2772 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري … وعبدالله كديم وطارق أبي تيسير وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في صحيح مسلم،
(50) – كِتابُ: صِفاتِ المُنافِقِينَ وأحْكامِهِمْ
(1) – ((2772)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ مُعاوِيَةَ، حَدَّثَنا أبُو إسْحاقَ، أنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ أرْقَمَ، يَقُولُ: «خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي سَفَرٍ أصابَ النّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ»، فَقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأصْحابِهِ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِهِ، قالَ زُهَيْرٌ: وهِيَ قِراءَةُ مَن خَفَضَ حَوْلَهُ، وقالَ: {لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ} [المنافقون (8)] قالَ: فَأتَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأرْسَلَ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَألَهُ فاجْتَهَدَ يَمِينَهُ ما فَعَلَ، فَقالَ: كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمّا قالُوهُ شِدَّةٌ حَتّى أنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقِي {إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ} [المنافقون (1)] قالَ: ثُمَّ «دَعاهُمُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ»، قالَ: فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ، وقَوْلُهُ {كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون (4)] وقالَ: كانُوا رِجالًا أجْمَلَ شَيْءٍ.
==========
مقدمة، وفيه تمهيد، وعدة مسائل:
(تمهيد) فيما يضاد هذا التوحيد أو ينافي كماله
بعد الحديث عن التوحيد وحقيقته، ناسب أن يكون الحديث عن ضده؛ إذ بضدها تتميز الأشياء.
والشرك، والكفر، والنفاق شر كلها، ومعرفتا سبب لتوقيعها، كما قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه … ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
وقبله قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني».
من أجل ذا كان الحديث في هذا الباب [عن أحد] أضداد الخير – وهو النفاق-؛ وأضداد الخير: الشرك الذي هو ضد التوحيد، وعن الكفر الذي هو ضد الإسلام، وعن النفاق الذي هو ضد الإيمان؛ كي تحذر وتتقي.
فيقال: الإنسان خلق على فطرة التوحيد والإسلام، ولو تركت هذه الفطرة بعيدة عن المؤثرات، لاستمر صاحبها على لزومها.
وإذا تدخلت المؤثرات في هذه الفطرة، فإنها قد تنحرف عن الخط المستقيم، وعن الهدي الرباني، إذا تضافر لذلك جملة من عوامل الانحراف.
وإذا وجد الانحراف؛ فإنه سيأخذ صورا ثلاثة، هي:
(1) – الشرك.
(2) – الكفر.
(3) – النفاق.
والذي يتعلق بموضوع الباب وسيكون الحديث فيه “النفاق، وأنواعه” إن شاء الله تعالى:
(المسألة الأولى): معنى النفاق
1) معنى النفاق لغة:
النفاق في اللغة: من «النفق»، وهي: تدل على الإخفاء وعدم الإظهار. ومنه سمي السرب في الأرض الذي له مخلص إلى مكان نفقا. وقيل لأحد جحري اليربوع: النافقاء والنفقة؛ لأنه يكتمه ويظهر غيره؛ فإذا أتي من جهة القاصعاء، ضرب النافقاء برأسه، فانتفق.
يقال: نافق اليربوع، إذا أخذ في نافقائه.
[انظر: أساس البلاغة ص (648) – (649). ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس (5) / (454) – (455)، وغيرهما].
2) معنى النفاق في الشرع:
النفاق شرعا: هو أن يظهر المرء ما يوافق الحق، ويبطن ما يخالفه؛ فمن أظهر أمام الناس ما يدل على الحق، وكان حقيقة أمره أنه على باطل من الاعتقاد، أو الفعل، فهو المنافق، واعتقاده، أو فعله هو النفاق.
[انظر: المعجم الوسيط ص (942)].
3) الصلة بين المعنيين:
يلاحظ أن المنافق قد ستر اعتقاده، أو عمله، وأخفاه، وأضمره، فالمنافق: يدخل في الإسلام من باب ظاهر؛ فينطق الشهادتين، ويصلي مع الناس، مع أنه يكتم خلاف الإسلام، ويتربص بالمسلمين الدوائر، وينتظر ظهور الكفر، حتى يتخلى عما أظهره، كما قال الله عن المنافقين: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ونَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النساء (141)].
(المسألة الثانية) أنواع النفاق
النفاق نوعان: نفاق أكبر «اعتقادي»، ونفاق أصغر «عملي».
(المسألة الثالثة): النفاق الأكبر الاعتقادي
أولا: تعريف النفاق الأكبر
هو أن يظهر الرجل للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله، مكذب به.
[انظر: مدارج السالكين لابن القيم (1) / (379) – (377). والقاموس المحيط للفيروزآبادي (1196)]؛
فهو قد أظهر الانقياد والتصديق ظاهرا؛ لكنه أبى ذلك باطنا. [انظر أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص (149)].
ثانيا: حكم النفاق الأكبر
النفاق الأكبر نفاق اعتقادي محله القلب، وصاحبه كافر، خالد مخلد في النار، بل في الدرك الأسفل منها إن لم يتب. [انظر مدارج السالكين لابن القيم (1) / (376)]، كما قال عز وجل: {إنَّ المُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ ولَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء (145)].
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا؛ لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة. [انظر المرجع السابق (1) / (377)].
ثالثا: صفات المنافقين نفاقا أكبر
قد كشف الله في كتابه أسرار المنافقين، وهتك أستارهم، في آيات كثيرة، نزلت تخبر عن أوصافهم، وأهدافهم، ووسائلهم الدنيئة لهدم الدين، أو إضعاف المسلمين.
والنفاق الأكبر «الاعتقادي» قد جمع أهله خصالا كثيرة، وصفات عديدة، سأقتصر على ذكر بعضها، كي لا يقع شيء منها في قلب المؤمن، فيخسر الدنيا والآخرة. فمنها:
(1) – تكذيب الرسول – صلى الله عليه وسلم – باطنا لا ظاهرا؛ ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} [المنافقون (1)]؛ أي كاذبون فيما أظهروا من شهادتهم، وحلفهم بألسنتهم.
فمن قال شيئا، واعتقد خلافه، فهو كاذب. [انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18) / (80)].
(2) – موالاة الكافرين، وإعانتهم في حربهم ضد المسلمين؛ ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ولا نُطِيعُ فِيكُمْ أحَدًا أبَدًا وإنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [الحشر (11)]؛ فهؤلاء المنافقون أطمعوا إخوانهم من أهل الكتاب في نصرتهم، وموالاتهم على المؤمنين، وأقسموا أنهم لن يطيعوا في عدم نصرتهم أحدا يعذلهم أو يخوفهم، وأنهم سينصرونهم ويعينوهم على المسلمين إن قاتلوهم. [انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي (7) / (338)].
(3) – تبييت الشر للمسلمين، وتدبير المكائد لهم؛ ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ ولا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ وكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء (108)]؛ فمخافة الخلق عند هؤلاء المنافقين أعظم من مخافة الله عز وجل، لذلك تجدهم يحرصون بالوسائل المباحة والمحرمة على تجنب الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم، خصوصا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول. [انظر المرجع نفسه (2) / (154)].
(4) – المسرة بانخفاض دين المسلمين، وكراهية انتصاره؛ ودليل هذه الصفة قول الله عز وجل: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورُ حَتّى جاءَ الحَقُّ وظَهَرَ أمْرُ اللَّهِ وهُمْ كارِهُونَ} [التوبة (48)]؛ فقد طلب هؤلاء المنافقون الشر من البداية، واحتالوا في تشتيت أمر المسلمين وإبطال دينهم، حتى أظهر الله دينه، وأعز جنده، والمنافقون كارهون لذلك. [انظر زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (3) / (448)].
ومن الأدلة أيضا قوله سبحانه وتعالى: {إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أخَذْنا أمْرَنا مِن قَبْلُ ويَتَوَلَّوْا وهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة (50)]؛ فقد أخبر سبحانه وتعالى أن المنافقين إن أصاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن معه نصر وغنيمة ساءهم ذلك، وإن أصابهم قتل وهزيمة، قالوا: عملنا بالحزم فلم نخرج معكم، ثم ينقلبون وهم فرحون بمصابكم وسلامتهم. [انظر المصدر نفسه (3) / (450)].
(المسألة الرابعة): النفاق الأصغر العملي
أولا: تعريف النفاق الأصغر:
هو ترك المحافظة على أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا. [انظر مدخل لدراسة العقيدة الإسلامة لعثمان جمعة ضميرية ص (348)].
ثانيا: حكم النفاق الأصغر:
النفاق الأصغر نفاق عملي؛ فصاحبه يدعي الإيمان بالله عز وجل، والطاعة لله ولرسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولكنه يعمل أعمالا عدها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من النفاق.
وصاحب هذا النوع لا يخرج عن ملة الإسلام في الدنيا، وهو في الآخرة مستحق للوعيد؛ لكنه لا يخلد في النار إن دخلها.
ثالثا: صفات المنافقين نفاقا أصغر:
ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أحاديث عديدة علامات ظاهرة، من اتصف بها فقد شابه المنافقين في أعمالهم؛ وإنما بينها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأخبر عنها كي نحذر من هذه الصفات الذميمة؛ لأنها من علامات النفاق، ويخشى أن يكون هذا النفاق العملي مؤديا إلى نفاق في الاعتقاد -والعياذ بالله تعالى-. [انظر شرح رياض الصالحين للصديقي (4) / (578)].
ومن هذه العلامات:
(1) – الكذب في الحديث. فيحدث الناس بحديث يصدقونه فيه، وهو كاذب.
(2) – إخلاف الوعد. فيعد بوعد، ومن نيته أن لا يفي، أو يعد ثم يبدو له أن يخلفه من غير عذر في الخلف. [انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (2) / (482)].
(3) – خيانة الأمانة؛ فإذا ائتمن أمانة، لم يؤدها.
(4) – الغدر. فإذا عاهد غدر، ولم يف بعهده.
(5) – الفجور في الخصومة. فيخرج عن الحق عمدا، حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا. [انظر: المصدر السابق (2) / (486)].
وهذه العلامات الخمس جمعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»، وفي قوله – صلى الله عليه وسلم -: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
[تنبيه:]
النفاق الأصغر «العملي» مقدمة للنفاق الأكبر «الاعتقادي»؛ فيخشى عليه من النفاق الاعتقادي؛ فالواجب على المؤمن أن يتجنب هذه الصفات؛ لأن الإيمان ينهى عنها.
وفي فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند، رقم ((84))، تم ذكر ما يتعلق بصفات المنافقين وأحكامهم، ومن ذلك:
(المسألة الخامسة): حاصل أنواعٌ أو صفاتٌ المنافقين، وهي على النحو الآتي:
1) النفاق الأكبر:
(1) – تكذيب الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
(2) – تكذيب بعض ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
(3) – بغض الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
(4) – بغض بعض ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
(5) – المسرَّة بانخفاض دين الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
(6) – الكراهية لانتصار دين الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
(7) – عدم اعتقاد وجوب تصديقه – صلى الله عليه وسلم – فيما أخبر به.
(8) – عدم اعتقاد وجوب طاعته – صلى الله عليه وسلم – فيما أمر به.
(2)) النفاق الأصغر: فذكرنا نحو ما سبق ذكره
وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كُلّه يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، واختلاف القلب واللسان، واختلاف الدخول والخروج؛ ولهذا قالت طائفة من السلف: خشوع النفاق: أن ترى الجسد خاشعًا، والقلب ليس بخاشع.
(المسألة السادسة): الفروق بين النفاق الأكبر والأصغر:
(1) – النفاق الأكبر يُخرج من الملّة، والأصغر لا يُخرج من الملّة.
(2) – النفاق الأكبر يُحبط جميع الأعمال.
(3) – النفاق الأكبر اختلاف السرّ والعلانية في الاعتقاد، والأصغر اختلاف السرّ والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد.
(4) – النفاق الأكبر يُخلّد صاحبه في النار إذا مات عليه، والأصغر لا يُخلده.
(5) – النفاق الأكبر لا يصدر من مؤمن، أما النفاق الأصغر فقد يصدر من المؤمن.
(6) – النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه، وإذا تاب فقد اختلف في توبته في الظاهر عند الحاكم؛ لكون ذلك لا يُعلَم، إذْ هم دائمًا يُظهرون الإسلام.
(المسألة السابعة): فظهر أن صفات المنافقين إجمالًا على النحو الآتي:
(1) – يدَّعون الإيمان، وهم كاذبون.
(2) – يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم.
(3) – في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضًا.
(4) – يدَّعون الإصلاح، وهم المفسدون.
(5) – يرمون المؤمنين بالسَّفَه.
(6) – يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم.
(7) – يشترون الضلالة بالهدى.
(8) – قولهم حسن، وهم ألدُّ الخصام.
(9) – يُشهدون الله على ما في قلوبهم، وهم كاذبون.
(10) – ماهرون في الجدل بالباطل.
(11) – إذا اختفوا عن الناس اجتهدوا في الباطل.
(12) – إذا قيل لهم اتّقوا الله أخذتهم العزة بالإثم.
(13) – يوالون الكفار، وينصرونهم، ويخدمونهم.
(14) – يعتزّون بالكفار، ويستنصرون بهم.
(15) – إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.
(16) – يراؤن الناس بأعمالهم.
(17) – لا يذكرون الله إلا قليلًا.
(18) – متردِّدون بين الكفار والمؤمنين.
(19) – يكفرون بالله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.
(20) – المنافقون هم الفاسقون.
(21) – لا ينفقون إلا وهم كارهون.
(22) – المنافقون يتولّى بعضهم بعضًا.
(23) – يقبضون أيديهم فلا ينفقون في طرق الخير.
(24) – يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
(25) – نسوا الله فنسيهم.
(26) – يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات.
(27) – يؤخّرون الصلاة عن وقتها.
(28) – ينقرون الصلاة، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلًا.
(29) – أثقل الصلوات عليهم العشاء والفجر.
(30) – يتأخّرون عن صلاة الجماعة.
(31) – قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة.
(32) – لم يرضوا بالإسلام دينًا.
(33) – يأخذون من الدين ما وافق رغباتهم.
(34) – يقولون ما لا يفعلون.
(35) – يُظهرون الشجاعة في السلم، وجبناء في الحرب.
(36) – لا يتحاكمون إلى الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.
(37) – يجدون الحرج والضيق في أنفسهم من حكم الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.
(38) – يُخذِّلون المؤمنين عن الجهاد.
(39) – ييأسون من رحمة الله، وينقطع أملهم في نصره.
(40) – يقصدون بجهادهم الدنيا، وإذا يئسوا من ذلك تثاقلوا.
(41) – يفجرون في المخاصمة.
(42) – يحاربون الإسلام وأهله عن طريق الخفية والتسمِّي به.
(43) – لا يهمّهم إلا مصالحهم الذاتية.
(44) – يطعنون في العلماء المخلصين بالكذب وتغيير الحقائق.
(45) – يُثيرون الشبهات حول الإسلام، ليصدّوا الناس عن الدخول فيه.
(46) – يُبغضون أنصار الدين.
(47) – يكذبون في الحديث.
(48) – يخونون الله ورسوله والمؤمنين.
(49) – يُخلفون الوعد.
(50) – لكل واحد منهم وجهان: وجه للمؤمنين، ووجه لأعداء الدين.
(51) – لا يعقلون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يُفيدهم، ولا ينظرون إلى آيات الله التي تدلّ على قدرته.
(52) – تسبق يمين أحدهم كلامه لعلمه أن قلوب المؤمنين لا تطمئن إليه.
(53) – قلوبهم عن الخير لاهية، وأجسادهم إليه ساعية.
(54) – أخبث الناس قلوبًا، وأحسنهم أجسامًا.
(55) – يُسِرُّون سرائر النفاق، فأظهرها الله على وجوههم وألسنتهم.
(56) – ينقضون العهد من أجل الدنيا.
(57) – يسخرون بالقرآن الكريم.
(المسألة الثامنة):
(1) – {يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُوا إنَّ الله مُخْرِجٌ مّا تَحْذَرُونَ}.
(2) – النفاق الأكبر يُوجب لعنة الله تعالى، قال الله – عز وجل -: {وعَدَ الله المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ ولَعَنَهُمُ الله ولَهُمْ عَذابٌ مُّقِيمٌ}.
وقال سبحانه: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلا}.
(3) – النفاق الأكبر يُخرج صاحبه من الإسلام؛ لأنه إسرار الكفر، وإظهار الخير، بل هو أشدُّ من الكفر الظاهر، قال الله تعالى: {إنَّ المُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ ولَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}.
(4) – النفاق الأكبر لا يغفره الله إذا مات عليه صاحبه؛ لأنه أشدُّ من الكفر الظاهر الذي قال الله تعالى في أصحابه: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ ولاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبَدًا وكانَ ذَلِكَ عَلى الله يَسِيرًا}.
(5) – النفاق الأكبر يوجب لصاحبه النار، ويُحرِّم عليه الجنة، قال الله – عز وجل -: {إنَّ الله جامِعُ المُنافِقِينَ والكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.
(6) – النفاق الأكبر يُخلِّد صاحبه في النار، فلا يخرج منها أبدًا؛ لقول الله – عز وجل -: {وعَدَ الله المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها}.
(7) – النفاق الأكبر يُسبّب نسيان الله لصاحبه، قال الله تعالى: {المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يامُرُونَ بِالمُنكَرِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ويَقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ إنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ}.
(8) – النفاق الأكبر يُحبط جميع الأعمال، قال الله – عز وجل -: {قُلْ أنفِقُوا طَوْعًا أوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فاسِقِينَ * وما مَنَعَهُمْ أن تُقْبَلَ مِنهُمْ نَفَقاتُهُمْ إلاَّ أنَّهُمْ كَفَرُوا بِالله وبِرَسُولِهِ ولاَ ياتُونَ الصَّلاَةَ إلاَّ وهُمْ كُسالى ولاَ يُنفِقُونَ إلاَّ وهُمْ كارِهُونَ}.
(9) – النفاق الأكبر يُطفئ الله نور أصحابه يوم القيامة، قال الله – عز وجل -: {يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وراءَكُمْ فالتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذابُ}.
(10) – النفاق الأكبر يَحرِمُ العبد دعاء المؤمنين والصلاة عليه عند موته، قال الله – عز وجل -: {ولاَ تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِّنْهُم مّاتَ أبَدًا ولاَ تَقُمْ عَلىَ قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِالله ورَسُولِهِ وماتُوا وهُمْ فاسِقُونَ}.
(11) – النفاق الأكبر يُسبّب عذاب الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أمْوالُهُمْ ولاَ أوْلاَدُهُمْ إنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُم بِها فِي الحَياةِ الدُّنْيا وتَزْهَقَ أنفُسُهُمْ وهُمْ كافِرُونَ}.
(12) – النفاق الأكبر إذا أظهره صاحبه وأعلنه كان مرتدًّا عن الإسلام، فيكون حلال الدم والمال، وتُطبّق عليه أحكام المرتدّ، إلا أن قبول توبته عند الحاكم فيها خلاف في الظاهر؛ لأن المنافقين يُظهرون الإسلام دائمًا.
أما إذا أخفى المنافق نفاقه وكفره؛ فإنه معصوم الدم والمال بما أظهر من الإيمان، والله يتولى السّرائر.
(13) – النفاق الأكبر إذا أظهر صاحبه كفره يُوجب العداوة بين صاحبه والمؤمنين، فلا يُوالونه ولو كان أقرب قريب، وأما إذا لم يُظهر كفره فيُعامل بالظاهر، والله يتولّى السّرائر.
(14) – النفاق الأصغر، وهو النفاق العملي، ينقص الإيمان ويضعفه، ويكون صاحبه على خطر من عذاب الله تعالى.
(15) – النفاق الأصغر صاحبه على خطر؛ لئلا يجرّه إلى النفاق الأكبر”. انتهى المراد من فتح الأحد الصمد.
(المسألة التاسعة): خوف الصالحين من النفاق
“والنفاق قد خافه الصحابة رضوان الله عليهم على أنفسهم لكمال علمهم بالله، وكمال معرفتهم بربهم، وكمال تعظيمهم له، وكانوا يخشون من النفاق على أنفسهم، حتى قال عبد الله بن أبي مليكة رحمه الله تعالى -وهو تابعي جليل-: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخاف النفاق على نفسه! ما منهم من يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
وهذا النفاق الذي خشيه الصحابة على أنفسهم هو النفاق العملي؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا يخشون من الكفر، وإنما يخشون من النفاق أن يكون في الأعمال، ومثله قول عمر رضي الله عنه لـ حذيفة: هل تعلم فيَّ شيئًا من النفاق؟ وفي رواية: هل عدني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا أبدًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والمراد بالنفاق النفاق العملي.
والنفاق الأكبر هو الذي يخرج من الملة ويحبط الأعمال ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه ويوجب الخلود في النار في دركها الأسفل.
فهذا النفاق داء عضال، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: قد يكون الرجل ممتلئًا منه وهو لا يشعر، فإنه أمر خفي، أي أنه خفي على الناس وقد يتلبس به الإنسان وهو لا يشعر، فيظن أنه مصلح وهو مفسد”. [تفريغ دروس في العقيدة (15 – 11) – الراجحي- تراث].
(المسألة العاشرة): كيف يعامل المنافقون
“ولقد هتك الله سبحانه وتعالى أستار المنافقين، وكشف أسرارهم وجلّى صفاتهم وأمورهم لعباده المؤمنين حتى يكونوا منهم على حذر، فإن المنافقين كثيرون ويعيشون بين المسلمين في كل زمان ومكان، وبلية الإسلام منهم عظيمة، وفتنتهم شديدة، وهم يعيشون بين المسلمين ويتظاهرون بالإسلام وينسبون إليه وإلى أهله، ويظهرون أنهم ينصرون الإسلام، وهم يكيدون له ولأهله، وهم أعداء الإسلام في الحقيقة، يتلونون بكل لون، ويظهرون كفرهم في قالب متنوع ومتلون، في قالب العلم والصلاح وهو الجهل والإلحاد.
وكفر المنافقين أشد من كفر الكفار باطنًا وظاهرًا، والمنافقون كفار في الباطن مسلمون في الظاهر، وتجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر إذا لم يظهروا نفاقهم، فهم يغسلون إذا ماتوا ويصلى عليهم، ويدفنون مع المسلمين في مقابرهم، ويرثون ويورثون، لكن من أظهر منهم نفاقه فإنه يقتل ويعامل معاملة الكفار، فإذا أخفى نفاقه ولم يظهر لنا إلا الإسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام، كما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يجري أحكام الإسلام على المنافقين في زمنه، فإن عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين كان يصلي الجمعة مع النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكان يعظ الناس ويقول: احمدوا الله واشكروه على هذا النبي واتبعوه.
فلما كان بعد غزوة أحد وانحاز بثلث الجيش تكلم بعض أصحابه وقال: عرفناك يا عدو الله، أو كلمة نحوها، فخرج وجعل يتكلم وهو يمشي ويقول: أنا أريد أن أشد أمره، وهو يريد أن يعليه. أو كما قال.
ولما مات عبد الله بن أبي ووضع في حفرته جاءه النبي – صلى الله عليه وسلم – فاستخرجه من القبر وألبسه قميصه ونفث فيه من ريقه، وقام ليصلي عليه، فجره عمر وقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (أخر عني يا عمر، فإني خيرت، فقيل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: (80)]، فو الله لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت على السبعين)، وهذا ثبت في صحيح البخاري، ثم صلى عليه، وذلك قبل النهي عن الصلاة عليهم، ثم بعد ذلك نزلت الآية، وهي قول الله تعالى: {ولا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهُمْ ماتَ أبَدًا ولا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وماتُوا وهُمْ فاسِقُونَ} [التوبة: (84)]، فلم يصلِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – على أحد بعد ذلك، والنبي – صلى الله عليه وسلم – عندما استخرج عبد الله بن أبي من قبره وكفنه قميصه ونفخ فيه من ريقه فعل ذلك رجاء أن ينفعه الله بذلك، ومراعاة لابنه عبد الله وللأوس والخزرج؛ فإن ابنه من أصلح عباد الله، وألبسه قميصه مكافأة له؛ لأنه أعطى العباس عم النبي قميصًا، وكان العباس رجلًا طويلًا، فلم يوجد للعباس ثوب يناسبه في الطول إلا ثوب عبد الله بن أبي، فأعطاه إياه، فكافأه النبي – صلى الله عليه وسلم – وألبسه قميصه، وصلى عليه؛ لأنه ما نهي عن الصلاة عليه، ولعل الله أن ينفعه.
فالمنافقون تجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، والله تعالى هو الذي يتولى السرائر، وفي الآخرة إذا كانوا كفارًا فهم في الدرك الأسفل من النار، فإن أظهروا شيئًا من كفرهم كالعمل أو القول الكفري فإنهم يقتلون من قبل الحاكم الشرعي، أو من قبل ولاة الأمر. [تفريغ دروس في العقيدة (15 – 12) – الراجحي- تراث].
(المسألة الحادي عشر): المنافقون في القرآن
“والله سبحانه وتعالى جلّى لعباده صفات المنافقين ليكونوا منهم على حذر؛ لشدة فتنتهم وشدة الابتلاء بهم، ولكونهم يعيشون بين المسلمين، وهم يكيدون للإسلام وأهله، فالله تعالى ذكر صفاتهم في بعض سور القرآن، فقد ذكرهم الله في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، وفي سورة التوبة، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة محمد، وفي سورة الفتح، وفي سورة المنافقون. [تفريغ دروس في العقيدة (15 – 13) – الراجحي- تراث].
——-
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((50)) – (كِتابُ: صِفاتِ المُنافِقِينَ وأحْكامِهِمْ)
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6998)] ((2772)) – الحديث
شرح الحديث:
عن أبي إسْحاقَ، عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ؛ (أنَّهُ سَمِعَ زيدَ بْنَ أرْقَمْ) – رضي الله عنه -، و (زيدُ بْنُ أرْقَمَ) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في «سورة المنافقين»، مات سنة ست، أو ثمان وستين (ع)، فزيد بن أرقم – رضي الله عنه – ممن نزل الكوفة من الصحابة – رضي الله عنهم -، وأنه من مشاهير الصحابة – رضي الله عنهم -، ذو منقبة شهيرة حيث أنزل الله – عَزَّوَجَلَّ – في تصديقة سورة كاملة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة (54)]،
(يَقُولُ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي سَفَرٍ)، وفي رواية البخاريّ: «كنت في غَزاة»، قال في «الفتح»: قوله: «كنت في غَزاة»، زاد بعد باب من وجه آخر عن إسرائيل: «مع عمّي»، وهذه الغَزاة وقع في رواية محمد بن كعب «، عن زيد بن أرقم، عند النسائيّ أنّها غزوة تبوك، ويؤيده قوله في رواية زهير:» في سفر أصاب الناس فيه شدّة «، وأخرج عبد بن حميد بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، مرسلًا:» أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان إذا نزل منزلًا، لَمْ يرتحل منه حتى يصلي فيه، فلما كان غزوة تبوك نزل منزلًا، فقال عبد الله بن أُبَيّ … «، فذكر القصة،
والذي عليه أهل المغازي أنّها غزوة بني المصطلِق، قال: وفي حديث، جابر ما يؤيده، وعند ابن عائذ، وأخرجه الحاكم في» الإكليل «من طريقه، ثم من طريق أبي الأسود، عن عروة، أن القول الآتي ذِكره صَدَر من عبد الله بن أُبَيّ بعد أن قفلوا. انتهى [» الفتح «(10) / (701)،» كتاب التفسير «رقم ((4900))].
(أصابَ النّاسَ فِيهِ)؛ أي: في ذلك السفر (شِدَّةٌ)؛ أي: من مجاعة وغيرها، (فَقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ) رأس المنافقين (لأصْحابِهِ) المنافقين: (لا) ناهية، (تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -)؛ يعني: فقراء المهاجرين، (حَتّى يَنْفضُّوا مِن حَوْلِهِ)، أي: حتى يتفرّقوا عنه، قرأ الجمهور: {يَنْفَضُّوا} من الانفضاض، وهو التفرّق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي:» يُنفضوا «من أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم، يقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد، فانفضّ. [» فتح القدير” (7) / (227)].
فردّ الله – سُبْحانَهُ وتَعالى – على هؤلاء أعنف ردّ، وأخبر بسَعة مُلكه، فقال: {ولِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ والأرْضِ} [المنافقون (7)]؛ أي: إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لأنّ خزائن الرزق له، فيعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء ما شاء، {ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} وذلك، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله – عَزَّوَجَلَّ -، وأنه الباسط القابض المعطي المانع.
(قالَ زُهَيْرٌ)؛ أي: ابن معاوية الراوي عن أبي إسحاق، (وهِيَ)، أي: هذه القراءة (قِراءَةُ مَن خَفَضَ حَوْلَهُ)، وفي نسخة: «وهي في قراءة من خفض حوله»، والمعنى: أن هذه القراءة قراءة من يقرأ: «من حوله» بكسر ميم «مِن»، ويجرّ «حوله» بها، واحترز به عن القراءة الشاذّة: «مَن حَوْلَهُ» بفتح الميم، ونَصْب «حوله»، أفاده النوويّ [«شرح النوويّ» (17120)].
وقال صاحب «التكملة»: قوله: «وهي قراءة من خفض حوله»: لفظ «من حوله» ليس موجودًا في القرآن الكريم، ولم يقصد الراوي تلاوة الآية، وإنما أراد حكاية كلام عبد الله بن أُبيّ، وذكر بعض العلماء أن «من حوله» موجود في قراءة عبد الله بن مسعود، وقرأه بعضهم بكسر الميم واللام: «مِن حَوْلِهِ»، وبعضهم بفتحهما: «مَن حَوْلَهُ»، وعلى الثاني يكون بدلًا من ضمير الفاعل في «ينفضوا»، وعلى كلّ ليس موجودًا في القراءات المتواترة اليوم، والظاهر أنّها كانت زيادة تفسيريّة من قبل عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -، وقد ثبت أن مثل هذه الزيادات التفسيريّة ربما سُمّين بالقراءة، والله أعلم. انتهى [«تكملة فتح الملهم» (6) / (93) – (94)].
[تنبيه]: وقع في النسخة التي شرح عليها القاضي عياض، والأبيّ، والسنوسي ما نصّه: «قال زهير: وهي في قراءة عبد الله: حتى ينفضّوا من خَفَض حوله»، ثم أخذ القاضي عياض في شرح ذلك بما لا يُستفاد منه كثيرًا، وتبعه الأبيّ، والسنوسي في نقل ذلك الكلام، ولا أرى له كبير فائدة، ولذا أعرضت عنه.
وقال الحافظ في «الفتح»: قوله: «يقولون إلى قوله: حتى ينفضوا من حوله» هو كلام عبد الله بن أُبَيّ، ولم يقصد الراوي بسياقه التلاوة، وغلط بعض الشراح، فقال: هذا وقع في قراءة ابن مسعود، وليس في المصاحف المتفق عليها، فيكون على سبيل البيان من ابن مسعود، قال الحافظ: ولا يلزم من كون عبد الله بن أُبَيّ قالها قبلُ أن ينزل القرآن بحكاية جميع كلامه. انتهى [«الفتح» (10) / (701)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: أراد الحافظ بهذا ردّ ما ذكر عياض، ومن تبعه مما ذكروه في توجيه هذه الرواية، وطوّلوا نَفَسَهم في ذلك من دون طائل، والحقّ أن هذه لا تثبت.
والحاصل: أن الذي وقع في نُسخهم غلط، وتصحيف، فلا ينبغي التعويل عليه، ولا الاشتغال به بأكثر من تغليطه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(وقالَ) عبد الله بن أُبيّ أيضًا: (لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ)
قال أبو العبّاس القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: يعني المنافق بالأعزّ: نفسه، وعشيرته، وبالأذلّ: النبيّ – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين، جَهِل، فقال، وحيث وجب أن يسكت غلبت عليه شقوته، فانعكست فكرتة، فظنّ الأرض سماء، والسراب ماء، فنبّهه ولده، نطفته على قبيح غلطته، فقال له: أنت والله الأذلّ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأعزّ، فأنزل الله تصديقه في كتابه، لعلهم يسمعون، {ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون (8)]، ثم إن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – تلطّف بهم على مقتضى خُلُقه الكريم، وحِلمه العظيم، ودعاهم للاستغفار، فأبت الشقوة إلّا التمادي على الجهل والاستكبار، فلوّوا رؤوسهم معرضين، وصدّوا مستكبرين، فقوبلوا {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ} [المنافقون (6)]، حشرنا الله تعالى مع المؤمنين، وجنّبنا أحوال المنافقين بفضله وكرمه آمين [«المفهم» (7) / (409) – (410)].
فلما توهموا أن العزة بكثرة الأموال، والأتباع، ردّ الله تعالى عليهم ذلك، وفنّده، وبيّن لهم أن العزة، والمَنَعَة، والقوّة لله وحده لا شريك له، فقال: {ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون (8)]؛ أي: القوّة، والغلبة لله وحده لا شريك له، ولمن أفاضها عليه من رسله، وصالحي عباده، لا لغيرهم، {ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لِفَرْط جهلهم، ومزيد حيرتهم، والطبع على قلوبهم [«فتح القدير» (7) / (227)].
[تنبيه]:
سبب قول عبد الله بن أُبيّ هذا الكلام بُيّن في حديث جابر – رضي الله عنه -، فقد أخرج الشيخان عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – يقول: كنا في غَزاة، فَكَسَع [أي: ضرب دُبُره بيده، أو برجله] رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاريّ: يا لَلأنصار، وقال المهاجريّ: يا لَلمهاجرين، فسَمَّعَها الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما هذا؟» فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاريّ: يا للأنصار، وقال المهاجريّ: يا للمهاجرين، فقال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوها، فإنها منتنة»، قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أكثر، ثم كَثُر المهاجرون بعدُ، فقال عبد الله بن أُبَيّ: أوَ قد فعلوا؟ والله {لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ} [المنافقون (8)]، فقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: دَعْني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ، لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» [أخرجه البخاريّ برقم ((4907))، وتقدّم لمسلم في «البر والصلة والآداب» برقم [(16) / (6560)] ((2584))].
(قالَ) زيد بن أرقم – رضي الله عنه -: (فَأتيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ) هذا ظاهر في أن زيدًا أخبر النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بنفسه، لكن وقع في رواية للبخاريّ بلفظ: «فذكرت ذلك لعمّي، أو لعمر، فذكره للنبيّ – صلى الله عليه وسلم -».
قال في «الفتح»: قوله: «فذكرت ذلك لعمي، أو لعمر» كذا بالشكّ، وفي سائر الروايات الآتية: «لعمي» بلا شكّ، وكذا عند الترمذي من طريق أبي سعد الأزديّ، عن زيد، ووقع عند الطبرانيّ، وابن مردويه أن المراد بعمه: سعد بن عبادة، وليس عمه حقيقة، وإنما هو سيد قومه الخزرج، وعَمّ زيد بن أرقم الحقيقيّ: ثابت بن قيس الصحابيّ، وعمّه زوج أمه: عبدُ الله بن رواحة خزرجيّ أيضًا، ووقع في» مغازي أبي الأسود «عن عروة، أن مثل ذلك وقع لأواس بن أرقم، فذكره لعمر بن الخطاب، وجزم الحاكم في» الإكليل «أن هذه الرواية وهَمٌ، والصواب: زيد بن أرقم، قال الحافظ: ولا يمتنع تعدد المخبَر بذلك، عن عبد الله بن أُبَيّ، إلّا أن القصة مشهورة لزيد بن أرقم، وفي حديث أنس ما يشهد لذلك.
قال: وقوله:» فذكره للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – «؛ أي: ذكره عمي، ووقع في رواية ابن أبي ليلى عن زيد:» فأخبرت به النبيّ – صلى الله عليه وسلم – «، وكذا في مرسل قتادة، فكأنه أطلق الإخبار مجازًا، لكن في مرسل الحسن، عن عبد الرزاق:» فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شُبِّه عليك «، فعلى هذا لعله راسل بذلك أوّلًا على لسان عمه، ثم حضر هو، فأخْبَرَ. انتهى [«الفتح» (10) / (702)].
(فَأرْسَلَ) النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – (إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَسَألَهُ) عما أخبره به زيد بن أرقم من مقالته الشنيعة، (فاجْتَهَدَ يَمِينَهُ)؛ أي: بالغ في تأكيد حلفه أنه (ما فَعَلَ»)؛ أي: ما تكلّم بما قاله زيد، وفي رواية البخاريّ: «فحلفوا ما قالوا»، والمراد به: عبد الله بن أُبَيّ، وجُمِع باعتبار من معه، ووقع في رواية أبي الأسود، عن عروة: «فبعث النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إلى عبد الله بن أُبَيّ، فسأله، فحلف بالله ما قال من ذلك شيئًا». (فَقالَ) ابن أُبيّ، ويحْتَمل أن يكون الفاعل ضمير النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يدلّ عليه ما في رواية البخاريّ بلفظ: «فكذّبني رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وصدَّقه» بتشديد الذال.
(كَذَبَ) بتخفيف الذال، (زَيْدٌ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: أخبره بالكذب، وفي رواية: «فقالوا: كَذَب زيد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -»، وهذا بالتخفيف، و «رسولَ الله» بالنصب على المفعولية، وفي رواية ابن أبي ليلي، عن زيد عند النسائيّ: «فجعل الناس يقولون: أتى زيد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالكذب».
(قالَ) زيد: (فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمّا قالُوهُ شِدَّةٌ)؛ أي: شدّة همّ من أجل ما قالوه؛ أي: من قولهم: كذب زيد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية البخاريّ:
«فأصابني همّ»، وفي رواية أبي سعد الأزديّ، عن زيد: «فوقع عليّ من الهم ما لَمْ يقع على أحد»، وفي رواية محمد بن كعب: «فرجعت إلى المنزل، فَنِمْتُ»، زاد الترمذيّ في روايته: «فَنِمْتُ كَئيبًا حَزينًا»، وفي رواية ابن أبي ليلى: «حتى جلست في البيت؛ مخافةَ إذا رآني الناس أن يقولوا: كذبت».
زاد في رواية للبخاريّ: «فقال لي عمِّي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومَقَتك».
(حَتّى أنزَلَ اللهُ تَصْدِيقِي)؛ أي: تصديق ما أخبرت به النبيّ – صلى الله عليه وسلم – من قول عبد الله بن أُبيّ الشنيع البذيّ، وقوله: ({إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ}) مفعول به لـ «أنزل» محكيّ «لِقَصْد لفظه، والمراد به السورة بما اشتملت عليه من أحوال المنافقين، وأقوالهم الشنيعة، وفي رواية البخاريّ:» فأنزل الله تعالى: {إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ} «، فبعث إليّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فقرأ، فقال:» إن الله قد صدّقك يا زيد «، وفي مرسل الحسن: فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأُذُن الغلام، فقال:» وفَت أُذنك يا غلام «مرتين.
(قالَ) زيد: (ثمَّ دَعاهُمُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: طلب – صلى الله عليه وسلم – المنافقين ابن أُبيّ وأصحابه ليحضروا مجلسه (لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ) ما اقترفوه من الجرائم الفظيعة، (قالَ) زيد (فَلَوَّوْا) بتشديد الواو، أي: حرّكوا (رُؤُوسَهُمْ) استهزاء بالنبيّ – صلى الله عليه وسلم -.
وقال البخاريّ – رَحِمَهُ اللهُ – في» صحيحه «:» لووا رؤوسهم حركوا، استهزؤوا بالنبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ويُقرأ بالتخفيف، من لَوَيت «. انتهي، قال في» الفتح «: وفي مرسل سعيد بن جبير:» وجاء عبد الله بن أبيّ، فجعل يعتذر، فقال له النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: تُبْ، فجعل يلوي رأسه، فنزلت «. انتهى [«الفتح» (10) / (706)].
وقال في» فتح القدير «: {وإذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون (5)]، أي: إذا قال لهم القائل من المؤمنين: قد نزل فيكم ما نزل من القرآن، فتوبوا إلى الله تعالى، ورسوله – صلى الله عليه وسلم -»، وتعالوا يستغفر لكم رسول الله، {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ}، أي: حَرّكوها استهزاء بذلك، قال مقاتل: عَطَفوا رؤوسهم رغبةً عن الاستغفار، قرأ الجمهور: بالتشديد، وقرأ نافع بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، {ورَأيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} [المنافقون (5)]؛ أي: يُعرِضون عن قول من قال لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله، أو يُعرضون عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وجملة: {وهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون (5)] في محل نَصْب على الحال من فاعل الحال الأُولي، وهي {يَصُدُّونَ} [المنافقون (5)]؛ لأن الرؤية بصرية، فـ {يَصُدُّونَ} [المنافقون (5)]، في محل نصب على الحال، والمعنى: ورأيتهم صادّين مستكبرين. انتهى [«فتح القدير» (7) / (227)].
(وقوله: {كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، وقالَ) زيد بن أرقم مفسّرًا: (كانُوا)؛ أي: المنافقون، (رِجالًا أجْمَلَ شَيْءٍ) الظاهر أن قول زيد هذا تفسير لقوله: {كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، لكن قال في «الفتح»: إنه تفسير لقوله: {تُعْجِبُكَ أجْسامُهُمْ} [المنافقون (4)]، ونصّه: قوله: «خشب مسندة، قال: كانوا رجالًا أجمل شيء» هذا تفسير لقوله: «تعجبك أجسامهم»، و «خشب مسندة» تمثيل لأجسامهم، ووقع هذا في نفس الحديث، وليس مدرجًا، فقد أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن عمرو بن خالد، شيخ البخاري فيه، بهذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من وجه آخر عن زهير.
[تنبيه]:
قرأ الجمهور {خُشُبٌ} بضمتين، وأبو عمرو، والأعمش، والكسائيّ بإسكان الشين. انتهى [«الفتح» (10) / (706)].
قال الإمام ابن جرير الطبريّ – رَحِمَهُ اللهُ – في «تفسيره»: يقول جلّ ذِكره لنبيّه محمد – صلى الله عليه وسلم -: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين يا محمد تُعجبك أجسامهم؛ لاستواء خَلْقها، وحُسن صورها، وإن يقولوا تَسْمع لقولهم، يقول جل ثناؤه: وإن يتَكلموا تَسْمع كلامهم، يُشبه منطقهم منطق الناس، كأنهم خشب مسندة، يقول: كأن هؤلاء المنافقين خشب مسندة، لا خير عندهم، ولا فقه لهم، ولا علم، وإنما هم صُوَر بلا أحلام، وأشباح بلا عقول.
وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون (4)]، يقول جل ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خُبثهم، وسوء ظنهم، وقلة يقينهم، كلّ صيحة عليهم؛ لأنهم على وجَلٍ أن يُنزل الله فيهم أمرًا يهتك به أستارهم، ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم، وسَبْي ذراريهم، وأخذ أموالهم، فاحذرهم، فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم، وقلوبهم عليكم، مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم.
وقوله: {قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون (4)] يقول: أخزاهم الله إلى أي وجه يُصرفون عن الحقّ. انتهى [«تفسير الطبريّ» (28) / (107) – (108)].
وقال في «فتح القدير»: {وإذا رَأيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجْسامُهُمْ} [المنافقون (4)]؛ أي: هيئاتهم، ومناظرهم؛ يعني: أن لهم أجسامًا تُعجب من يراها؛ لِما فيها من النضارة، والرونق، {وإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فتحسب أن قولهم حقّ، وصِدق؛ لفصاحتهم،
وقيل: كان المنافقون على وجَل من أن ينزل فيهم ما يَهتك أستارهم،
ويبيح دماءهم، وأموالهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله – صلى الله عليه وسلم – بأن يأخذ حَذَره منهم، فقال: {فاحْذَرْهُمْ} أن يتمكنوا من فرصة منك، أو يَطَّلعوا على شيء من أسرارك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار.
ثم دعا عليهم بقوله: {قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون (4)]؛ أي: لعنهم الله، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب؛ كقولهم: قاتله الله مِن شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمّهم وتوبيخهم، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته – عَزَّوَجَلَّ – أن يلعنهم، ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك، ومعنى {أنّى يُؤْفَكُونَ}: كيف يُصرفون عن الحق، ويميلون عنه إلى الكفر، قال قتادة: معناه: يَعدِلون عن الحقّ، وقال الحسن: معناه: يُصْرَفون عن الرُّشْد. انتهى [«فتح القدير» (7) / (227)]، والله تعالى أعلم.
وحديث زيد بن أرقم – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان صفات المنافقين، فقد بيّنتها السورة أتمّ بيان، ليس وراءها بيان لأحد؛ {ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ((14))} [الملك (14)]، {ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر (14)].
(2) – (ومنها): تَرْك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات؛ لئلا ينفر أتباعهم، والاقتصار على معاتباتهم، وقبول أعذارهم، وتصديق أيمانهم، وإن كانت القرائن تُرشد إلى خلاف ذلك؛ لِما في ذلك من التأنيس، والتاليف.
(3) – (ومنها): جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يُعَدّ نميمةً مذمومة، إلّا إن قصد بذلك الإفساد المطلق، وأما إذا كانت فيه مصلحة تُرَجَّح على المفسدة فلا.
(4) – (ومنها): بيان منقبة هذا الصحابيّ الجليل – رضي الله عنه -، حيث صدّق إخباره للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – بما قاله المنافق ابن أُبيّ، فهذا هو الفخر العظيم، والفضل الجسيم.
(5) – (ومنها): بيان ما كان عليه المنافقون من الكذب، والبهتان، وما تنطوي عليه قلوبهم الغبيّة، من الحقد، والحسد، والمكر والتآمر على الإسلام والمسلمين، ولكن الله – سُبْحانَهُ وتَعالى – غالب على أمره، فيفضحهم، ويُخزيهم، ولا يبلّغهم أمنيتهم، بل ينصر الإسلام والمسلمين وفاءً بوعده الصادق: {إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ ((51))} [غافر (51)]، {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلِينَ ((171)) إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ ((172)) وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ ((173))} [الصافات (171) – (173)]، اللَّهُمَّ انصر الإسلام والمسلمين، ودمّر أعداءك، أعداء الدين، وأهلك الكفرة والملحدين، آمين. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
ومن الفوائد في توفيق الرب المنعم:
6 – (ومنها): “بيان أن من صفات المنافقين أنهم يتخذون أيمانهم جُنَّةً، أي: وِقايةً تقيهم من الحد؛ كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ}؛ ولهذا قال رأس المنافقين عبد الله بن أُبي هذه المقالة الخبيثة: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}، فلما أخبر زيدٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنكرها عبد الله بن أُبي واجتهد يمينَه أنه ما فعل ولا قال، فقَبِل منه علانيته، وأوكل أمره إلى الله عز وجل، حتى قال الناس: ((كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم))، فوقع زيد في شدة حتى أنزل الله تصديقه
7 – (ومنها): ومن صفاتهم: جمال الصورة والجسم والفصاحة والبلاغة في القول، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}.
وليس المعوَّل في مجازاة الله تعالى عبادَه على حسن الصورة والجسم والفصاحة في القول، وإنما المعول في ذلك على تقوى القلوب، والعمل الصالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))؛ فالقلوبُ والأعمال هي محلُّ نظر الرب عز وجل وليس الصُّوَر والأجسام.
8 – (ومنها): ومن صفاتهم- أيضًا-: أن قلوبَهم خاليةٌ من الخير والإيمان والهدى؛ كما قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}.
9 – (ومنها): التحذير من الأيمان الكاذبة؛ لأنها من صفات المنافقين. انتهى. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (8/ 99)].
وانظر للفائدة: “فصل ذكر الله المنافقين في القرآن” في [جامع المسائل لابن تيمية، (1/ 69 وما بعدها)].
[تنبيه]: قال الحافظ – رَحِمَهُ اللهُ -: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح
إسلام عبد الله بن أُبيّ لكون النبيّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلى عليه، وذَهِلَ عن الوارد من
الآياتِ، والأحاديث المصرّحة في حقّه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب
شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله
على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذِكره في كتب الصحابة، مع شهرته،
وذِكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة