائر النجوم، ثم تطوى السماوات، وتضاف إلى الجنان.
ونقل القرطبي في «التذكرة» عن أبي الحسن بن حيدرة صاحب «الإفصاح» أنه جمع بين هذه الأخبار بأن تبديل السماوات والأرض يقع مرتين:
إحداهما: تبدل صفاتهما فقط – وذلك عند النفخة الأولى-، فتنثر الكواكب، وتخسف الشمس والقمر، وتصير السماء كالمهل، وتكشط عن الرؤوس، وتسير الجبال، وتموج الأرض، وتنشق إلى أن تصير الهيئة غير الهيئة،
ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض، وتبدل السماء والأرض إلى آخر كلامه في ذلك، والعلم عند الله تعالى، ذكر هذا في «الفتح»، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
قال ابن تيمية:
أخَرج مسلمٌ عن عائشةَ قالت: سألتُ رسولَ اللهِ عن قولِه تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات}؛ فأينَ يكونُ الناسُ يومئذٍ؟ فقال: «على الصِّراطِ»، فالأرضُ تُبدَّلُ، كما ثبَتَ في «الصحيحَينِ»: «أن الناسَ يُحْشَرونَ على أرضٍ بيضاءَ عَفْراءَ كقُرصةِ النَّقِيِّ، ليس فيها عَلَمٌ لأحدٍ».
قال ابنُ مسعودٍ: «هي أرضٌ بيضاءُ، كهيئةِ الفضةِ، لم يُعمَلْ عليها خطيئةٌ، ولا سُفِكَ فيها دمٌ حرامٌ، ويُجمَعُ الناسُ في صعيدٍ واحدٍ، ينفذُهم البصرُ، ويُسمعُهم الداعيُ، حُفاةً عُراةً غُرْلًا كما خُلِقوا، فيأخذُ الناسَ من كَرْبِ ذلك اليومِ وشدَّتِه؛ حتى يُلجِمَهم العرقُ»، وبعضُهم يرفعُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكذا عن مجاهدٍ وغيرِه من السَّلَفِ.
فهذا الحديثُ وسائرُ الآثارِ تبيِّنُ أن الناسَ يُحْشرَونَ على الأرضِ المبدَّلةِ، والقرآنُ يوافقُ ذلك؛ كقولِه: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا للهِ الواحد القهار}.
وحَشْرُهم وحسابُهم يكونُ قبلَ الصراطِ، فإن الصراطَ منه ينجو إلى الجنةِ، ويسقُطُ أهلُ النارِ فيها؛ كما ثبَتَ في الأحاديثِ.
وحديثُ عائشةَ المتقدمُ يدُلُّ على أن التبديلَ يكونُ وهم على الصراطِ؛ لكن البخاريَّ لم يروه، فلعله ترَكَه لهذه العلةِ، أو غيرِها؛ فإن سنَدَه جيدٌ.
أو يُقالُ: تُبدَّلُ قبلَ الصراطِ، وعلى الصراطِ تُبدَّلُ الأرض والسمواتُ.
وأما قولُه: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}، فالطَّيُّ غيرُ التبديلِ، وقال: {والسموات مطويات بيمينه}.
وفي «الصحيحَينِ»: أنه يَطوي السمواتِ، ثم يأخذُهُنَّ بيمينِه، ثم يقولُ: «أنا الملِكُ، أينَ الجبارونَ؟! أينَ المُتكبِّرونَ؟!»، وفي لفظٍ: «يأخذُ الجبارُ سماواتِه وأَرَضِيه بيدِه»، وهو في أحاديثَ كثيرةٍ.
فطيُّ السمواتِ لا يُنافي أن يكونَ الخلقُ في موضِعِهم، ليس في شيءٍ من الحديثِ أنهم يكونونَ عندَ الطيِّ على الجسرِ، كما رُوِي ذلك وقتَ تبدِيلِ الأرض غيرَ الأرضِ، وإن كان في تلك الروايةِ ما فيها.
والذي لا رَيْبَ منه: أنه لا بدَّ من تبديلِها وطَيِّها.
ومذهَبُ سلَفِ الأمةِ إثباتُ الصفاتِ للهِ كما جاءت؛ إثباتًا بلا تشبيه، وتَنْزيهًا بلا تعطيلٍ
مختصر الفتاوى المصرية (1/ 355 ط ركائز)
قال الإمام مسلم رحمه لله:
[(7030)] ((2791)) – (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله ? عن قوله -عز وجل-: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات}، فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: «على الصراط»).
شرح الحديث:
(عن عائشة) – رضي الله عنها -؛ أنها (قالت: سألت رسول الله ? عن قوله -عز وجل-: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} التبديل: هو التغيير، وهو قد يكون في الذات؛ كقولك: بدلت الدارهم بالدنانير، وقد يكون في الصفات؛ كقولك بدلت الحلقة خاتما، إذا حذفتها، وسويتها خاتما،
واختلف في تبديل الأرض والسموات،
فقيل: يبدل أوصافهما، فتسير عن الأرض جبالها، وتفجر بحارها، وتجعل مستوية، لا ترى فيها عوجا، ولا أمتا،
وتبديل السماوات بانتشار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وقيل: يخلق بدلهما أرض أخرى، وسماوات أخرى، والصحيح أن التبديل هنا تغير الذات، كما يدل عليه السؤال والجواب. [راجع: «شرح سنن ابن ماجه» للسندي (1) / (316)]، وقد سبق البحث في المسألة.
(فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال) ?: («على الصراط»)؛ أي: يكونون عليه، قال الأبي -رحمه الله-[«شرح الأبي» (7) / (194)]: الصراط يحتمل أنه الصراط المعروف، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره يستقر الخلق عليه، وكأنه الأظهر للحديث الآخر، وقد سئل: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟
قال: «هم في الظلمة دون الجسر» [رواه مسلم]، والجسر الصراط يكون، وقال ابن
عطية: وروي حديث أنه ? قال: «المؤمنون في وقت التبديل في ظل العرش»، وفي حديث آخر، سأله يهودي أين الخلق عند ذلك؟ قال: «أضياف الله، فلن يعجزهم ما لديه» [«تفسير الطبري» (254) / (13)].
وبالجملة فأحوال الآخرة لا يدرك كنهها بهذه العقول في الدنيا، والسبيل الأسلم الإيمان بما جاء في النصوص الصحيحة، وترك الخوض في تفاصيلها. [«تكملة فتح الملهم» (6) / (117)]، والله تعالى أعلم.
وحديث عائشة – رضي الله عنها – هذا من أفراد المصنف -رحمه الله-.