2779 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري … وعبدالله كديم وطارق أبي تيسير وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
تكملة [4] التعليق على كتاب المنافقين من صحيح مسلم
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7009)] ((2779)) – (حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا أسْوَدُ بْنُ عامِرٍ،
حَدَّثَنا شُعْبَةُ بْنُ الحَجّاجِ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أبِي نَضْرَةَ،
عَنْ قَيْسٍ، قالَ: قُلْتُ لِعَمّارٍ: أرَأيْتُمْ صَنِيعَكُمْ هَذا الَّذِي صَنَعْتُمْ فِي أمْرِ عَلِيٍّ، أرَايًا رَأيْتُمُوهُ، أوْ شَيْئًا عَهِدَهُ إلَيْكمْ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: ما عَهِدَ إلَيْنا رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلى النّاسِ كافَّةً،
ولَكِنْ حُذَيفَةُ أخْبَرَنِي عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: قالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «فِي أصْحابِيِ اثْنا عَشَرَ مُنافِقًا، فِيهِمْ ثَمانِيَةٌ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِياطِ، ثَمانِيَةٌ مِنهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ، وأرْبَعَةٌ»، لَمْ أحْفَظْ ما قالَ شُعْبَةُ فِيهِمْ).
شرح الحديث:
(عَنْ قَيْس) بن عُباد بفتح العين المهملة، وتخفيف الموحّدة، كما قال في «ألفيّة الأثر»:
وافْتَحْ عَبادَة أبا مُحَمَّدِ … واضْمُمْ أبا قَيْسٍ عُبادًا تُرْشَدِ
أنه (قالَ: قُلْتُ لِعَمّار) بن ياسر -رضي الله عنهما-: (أرَأيْتُمْ)؛ أي: أخبروني (صَنِيعَكُمْ هَذا الَّذِي صَنَعْتُمْ فِي أمْرِ عَلِيٍّ) -رضي الله عنه- من مناصرته، والقتال معه في صفّين وغيره، (أرَايًا)؛ أي: اجتهادًا منكم، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لـ (رَأيْتُمُوهُ)؛ أي: اجتهدتموه، زاد في الرواية التالية: «فَإنَّ الرَّايَ يُخْطِئُ ويُصِيبُ»، وقوله: (أوْ شَيْئًا) منصوب على الاشتغال؛ أي: عهد إليكم – صلى الله عليه وسلم – شيئًا، (عَهِدَهُ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: أوصاكم، وأمركم به أن تفعلوه معه، يقال: عهِد إليه يَعْهَد، من باب تَعِبَ: أوصاه. (فَقالَ) عمّار -رضي الله عنه-: (ما) نافية، (عَهِدَ إلَيْنا) معاشر المقاتلين معه، (رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلى النّاسِ)؛ أي: لم يوص به، (كافَّةً)؛ أي: جميعًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: وجاء الناس كافَّةً، قيل: منصوب على الحال، نصبًا لازمًا، لا يُستعمل إلا كذلك، وعليه قوله تعالى: {وما أرْسَلْناكَ إلّا كافَّةً لِلنّاسِ} [سبأ (28)]؛ أي: إلا للناس جميعًا،
(ولَكِنْ حُذَيْفَةُ) بن اليمان -رضي الله عنهما- (أخْبَرَنِي عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -) وقوله: (قالَ: قالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -) تفسير لمعنى» أخبرني «، (» فِي أصْحابِي اثْنا عَشَرَ مُنافِقًا)؛ يعني: من جملة من يُنسب إلى صحبتي في الظاهر، وإلا فالمنافق لا يُسمّى صحابيًّا، وفي الرواية التالية: «إن في أمتي اثنا عشر منافقًا»، وإنما خصّ اثني عشر في هذا الحديث مع أن المنافقين كانوا أكثر من ذلك لسبب يتعلّق بقصّة مخصوصة، أخرجها الطبرانيّ في «الأوسط»، عن حذيفة بن اليمان، قال: إني لآخذ بزمام ناقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقوده، وعمار يسوق به، أو عمار يقوده، وأنا أسوق به، إذ استقبلنا اثنا عشر رجلًا متلثمين، قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة»، قلنا: يا رسول الله ألا تبعث إلى كل رجل منهم، فتقتله؟، فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وعسى الله أن يَكفيهم بالدبيلة». قلنا: وما الدبيلة؟ قال: «شهاب من نار، يوضع على نياط قلب أحدهم، فيقتله». انتهى [«المعجم الأوسط» (8) / (102)]، وفي سنده عبد الله بن سَلِمة، وثقه جماعة، وقال البخاريّ: لا يتابع على حديثه، قاله الهيثميّ رحمه الله. [«المعجم الأوسط» (8) / (102)].
قال محقق مجمع الزوائد حسين أسد وحسن اسناده:
وقال الطبراني: «لم يروه عن الأعمش إلا أبو بكر».
نقول: لم ينفرد به أبو بكر، بل تابعه عليه محمد بن إسحاق عند البيهقي. فقد أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (50) / (260) – (261) من طريق عبد العزيز بن يحيى الحراني، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان … .
وانظر أيضًا «دلائل النبوة» (5) / (256) – (262)، ومغازي الواقدي (3) / (1042) – (1043)، وتفسير ابن كثير (3) / (425).
وفي تخريج الكشاف:
أحْمد فِي مُسْنده حَدثنا يزِيد بن هارُون أنا الوَلِيد بن عبد الله بن جَمِيع عَن أبي الطُّفَيْل قالَ لما أقبل رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – من غَزْوَة تَبُوك أمر مناديا فَنادى لا يَاخُذن العقبَة أحد فَإن رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – يَاخُذها وكانَ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – يسير وحُذَيْفَة يَقُودهُ وعمار بن ياسر يَسُوقهُ فَأقبل رَهْط مُتَلَثِّمِينَ عَلى الرَّواحِل حَتّى غشوا النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – فَرجع عمار فَضرب وُجُوه الرَّواحِل فَقالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِحُذَيْفَة (قد قد) فَلحقه عمار فَقالَ (سُقْ سُقْ) حَتّى أناخَ فَقالَ لعمّار (هَل تعرف القَوْم) فَقالَ لا كانُوا مُتَلَثِّمِينَ وقد عرفت عامَّة الرَّواحِل فَقالَ (أتَدْرِي ما أرادوا برَسُول الله) قلت الله ورَسُوله أعلم قلت أرادوا أن يَمْكُرُوا برَسُول الله فَيَطْرَحُوهُ من العقبَة فَلَمّا كانَ بعد ذَلِك نزع بَين عمار وبَين رجل مِنهُم شَيْء مِمّا يكون بَين النّاس فَقالَ أنْشدك الله كم أصْحاب العقبَة الَّذين أرادوا أن يَمْكُرُوا برَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – فَقالَ نرى أنهم أرْبَعَة عشر فَإن كنت فيهم فهم خَمْسَة عشر
انْتَهى
ورَواهُ الطَّبَرانِيّ فِي مُعْجَمه عَن عبيد الله بن مُوسى حَدثنا الوَلِيد بن جَمِيع بِهِ
ورَواهُ البَيْهَقِيّ فِي دَلائِل النُّبُوَّة من طَرِيق مُحَمَّد بن إسْحاق عَن الأعْمَش عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي البخْترِي عَن حُذَيْفَة بن اليَمان قالَ كنت آخِذا
لخطام ناقَة رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – أقُود بِهِ وعمار بن ياسر يَسُوق النّاقة حَتّى إذا كُنّا بِالعقبَةِ فَإذا بِاثْنَيْ عشر راكِبًا قد اعْتَرَضُوهُ فِيها قالَ فَأنْبَهْت رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – بهم فَصَرَخَ بهم فَوَلوا مُدبرين فَقالَ لنا (هَل عَرَفْتُمْ القَوْم) قُلْنا لا يا رَسُول الله كانُوا مُتَلَثِّمِينَ ولَكنّا عرفنا الركاب قالَ (هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ إلى يَوْم القِيامَة هَل عَرَفْتُمْ ما أرادوا) قُلْنا لا قالَ (أرادوا أن أن يَرْجُمُوا رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – فِي العقبَة فَيُلْقُوهُ بها) قالُوا يا رَسُول الله ألا تبْعَث إلى عَشائِرهمْ فيبعث كل قوم بِرَاس صاحبهمْ قالَ (لا إنِّي أكره أن يتحدث العَرَب أن مُحَمَّدًا قاتل بِقوم حَتّى إذا ظَهره بهم أقبل عَلَيْهِم بِقَتْلِهِم) ثمَّ قالَ (اللَّهُمَّ اِرْمِهِمْ بِالدُّبَيْلَةِ) قيل يا رَسُول الله وما الدُّبَيْلَة قالَ (شهاب من نار يَقع عَلى نِياط قلب أحدهم فَيهْلك)
رَواهُ البَزّار فِي مُسْنده من حَدِيث مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن الوَلِيد بن جَمِيع عَن أبي الطُّفَيْل عَن حُذَيْفَة قالَ لما كانَ غَزْوَة تَبُوك أمر
رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – مناديا … إلى آخِره ثمَّ قالَ وقد رُوِيَ عَن حُذَيْفَة من غير هَذا الوَجْه وهَذا الوَجْه أحْسنها اتِّصالًا وأصْلَحها إسْنادًا والوليد بن جَمِيع كانَت فِيهِ شِيعِيَّة شَدِيدَة وقد احْتمل أهل العلم حَدِيثه وحَدثُوا عَنهُ. انتهى
قال العقيلي:
الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ اضْطِرابٌ
وقال أحمد: لا بأس به
وأخرج الطبرانيّ أيضًا في «الكبير»، عن صِلَة بن زُفَر، قال: قلنا لحذيفة: كيف عرفت أمر المنافقين، ولم يعرفه أحد من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكر، ولا عمر -رضي الله عنهم-؟ قال: إني كنت أسير خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فنام على راحلته، فسمعت ناسًا منهم يقولون: لو طرحناه عن راحلته، فاندقت عنقه، فاسترحنا منه، فسِرت بينهم وبينه، وجعلت أقرأ، وأرفع صوتي، فانتبه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «من هذا؟» فقلت: حذيفة، قال: «من هؤلاء؟» قلت: فلان، وفلان، حتى عددتهم، قال: «وسمعت ما قالوا؟» قلت: نعم، ولذلك سِرت بينك وبينهم، قال: «فإن هؤلاء فلانًا وفلانًا حتى عدّ أسماءهم منافقون، لا تخبرنّ أحدًا»، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وقد اختلط، وضعّفه جماعة، قاله الهيثميّ رحمه الله. [«مجمع الزوائد» (1) / (109)].
(فِيهِمْ)؛ أي: في جملة الاثني عشر منافقًا، (ثَمانِيَةٌ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، حَتّى يَلِجَ)؛ أي: يدخل (الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِياطِ)؛ أي: في ثُقب الإبرة، وهو تعليق بالمحال، والمراد أنهم لا يدخلون الجنة أبدًا، و» الخياط «بكسر الخاء المعجمة: ما يُخاط به؛ كالمِخيط، وزانُ لِحاف، ومِلْحف، وإزار، ومِئزر. [«المصباح المنير» (1) / (186)].
و» السَمّ «مثلّث السين: ثُقب الإبرة، جمعه سِمام. [«المصباح المنير» (1) / (289)].
(ثَمانِيَةٌ مِنهُمْ تَكْفِيكَهُمُ) يا حذيفة، أو يا أيها المخاطب، (الدُّبَيْلَةُ») بضمّ الدال المهملة: تصغير دَبْلة بفتح الدال، بمعنى: الطاعون، والداهية، وداء في الجوف، كما في «القاموس»، وقال ابن الأثير: الدُّبيلة: هي خُراج ودُمَّل كبير تظهر في الجوف، فتقتل صاحبها غالبًا، وهي تصغير دَبْلة، وكل شيء جُمِع فقد دُبِلَ. انتهى [«النهاية في غريب الأثر» (2) / (99)].
والمعنى: أن ثمانية من هؤلاء المنافقين يموتون بمرض الدُّبيلة، فكأن الدُّبيلة تكفي المسلمين عن شرّهم.
وحاصل جواب عمّار -رضي الله عنه-: أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أخبر بأن بعض المنافقين يبقون بعده – صلى الله عليه وسلم -، فيُثيرون الفتن فيما بين أصحاب النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فكأن عمّارًا -رضي الله عنه- أشار إلى أن من قام حربًا على عليّ -رضي الله عنه- إنما فعل ذلك بتدسيس من هؤلاء المنافقين، وكان عليّ -رضي الله عنه- على الحقّ، فوجب علينا نصره، ومؤازرته، والله تعالى أعلم. [اجع: «تكملة فتح الملهم» (6) / (101) – (102)].
وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله – صلى الله عليه وسلم -: «في أصحابي»، فمعناه: الذين يُنسبون إلى صحبتي، كما قال في الرواية الثانية: «في أمتي»، و «سمّ الخياط» بفتح السين، وضمّها، وكسرها، والفتح أشهر، وبه قرأ القراء السبعة، وهو ثُقب الابرة، ومعناه: لا يدخلون الجنة أبدًا، كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدًا، وأما «الدُّبيلة» فبدال مهملة، ثم الجيم، ورُوي: «تكفيهم الدبيلة» بحذف الكاف الثانية، ورُوي: «تَكْفِتُهُم» بتاء مثناة فوقُ بعد الفاء، من الكَفْت، وهو الجمع، والستر؛ أي: تجمعهم في قبورهم، وتسترهم. انتهى. [«شرح النوويّ» (17) / (125)].
وقوله: (وأرْبَعَةٌ)؛ أي: من الاثني عشر، (لَمْ أحْفَظْ ما قالَ شُعْبَةُ فِيهِمْ) هذا كلام الأسود بن عامر، يقول: أما الثمانية فقد حفظت من شعبة ما يُعاقبون به، وهي الدُّبيلة، وأما الأربعة فلم أحفظ ما ذكره من نوع عقوبتهم، والله تعالى أعلم.
وحديث حُذيفة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
وقال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله:
[(7010)] ( … ) – (حَدَّثَنا مُحَمَّد بْنُ المُثَنّى، ومُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ – واللَّفْظُ لِابْنِ المُثَنّى- قالا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْن جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أبِي نَضْرَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبادٍ، قالَ: قُلْنا لِعَمّارٍ: أرَأيْتَ قِتالَكُمْ أرَايًا رَأيْتُمُوهُ، فَإنَّ الرَّايَ يُخْطِئُ ويُصِيبُ، أوْ عَهْدًا عَهِدَهُ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -؟ فَقالَ: ما عَهِدَ إلَيْنا رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلى النّاسِ كافَّةً، وقالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «إنَّ فِي أُمَّتِي»، قالَ شُعْبَةُ: وأحْسِبُهُ قالَ: حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ، وقالَ غُنْدَرٌ: أُراهُ قالَ: «فِي أُمَّتِي اثْنا عَشَرَ مُنافِقًا، لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدُونَ رِيحَها، حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِياطِ، ثَمانِيَةٌ مِنهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ، سِراجٌ مِنَ النّارِ، يَظْهَرُ فِي أكْتافِهِمْ، حَتّى يَنْجُمَ مِن صُدُورِهِمْ»).
وقوله: (قالَ شُعْبَةُ: وأحْسِبُهُ)؛ أي: أظن قتادة، (قالَ) عمّار: (حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ) -رضي الله عنه-.
وقوله: (وقالَ غُنْدَرٌ) محمد بن جعفر: (أُراهُ)؛ أي: أظنّ شعبة (قالَ) في روايته لهذا الحديث («فِي أُمَّتِي اثْنا عَشَرَ مُنافِقًا) بدل قوله في الرواية السابقة:» في أصحابي اثنا عشر منافقًا «، وهؤلاء المنافقون هم الذين قصدوا الفتك بالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – ليلة العقبة مرجعه من تبوك، حين أخذ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – مع عمّار وحذيفة طريق الثنيّة، والقوم بطن الوادي، فطمِع اثنا عشر رجلًا في المكر به – صلى الله عليه وسلم -، فاتّبعوه ساترين وجوههم، غير أعينهم، فلما سمع النبيّ – صلى الله عليه وسلم – خشفة القوم من ورائه أمر حذيفة أن يردّهم، فخوّفهم الله تعالى حين أبصروا حذيفة، فرجعوا مسرعين على أعقابهم حتى خالطوا الناس، فأدرك حذيفة النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال لحذيفة: «هل عرفت أحدًا منهم؟» قال: لا، فإنهم كانوا متلثّمين، ولكن أعرف رواحلهم، فقال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أخبرني بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأخبرك بهم -إن شاء الله تعالى- عند الصباح»، فمن ثمّ كان الناس يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، قيل: أسرّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أمر هذه الفئة المشؤومة؛ لئلا تهيج الفتنة من تشهيرهم، ذكره في «المبارق». [راجع: هامش النسخة التركيّة (8) / (123)].
وقوله: (ولا يَجِدُونَ رِيحَها)؛ أي: يشمّونها، وهو كناية عن شدّة بُعدهم، وعدم قربهم من الجنّة، فهم محرومون منها أبدًا.
وقوله: (سِراجٌ مِنَ النّارِ) وفي بعض النسخ: «سراج من نار»؛ أي: التهاب من نار، وهو تفسير للدُّبيلة؛ يعني: أن دُمّلًا يظهر في أكتافهم، وفيه حمرة، وحرارة كأنها سِراج من نار، وفي رواية للطبرانيّ: «شهاب من نار».
وقوله: (يَظْهَرُ فِي أكْتافِهِمْ) بفتح الهمزة: جمع كَتِفٍ، بفتح الكاف، وكسر التاء، وبتسكينها مع فتح الكاف، وكسرها ثم يدخل في أجوافهم.
وقوله: (حَتّى يَنْجُمَ مِن صُدُورِهِمْ) بضمّ الجيم، من باب نصر؛ أي: حتى يطلع، ويخرج من صدروهم؛ يعني: يحدث في أكتافهم جراح تظهر حرارتها من صدورهم، فتقتلهم، وهذا تفسير من النبيّ – صلى الله عليه وسلم – للدُّبيلة، عبّر عنها بالسراج، وهو شُعلة المصباح للمبالغة، قاله في «المبارق». [راجع: هامش النسخة التركيّة (8) / (123)].
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله. [البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (43/ 272)، بتصرف يسير].
فوائد وفقه الحديث:
(1) – (منها): بيان ما كان الله تعالى يُطلع نبيّه – صلى الله عليه وسلم – على أعيان المنافقين، فقد أعلمه الله عز وجل أعيان اثني عشر منهم، وأعلمه ما يكون إليه عاقبة أمرهم.
(2) – (ومنها): بيان فضل الصحابيّ الجليل حُذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-، حيث كان – صلى الله عليه وسلم – خصّه بمعرفة أعيان بعض المنافقين، وأمره أن [لا] يخبر بهم أحدًا، فكان لا يُخبر بهم، حتى إن عمر -رضي الله عنه- كان إذا مات شخص تبع حذيفة، فإن صلى عليه صلى عليه، وإلا تركه، وكان -رضي الله عنه- صاحب سرّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ففي «صحيح مسلم» أنه – صلى الله عليه وسلم – أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة. (2891)
وأخرج ابن جرير عن قتادة موقوفًا عليه، في قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة (101)] عذاب الدنيا، وعذاب القبر، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذابٍ عَظِيمٍ} [التوبة (101)] ذُكر لنا أن نبيّ الله – صلى الله عليه وسلم – أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلًا من المنافقين، فقال: ستة منهم تكفيكهم الدُّبيلة سراج من نار جهنم، وذُكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشدك الله أمِنهم أنا؟ قال: لا، والله، ولا أُؤَمِّن منها أحدًا بعدك.
وأخرج عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- في قول الله: {ومِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ ومِن أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ} – إلى قوله- {عَذابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: (101)] قال: قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطيبًا يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق، اخرج يا فلان، فإنك منافق، فأخرج من المسجد ناسًا منهم فضحهم، فلقيهم عمر، وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياءً أنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبأوا هم من عمر، ظنوا أنه قد عَلِم بأمرهم، فجاء عمر، فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلّوا، فقال له رجل من المسلمين: أبْشر يا عمر، فقد فضح الله المنافقين اليوم، فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر. انتهى. [«تفسير الطبري» (11) / (10)].
قال صاحب أنيس الساري (تخريج أحاديث فتح الباري) (1) / (208)
(147) – عن ابن عباس قال: خطب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الجمعة فقال:» أخرج يا فلان فإنك منافق «
قال الحافظ: وروى الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في» الأوسط «من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: فذكره» ((1))
ضعيف
أخرجه الطبري في «تفسيره» ((11) / (10)) عن الحسين بن عمرو العنقزي ثنا أبي ثنا أسباط: عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به
وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ((796)) عن أحمد بن يحيى الحلواني ثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي به.
وقال: لم يرو هذا الحديث عن السدي إلا أسباط بن نصر «
وقال الهيثمي: وفيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي وهو ضعيف» المجمع (7) / (34)
قلت: قال أبو زرعة: كان لا يصدق، وقال أبو حاتم: لين يتكلمون فيه، وقال أبو داود: كتبت عنه ولا أحدث عنه. انتهى من أنيس الساري
مما يشهد لسؤال عمر عن حاله: في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (294) – قال البزار (ج (1) ص (391)) كما في «كشف الأستار»: حدثنا عبد الواحد بن غياث ثنا عبد العزيز بن مسلم ثنا الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: دعي عمر لجنازة فخرج فيها أو يريدها [ص (242)] فتعلقت به فقلت اجلس يا أمير المؤمنين فإنه من ((1)) أولئك فقال نشدتك بالله أنا منهم قال لا ولا أبرئ أحدا بعدك.
هذا حديث حسن.
(3) – (ومنها): أن فيه بيان أن الحروب التي جرت بين الصحابة -رضي الله عنهم- كانت من الأمور الاجتهاديّة، فكان بعضهم فيها مصيبًا، وبعضهم مجتهدًا مخطئًا، مغفورًا له خطؤه، وكان عليّ -رضي الله عنه- هو الإمام الحقّ.
(4) – (ومنها): بيان ما كان عليه السلف في تتبّع الأمور، وسؤال الصحابة -رضي الله عنهم- عن حقيقتها، حتى يتوصّلوا إلى الحقيقة، فيُعطوا كلّ ذي حقّ حقّه، ويعذروا، ويستغفروا لمن أخطأ في اجتهاده، وهكذا ينبغي للمسلمين أن يسلكوا مسلكهم، ولا يقعوا في بعض الصحابة -رضي الله عنهم- بأهوائهم.
5 – (ومنها): فيه إبطالَ ما تزعمه الرافضة، والشيعة، والإماميّة، من الوصيّة إلى عليّ – رضي الله عنه -، وغير ذلك من افتراءاتهم، وأي دليل أقوى على بطلانه من اعتراف علي بنفسه رضي الله عنه. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
6 – (ومنها): “أجاب عمار رضي الله عنه بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعهد إليهم بشيء من ذلك، وإنما هو فهمٌ فهموه رضي الله عنهم من حديث آخر. هذا حاصل كلامه رضي الله عنه.
والصواب: أن قتالَ الصحابة مع علي رضي الله عنه إنما هو عملٌ بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، فالذي عليه جمهور العلماء: أن عليًّا رضي الله عنه هو المصيب في قتاله مع معاوية رضي الله عنه؛ لأنه هو الخليفةُ الراشد الذي بايعه أكثرُ أهل الحل والعقد، وأما أهل الشام فقد امتنعوا من البيعة، فقاتلهم عليٌّ رضي الله عنه.
وقد جاء في حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار رضي الله عنه: ((وَيْحَ عَمَّارٍ! تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ))، فكان كما أخبر به عليه الصلاة والسلام، فقتله أهل الشام، فدل على أنهم مخطئون معذورون بالاجتهاد، فلهم أجرُ الاجتهاد، وعلي رضي الله عنه ومَن معه مجتهدون مصيبون، لهم أجران: أجرُ الصواب، وأجرُ الاجتهاد. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 108)].
وقال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله أيضًا:
[(7011)] ( … ) – (حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا أبُو أحْمَدَ الكُوفِيُّ، حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعِ، حَدَّثَنا أبُو الطُّفَيْلِ، قالَ: كانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِن أهْلِ العَقَبَةِ، وبَيْنَ حُذَيْفَةَ بَعْضُ ما يَكُونُ بَيْنَ النّاسِ، فَقالَ: أنْشُدُكَ بِاللهِ، كَمْ كانَ أصْحابُ العَقَبَةِ؟ قالَ: فَقالَ لَهُ القَوْمُ: أخْبِرْهُ إذْ سَألَكَ، قالَ: كُنّا نُخْبَرُ أنَّهُمْ أرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإنْ كُنْتَ مِنهُمْ، فَقَدْ كانَ القَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وأشْهَدُ بِاللهِ أنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنهُمْ حَرْبٌ للهِ، ولِرَسُولِهِ، فِي الحَياةِ الدُّنْيا، ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ، وعَذَرَ ثَلاثَةً، قالُوا: ما سَمِعْنا مُنادِيَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، ولا عَلِمْنا بِما أرادَ القَوْمُ، وقَدْ كانَ فِي حَرَّةٍ، فَمَشى، فَقالَ: «إنَّ الماءَ قَلِيلٌ، فَلا يَسْبِقُنِي إلَيْهِ أحَدٌ»، فَوَجَدَ قَوْمًا قَدْ سَبَقُوهُ، فَلَعَنَهُمْ يَوْمَئِذٍ).
(أبُو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جَحْش الليثيّ، وربما سُمّي عمرًا، وُلد عام أُحُد، ورأى النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وروى عن: أبي بكر، فمن بعده وعُمِّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره
شرح الحديث:
عن أبي الطُّفَيْلِ عامر بن واثلة -رضي الله عنه-؛ أنه (قالَ: كانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِن أهْلِ العَقَبَةِ) اسمه: وديعة بن ثابت، كما بُيّن في رواية الطبرانيّ في «الكبَير»، لكنه جعل الكلام بينه وبين عمّار -رضي الله عنه-، ويمكن أن يتكرّر، والله تعالى أعلم.
ورواية الطبراني التي فيها ذكر وديعة هي من طريق محمد بن عمر الواقدي كما سيأتي ذكر إسنادها
وذكروا أن وديعة هو الذي قال: ما رأينا مثل قراءنا أمزر بطونا وأجبن عند اللقاء. وتكلم أيضا ثعلبه وغيرهم من المنافقين وعذر منهم مخشي بن حمير
قال بعض المحققين:
رواها ابن إسحاق تعليقًا، وعزاها السيوطي في «الدر المنثور»: لابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم؛ من حديث كعب رضي الله عنه، ولابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
[تنبيه] قال النوويّ رحمه الله: هذه العقبة ليست العقبة المشهورة بمنى التي كانت بها بيعة الأنصار -رضي الله عنهم-، وإنما هذه عَقبة على طريق تبوك، اجتمع المنافقون فيها للغدر برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، في غزوة تبوك، فعصمه الله تعالى منهم. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (125) – (126)].
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: هذا الحديث يُشكل على المبتدئين؛ لأن أهل العقبة إذا أُطلقوا، فإنما يشار بهم إلى الأنصار المبايعين له – صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا من ذاك، وإنما هذه عَقبة في طريق تبوك، وقف فيها قوم من المنافقين؛ لِيَفتكوا به – صلى الله عليه وسلم -، ثم أخرج بسنده عن أبي الطفيل قال: لَمّا أقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من غزوة تبوك، أمر مناديًا فنادى: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقوده حذيفة، ويسوقه عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل … » الحديث. [«كشف المشكل من حديث الصحيحين» ص (257)].
وقال الإمام أحمد رَحمه اللّهُ في «مسنده»:
((23843)) – حدثنا يزيد [هو: ابن هارون] أنا الوليد- يعني: ابن عبد الله بن جُميع- عن أبي الطفيل، قال: لمّا أقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من غزوة تبوك أمر مناديًا، فنادى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخَذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقوده حذيفة، ويسوق به عمّارٌ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، غَشُوا عمارًا، وهو يسوق برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لحذيفة: «قُدْ قُدْ»، حتى هبط رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلما هبط رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نزل، ورجع عمّارٌ، فقال: «يا عمار هل عرفت القوم؟» فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: «هل تدري ما أرادوا؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أرادوا أن يُنَفِّروا برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فيطرحوه».
قال: فسأل عمار رجلًا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: نشدتك بالله، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ فقال: أربعة عشر، فقال: إن كنت فيهم، فقد كانوا خمسة عشر، فعَذَر [وقع في النسخة: «فعدد» وهو غلط] رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منهم ثلاثةً، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وما علمنا ما أراد القوم، فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
قال الوليد: وذكر أبو الطفيل في تلك الغزوة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال للناس، وذكر له أن في الماء قلةً، فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مناديًا، فنادى أن لا يَرِدَ الماء أحد قَبْل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فوَرَده رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فوجد رهطًا قد ورَدُوه قبله، فلعنهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومئذ. انتهى [«مسند الإمام أحمد بن حنبل» (5) / (453)، ورجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضًا الطبرانيّ في «المعجم الكبير»، وقال الهيثميّ: رجاله ثقات].
سبق الخلاف في الوليد بن جميع
وقال الطبرانيّ في «الكبير»:
((3016)) – حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا مصعب بن عبد الله الزبيريّ، حدّثنا محمد بن عمر الواقديّ، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: كان بين عمار بن ياسر ووديعة بن ثابت كلام، فقال وديعة لعمار: إنما أنت عبد أبي حذيفة بن المغيرة ما أعتقك بعدُ، قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ فقال: الله أعلم، قال: أخبرني عن علمك، فسكت وديعة، فقال من حضره: أخبره عما سألك، وإنما أراد عمار أن يُخبره أنه كان فيهم، فقال: كنا نتحدث أنهم أربعة عشر رجلًا، فقال عمار: فإن كنت فيهم، فإنهم خمسة عشر، فقال وديعة: مهلًا يا أبا اليقظان، أنشدك الله أن تفضحني، فقال عمار: والله ما سميت أحدًا، ولا أسميه أبدًا، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلًا اثنا عشر منهم حرب لله، ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. انتهى [«المعجم الكبير» (3) / (165)، وفي إسناده الواقديّ: ضعيف].
[تنبيه]: رواية مسلم واضحة في أن الكلام جرى بين حذيفة ورجل من أهل العقبة، ولكن روايات أحمد والطبرانيّ متّفقة على أنه جرى بين عمار وبين الرجل، ويُمكن أن يجاب بأن القصّتين وقعتا، أو يقال: ما في «الصحيح» أصحِّ، والله تعالى أعلم.
(وبَيْنَ حُذَيْفَةَ) بن اليمان -رضي الله عنهما- (بَعْضُ ما يَكُونُ بَيْنَ النّاسِ)؛ أي: من المنازعة، والمشاغبة، وقال القرطبيّ رحمه الله: وعنى أبو الطفيل بقوله: «بعض ما يكون بين القوم»: الملاحاة، والمعاتبة التي تكون غالبًا بين الناس. انتهى.
(فَقالَ) الرجل الذي نازع حذيفة لحذيفة -رضي الله عنه-: (أنْشُدُكَ بِاللهِ) وفي نسخة: «أنشدك الله»؛ أي: أسألك رافعًا نشيدتي؛ أي: صوتي، (كَمْ كانَ أصْحابُ العَقَبَةِ؟)؛ أي: العقبة التي في طريق تبوك. (قالَ) أبو الطفيل (فَقالَ لَهُ)؛ أي: لحذيفة، (القَوْمُ) الحاضرون تلك المنازعة لحذيفة: (أخْبِرْهُ)؛ أي: أخبر الرجل بما سألك عنه،
(قالَ) حذيفة -رضي الله عنه-: (كُنّا نُخْبَرُ) بالبناء للمفعول، وعبّر بالمجهول؛ طلبًا للسَّتر، وإلا فحذيفة -رضي الله عنه- يعلمهم يقينًا؛ لأن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أخبره بأسمائهم وأعيانهم، (أنَّهُمْ أرْبَعَةَ عَشَرَ) رجلًا،
(فَإنْ كُنْتَ) أيها المناشد، وهذا الكلام لحذيفة -رضي الله عنه-، (مِنهُمْ)؛ أي: من أصحاب العقبة، (فَقَدْ كانَ القَوْمُ) أصحاب العقبة (خَمْسَةَ عَشَرَ)؛ أي: بزيادتك علمهم، (وأشْهَدُ بِاللهِ أنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنهُمْ حَرْبٌ)؛ أي: محارب (للهِ) عز وجل (ولِرَسُولِهِ) – صلى الله عليه وسلم – (فِي الحَياةِ الدُّنْيا) حيث أراداوا الفتك به في تلك الليلة، (ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ) حيث ينادى بهم على رؤوس الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ} [هود (18)].
(وعَذَرَ ثَلاثَةً)؛ أي: قَبِل النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عُذرهم، ورفع عنهم اللوم، يقال: عذرته فيما صَنَع عَذْرًا، من باب ضَرَبَ: إذا رفعت عنه اللوم. [راجع: «المصباح المنير» (2) / (398)]، وإنما عَذَرهم لأنهم لم يريدوا شرًّا، وإنما تبعوا القوم جهلًا،
(وقَدْ كانَ) – صلى الله عليه وسلم – في مرجعه من تبوك (فِي حَرَّةٍ)؛ أي: في أرض ذات حجارة سُود، وتُجمع على حِرار بالكسر، مثل كلبة وكلاب [راجع: «المصباح المنير» (1) / (129)].
(فَمَشى) – صلى الله عليه وسلم – (فَقالَ) للناس: («إنَّ الماءَ) الذي سنأتيه (قَلِيلٌ)؛ أي: لا يكفي لجماعتنا، (فَلا) ناهية، (يَسْبِقُنِي إليْهِ أحَدٌ») أراد أن لا يمسّ ذلك الماء أحد حتى يمسّه – صلى الله عليه وسلم – بيده المباركة، فيفيض الماء، ويكفي الجيش كلّه. (فَوَجَدَ قَوْمًا) من المنافقين (قَدْ سَبَقُوهُ) إلى ذلك الماء، ومسّوه، واغترفوا منه مخالفة له – صلى الله عليه وسلم -؛ لشدّة نفاقهم (فَلَعَنَهُمْ)؛ أي: دعا على هؤلاء المنافقين الذي سبقوه إلى الماء (يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم إذ وقعت تلك الواقعة، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: يستفاد من مجموع الروايات: أن هذه القصّة وقعت مرّتين:
– مرّة في سفر النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إلى تبوك، وقد مرّت القصّة في هذا الكتاب، في «باب معجزات النبيّ – صلى الله عليه وسلم -» من «كتاب الفضائل» من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، قال: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام غزوة تبوك إلى أن قال: ثم قال: «إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئًا، حتى آتي»، فجئناها، وقد سبَقَنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك، تَبِضّ بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «هل مسستما من مائها شيئًا؟» قالا: نعم، فسبّهما النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وقال لهما ما شاء الله أن يقول … الحديث.
– والقصّة الأخرى وقعت عند رجوعه – صلى الله عليه وسلم – من تبوك فيما ذكر الواقديّ في «مغازيه»: قال: وأقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قافلًا، حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له: وادي الناقة … انتهى [«مغازي الواقديّ» (3) / (1039)].
[تنبيه آخر]: ذكر الطبراني في «الكبير» أسماء أصحاب العقبة، فقال:
((3017)) – حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا الزبير بن بكار، قال: «تسمية أصحاب العقبة»:
معتب بن قشير بن مُليل …. إلخ وذكر شيئا من نفاقهم انتهى [«المعجم الكبير» (3) / (166)].
مسائل وتنبيهات:
(المسألة الأولى):
قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري (ت (1413)):
[1] قال ابن محمود في صفحة ((15)): ومثله إخباره حذيفة بأسماء ثلاثين من المنافقين، وأمره بكتمانها، فكان الصحابة لا يصلون إلا على من صلى عليه حذيفة، ويسمونه صاحب السر المكتوم.
والجواب وذكر الروايات السابقة: إذا علم ما جاء في الحديث الصحيح عن المنافقين الذين أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – حذيفة -رضي الله عنه- بأسمائهم أنهم كانوا اثني عشر رجلا، فليعلم أيضًا أنه لا أصل لما ذكره ابن محمود من أنهم كانوا ثلاثين، ولا رأيت أحدًا ذكر ذلك قبله.
[2] وأما قوله: فكان الصحابة لا يصلون إلا على من صلى عليه حذيفة.
فجوابه: أن يقال: إنما ذكر هذا عن عمر -رضي الله عنه- وحده، ولم يذكر عن غيره، قال سعيد عن قتادة، ذُكِر لنا أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين، فقال: «ستة منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتا»، وذُكِر لنا أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا مات رجل يرى أنه منهم نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه صلى عليه وإلا تركه، وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: «أنشدك الله، أمنهم أنا؟»، قال: «لا، والله ولا أؤمن منها أحدًا بعدك» رواه ابن جرير.
[3] وأما قوله: ويسمونه صاحب السر المكتوم.
فجوابه: أن يقال: إنما كان يقال لحذيفة -رضي الله عنه- صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، هكذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري، عن علقمة- وهو ابن قيس النخعي- أنه جلس إلى أبي الدرداء -رضي الله عنه- فقال أبو الدرداء: «ممن أنت؟»، قال: «من أهل الكوفة»، قال: «أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟» يعني حذيفة، قال: «قلت: بلى». وفي جامع الترمذي عن خيثمة بن أبي سبرة أنه جلس إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال: «ممن أنت؟»، قلت: «من أهل الكوفة»، قال: «أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طهور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبغلته، وحذيفة صاحب سر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – … .» وذكر تمام الحديث، قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب». وأما قول ابن محمود صاحب السر المكتوم، فما رأيت أحدًا ذكره بهذا اللفظ .. [الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر — حمود بن عبد الله التويجري (ت (1413)) (117 – 118)].
(المسألة الثانية):
قوله رضي الله عنه: ” ما عَهِدَ إلَيْنا رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلى النّاسِ كافَّةً “. وسيأتي إيراد ما يدل على هذا.
وفي هذا رد على الشيعة الغالية:
أولاً: في أدعائهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص علي رضي الله عنه وأسرَّ إليه دونَ الناس كلهم بعلومٍ عظيمةٍ.
وثانيًا: في أدعائهم بأن القرآن الذي بين أيدينا ناقص، وهذا من باب أولى.
وورد أحاديث يدل على ذلك، ومن ذلك:
ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن أبُو الطُّفَيْلِ عامِرُ بْنُ واِثلَةَ – رضي الله عنه -، قالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيَّ بْنِ أبِي طالِبٍ، فَأتاهُ رَجُلٌ، فَقالَ: ما كانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُسِرُّ إلَيْكَ؟ قالَ: فَغَضِبَ، وقالَ: ما كانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُسِرُّ إلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النّاسَ،
غَبْرَ أنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي بِكَلِماتٍ أرْبَعٍ، قالَ: فَقالَ: ما هُنَّ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قالَ: قالَ: ((لَعَنَ اللهُ مَن لَعَنَ والِدَهُ، ولَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، ولَعَنَ اللهُ مَن آوى مُحْدِثًا، ولَعَنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنارَ الأرْضِ)).
قال أبو العبّاس القرطبيّ – رحمه الله –: ” (قول علي – رضي الله عنه – للسائل: ما كانَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يُسِرُّ إلي شيئًا يكتمُه النّاسَ)، وفي لفظ آخر: (ما خصَّنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشيءٍ لم يَعُمَّ به النّاسَ) رد وتكذيب للفِرَق الغالية فيه – وهم: الشيعةُ، والإماميةُ، والرافضةُ – الزاعمين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وصّى لعلي، وولاه بالنَّصِّ، وأسرَّ إليه دونَ الناس كلهم بعلومٍ عظيمةٍ، وأمورٍ كثيرةٍ.
وهذه كلها منهم أكاذيبُ، وتُرَّهات، وتمويهات، يشهد بفسادها نصوصُ متبوعهم، وما تقتضيه العاداتُ من انتشار ما تدعو إليه الحاجةُ العامَّةُ.
وغضبُ علي على ذلك دليلٌ على أنّه لا يرتضي شيئًا مما قيل هنالك.”. [المفهم (5/ 244)].
وأخرج البخاريّ رحمه الله تعالى فِي «صحيحه» (6) / (2482) حديث عليّ -رضي الله عنه- هَذا منْ طريق إبراهيم التيمي، عَنْ أبِيهِ، قالَ: قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما عِنْدَنا كِتابٌ نَقْرَؤُهُ إلّا كِتابُ اللَّهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قالَ: فَأخْرَجَها، فَإذا فِيها أشْياءُ مِنَ الجِراحاتِ وأسْنانِ الإبِلِ، قالَ: وفِيها: ((المَدِينَةُ حَرَمٌ ما بَيْنَ عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ، فَمَن أحْدَثَ فِيها حَدَثًا، أوْ آوى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنهُ يَوْمَ القِيامَةِ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ. ومَن والى قَوْمًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنهُ يَوْمَ القِيامَةِ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ. وذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ، يَسْعى بِها أدْناهُمْ، فَمَن أخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنهُ يَوْمَ القِيامَةِ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ)). انتهى.
قالَ فِي «الفتح» (13) / (532): الذي تضمّنه هَذا الحَدِيث مما فِي الصحيفة المذكورة أربعة أشياء: [أحدها]: الجراحات، وأسنان الإبل. [ثانيها]: «المدينة حرم». [ثالثها]: ومن والى قومًا بغير إذن مواليهم «. [رابعها]: وذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم». انتهى مختصرًا. [ذخيرة العقبى (36/ 17)].
وفي البخاري أيضًا ((3047)): عَنْ أبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إلّا ما فِي كِتابِ اللَّهِ؟ قالَ: “لاَ والَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأ النَّسَمَةَ، ما أعْلَمُهُ إلّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ، وما فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ”.
قُلْتُ: وما فِي الصَّحِيفَةِ؟ قالَ: ((العَقْلُ، وفَكاكُ الأسِيرِ، وأنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكافِرٍ)).
(المسألة الثالثة):
قال ابن كثير رحمه الله: “وقَدْ سُئِلَ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَنْ حِكْمَةِ كَفِّهِ، عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ قَتْلِ المُنافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأعْيانِ بَعْضِهِمْ!؟
وذَكَرُوا أجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ، مِنها: ما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أنَّهُ قالَ لِعُمَرَ: «أكْرَهُ أنْ يَتَحَدَّثَ العَرَبُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ»، ومَعْنى هَذا خَشْيَةَ أنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الأعْرابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الإسْلامِ ولا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِ لَهُمْ، وأنَّ قَتْلَهُ إيّاهُمْ إنَّما هُوَ عَلى الكُفْرِ، فَإنَّهُمْ إنَّما يَاخُذُونَهُ بِمُجَرَّدِ ما يَظْهَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ، قالَ القُرْطُبِيُّ: وهَذا قَوْلُ عُلَمائِنا وغَيْرِهِمْ كَما كانَ يُعْطِي المُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِشَرِّ اعْتِقادِهِمْ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهِيَ طَرِيقَةُ أصْحابِ مالِكٍ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الجَهْمِ والقاضِي إسْماعِيلُ والأبْهَرِيُّ وابْنُ الماجِشُونِ.
ومِنها: ما قالَ مالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّما كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ المُنافِقِينَ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ أنَّ الحاكِمَ لا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: وقَدِ اتَّفَقَ العُلَماءُ عَنْ بَكْرَةِ أبِيهِمْ عَلى أنَّ القاضِيَ لا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وإنِ اخْتَلَفُوا فِي سائِرِ الأحْكامِ،
قالَ: ومِنها ما قالَ الشّافِعِيُّ: إنَّما مَنَعَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من قَتْلِ المُنافِقِينَ ما كانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الإسْلامِ مَعَ العِلْمِ بِنِفاقِهِمْ؛ لِأنَّ ما يُظْهِرُونَهُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ. ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فِي الحَدِيثِ المُجْمَعِ عَلى صِحَّتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَإذا قالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأمْوالَهُمْ إلّا بِحَقِّها، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ، عَزَّ وجَلَّ». ومَعْنى هَذا: أنَّ مَن قالَها جَرَتْ عَلَيْهِ أحْكامُ الإسْلامِ ظاهِرًا، فَإنْ كانَ يَعْتَقِدُها وجَدَ ثَوابَ ذَلِكَ فِي الدّارِ الآخِرَةِ، وإنْ لَمْ يَعْتَقِدْها لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الآخِرَةِ جَرَيانُ الحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيا،
ومِنها ما قالَهُ بَعْضُهُمْ: أنَّهُ إنَّما لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأنَّهُ كانَ يَخافُ مِن شَرِّهِمْ مَعَ وُجُودِهِ، عَلَيْهِ السَّلامُ، بَيْنَ أظْهُرِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ، فَأمّا بَعْدَهُ فَيُقْتَلُونَ إذا أظْهَرُوا النِّفاقَ وعَلِمَهُ المُسْلِمُونَ، قالَ مالِكٌ: المُنافِقُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – هُوَ الزِّنْدِيقُ اليَوْمَ. قُلْتُ: وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِي قَتْلِ الزِّنْدِيقِ إذا أظْهَرَ الكُفْرَ هَلْ يُسْتَتابُ أمْ لا. أوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أنْ يَكُونَ داعِيَةً أمْ لا أوْ يَتَكَرَّرُ مِنهُ ارْتِدادُهُ أمْ لا أوْ يَكُونُ إسْلامُهُ ورُجُوعُهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ أوْ بَعْدَ أنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ؟ عَلى أقْوالٍ مَوْضِعُ بَسْطِها وتَقْرِيرِها وعَزْوِها كِتابُ الأحْكامِ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُ مَن قالَ: كانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَعْلَمُ أعْيانَ بَعْضِ المُنافِقِينَ إنَّما مُسْتَنَدُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ فِي تَسْمِيَةِ أُولَئِكَ الأرْبَعَةَ عَشَرَ مُنافِقًا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
فَأمّا غَيْرُ هَؤُلاءِ فَقَدْ قالَ تَعالى: {ومِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ ومِن أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الآيَةَ، وقالَ تَعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلا} فَفِيها دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُغْرَ بِهِمْ ولَمْ يُدْرِكْ عَلى أعْيانِهِمْ وإنَّما كانَتْ تُذْكَرُ لَهُ صِفاتُهُمْ فَيَتَوَسَّمُها فِي بَعْضِهِمْ كَما قالَ تَعالى: {ولَوْ نَشاءُ لأرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ}، وقَدْ كانَ مِن أشْهَرِهِمْ بِالنِّفاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ وقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ بِذَلِكَ الكَلامِ الَّذِي سَبَقَ فِي صِفاتِ المُنافِقِينَ ومَعَ هَذا لَمّا ماتَ [صَلّى عَلَيْهِ] – صلى الله عليه وسلم – وشَهِدَ دَفْنَهُ كَما يَفْعَلُ بِبَقِيَّةِ المُسْلِمِينَ، وقَدْ عاتَبَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ فَقالَ: «إنِّي أكْرَهُ أنْ تَتَحَدَّثَ العَرَبُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ» وفِي رِوايَةٍ فِي الصَّحِيحِ «إنِّي خُيِّرْتُ فاخْتَرْتُ» وفِي رِوايَةٍ «لَوْ أنِّي أعْلَمُ لَوْ زِدْتُ عَلى السَّبْعِينَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ لَزِدْتُ». [تفسير ابن كثير (1/ 179 – 180)].