2771 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله المشجري … وعبدالله كديم وطارق أبي تيسير وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في صحيح مسلم،
(11) – بابُ بَراءَةِ حَرَمِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مِنَ الرِّيبَةِ
(59) – ((2771)) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا عَفّانُ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أخْبَرَنا ثابِتٌ، عَنْ أنَسٍ، أنَّ رَجُلًا كانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ ولَدِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – لِعَلِيٍّ: «اذْهَبْ فاضْرِبْ عُنُقَهُ». فَأتاهُ عَلِيٌّ فَإذا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيها، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ: اخْرُجْ، فَناوَلَهُ يَدَهُ فَأخْرَجَهُ، فَإذا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ أتى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّهُ لَمَجْبُوبٌ ما لَهُ ذَكَرٌ.
==========
(تمهيد) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى):
فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، من الحقوق، ومن ذلكم: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه – صلى الله عليه وسلم -؛ {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ}، وفيه عدة صور، ومن ذلك فيما يتعلق ببيت النبوة:
[1]- وقال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلّا أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ ولَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا فَإذا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا ولا مُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ واللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وإذا سَألْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فاسْألوهُنَّ مِن وراءِ حِجابٍ}. وقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
فنهاهم سبحانه وتعالى عن أن يعاملوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالتوسع في الانبساط والإسترسال كما يعامل من لا يهاب ولا يتقى، فيدخل بيته بغير إذنه إذا دعاهم إلى طعام لم ينضج، وأحاطوا به منتظرين إدراكه وإذا حضر الطعام ودخلوا وطعموا لزموا مجالسهم مستأنسين بالمحادثة، وأخبرهم أن ذلك منهي عنه، إذ كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد تأذى منه ويستحى أن يكلمهم، كما أدبهم فيما ينبغي عليهم تجاه معاملتهم مع أزواجه – صلى الله عليه وسلم – وهذا كله مما يدل على ماله – صلى الله عليه وسلم – من التعظيم والاحترام.
ولما كان من الواجب على المكلفين تعظيم النبي – صلى الله عليه وسلم – برفع الأذى عنه وإظهار شرفه وكرامته فذكر الله تعالى القسم الأول- أي رفع الأذى- في قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلى آخرها وذكر القسم الثاني- أي إظهار شرفه وكرامته- في هذه الآية الثانية، وبدأ بالأول لأن دفع المفاسد أهم.
وأيضا لما أرشد الله المؤمنين إلى الحال التي يجب أن يكونوا عليها مع نبيه – صلى الله عليه وسلم – من التعظيم والتوقير- ولهم معه حالتان:
(1) – حالة الخلوة: والواجب هناك عدم إزعاجه- بين ذلك بقوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيّ}.
(2) – وحالة الملأ: والواجب هناك إظهار التعظيم، بين ذلك بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
وأيضا لما أمر الله سبحانه وتعالى بالاستئذان في بيوته، وعدم النظر إلى وجوه زوجاته، وغير ذلك من الآداب إكراما وتبجيلا، كمل سبحانه بيان حرمته بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ}.
وأيضا لما بين الأدب معه في حال الخلوة، وكان حاله في الملأ نوعين، لأنه يكون أعلى – يعني أهل السماوات – وأسفل – يعني أهل الأرض-، فبين أنه في الأعلى محترم في غاية الاحترام ثم بين ما يجب على الملأ الأسفل من ذلك التعظيم بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
[2]- قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأعَدَّ لَهُمْ عَذابًا مُهِينًا والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ ما اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا}.
فالله تعالى من تعظيمه لنبيه – صلى الله عليه وسلم – حفظ له كرامته وصان له حقه ففرق بين أذاه وأذى المؤمنين، فأوجب على من آذى النبي – صلى الله عليه وسلم – اللعن والطرد من رحمته وهذا حكم على من آذاه بالكفر وفي الآخرة له العذاب المهين ومصيره إلى جهنم وبئس المصير. بينما حكم على من آذى المؤمنين بالبهتان والإثم والفرق بين الحكمين ناتج عن الفرق بين حق النبي – صلى الله عليه وسلم – وحق غيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بهذه الآية على وجوب قتل من آذى النبي – صلى الله عليه وسلم – “ودلالتها من وجوه:
أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصا عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم. بين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله، وإرضاء الله ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئا واحدا فقال تعالى: {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ}، وقال تعالى: {وأطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ}، في مواضع متعددة، وقال تعالى: {واللَّهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ}، فوحد الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن إرضاء الله إرضاء للرسول وإرضاء الرسول فيه إرضاء لله، وقال أيضا: {إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} وقال أيضا: {يَسْألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُول}.
وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصية الله ورسوله شيئا واحدا، فقال: {ذَلِكَ بِأنَّهُمْ شاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ومَن يُشاقِقِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} (1) وقال: {إنَّ الَّذِينَ يُحادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} (2) وقال تعالى: {ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ مَن يُحادِدِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} (3) وقال: {ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} (4).
وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحد منهم طريق غيره، ولا سبب سواه وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور.
وثانيها: أنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتانا وإثما مبينا وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.
الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرا فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم، لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله، فلا تثبت في حقه … ” [الصارم المسلول (ص (40) – (41))].
ومما يوضح ذلك أن سب النبي – صلى الله عليه وسلم – قد تعلق به عدة حقوق:
أ- حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته.
ب- وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.
ج- وتعلق به حق رسول الله كلها من حيث خصوص نفسه فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة. [الصارم المسلول (ص (393) – (394))].
[3]- قال تعالى: {وما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}.
ففي هذه الآية حرم الله على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه وجعله عظيما عند الله تعظيما لحرمته – صلى الله عليه وسلم -، فحرم تعالى على الأمة ما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا، وذلك تمييزا لنبيه – صلى الله عليه وسلم – وتعظيما لشأنه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تزوجت عائشة [الصارم المسلول (ص (59))].
ولو أن أحدا أقدم على هذا الأمر فنكح أزواجه أو سراريه لكانت عقوبته في الشرع هي القتل جزاء له بما انتهك من حرمته والدليل على ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أنسى بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعلي اذهب فاضرب عنقه … ».
قال ابن تيمية رحمه الله: «فهذا الرجل أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته، ولم يأمر بإقامة حد الزنا، لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصنا رجم، وان كان غير محصن جلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته … فلما تبين أنه كان مجبوبا علم أن المفسدة مأمونة منه … » وبالإضافة إلى ما تقدم، فقد أوجب الله على الأمة احترام أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام.
فقال تعالى: {النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} ففي هذه الآية رفع الله مقام أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – وبوأهن منزلة عالية، وهي منزلة الأمومة لجميع المؤمنين، وفي ذلك من الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ما يوجب على كل مسلم أن يحفظ لهن هذا الحق ويؤديه على الوجه المطلوب منه شرعا.
وهذه المنزلة لأمهات المؤمنين هي من التشريف والتعظيم الذي أعطاه الله للنبي – صلى الله عليه وسلم -. [حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة — محمد بن خليفة التميمي، (2/ 419 – 443)، بتصرف].
(المسألة الثانية): ما يتعلق بأمهات المؤمنين
” [أولاً:] حكم سب الصحابة:
سب الصحابة على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يسبهم بما يقتضي كفر أكثرهم، أو أن عامتهم فسقوا، فهذا كفر؛ لأنه تكذيب لله ورسوله بالثناء عليهم والترضي عنهم، بل من شك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين؛ لأن مضمون هذه المقالة أن نَقَلَة الكتاب أو السنة كفار، أو فساق.
الثاني: أن يسبهم باللعن والتقبيح، ففي كفره قولان لأهل العلم، وعلى القول بأنه لا يكفر يجب أن يجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عما قال.
الثالث: أن يسبهم بما لا يقدح في دينهم كالجبن والبخل فلا يكفر، ولكن يعزر بما يردعه عن ذلك، ذكر معنى ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب (الصارم المسلول)، ونقل عن أحمد (ص573) قوله: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص، فمن فعل ذلك أدب، فإن تاب وإلا جلد في الحبس حتى يموت أو يرجع).
[ثانيًا:] حقوق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، زوجاته في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين، ولهن من الحرمة والتعظيم ما يليق بهن كزوجات لخاتم النبيين فهن من آل بيته طاهرات، مطهرات، طيبات، مطيبات، بريئات، مبرآت من كل سوء يقدح في أعراضهن وفرشهن، فالطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، فرضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين، وصلى الله وسلم على نبيه الصادق الأمين.
1) زوجاته صلى الله عليه وسلم اللاتي كان فراقهن بالوفاة وهن:
1 – خديجة بنت خويلد أم أولاده- ما عدا إبراهيم- تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زوجين: الأول عتيق بن عابد. والثاني أبو هالة التميمي ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم عليها حتى ماتت سنة 10 من البعثة قبل المعراج.
2 – عائشة بنت أبي بكر الصديق، أريها صلى الله عليه وسلم في المنام مرتين أو ثلاثًا. وقيل: هذه امرأتك، فعقد عليها ولها ست سنين بمكة ودخل عليها في المدينة ولها تسع سنين، توفيت سنة 58هـ.
3 – سودة بنت زمعة العامرية، تزوجها بعد زوج مسلم هو السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، توفيت آخر خلافة عمر وقيل سنة 54هـ.
4 – حفصة بنت عمر بن الخطاب، تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد زوج مسلم هو خنيس بن حذافة الذي قتل في أحد، وماتت سنة 41هـ.
5 – زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين، تزوجها بعد استشهاد زوجها عبد الله بن جحش في أحد، وماتت سنة 4هـ بعد زواجها بيسير.
6 – أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، تزوجها بعد موت زوجها أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد من جراحة أصابته في أحد، وماتت سنة 61هـ.
7 – زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته صلى الله عليه وسلم، تزوجها بعد مولاه زيد بن حارثة سنة 5هـ، وماتت سنة 20هـ.
8 – جويرية بنت الحارث الخزاعية، تزوجها بعد زوجها مسافع بن صفوان وقيل: مالك بن صفوان سنة 6هـ، وماتت سنة 56هـ.
9 – أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، تزوجها بعد زوج أسلم ثم تنصر هو عبيد الله بن جحش، وماتت في المدينة في خلافة أخيها سنة 44هـ.
10 – صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير من ذرية هارون بن عمران صلى الله عليه وسلم، أعتقها وجعل عتقها صداقها بعد زوجين أولهما سلام بن مشكم. والثاني كنانة بن أبي الحقيق بعد فتح خيبر سنة 6هـ، وماتت سنة 50هـ.
11 – ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها سنة 7هـ في عمرة القضاء بعد زوجين: الأول ابن عب ياليل والثاني أبو رهم بن عبد العزي، بنى بها رسول الله في سرف، وماتت فيه سنة 51هـ.
فهذه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، اللاتي كان فراقهن بالوفاة، اثنتان توفيتا قبله، وهما: خديجة، وزينب بنت خزيمة، وتسع توفي عنهن وهن البواقي.
وبقي اثنتان لم يدخل بهما، ولا يثبت لهما من الأحكام والفضيلة ما يثبت للسابقات وهما:
1 – أسماء بنت النعمان الكندية تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ثم فارقها، واختلف في سبب الفراق، فقال ابن إسحاق: إنه وجد في كشحها بياضًا ففارقها فتزوجها بعده المهاجر بن أبي أمية.
2 – أميمة بنت النعمان بن شراحيل الجونية وهي التي قالت: (أعوذ بالله منك) ففارقها والله أعلم.
وأفضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خديجة، وعائشة رضي الله عنهما، ولكل منهما مزية على الأخرى، فلخديجة في أول الإسلام ما ليس لعائشة من السبق والمؤازرة، والنصرة، ولعائشة في آخر الأمر ما ليس لخديجة من نشر العلم، ونفع الأمة، وقد برأها الله مما رماها به أهل النفاق من الإفك في سورة النور.
2) قذف أمهات المؤمنين:
قذف عائشة بما برأها الله منه كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، وفي قذف غيرها من أمهات المؤمنين قولان لأهل العلم: أصحهما أنه كفر؛ لأنه قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الخبيثات للخبيثين”. [تعليق مختصر على كتاب لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد للشيخ ابن عثيمين رحمه الله].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((11)) – (بابُ بَراءَةِ حُرَمِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مِنَ الرِّيبَةِ)
قوله: «حُرَم النبيّ – صلى الله عليه وسلم -» بضمّ الحاء المهملة، وفتح الراء؛ أي: نسائه،
قال المجد – رَحِمَهُ اللهُ -: وحُرَمك بضمّ الحاء، كزُفَر: نساؤك، وعيالك، وما تَحْمي. انتهى [«القاموس المحيط» ص (282) بزيادة من الشرح].
شرح الحديث:
(عَنْ أنَس) بن مالك – رضي الله عنه -، (أنَّ رَجُلًا) قيل: اسمه مأبور، ويقال: إنه ابن عمّ لمارية – رضي الله عنها -، قال ابن عبد البرّ – رَحِمَهُ اللهُ -: هذا الرجل المتّهم كان ابن عم مارية القبطية، أهداه معها المقوقس. انتهى [«الاستيعاب» (4) / (1912)].
(كانَ يُتَّهَمُ) بالبناء للمفعول، أي: يُظنّ بأنه يزني (بِأُم ولَدِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -) هي مارية القبطيّة – رضي الله عنها -.
قال في «الإصابة»: مارية القبطية أم ولد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ذكر ابن سعد من طريق عبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبي صعصعة قال: بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سنة سبع من الهجرة بمارية، وأختها سيرين، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين ثوبًا لينًا، وبغلته الدُّلْدُل، وحماره عُفيرًا، ويقال: يعفور، ومع ذلك خصيّ يقال له: مأبور، شيخ كبير كان أخا مارية، وبعث بذلك كله مع حاطب بن أبي بلتعة، فعَرَض حاطب بن أبي بلتعة على مارية الإسلام، ورغّبها فيه، فأسلمت، وأسلمت أختها، وأقام الخصيّ على دينه، حتى أسلم بالمدينة بعدُ في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكانت مارية بيضاء جميلة، فأنزلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في العالية في المال الذي صار يقال له: سرية أم إبراهيم، وكان يَختلف إليها هناك، وكان يطؤها بملك اليمين، وضرب عليها مع ذلك الحجاب، فحَملت منه، ووضدت هناك في ذي الحجة سنة ثمان.
ومن طريق عمرة، عن عائشة قالت: ما عَزّت عليّ امرأة إلّا دون ما عزّت علي مارية، وذلك أنّها كانت جميلة جَعْدةَ، فأعجب بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، حتى فزعنا لها، فجَزِعت، فحوّلها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا.
وتوفيت مارية – رضي الله عنها – في خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، وذلك في المحرّم من سنة ست عشرة، وكان عمر يَحشُر الناس بنفسه لشهود جنازتها، وصلى عليها عمر، ودفنت بالبقيع. انتهى [«الاستيعاب» (4) / (1912)].
وقال ابن منده: ماتت مارية بعد النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بخمس سنين. [«الإصابة في تمييز الصحابة» (8) / (112)].
مارية القبطية رضي الله عنها لم تكن من امهات المؤمنين
نقل ابن القيم في زاد المعاد عدم الخلاف في أنه – صلى الله عليه وسلم – توفي عن تسع زوجات: عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وصفية وأم حبيبة وميمونة وسودة وجويرية. وقد كان يَقْسم بين ثمانٍ منهن، حيث إن سودة وهبت يومها لعائشة، رضي الله عنهم جميعًا.
وفي قوله تعالى: {وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك} الأحزاب / (50)، أي: وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام وكانتا من السراري – رضي الله عنهما -.
«تفسير ابن كثير» ((3) / (500)).
وذكر القاضي عياض أن ذلك الرجل كان قبطيًّا، وكان يتكلّم مع مارية القبطيّة – رضي الله عنها -؛ لكونها من أهل وطنه، فاتّهمه بعض الناس من أجل ذلك.
قال النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -: قيل: كان منافقًا، ومستحقًّا للقتل بطريق آخر، وجُعل هذا محرّكًا لقتله بنفاقه وغيره، لا بالزني، وكفّ عنه عليّ – رضي الله عنه -؛ اعتمادًا على أنّ القتل بالزني، وقد عُلم انتفاء الزنى. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (118) – (119)].
سيأتي تمام البحث في المسألة – إن شاء الله تعالى -.
وحديث أنس – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف – رَحِمَهُ اللهُ -.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان عِظَم قَدْر النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ورفعة مكانته عند ربّه، حيث إنه – سُبْحانَهُ وتَعالى – عصم حُرَمه عن أن يتعرّض لهنّ أحد بسوء.
(2) – (ومنها): مشروعيّة قتل من آذى النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، بأن اتُّهم بسوء في أهله، أو نحو ذلك، إذا تحقّق منه ذلك.
(3) – (ومنها): إعمال النظر، والاجتهاد، وترك الجمود على الظواهر، فإن عليًّا – رضي الله عنه – لَمْ ينفّذ أمره – صلى الله عليه وسلم -؛ لمّا رأى مانعًا يمنع من إقامة الحدّ على الرجل، حيث لَمْ يرتكب ما يوجد حدّه؛ إذ كان مجبوبًا، فأقرّه – صلى الله عليه وسلم – عليه.
(4) – (ومنها): بيان أنّه يجوز الاطلاع على العورة عند الضرورة؛ كتحمُّل شهادة الزني، كما صار إليه مالك – رَحِمَهُ اللهُ -. قاله القرطبيّ.
(5) – (ومنها): ما قاله القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: هذه الجارية هي ماريةُ أمّ إبراهيم، ولَد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – – رضي الله عنها -، كان يزورها رجل قبطيّ، فتكلم المنافقون في ذلك، وشنَّعوا، فأظهر الله براءتها بما ظهر من حال الرَّجل، وهذا نحو مِمّا جرى لعائشة – رضي الله عنها – حتّى برَّأها الله تعالى، وأظهر من حال المرميّ أنّه حصور، كلّ ذلك، مبالغةٌ في صيانة حُرَم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإظهار تكذيب من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك. انتهى [«المفهم» (5) / (145)].
وقال القاضي عياض – رَحِمَهُ اللهُ -: قد نَزّه الله – عَزَّوَجَلَّ – حُرمة النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أن يثبت شيء من ذلك في جهتها، والخبر معلوم أنه كان قبطيًا، وكان يتحدث إليها بحكم الجنسية، فتُكُلِّم في ذلك، ولم يأت أنه أسلم، وأن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – نهاه عن التحدث إليه، فلما خالفه استحق بذلك القتل؛ إما للمخالفة، أو لتأذي النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بسب به، ومن أذى النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ملعون كافر يستحقّ القتل.
ويحْتَمِل أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – علم براءته، وكونه مجبوبًا، وأمر عليًّا بما أمره به لَمّا ذكر له هو أو غيره خلوّه ليتجلى أمره وترتفع تهمته.
ويحْتَمِل أنه – صلى الله عليه وسلم – كان قد أوحي إليه أنه لا يقتله، وينكشف له من حاله ما يبيّن، أمره، وأنه في الرَّكِيِّ متجردًا لا أنه أمَره بقتله حقيقة، بل قال له ذلك، وهو يعلم أنه لا يقتله؛ لِما تبيّن له من براءته كما قال في الحديث الآخر:
«احثُ في أفواههم التراب»، متّفقٌ عليه، وقد قالت عائشة له: ما أنت بفاعل، ففهمت أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لَمْ يُرِدْ ما قاله، بل على طريق التعجيز له، أي إنك لا تقدر على إسكاتهنّ ولا بذلك ولا يمكنك فعله.
وقد ذكر أصحاب الأخبار أن المقوقس صاحب مصر أهدى للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – مع مارية أختها سيرين، ومعهما مخصيٌّ اسمه مأبور، وأنه أسلم، كذا سماه محمد بن سعد [انظر: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (8) / (170)، (171)]، وقال غيره: مابور، والأول أثبت، فهو ذلك، والله تعالى أعلم. انتهى [«إكمال المعلم» (8) / (304) – (305)]. [البحر المحيط الثجاج].
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): قد استشكل العلماء أمره – صلى الله عليه وسلم – بقتل هذا الرجل:
قال ابن الجوزيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: على هذا الحديث استشكال، وهو أن يقال: كيف أمر – صلى الله عليه وسلم – بقتل رجل بالتهمة؟
فقد أجاب عنه ابن جرير، فقال: جائز أن يكون قد كان من أهل العهد، وقد تقدم إليه بالنهي عن الدخول على مارية، فعاد، فأمر بقتله لنقض العهد. انتهى [«كشف المشكل من حديث الصحيحين» ص (872)].
وقال القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: قوله – صلى الله عليه وسلم – لعليّ: «اذهب فاضرب عنقه» فيه إشكال، وهو: أنّه – صلى الله عليه وسلم – كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل، ولم يكن هناك موجبٌ للقتل، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل؛ ويزول هذا الإشكال بأن هذا الحديث رواه أبو بكر البزار، بمساق أكمل من هذا، وأوضح، فقال فيه: عن عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: كُثِّر على مارية في قبطيّ ابن عم لها كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «خذ هذا السيف، فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله». قال: قلت: يا رسول الله! أكون في أمرك كالسِّكة المحماة، لا يثنيني شيء، حتى أمضي لِما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؛ فقال: «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب»، وذكر الحديث بنحو ما تقدم، فهذا يدلّ على أنّ أمْره بقتله إنّما كان بشرط أن يجده عندها على حالة تقتضي قتله، ولمّا فَهِمَ عنه عليّ – رضي الله عنه – ذلك سأله، فبيَّن له بيانًا شافيًا، فزال ذلك الإشكال، والحمد لله ذي الجلال.
ويحْتَمِل أن يقال: إن ذلك خرج من النبيّ – صلى الله عليه وسلم – مخرج التغليظ، والمبالغة في الزجر على موجب الغيرة الجِبِلِّيَّة، والأول ألْيق، وأسلم، والله بحقائق الأمور أعلم. انتهى كلام القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -[«المفهم» (5) / (145) – (146)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: الظاهر أنه – صلى الله عليه وسلم – ما أمر عليًّا – رضي الله عنه – بقتل الرجل إلّا بعد أن يثبت لديه ما يوجب قتله، من تعرّضه لجاريته، ولذا لمّا وجده عليّ مجبوبًا كفّ عن قتله، وأقرّه – صلى الله عليه وسلم – على ذلك، فبهذا يزول الاستشكال، والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية:
جاء في مجموع فتاوى ابن عثيمين:
زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل نساء الأمة لمكانتهن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآخرة ولطهارتهن من الرجس ولذلك يكفر من قذف واحدة منهن لأن ذلك يستلزم نقص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتدنيس فراشه وأفضلهن خديجة وعائشة وكل واحدة منهما أفضل من الأخرى من وجه، فمزية خديجة أنها أول من آمن بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنها عاضدته على أمره في أول رسالته وأنها أم أكثر أولاده بل كلهم إلا إبراهيم وأن لها منزلة عالية عنده فكان يذكرها دائمًا ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
ومزية عائشة: حسن عشرتها مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر أمره وأن الله برأها في كتابه مما رماها به أهل الإفك وأنزل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة وأنها حفظت من هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته ما لم تحفظه امرأة سواها وأنها نشرت العلم الكثير بين الأمة وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتزوج بكرًا سواها فكانت تربيتها الزوجية على يده وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيها: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (4/ 307)
في تفسير قوله تعالى: ” ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ”.
أجمع المفسرون هنا على أن الخيانة ليست زوجية ولكنها خيانة دينية بعدم إسلامهن وإخبار أقوامهن بمن يؤمن مع أزواجهن
قال الامام البغوي في تفسيره: قال ابن عباس: ” ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة وأما امرأة لوط فإنها كانت تدل قومه على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه نزل به ضيف ” اه
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ لَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ “
والمراد بالخيانة في هذا الحديث ليست الخيانة في الفراش إنما عدم النصح فيما ابتلي به آدم من تزيين الشيطان للأكل من الشجرة التي نهي عنها بل حسنت ذلك لآدم والله أعلم
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: “ لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا،
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ عَصَيْتَنِي؟
قَالَ: رَبِّ زَيَّنَتْ لِي حَوَّاءُ.
قَالَ: فَإِنِّي أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كَرْهًا وَلَا تَضَعَ إِلَّا كَرْهًا وَدَمَيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ.
فَلَمَّا سَمِعَتْ حَوَّاءُ ذَلِكَ رَنَّتْ فَقَالَ لَهَا: عَلَيْكِ الرَّنَّةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ ” رواه الحاكم في “المستدرك” (2/ 381)، وقال: ” هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ “، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في ” فتح الباري” (1/ 400).
قال القاضي عياض:” وقوله: (وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا)؛ يعنى أنها أمّهن، فأشبهنها بالولادة ونزع العرق، لما جرى لها في قصة الشجرة مع إبليس، وأن إبليس إنما بدأ بحواء فأغواها وزين لها، حتى جعلها تأكل من الشجرة، ثم أتت آدم فقالت له مثل ذلك حتى أكل أيضاً هو ” انتهى من “اكمال المعلم” (4/ 682).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:” وقوله (لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا): فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة، حتى وقع في ذلك، فمعنى خيانتها: أنها قبلت ما زين لها إبليس حتى زينته لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم، أشبهنها بالولادة، ونزع العرق؛ فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها، بالفعل أو بالقول.
وليس المراد بالخيانة هنا: ارتكاب الفواحش، حاشا وكلا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس، من أكل الشجرة، وحسنت ذلك لآدم: عُد ذلك خيانة له. وأما من جاء بعدها من النساء: فخيانة كل واحدة منهن، بحسبها.
وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم، بما وقع من أمهن الكبرى، وأن ذلك من طبعهن، فلا يُفْرِط في لوم من وقع منها شيء، من غير قصد إليه، أو على سبيل الندور.
وينبغي لهن أن لا يتمسكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن، والله المستعان ” انتهى من “فتح الباري” (6/ 368).
المسألة الثالثة:
تعريف السب
ما هي الإساءة؟ وما هو السب؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله معرفاً السب:” الكلام الذي يقصد به الانتقاص و الاستخفاف، و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن و التقبيح و نحوه ” ([6]).
الذين صدر عنهم هذا الفعل قديماً .. وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحاولات؟
أ/ المنافقون.
وهذه بعض النماذج التي تبين ذلك:
من ذلك ما جاء في قول الله تعالى:} يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.
قال ابن كثير رحمه الله:” عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال:} أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون {إلى قوله:} مجرمين {وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ”
فهذه الآية نصٌّ في أنَّ الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسب بطريق الأولى، و قد دلت الآية أيضاً على أن من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، جاداً أو هازلاً.
ومن ذلك:
بعد غزوة المُريسيع سنة ست من الهجرة ورد الناس الماء، وفيهم عمر، ومع عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاه بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاه وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ -حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ – عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَصَرَخَ جَهْجَاه: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فقال: ما مثلنا ومثلهم إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ: سَمّنْ كَلْبَك يَاكُلْك، أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ؛ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ: مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنِ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟ لَا وَلَكِنْ أَذّنَ بِالرّحِيلِ». وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْتَحِلُ فِيهَا، فَارْتَحَلَ النّاسُ.
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلّغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ، فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ. – وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا -، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ. فَلَمّا اسْتَقَلّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَارَ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَحَيّاهُ بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوْ مَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ»؟ قَالَ: وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: «عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ». قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: «زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ». قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت، هُوَ وَاَللّهِ الذّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ. ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ؛ لِيُتَوّجُوهُ، فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا.
وجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَاسَهُ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَامُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلَهُ، فَأَقْتُلَ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرِ، فَأَدْخُلَ النّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا»
وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَاخُذُونَهُ وَيُعَنّفُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَانِهِمْ: «كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ قَتَلْته يَوْمَ قُلْتَ لِي اُقْتُلْهُ لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْته»؛ فقَالَ عُمَرُ: قَدْ وَاَللّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي ([10]).
ومن ذلك إشاعتهم للإفك والتهم بعد هذه الغزوة في محاولة بائسة لتدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما نزل بشأن ذلك من القرآن في سورة النور.
ب/ اليهود:
من ذلك محاولتهم قتله صلى الله عليه وسلم ..
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب من بني النضير أن يعينوه في دية الكلابيين –وكان ذلك واجباً عليهم حسب بنود المعاهدة معهم – قالوا: نفعل وطلبوا زيارته قائلين: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا وأن تأتينا، اجلس حتى نتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت من بيوتهم، ثم خلا بعضهم ببعض فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر يهود قد جاءكم محمد في نفر من أصحابه لا يبلغون عشرة – ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وسعد بن عبادة – فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته فاقتلوه، ولن تجدوه أخلى منه الساعة، فإنه إن قتل تفرق عنه أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من كان هاهنا من الأوس والخزرج، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن، فقال عمرو بن جَحَّاش النضري: إذا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: يا قوم أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرن بأنا قد غدرنا به، وإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا هو سبب غزوة بني النضير.
ولقد حاول المنافقون منعهم من الخروج واعدين بأن يكونوا معهم كما أخبر الله في سورة النضير:} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ {[الحشر:11 – 12].
ومن محاولاتهم قتله حادثة الشاة المسمومة .. فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: «لَا»، قال أنس: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَاكُلُ الصَّدَقَةَ، فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً سَمَّتْهَا، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ»، فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الْأَنْصَارِيُّ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ: «مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ». قَالَتْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ. فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ.
قال النووي رحمه الله:” وَاخْتَلَفَ الْآثَار وَالْعُلَمَاء: هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا؟ فَوَقَعَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّهُمْ قَالُوا: أَلَا نَقْتُلهَا؟ قَالَ: «لا»، وَمِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر، وَعَنْ جَابِر مِنْ رِوَايَة أَبِي سَلَمَة أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا. وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاء بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور، وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ بِهَا، فَقَتَلُوهَا. وَقَالَ اِبْن سَحْنُون: أَجْمَع أَهْل الْحَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَجْه الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات وَالْأَقَاوِيل أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلهَا أَوَّلًا حِين اِطَّلَعَ عَلَى سُمّهَا. وَقِيلَ لَهُ: اُقْتُلْهَا فَقَالَ: لَا، فَلَمَّا مَاتَ بِشْر بْن الْبَرَاء مِنْ ذَلِكَ سَلَّمَهَا لِأَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا قِصَاصًا، فَيُصْبِح قَوْلهمْ: لَمْ يَقْتُلهَا أَيْ فِي الْحَال، وَيَصِحّ قَوْلهمْ: قَتَلَهَا أَيْ بَعْد ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم”.
ومن صور إساءتهم: ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ». فقالت عائشة: بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُ واللعنة. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ فقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُم»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:} وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ {[المجادلة:8] ([17]).
ج/ الكفار:
آذى الكفار نبينا صلى الله عليه وسلم بلسانهم وفعالهم ..
قال تعالى:} وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ {[الحجر:6]، وقال:} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ {[الصافات:35 – 36]، وقال:} وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ {، وقال:} وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ {[القلم:51]، وقال:} أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ {[الطور:30]، وقال:} وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {[ص:4]، وقال:} وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ {[النحل:101].
كانوا يرمون عليه سلا الجزور ..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَرَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ، وَسَلَى جَزُورٍ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَقَالُوا: مَنْ يَاخُذُ هَذَا السَّلَى فَيُلْقِيَهُ عَلَى ظَهْرِهِ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ: أَنَا. فَأَخَذَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ سَاجِدًا حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ t : فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ جَمِيعًا، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، غَيْرَ أُبَيٍّ أَوْ أُمَيَّةَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَتَقَطَّعَ.
وكسروا رباعيته وشجوا رأسه، عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود t قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ». وهذا حدث يوم أُحد.
وحصبوه بالحجارة في الطائف، فأرسل الله ملك الجبال ليأمره في قومه بما شاء، فعفا صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ له عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَاسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَامُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَامُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ»؟ فماذا كان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
وبعد غزوة أحد لما انحاز صلى الله عليه وسلم إلى الجبل أراد أبي بن خلف أن يلحق به ليقتله، فأخذ صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصِّمَّة – وكان قريباً منه – وقام وانتفض انتفاضةً تطاير منها شعره، ثم رماه في تَرْقُوَتِه، فانقلب من على فرسه، فَلَمّا رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ احتقن منه الدم، قَالَ: قَتَلَنِي وَاَللّهِ مُحَمّدٌ. فقَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاَللّهِ فُؤَادُك وَاَللّهِ إنْ بِك مِنْ بَاسٍ. قَالَ: إنّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكّةَ: «أَنَا أَقْتُلُك»، فَوَاَللّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيّ لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عَدُوّ اللّهِ وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكّةَ.
وكان بعض زعماء الطائف قد قال له: أما وجد الله غيرك حتى يرسله إلينا؟
وقال له ابن عمته: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلماً إلى السماء، فتعرج فيه وأنا انظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله قد أرسلك”.
لقد اتضح لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يعفو – وهذا هو الغالب- وربما أخذهم بسبهم وجرمهم، فلقد أهدر دماء بعضهم وأوصى بقتلهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، ودعا على بعضهم.
قال ابن تيمية رحمه الله:” كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يختار العفو عمن سبه، وربما أمر بقتله إذا رأى المصلحة في ذلك “.
كيف واجه الصحابة ذلك؟
لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهاونون مع من أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد كان عليه الصلاة والسلام أحب إلى أحدهم من كل شيء .. وهذا ما توضحه الأحاديث التالية:
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَمَهَا.
و عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ». فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُهَا؛ كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَاتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ».
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقُلْتُ: أَقْتُلُهُ؟ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الرحمن بن عوف يقول:” بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا قَالَ فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ مِثْلَهَا قَالَ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ أَلَا تَرَيَانِ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ قَالَ فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ أَيُّكُمَا قَتَلَهُ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُ فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا قَالَا لَا فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ “.
توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم
يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ولو تاب وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وهذا الإجماع قد حكاه غير واحد من أهل العلم كالإمام إسحاق بن راهويه وابن المنذر والقاضي عياض والخطابي وغيرهم.
ومن الأدلة على أنه يقتل ولو تاب:
ما ثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: «اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» – والأربعة عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ- فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا؛ فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي مِنْ الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ لَا يُنَجِّينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ.
قَالَ: فَرَفَعَ رَاسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يَابَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَأَىنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ». فَقَالُوا: وَمَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ؟ هَلَّا أَوْمَاتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ. قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ».
وجه الدلالة من الحديث: أحب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يقتلوا ابن أبي السرح بعدما جاء تائباً.
وكان عبد الله بن سعد من كتبة الوحي فارتد وزعم أنه يزيد في الوحي ما يشاء، وهذا كذب وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من أنواع السب كما لا يخفى، ثم أسلم وحسن إسلامه، فرضي الله عنه.
وسب النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به حقان؛ حق لله، وحق له، حق الله يسقط بالتوبة، وأما حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحتم علينا قتل الساب، فتوبة الساب تنفعه ديانةً ولا تنفعه قضاءً.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبته؟
أجيب: بأن هذا في حياته، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعفو عمن شاء، ولكن ليس لأحد أن يعفو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في هذا القدر الكفاية.