2775، 2776،2777،2778 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري … وعبدالله كديم وطارق أبي تيسير وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
تكملة [3] التعليق على كتاب المنافقين من صحيح مسلم
==========
(تمهيد)
مر في الأحاديث السابقة ذكر بعض صفات المنافقين، وأنهم يظهرون المحبة لأهل الإسلام، ويخفون عداوتهم، فهم بهذا حرب على أهل الإسلام، وسلم من شرهم أهل الكفر كالخوارج، ويظهر ذلك من أفعالهم وأقوالهم. وأن الذي مات على النفاق الاعتقادي –وظهر أمره – لا يصلى عليه؛ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}.
وأنهم يكيدون لأهل الإسلام المكائد في مجالسهم، وأنهم يتخذون أيمانهم جُنَّةً ووِقايةً تقيهم من الحد؛ كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ}؛ ولهذا قال رأس المنافقين عبد الله بن أُبي مقالته الخبيثة: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}، وسيأتي في الأحاديث التالية من صفات المنافقين: الإقبالَ على الشهوات، والتنعمَ باللذات ((قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ))، ومن صفات المنافقين أنهم يُحبّون أن يُحمدوا بما لم يعملوا
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الإمام مسلم رحمه الله: [في حديث]
[(7003)] ((2775)) – (حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أبِي عُمَرَ المَكِّيُّ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ مُجاهِدٍ، عَنْ أبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ ثَلاثةُ نَفَرٍ. قُرَشِيّانِ، وثَقَفِيٌّ، أوْ ثَقَفِيّانِ، وقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ،
فَقالَ أحَدُهُمْ: أتَرَوْنَ اللهَ يَسْمَعُ ما نَقُولُ؟
وقالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إنْ جَهَرْنا، ولا يَسْمَعُ إنْ أخْفَيْنا،
وقالَ الآخَرُ: إنْ كانَ يَسْمَعُ إذا جَهَرْنا، فَهُوَ يَسْمَعُ إذا أخْفَيْنا، فَأنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولا أبْصارُكُمْ ولا جُلُودُكُمْ} الآيَةَ [فصّلت (22)]).
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) -رضي الله عنه-، أنه (قالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ)؛ أي: عند الكعبة.
وفي رواية ابن حبّان في «صحيحه»: من طريق وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر: ثقفيّ، وختناه قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فتحدثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ وقال الآخر: إذا رفعنا سمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا، فإنه يسمع إذا خفضنا، فأتيت النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فأنزل الله: {وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولا أبْصارُكُمْ ولا جُلُودُكُمْ} الآية [فصلت (22)] [«صحيح ابن حبان» (2) / (117)].
(ثَلاثَةُ نَفَر: قُرَشِيّانِ، وثَقَفِيٌّ) وقوله: (أوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (ثَقَفِيّانِ، وقُرَشِيٌّ) قال في «الفتح»: هذا الشكّ من أبي معمر راويه عن ابن مسعود، وهو عبد الله بن سَخْبرة، وقد أخرجه عبد الرزاق من طريق وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود بلفظ: «ثقفيّ، وختناه، قرشيان»، ولم يشكّ، وأخرج مسلم من طريق وهب هذه، ولم يَسُق لفظها، وأخرجه الترمذيّ من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود: «قال: ثلاثة نفر»، ولم ينسبهم … انتهى [«الفتح» (10) / (565)، «كتاب التفسير» رقم ((4816))].
نقل ابن حجر الاختلاف في تعينهم لكن لم يصح شيء
(قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ) قال في «الفتح»:
وفيه: إشارة إلى أن الفطنة قلما تكون مع البِطْنة، قال الشافعيّ: ما رأيت سمينًا عاقلًا إلا محمد بن الحسن. انتهى.
(وقالَ الآخَرُ:) هكذا نُسخ مسلم: «وقال» بالواو، وهذا وقع في «صحيح ابن حبّان»، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: «قال الآخر»، بدون واو، وهو الظاهر؛ لأنه جواب لِما قبله، فلا حاجة إلى الواو، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وقالَ الآخَرُ)؛ أي: الثالث: (إنْ كانَ يَسْمَعُ إذا جَهَرْنا، فَهُوَ يَسْمَعُ إذا أخْفَيْنا)
وفي رواية البخاريّ: «فقال بعضهم لبعض: أترون أن الله يسمع حديثنا، قال بعضهم: يسمع بعضه، وقال بعضهم: لئن كان يسمع بعضه، لقد يسمع كلّه»، قال في «الفتح»؛ أي: لأن نسبة جميع المسموعات إليه واحدة، فالتخصيص تَحَكّم، وهذا يُشعر بأن قائل ذلك كان أفطن أصحابه، وأخْلِق به أن يكون الأخنس بن شَرِيق؛ لأنه أسلم بعد ذلك، وكذا صفوان بن أمية. انتهى [«الفتح» (10) / (565)].
(فَأنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت (22)]) هذا تقريع لهم، وتوبيخ من جهة الله سبحانه وتعالى، أو من كلام الجلود؛ أي: ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، ولمّا كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا: ترْك المعصية.
وقيل: معنى الاستتار: الاتقاء؛ أي: ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفًا من هذه الشهادة.
وقيل: إن الاستتار مُضَمَّن معنى الظنّ؛ أي: وما كنتم تظنون أن تشهد، وهو: بعيد. ({عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولا أبْصارُكُمْ ولا جُلُودُكُمْ} الآيَةَ).
وتمام القراءة: {ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: (22)] من المعاصي، فاجترأتم على فعلها.
والمعنى: أن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون أهلككم، وطرحكم في النار {فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ}؛ أي: الكاملين في الخسران، قاله الشوكانيّ رحمه الله [«فتح القدير» (6) / (351)].
وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: اختَلَف أهل التأويل في معنى قوله: {وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ}.
ثم قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: وما كنتم تَستَخْفُون، فتتركوا ركوب محارم الله في الدنيا حَذَرًا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم اليوم.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب؛ لأن المعروف من معاني الاستتار: الاستخفاء.
فإن قال قائل: وكيف يستخفي الإنسان عن نفسه مما يأتي- يعني يفعل -؟
قيل: قد بيَّنا أن معنى ذلك إنما هو الأماني، وفي تركه إتيانه إخفاؤه عن نفسه.
وقوله: ({ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ}) يقول جلّ ثناؤه: ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي الله أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة، فلذلك لم تستتروا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فتتركوا ركوب ما حرّم الله عليكم. انتهى [«تفسير الطبريّ» (21) / (454) – (455)].
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قوله: {وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولا أبْصارُكُمْ ولا جُلُودُكُمْ}؛ أي: تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم؛ ولهذا قال: { … ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ ((22)) وذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أرْداكُمْ}؛ أي: هذا الظن الفاسد – وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون- هو الذي أتلفكم، وأرداكم عند ربكم، {فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ}؛ أي: في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم، وأهليكم. انتهى [«تفسير ابن كثير» (7) / (172)].
[تنبيه]: وجه إدراج مسلم هذا الحديث في «كتاب صفات المنافقين»، وإن كانت الآية نزلت في المشركين المجاهرين، لا في المنافقين المضمرين:
الإشارة إلى أن ما يُضمره المنافقون في صدورهم من النفاق سببه أنهم يظنّون أن الله لا يعلم ذلك منهم؛ ولذلك يصرّون عليه، ولا يتوبون منه، كما يفعل هؤلاء المشركون سواءً. [راجع: «تكملة فتح الملهم» (6) / (97)]، والله تعالى أعلم.
وحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7004)] ( … ) –
قال الإتيوبي عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله [«العلل الواردة في الأحاديث النبوية» (5) / (278) – (279)]. أنه يرى ترجيح رواية الأعمش عن عمارة بن عُمير، عن وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وهي التي اختارها مسلم رحمه الله في هذا الباب، وكذا رجح أبو زرعة الرازيّ،
فقد نقل ذلك عنه ابن أبي حاتم في «العلل»، وعبارته فيها: ((1791)) – سئل عن الأعمش، عن عمارة عن عبد الله بن مسعود قال: إني لمستتر إلخ، ثم قال: ورواه أبو معاوية، وعليّ بن مسهر، وابن أبي زائدة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله، وذكر الحديث.
قال أبو زرعة: كان الأعمش قديمًا قال: عن وهب بن ربيعة، والثوريّ أحفظهم كلّهم. انتهى [«علل الحديث» لابن أبي حاتم (2) / (99)].
والحاصل: أن رواية مسلم من طريق الأعمش صحيحة [وقد أجاد الشيخ ربيع المدخلي في دراسته: «بين الإمامين» فراجعه ص (419) – (422)].
[فإن قيل]: كيف أخرج مسلم لوهب بن ربيعة، وهو مجهول العين، إذ لم يرو عنه إلا عمارة بن عمير، ولم يوثّقه إلا ابن حبّان؟
[قلت]: إنما أخرج له مسلم متابعةً لرواية أبي معمر السابقة، ومعلوم أن المتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- هذه فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في «صحيحه»، فقال:
((391)) – أخبرنا أبو خليفة، قال: حدّثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن عُمارة بن عمير، عن وهب هو ابن ربيعة، عن ابن مسعود، قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر: ثقفيّ، وخَتَناه، قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فتحدثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ وقال الآخر: إذا رفعنا سمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا، فإنه يسمع إذا خفضنا، فأتيت النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فأنزل الله: {وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولا أبْصارُكُمْ} [فصلت (22)]. انتهى [«صحيح ابن حبان» (2) / (117)].
وقد ساقها الدارقطنيّ رحمه الله أيضًا في «العلل» بسند مسلم، [«العلل الواردة في الأحاديث النبوية» (5) / (278) – (279)].
وأما رواية سفيان الثوريّ، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله، فلم أجد من ساقها، وقد أخرجها البخاريّ في «صحيحه»، لكنه أحالها مثل مسلم، ولم يَسُق متنها، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1) – (منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
(2) – (ومنها): بيان ما كان عليه أهل الشرك من الجهل والضلال، حيث إنهم لا يعلمون أن الله عز وجل يعلم سرّهم، كما يعلم جهرهم سواء.
(3) – (ومنها): ما قيل: في الحديث من الفقه إثبات القياس الصحيح، وإبطال الفاسد، فالذي قال: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، قد أخطأ في قياسه؛ لأنه شبّه الله تعالى بخلقه الذين يسمعون الجهر، ولا يسمعون السرّ، والذي قال: إن كان يسمع إن جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا، أصاب في قياسه، حيث لم يشبّه الله بالمخلوقين، ونزّهه عن مماثلتهم.
[فإن قلت]: الذي أصاب في قياسه كيف وُصِف بقلة الفقه؟
[قلت]: «لأنه لم يعتقد حقيقة ما قال، ولم يقطع به، بل قال: إن كان»، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
وفي توفيق الرب المنعم:
4 – (ومنها): دليلٌ على أن من صفات المنافقين: الإقبالَ على الشهوات، والتنعمَ باللذات حتى تركبَهم الشحومُ مع الغفلة والإعراض، وأما من ركبته الشحوم، ولم يكن عنده غفلةٌ ولا إعراضٌ فهذا لا يضره؛ فقد وُجد في الصحابة من هو سمين، كعتبان بن مالك رضي الله عنه، ومن هذا المعنى: ما جاء في الحديث: ((خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) – قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ قَرْنَيْنِ، أَوْ ثَلاثَةً- قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ))، أي: بسبب غفلتهم وإعراضهم وإقبالهم على الشهوات والملذات. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 103)].
خاصة أن من السمنة ما هي وراثية
======
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7005)] ((2776)) – (حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ – وهُوَ ابْنُ ثابِتٍ – قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ، يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ؛ أنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – خَرَجَ إلى أُحُدٍ، فَرَجَعَ ناسٌ مِمَّنْ كانَ مَعَهُ، فَكانَ أصْحابُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، قالَ بَعْضُهُمْ: نَقْتُلُهُمْ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا، فَنَزَلَتْ: {فَما لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء (88)]).
شرح الحديث:
(فَرَجَعَ ناسٌ مِمَّنْ كانَ مَعَهُ) – صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحًا في رواية موسى بن عقبة في «المغازي»، وأن عبد الله بن أُبَيّ كان وافق رأيه رأي النبيّ – صلى الله عليه وسلم – على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج، وأجابهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فخّرج، قال عبد الله بن أُبي لأصحابه: أطاعهم، وعصاني، علامَ نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس، قال ابن إسحاق في روايته: فاتّبعهم عبد الله بن عمرو بن حَرام، وهو والد جابر، وكان خزرجيًّا، كعبد الله بن أُبَيّ، فناشدهم أن يرجعوا، فأبوا، فقال: أبعدكم الله [«الفتح» (9) / (126)، «كتاب المغازي» رقم ((4050))].
(فَكانَ أصْحابُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ)؛ أي: طائفتين في الحُكم فيمن انصرف مع عبد الله بن أُبيّ:
(قالَ بَعْضُهُمْ)؛ أي: بعض الصحابة، (نَقْتُلُهُمْ)؛ أي: لأنهم خذلوا النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، فيستحقّون القتل،
(وقالَ بَعْضُهُمْ: لا)؛ أي: لا نقتلهم؛ لأنهم مسلمون ظاهرًا،
(فَنَزَلَت) الآية الكريمة، وهي قوله عز وجل: ({فَما لَكُمْ}) الآية، وهذا هو الصحيح في سبب نزولها،
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم، عن أبي سعيد بن معاذ، قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، خطب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «من لي بمن يؤذيني؟ … »، فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأُسيد بن حضير، ومحمد بن مسلمة، قال: فأنزل الله هذه الآية.
وفي سبب نزولها قول آخر، أخرجه أحمد، من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، أن قومًا أتوا المدينة، فأسلموا، فأصابهم الوباء، فرجعوا، واستقبلهم ناس من الصحابة، فأخبروهم، فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لا، فنزلت.
وأخرجه ابن أبي حاتم، من وجه آخر، عن أبي سلمة مرسلًا، فإن كان محفوظًا احْتَمَل أن تكون نزلت في الأمرين جميعًا. [«الفتح» (9) / (126)].
({فَما لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}) «ما» استفهاميّة مبتدأ، والاستفهام فيه للإنكار، و {فِي المُنافِقِينَ} خبر المبتدأ، والمعنى: أي: شيء كائن لكم في أمرهم، وشأنهم، حال كونكم {فِئَتَيْنِ} في ذلك.
وحاصله: الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين.
وقوله عز وجل: {واللَّهُ أرْكَسَهُمْ} [النساء (88)] معناه: ردّهم إلى الكفر {بِما كَسَبُوا}،
وحكى الفراء، والنضر بن شميل، والكسائيّ: أركسهم، وركسهم؛ أي: ردّهم إلى الكفر،
ونكسهم، فالركس والنكس: قَلْب الشيء على رأسه، أو ردّ أوله إلى آخره، والمنكوس المركوس، وفي قراءة عبد الله بن مسعود، وأبيّ: «والله ركسهم».
والباء في قوله: {بِما} سببية؛ أي: أركسهم بسبب كسبهم، وهو لحوقهم بدار الكفر. [راجع: «فتح القدير» للشوكانيّ رحمه الله (2) / (186)].
وقال أبو جعفر الطبريّ رحمه الله: يعني جل ثناؤه بقوله: {فَما لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، فما شأنكم، أيها المؤمنون، في أهل النفاق فئتين مختلفتين؟
{واللَّهُ أرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا}؛ يعني بذلك: والله رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك، في إباحة دمائهم، وسَبْي ذراريهم. و «الإركاس»: الردُّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت [من الطويل]:
فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النّارِ، إنَّهُمُ … كانُوا عُصاةً وقالُوا الإفْكَ والزُّورا يقال منه: «أرْكَسهم» و «رَكَسَهم»، وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله، وأُبَيّ: «والله رَكَسَهُمْ»، بغير ألف. انتهى [«تفسير الطبريّ» (8) / (7)].
[تنبيه]: زاد البخاريّ في روايته لهذا الحديث في آخره: «وقال: إنها طيبة، تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الحديد»، وهذه الزيادة أخرجها مسلم في «فضل المدينة» من أواخر «كتاب الحجّ»، وقد تقدم.
قال الحافظ رحمه الله: وهو من نوادر صنيع مسلم، بخلاف البخاريّ، فإنه يقطِّع الحديث كثيرًا في الأبواب. انتهى.
وحديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7006)] ( … ) – (وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وحَدَّثَنِي أبُو بَكْرِ بْنُ نافِعٍ، حَدَّثَنا غُنْدَرٌ، كِلاهُما عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَهُ).
وقوله: (كِلاهُما عَنْ شُعْبَةَ)؛ يعني: أن كلًّا من يحيى بن سعيد القطّان، ومحمد بن جعفر غُندر رويا هذا الحديث عن شعبة بإسناده الماضي، نحو حديث معاذ بن معاذ المذكور.
[تنبيه]: أما رواية يحيى بن سعيد القطّان عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وأما رواية غندر عن شعبة، فقد ساقها البخاريّ في «صحيحه» مقرونًا بعبد الرحمن بن مهديّ، فقال:
((4313)) – حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا غندر، وعبد الرحمن، قالا: حدّثنا شعبة، عن عديّ، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: {فَما لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ} رجع ناس من أصحاب النبيّ – صلى الله عليه وسلم – من أُحُد، وكان الناس فيهم فرقتين: فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت: {فَما لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، وقال: «إنها طيبة، تنفي الخبث، – كما تنفى النار خبث الفضة». انتهى [«صحيح البخاريّ» (4) / (1676)].
وساقها الترمذيّ عن غندر وحده،
======
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7007)] ((2777)) – (حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الحُلْوانِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، التَّمِيمِيُّ، قالا: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي مَرْيَمَ، أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ أنَّ رِجالًا مِنَ المُنافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – كانُوا إذا خَرَجَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَإذا قَدِمَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – اعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وحَلَفُوا، وأحَبُّوا أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذابِ} [آل عمران (188)]).
شرح الحديث:
(خِلافَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -) بنصب خلاف على أنه ظرف لمقعدهم، قال الأخفش، ويونس: الخلاف بمعنى الخَلْف؛ أي: بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخَلْف. وقال قطرب، والزجاج: معنى خلاف رسول الله:
مخالفة الرسول حين سار، وأقاموا، فانتصابه على أنه مفعول له؛ أي: قعدوا لأجل المخالفة، أو على الحال، أي: حال كونهم مخالفين له – صلى الله عليه وسلم -.
(وحَلَفُوا) على أن العذر الذي ذكروه عذر واقع لا شكّ فيه، (وأحَبُّوا أنْ يُحْمَدُوا) بالبناء للمفعول؛ أي: ليحمدهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، والمسلمون (بِما لَمْ يَفْعَلُوا)؛ أي: بما ليس فيهم من الصدق في اعتذارهم، وحَلِفهم عليه. [راجع: «شرح الشيخ الهرريّ» (25) / (350)].
(فَنَزَلَتْ) قال في «الفتح»: هكذا ذكر أبو سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- سبب نزول الآية، وأن المراد: من كان يعتذر عن التخلف من المنافقين، وفي حديث ابن عباس الذي بعده أن المراد: من أجاب من اليهود بغير ما سئل عنه، وكتموا ما عندهم من ذلك.
ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معًا، وبهذا أجاب القِرطبيّ وغيره، وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود: نحن أهل الكتاب الأوَّل، والصلاة، والطاعة، ومع ذلك لا يُقِرّون بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران (188)].
وروى ابن أبي حاتم من طرُق أخرى، عن جماعة من التابعين نحو ذلك، ورجّحه الطبريّ، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء خاصّة، وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة، ففرح بها فرح إعجاب، وأحب أن يَحمده الناس، ويُثنوا عليه بما ليس فيه، والله أعلم. انتهى [«الفتح» (10) / (21) – (22) «كتاب التفسير» رقم ((4567))].
وفاعل «نزلت» قوله: «لا تحسبنّ الذين … إلخ»، لِقَصْد لفظه، فهو محكَيّ.
({ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا}) بالبناء للمفعول، ({بِما لَمْ يَفْعَلُوا}) من التمسّك بالحقّ، وهم على ضلال، ({فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ}) بالتاء الفوقيّة، والياء التحتيّة كما سبق آنفًا. ({بِمَفازَةٍ})؛ أي: بمكان ينجون فيه ({مِنَ العَذابِ}) في الآخرة، بل هم في مكان يُعذّبون فيه، وهو جهنّم.
وحديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
======
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(7008)] ((2778)) – (حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وهارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ- واللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ – قالا: حَدَّثَنا حَجّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أخْبَرَنِي ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ؛ أنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أخْبَرَهُ، أنَّ مَرْوانَ قالَ: اذْهَبْ يا رافِعُ – لِبَوّابِهِ- إلى ابْنِ عَبّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنّا فَرِحَ بِما أتى، وأحَبَّ أنْ يُحْمَدَ بِما لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أجْمَعُونَ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما لَكُمْ ولِهَذِهِ الآيَةِ؟ إنَّما أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أهْلِ الكِتابِ، ثُمَّ تَلا ابْنُ عَبّاسٍ: {وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران (187)] هَذِهِ الآيَةَ، وتَلا ابْنُ عَبّاسٍ: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا}، وقالَ ابْنُ عَبّاسِ: سَألَهُمُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَنْ شَيْءٍ، فَكَتَمُوهُ إيّاهُ، وأخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أرَوْهُ أنْ قَدْ أخْبَرُوهُ بِما سَألَهُمْ عَنْهُ، واسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إلَيْهِ، وفَرِحُوا بِما أتوْا مِن كِتْمانِهِمْ إيّاهُ ما سَألَهُمْ عَنْهُ).
شرح الحديث:
(عَن) عبد الملك بن عبد العزيز (بْنِ جُرَيْجِ) الأمويّ المكيّ؛ أنه قال: (أخْبَرَنِي ابْنُ أبي مُلَيْكَةَ) صرّح ابن جريج بالإخبارَ، فزالت عنه تهمة التدليس؛ لأنه مدلّس. (أنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ (أخْبَرَهُ، أنَّ مَرْوانَ) بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبا عبد الملك الأمويّ المدنيّ، وُلِي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ومات سنة خمس في رمضان، وله ثلاث، أو إحدى وستون سنةً، ولا تثبت له صحبة، وله في «صحيح مسلم» ذِكر بلا رواية، وكان يومئذ أمير المدينة من جهة معاوية. (قالَ: اذْهَبْ يا رافِعُ) وقوله: (لِبَوّابِهِ)؛ أي: قال هذا الكلام لحارس بابه، قال الحافظ رحمه الله: رافع هذا لم أر له ذكرًا في كتب الرواة، إلا بما جاء في هذا الحديث، والذي يظهر من سياق الحديث أنه توجه إلى ابن عباس، فبلّغه الرسالة، ورجع إلى مروان بالجواب، فلولا أنه معتمَد عند مروان، ما قنع برسالته، لكن قد ألزم الإسماعيليّ البخاريّ أن يصحح حديث بُسْرة بنت صفوان في نقض الوضوء من مسّ الذكر، فإن عروة ومروان اختلفا في ذلك، فبعث مروان حَرَسِيّه إلى بُسْرة،
قال الحافظ ردا على من ذكر الاضطراب وكون الرواي مجهول: والذي يتحصل لي من الجواب عن هذا الاحتمال أن يكون علقمة بن وقاص، كان حاضرًا عند ابن عباس لمّا أجاب، فالحديث من رواية علقمة، عن ابن عباس، وإنما قَصّ علقمة سبب تحديث ابن عباس بذلك فقط، وكذا أقول في حميد بن عبد الرحمن، فكأن ابن أبي مليكة حمله عن كل منهما، وحدّث به ابنَ جريج، عن كل منهما، فحدّث به ابنُ جريج تارةً عن هذا، وتارةً عن هذا.
وقد روى ابن مردويه في حديث أبي سعيد ما يدلّ على سبب إرساله لابن عباس، فأخرج من طريق الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: كان أبو سعيد، وزيد بن ثابت، ورافع بن خَدِيج عند مروان، فقال: يا أبا سعيد أرأيت قول الله، فذكر الآية، فقال: إن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك أن ناسًا من المنافقين، فذكر نحو حديث الباب، وفيه: فإن كان لهم نصرٌ وفتحٌ حلفوا لهم على سرورهم بذلك؛ ليَحمدوهم على فرحهم وسرورهم، فكأن مروان توقف في ذلك، فقال أبو سعيد: هذا يُعلم بهذا، فقال: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم، صدق.
ومن طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن رافع بن خَديج، أن مروان سأله عن ذلك، فأجابه بنحو ما قال أبو سعيد، فكأن مروان أراد زيادة الاستظهار، فأرسل بوابه رافعًا إلى ابن عباس، يسأله عن ذلك، والله أعلم.
قال في» العمدة «: هذا إنكار من ابن عباس -رضي الله عنهما- على السؤال بهذه المسألة على الوجه المذكور، وأن أصل هذا أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – دعا يهود إلى
آخره.
وحاصل جواب ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا يكتمون أشياء من النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ويفرحون بكتمانهم، ويُظهرون له خلاف الواقع، ويحبون أن يحمدهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون على ما أظهروه من خلاف الواقع، فالموجب للعقاب هو فرحهم بكتمان الحقيقة، وحبّهم للحمد على كذبهم، أما فرح المسلمين بما فعلوه من الحسنة، فهو عاجل بشرى المؤمن، كما جاء في الحديث. [أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.
وهذا إذا لم يكن على وجه العُجْب والكِبْر. [راجع:» تكملة فتح الملهم” (6) / (100)]، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ تَلا ابْنُ عَبّاسِ) -رضي الله عنهما- قوله تعالى: ({وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ})، وقوله: (هَذِهِ الآيَةَ)؛ أي: قرأ ابن عبّاس -رضي الله عنهما- هذه الآية بتمامها، وتمامها قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ} [آل عمران (187)].
قال ابن جرير رحمه الله: يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضًا من أمر هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم، يا محمد، إذ أخذ الله ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة، والإنجيل، وأنك لله رسول مرسل بالحق، ولا يكتمونه، {فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ} …. انتهى [«تفسير الطبريّ» (7) / (458)].
(وتَلا ابْنُ عَبّاسٍ) -رضي الله عنهما- أيضًا آية أخرى، وهي قوله تعالى: ({لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا}) تقدّم شرح هذه الآية في الحديث الماضي.
(وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ) -رضي الله عنهما-: (سَألَهُمُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَنْ شَيْءٍ) قال الكرمانيّ: قيل: هذا الشيء هو نَعْت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، (فَكَتَمُوهُ إيّاهُ)؛ أي: كتم يهود الشيء الذي سألهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عنه، (وأخْبَرُوهُ بغَيْرِهِ)؛ أي: بغير ذلك الشيء المسؤول
وحديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1) – (ومنها): بيان فضل ابن عبّاس -رضي الله عنهما- حيث كان مرجعًا للأمة في فهم كتاب الله عز وجل
(3) – (ومنها): بيان ما كان عليه السلف من البحث في كتاب الله، وسؤال أهل العلم عنه، والمناقشة فيما بينهم حتى يتّضح الحقّ. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
وفي توفيق الرب المنعم:
(3) – (ومنها): أن هذه الآية سواء قيل: إنها نزلت في المنافقين- كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه- أو قيل: إنها نزلت في أهل الكتاب- كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما- ففيها ذم لمن كذب وكتم الحق واستحمد بما لم يفعل، وأن هذا من صفات المنافقين واليهود.
(4) – (ومنها): هذه القصة في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نزلت في المنافقين، وأما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ففيه أنها نزلت في اليهود.
قال الطبري: ((وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا … } الآية: قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم؛ ليبين للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه؛ لأن قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا … } الآية، في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك)).
ويدخل- أيضًا- فيها- بعموم اللفظ-: المنافقون؛ لأنهم لم ينقادوا للرسول، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم.
(5) – (ومنها): دليلٌ على أن من صفات المنافقين التخلفَ عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، والفرحَ بالقعود عن الجهاد، ومحبةَ أن يحمدوا بما لم يفعلوا”. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم].