2758،2759، فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في صحيح مسلم،
(5) – بابُ: قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، وإنْ تَكَرَّرَتِ الذُّنُوبُ والتَّوْبَةُ.
(29) – ((2758)) حَدَّثَنِي عَبْدُ الأعْلى بْنُ حَمّادٍ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ إسْحاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي عَمْرَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فِيما يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، قالَ: «أذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقالَ تَبارَكَ وتَعالى: أذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، ويَاخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عادَ فَأذْنَبَ، فَقالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقالَ تَبارَكَ وتَعالى: عَبْدِي أذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، ويَاخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عادَ فَأذْنَبَ فَقالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقالَ تَبارَكَ وتَعالى: أذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، ويَاخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»، قالَ عَبْدُ الأعْلى: لا أدْرِي أقالَ فِي الثّالِثَةِ أوِ الرّابِعَةِ: «اعْمَلْ ما شِئْتَ»
(29) – قالَ أبُو أحْمَدَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ القُرَشِيُّ القُشَيْرِيُّ، حَدَّثَنا عَبْدُ الأعْلى بْنُ حَمّادٍ النَّرْسِيُّ بِهَذا الإسْنادِ.
(30) – ((2758)) حَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي أبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، قالَ: كانَ بِالمَدِينَةِ قاصٌّ يُقالُ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي عَمْرَةَ، قالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «إنَّ عَبْدًا أذْنَبَ ذَنْبًا» بِمَعْنى حَدِيثِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ وذَكَرَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، أذْنَبَ ذَنْبًا، وفِي الثّالِثَةِ: «قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ ما شاءَ».
(31) – ((2759)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قالَ: سَمِعْتُ أبا عُبَيْدَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أبِي مُوسى، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها».
(31) – وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا أبُو داوُدَ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَهُ
==========
التمهيد:
” التوبة فرض على المؤمنين باتفاق المسلمين؛ لقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا}.
ولها شروط أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على أن لا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى وخوفًا منه لا من غيره فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة.
وقد قيل: من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الإستغفار الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان.
فأما من قال بلسانه: أستغفر الله وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر.
وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار”. [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة – القرطبي، ص (214)].
قال ابن القيم رحمه الله: “فإن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب، ولا مع الإصرار عليها، فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى، والثاني ينافي قصده وإرادته،
فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب، والاعتراف به، وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا”. [كتاب مدارج السالكين (1/ 197)].
لا يقصد ابن القيم معرفة الذنوب على التفصيل؛ لأن الإنسان عرضه للنسيان فيكيفيه الدعاء بمغفرة الذنوب ففي
الصحيح المسند حديث 310 فيه ( … اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري، اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت، وما علمت وما جهلت)
سيأتي تفصيل ذلك من كلام ابن تيمية
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله: (” [(5)] – بابُ: قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، وإنْ تَكَرَّرَتِ الذُّنُوبُ، والتَّوْبَةُ”). وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: المرء لا بد أن يقع في الذنب، وقد سبق بيان ذلك.
المسألة الثانية: ما قاله النوويّ – رحمه الله -: في هذا الحديث أن الذنوب لو تكررت مائة مرة، بل ألفًا، أو أكثر، وتاب في كل مرة قُبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحّت توبته.
المسألة الثالثة: الواجب على العبد أن يبادر بالتوبة مهما أرتكب من المحرمات كلما أذنب، قبل أن يغلق باب التوبة.
المسألة الرابعة: “الراغب: التوبة ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ ضروب الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة”. [نواهد الأبكار وشوارد الأفكار للسيوطي رحمه الله، (2/ 211)].
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6961)] ((2758)) –
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه – وأخرج البخاريّ هذا الحديث في كتاب التوحيد،
من صحيحه، «فصرّح بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره. (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِيما يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ – عز وجل -) هذا هو المسمّى بالحديث القدسيّ. (قالَ) – صلى الله عليه وسلم -: (أذْنَبَ عَبْدٌ)؛ أي: من هذه الأمة أو من غيرهم
(فَقالَ) قال الطيبيّ: الفاء سببيّة، جعل اعترافه بالذنب سببًا للمغفرة، حيث أوجب الله تعالى المغفرة للتائبين المعترفين بالسيّئات على سبيل الوعد. [«الكاشف عن حقائق السنن» (6) / (1843)].
(ويَاخُذُ بِالذَّنْبِ)؛ أي: يؤاخذ، ويعاقب فاعله، إذا شاء لمن شاء، وفي رواية البخاريّ: «فقال ربه: أعَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي»، «فقال ربه» للملائكة: للمباهاة أو للتقريروالتعجيب. انتهى باختصار [«الكاشف عن حقائق السنن» (6) / (1843)].
(واعْمَلْ ما شِئْتَ)؛ أي: من الذنب المعقَّب بالتوبة الصحيحة،
ففيه: أن التوبة الصحيحة لا يضرّ فيها العود إلى الذنب ثانيًا، بل مضت على صحتها، ويتوب من المعصية الثانية.
(فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ)؛ أي: ما دُمت تُذنب، ثمَّ تتوب، قال المنذريّ – رحمه الله -: قوله: “» فليعمل ما شاء «، معناه: إذا كان هذا دأبه، يذنب الذنب، فيتوب منه، ويستغفر، فليفعل ما شاء؛ لأنه كلما أذنب كانت توبته، واستغفاره كفارة لذنبه، فلا يضرّه،
لا أنّه يذنب الذنب، فيستغفر منه بلسانه، من غير إقلاع، ثمَّ يعاوده؛
فإن هذه توبة الكذابين، ويدل له قوله: «ثمَّ أصاب ذنبًا آخر» “. انتهى.
وقال النوويّ – رحمه الله -: معناه: ما دُمت تذنب، ثمَّ تتوب غفرت لك.
وقال الطيبيّ – رحمه الله -: أي: اعمل ما شئت ما دُمت تذنب، ثمَّ تتوب، فإني أغفر لك،
قال: وهذه العبارة تُستعمل تارة في معرض السخطة والنكير، وتارةً في صورة التلطّف والحفاوة، وليس المراد منه في كلتا الصورتين حثّ على الفعل، أو الترخّص فيه،
وعلى السخطة والنكير ورَدَ قوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت (40)]،
وعلى الحفاوة والتلطّف ورَدَ هذا الحديث، وذلك مثل قولك لمن تودّه، وترى منه الجفاء: اصنع ما شئت، فلست بتارك لك، وقوله – صلى الله عليه وسلم – في حقّ حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه -:» لعلّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم». انتهى.
قال المباركفوريّ – رحمه الله -: قد أشكل على كثير من الناس معنى قوله: «فليعمل ما شاء» كما أشكل عليهم معنى قوله المذكور في حديث حاطب، فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لأهل بدر، وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع.
وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
منها: ما قال ابن القيم – رحمه الله – في «الفوائد» ص (16): إن هذا خطاب لقوم قد عَلِمَ الله – سبحانه وتعالى – أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرّين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح، واستغفار، وحسنات، تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وإنهم مغفور لهم،
ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض؛ وثوقًا بالمغفرة،
فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لَما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة، ولا صيام، ولا حجّ، ولا زكاة، ولا جهاد، وهذا محال،
ومِن أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب،
فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة،
ونظير هذا قوله في الحديث الآخر: «أذنب عبد ذنبًا، فقال: أيْ رب أذنبت ذنبًا، فاغفره لي، فغفره له … » الحديث، وفيه: «قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء»، فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات، والجرائم، وإنما يدلّ على أنّه يغفر له ما دام كذلك، إذا أذنب وتاب، واختصاص هذا العبد بهذا؛ لأنه قد عَلِم أنّه لا يصرّ على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب، وهذا حكمٌ يعمّ كل من كانت حاله حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك، كما قُطع به لأهل بدر، وكذلك كل من بَشَّره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالجنة، أو أخبره بأنّه مغفور له، لم يَفْهَم منه هو ولا غيره من الصحابة – رضي الله عنهم -، إطلاق الذنوب والمعاصي له، ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشدّ اجتهادًا، وحذرًا، وخوفًا بعد البشارة منهم قبلها؛ كالعشرة المشهود لهم بالجنة، وقد كان الصدّيق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر،
فإنهم عَلِموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها، والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يَفْهم أحد منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال. انتهى كلام ابن القيّم – رحمه الله -[«الفوائد» لابن قيّم الجوزيّة – رحمه الله – ص (16)]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله – سبحانه وتعالى – أعلم.
وقوله: (قالَ عَبْدُ الأعْلى) هو ابن حمّاد شيخه، (لا أدْرِي أقالَ) فاعله ضمير حمّاد بن سلمة، (فِي) المرّة (الثّالِثَةِ، أوِ) المرّة (الرّابِعَةِ: «اعْمَلْ ما شِئْتَ»؟)؛ يعني: أنّه شكّ في قوله: «اعمل ما شئت» هل قاله في المرّة الثالثة، أو في الرابعة.
وقوله: (قالَ أبُو أحْمَدَ) هو: محمَّد بن عيسى بن محمَّد الزاهد النيسابوريّ الجُلُوديّ المتوفّى في ذي الحجة سنة ((368) هـ) [تقدّمت ترجمته في مقدّمة «شرح المقدّمة» جـ (1) ص (63)]، وهو تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن سفيان النيسابوريّ الزاهد الفقيه، راوي هذا الكتاب عن مؤلِّفه مسلم بن الحجاج. (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُويَهْ القُرَشِيُّ القُشَيْرِيُّ) هو: محمَّد بن عبد الملك بن زنجويه البغداديّ، أبو بكر الغزّال، ثقةٌ [(11)]، مات سنة ((258)) وليس هو من رجال مسلم، وإنما يروي عنه الجلوديّ
في زياداته؛ لعلوّ إسناده، وقد تقدَّم هذا. (حَدَّثَنا عَبْدُ الأعْلى بْنُ حَمّادٍ النَّرْسِيُّ)
شيخ مسلمُ (بِهَذا الإسْنادِ)؛ أي: بإسناد مسلم، وهو عن حمّاد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
وغرض أبي أحمد بهذا الكلام بيان علوّ إسناده في هذا الطريق على إسناده في طريق مسلم؛ لأنه وصل إلى عبد الأعلى بهذا بواسطة واحدة، وهو ابن زنجويه، بخلافه هناك، فإنّه وصل إليه بواسطتين، وهما: أبو إسحاق، ومسلم، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6962)] ( … ) – (حَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي أبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، قالَ: كانَ بِالمَدِينَةِ قاصٌّ يُقالُ لَهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي عَمْرَةَ، قالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «إنَّ عَبْدًا أذْنَبَ ذَنْبًا»، بِمَعْنى حَدِيثِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وذَكَرَ ثَلاثَ مَرّاتٍ: «أذْنَبَ ذَنْبًا»، وفِي الثّالِثَةِ: «قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ ما شاءَ»).
[تنبيه]: رواية همّام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله هذه ساقها الطبرانيّ – رحمه الله – في «الدعاء» بلفظ المصنّف – رحمه الله –
((1776)) -[«الدعاء» للطبرانيّ (1) / (503)].
وأخرجه أحمد بنحو معناه في «مسنده» ((2) / (296))، وابن حبّان في «صحيحه» ((2) / (388))، والله تعالى أعلم.
====
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6963)] ((2759)) -شرح الحديث:
(عَنْ أبِي مُوسى) عبد الله بن قيس الأشعريّ – رضي الله عنه – (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ:
«إنَّ اللهَ – عز وجل – يَبْسُطُ يَدَهُ)؛ أي: بسطًا حقيقيًّا، لا مجازيًّا، فإن الحقّ، والصواب أن لله تعالى يدًا حقيقيّة، كما أثبتتها نصوص الكتاب والسُّنَّة، فنُثبتها إثباتًا بلا تمثيل، وننزّه الله – سبحانه وتعالى – عن مشابهة خَلْقه، تنزيهًا، بلا تعطيل، وأما ما يذكره شرّاح هذا الحديث من التأويل، فهو تأويل مذموم مخالف لِما عليه السلف الصالح، ودونك بعض ما قالوه.
قال في» المرعاة «: قوله:» إن الله يبسط يده” قيل: بسط اليد عبارة عن الطلب؛ لأنّ عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئًا من أحدهم بسط إليه كفه؛ والمعنى: يدعو المذنبين إلى التوبة، وقال النوويّ: معناه: يقبل التوبة من المسيئين نهارًا وليلًا، حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يختص قبولها بوقت، فبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازريّ: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد؛ لأنّ العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر حسيّ يفهمونه، وهو مجاز، فإن يد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى. انتهى. وقيل: البسط عبارة عن التوسع في الجود، والعطاء، والتنزه عن المنع، وفي الحديث تنبيه على سعة رحمته، وكثرة تجاوزه. وقال الطيبيّ: هو تمثيل يدلّ على أن التوبة مطلوبة عنده، محبوبة لديه، كأنه يتقاضاها من المسيء. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هذه التأويلات كلّها غير مقبولة؛ لأنّ حاصلها حَمْل بسط الله تعالى يده على لازم المعنى، والحقّ أن أصل المعنى ثابت لله – سبحانه وتعالى -، على
أن هذه المسألة القائلون بها كثيرون، وهم السلف، ومن سلك سبيلهم، فاتّبع
طريقهم تَسْلَم، وتَغْنَم، والله تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم. انتهى
(بِاللَّيْلِ)؛ أي: فيه، فالباء بمعنى «في»، (لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهارِ)؛ يعني:
أنّه لا يعاجلهم بالعقوبة، بل يمهلهم؛ ليتوبوا، (ويَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ
اللَّيْلِ، حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها «)؛ أي: إلى طلوع الشمس من محلّ
غروبها، وذلك قرب الساعة، وهو وقت غلق باب التوبة، قال تعالى: {يَوْمَ يَاتِي
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها} [الأنعام (158)]،
قال القرطبيّ – رحمه الله -: يعني: أن التوبة تصحّ، وتُقبل دائمًا إلى الوقت الذي تطلع فيه الشمس من حيث تغرب، فإذا كان ذلك طُبع على كلّ قلب بما فيه، ولم تنفع توبة أحد، وهذا معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْرًا} [الأنعام (158)].
وسرّ ذلك، وسببه أن ذلك هو أول قيام الساعة، فإذا شوهد ذلك، وعُويِنَ حصل الإيمان الضروريّ، وارتفع الإيمان بالغيب الذي هو المكلّف به، وسيأتي القول في تحقيق القول في طلوع الشمس من مغربها في محلّه [» المفهم” (7) / (105)].
سيأتي بيانها
بالتفصيل في «كتاب الفتن، وأشراط الساعة» عند شرح حديث حذيفة بن أسِيد
الغِفاريّ – رضي الله عنه -، -.
وحديث أبي موسى الأشعريّ – رضي الله عنه – هذا من أفراد المصنّف – رحمه الله -.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: ” تدل – يعني الأحاديث- على قبول الرب جل وعلا للتوبة وجوده وكرمه، وأنه سبحانه يقبل التوبة من عباده متى تابوا إليه صادقين كما قال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، وقال جل وعلا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].
وفي حديث أبي موسى الأشعري عبدالله بن قيس رضي الله عنه، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إن الله يبسط يده بالليل … ))، هذا جوده وكرمه أن يتقبل توبة عباده ليلا ونهارًا ويداه مبسوطتان بذلك، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ينفق كيف يشاء ويقبل التوبة عن عباده ليلا ونهارًا، وتقدم قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((والله إني لأتوب إلى الله وأستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة)) يقوله – صلى الله عليه وسلم – وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن من كمال ضراعته إلى الله وانكساره بين يديه، ومن كمال عبادته له يتوب ويستغفر دائما، ويقول: “أيها الناس توبوا إلى ربكم واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة عليه الصلاة والسلام. قال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نعد للنبي – صلى الله عليه وسلم – في المجلس الواحد مائة مرة يقول: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور»،
ويقول – صلى الله عليه وسلم -: ((تقبل توبة العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها)) فإذا طلعت قفل باب التوبة، والمراد في قوله جل وعلا: {يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158] يعني: طلوع الشمس من مغربها، متى طلعت من مغربها لم تقبل التوبة ولا الإسلام من أحد، لكن يبقى على ما كان من عمله السابق وفي حديث ابن عمر: ((أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) يعني ما لم تبلغ الروح الحلقوم، ما دام شعوره معه وعقله معه فإن الله يقبل منه التوبة، فإذا بلغت الروح الحلقوم وعاين ما بقي حينئذ محلا للتوبة.
فالواجب على المكلف من الرجال والنساء البدار بالتوبة دائما ولزومها دائما، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) فالواجب عليك يا عبد الله أن تلزم التوبة دائما، فأنت محل الذنوب، محل التقصير، لو حاسبت نفسك وجدت العيوب الكثيرة، فالواجب عليك أن تلزم التوبة دائما، والندم من سيئاتك، والإقلاع والعزم ألا تعود خوفا من ربك، وضراعة إليه، ورغبة فيما عنده، وحذرا من عقابه، هكذا المؤمن لا يزال أبدا إلا تائبا نادما مقلعا خائفا راجيا معظما لحرمات الله”. انتهى المقصود [02 من: (باب التوبة)، شرح رياض الصالحين].
* فقه الحديث وفوائده:
(1) – (منها): بيان سعة رحمة الله – سبحانه وتعالى -، وفضله، وكرمه.
(2) – (ومنها): ما قاله النوويّ – رحمه الله -: في هذا الحديث أن الذنوب لو تكررت مائة مرة، بل ألفًا، أو أكثر، وتاب في كل مرة قُبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحّت توبته.
(3) – (ومنها): ما قاله القرطبيّ – رحمه الله -: هذا الحديث يدلّ على عظيم فائدة الاستغفار، وكثرة فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه،
ولا شكّ في أن هذا الاستغفار ليس هو الذي ينطق به اللسان، بل هو يثبت معناه في الجِنان، مقارنًا للسان؛ لتنحل به عقدة الإصرار، ويحصل معه الندم على ما سلف من الأوزار، فإذًا الاستغفار ترجمة التوبة، وعبارة عنها، ولذلك قال: «خياركم كل مُفْتَنٍ تواب» [رواه البيهقيّ في» شعب الإيمان «((7120) و (7121)). قال الشيخ الألبانيّ – رحمه الله -: ضعيف، وقد صحّ بلفظ: «إن المؤمن خُلق مفتنًا توّابًا … ». راجع:» الضعيفة «(5) / (268)]،
قيل: هو الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلّما وقع في الذنب عاد إلى التوبة، وأما من قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصرّ على تلك المعصية، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبار؛ إذ لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع استغفار. انتهى [» المفهم” (7) / (85) – (86)].
قال الحافظ – رحمه الله -: ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – مرفوعًا: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب، وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه»، والراجح أن قوله: والمستغفر … إلى آخره موقوف، وأوله عند ابن ماجه، والطبرانيّ من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -، وسنده حسن، وحديث: «خياركم كل مفتن توّاب»، ذكره في «مسند الفردوس» عن عليّ – رضي الله عنه -[تقدَّم أن قوله: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» حديث حسن لغيره].
قال الدارقطني في العلل: (895) – وسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ أبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: التّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ: فذكر الخلاف وقال:
وعِنْدَ عَبْدِ الكَرِيمِ فِيهِ إسْنادٌ آخَرُ، عَنْ زِيادِ بْنِ الجَرّاحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.
وهُوَ أصَحُّ مِن حَدِيثِ أبِي عُبَيْدَةَ، قالَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، والثَّوْرِيُّ، وغَيْرُهُما عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ.
قِيلَ: فَقَدْ رَوى حِبّانُ، عَنِ ابْنِ المُبارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ، عَنْ أبِي هاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَوْلَهُ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ.
فَقالَ: مَوْقُوفٌ نَعَمْ.
وقال أيضًا ((5) / (192) – (193)): «وروى هذا الحديث معمر بن راشد، عن عبد الكريم الجزري بإسناد آخر حدث به وهيب، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم يتابع على هذا القول عبد الكريم».
وفي علل ابن أبي حاتم (1918): وسئل عن رواية أبي عبيدة بن عبد الله عن ابن مسعود
قالَ أبِي: هذا خطأٌ؛ إنما هو: عبدُالكريمِ، عن زياد بن الجَرّاح، عَنِ ابنِ مَعْقِل؛ قالَ: دخلتُ مَعَ أبِي عَلى ابنِ مَسْعُود.
وقال في العلل (1889) في حديث أبي سعيد:
قالَ أبِي: يَحْيى بنُ أبِي خالدٍ مجهولٌ، وابنُ أبِي [سَعْدٍ] مثلُهُ، وهُوَ حديثٌ ضعيف.
قال ابن الصلاح فتاويه (44) في حديث
التّائبُ من الذَّنبِ كمن لا ذنبَ له: لم نجد له إسنادا ثبت بمثله الحديث
(4) – (ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: فائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب، وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضاف إلى نقض التوبة، فالعودة إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، فإنّه لا غافر للذنوب سواه. انتهى [«المفهم» (7) / (85) – (86)].
(5) – (ومنها): ما قاله ابن بطال – رحمه الله -: في هذا الحديث أن المصرّ على المعصية في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، مغلّبًا الحسنة التي جاء بها، وهي اعتقاد أن له ربًا خالقًا، يعذبه، ويغفر له، واستغفاره إياه على ذلك يدلّ عليه قوله تعالى: {مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها} [الأنعام: (160)] ولا حسنة أعظم من التوحيد،
فإن قيل: إن استغفاره ربه توبة منه.
قلنا: ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلبها المصرّ والتائب، ولا دلالة في الحديث على أنّه تاب مما سأل الغفران عنه؛ لأنّ حدّ التوبة الرجوع عن الذنب، والعزم على أن لا يعود إليه، والإقلاع عنه، والاستغفار بمجرّده لا يُفهم منه ذلك [«شرح البخاريّ» لابن بطال – رحمه الله – (10) / (503)].
وقال غيره: شروط التوبة ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم على أن لا يعود إليه، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم، بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب.
قال بعضهم: يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه، فإنّه يستلزم الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم، لا أصلان معه،
ومن ثمَّ جاء الحديث: «الندم توبة»، وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -، أخرجه ابن ماجه، وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبّان من حديث أنس، وصححه، وقد تقدَّم البحث في هذا مستوفًى في أوائل «كتاب التوبة»، فلتراجعه هناك، وبالله تعالى التوفيق.
تنبيه:
التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ لهُ: قال الألباني في صحيح ابن ماجه: حسن
وقال شعيب الأرنؤوط، كما تخريج شرح السنة (10) / (263) … : حسن لشواهده
وقال السبكيّ الكبير في «الحلبيات»: الاستغفار طلب المغفرة، إما باللسان، أو بالقلب، أو بهما،
فالأول: فيه نفع؛ لأنه خير من السكوت، ولأنه يعتاد قول الخير،
والثاني: نافع جدًّا،
والثالث: أبلغ منه، لكن لا يمحصان الذنب – أي: قطعًا، وجزمًا – حتى توجد التوبة منه، فإن العاصي المصرّ يطلب المغفرة، ولا يستلزم ذلك وجود التوبة
– إلى أن قال -: والذي ذكرته إن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحَسَب وضْع اللفظ، لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ «أستغفر الله» معناه التوبة، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة، لا محالة، ثمَّ قال: وذكر بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار؛ لقوله تعالى: {وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} [هود (3)]، والمشهور أنّه لا يشترط. انتهى من «الفتح» [«الفتح» (17) / (514) – (515)، «كتاب التوحيد» رقم ((7507))]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف]. سبق ذكر ما يتعلق بين الاستغفار والتوبة.
قال الراجحي:
والتوبة واجبة على كل إنسان على الفور؛ لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الأجل،
ومن التوبة الفاسدة: توبة الكاذبين، كمن يستغفر بلسانه، وقلبه معقود على المعصية، كمن يدعي أنه يتوب عن التعامل بالربا، وهو مقيم عليه.
«توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم» (8/ 38)
وفي طرح التثريب (8/ 66):
5 – (ومنها): قال: وقَوْلُهُ «فاسْتَغْفِرِي: اللَّهَ ثُمَّ تُوبِي إلَيْهِ، فَإنَّ العَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تابَ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ)) فِيهِ قَبُولُ التَّوْبَةِ والحَثُّ عَلَيْها.
6 – (ومنها): وفِيهِ أنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِرافِ لا يُغْنِي عَنْ التَّوْبَةِ، بَلْ إذا اعْتَرَفَ بِهِ مُتَفَصِّلًا نادِمًا،
ولَيْسَ المُرادُ الِاعْتِرافَ بِذَلِكَ لِلنّاسِ بَلْ الِاعْتِرافُ لِلَّهِ تَعالى، فَإنَّ الإنْسانَ مَامُورٌ بِالسَّتْرِ”. انتهى.
7 – إثبات اليدين لله عزوجل: فحديث «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ … »
بوب عليه ابن خزيمة في كتاب التوحيد:
بَابُ السُّنَّةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِي إِثْبَاتِ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ إِعْلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَدَيِ اللَّهِ يُبْسَطَانِ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ لِيَتُوبَ بِالنَّهَارِ، وَلِمُسِيءِ النَّهَارِ لِيَتُوبَ بِاللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.
وبوب ابن بطة العكبري في الإبانة:
بَابُ الْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَجَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، وَقَبْلَ الْعَرْشِ وَالْقَلَمِ
ثم أورد آثارا كثيرة منها:
الإبانة الكبرى – ابن بطة (7/ 311)
قال ابن تيمية:
وَفِي عَصْرِهِ الْحَافِظُ ” أَبُو بَكْرٍ البيهقي ” مَعَ تَوَلِّيهِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَذَبِّهِ عَنْهُمْ قَالَ: فِي كِتَابِهِ ” الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ “. بَابُ مَا جَاءَ فِي إثْبَاتِ الْيَدَيْنِ صِفَتَيْنِ – لَا مِنْ حَيْثُ الْجَارِحَةِ – لِوُرُودِ خَبَرِ الصَّادِقِ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَقَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي هَذَا الْبَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: {يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: {أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَك الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ} وَفِي لَفْظٍ: {وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَرَسَ كَرَامَةَ أَوْلِيَائِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ بِيَدِهِ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يتكفؤها الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ؛ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ}.
وَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِثْلَ قَوْلِهِ: {بِيَدِي الْأَمْرُ} {وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْك} {وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ} و {أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ} وَقَوْلُهُ: {الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ} وَقَوْلُهُ: {يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَاخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟}. وَقَوْلُهُ: {يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ} وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَاحِ. وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْلَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ اخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت. قَالَ: اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ} وَحَدِيثَ {إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَدِهِ} إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ ذَكَرَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
ثُمَّ قَالَ ” البيهقي “: أَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَسِّرُوا مَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي ” الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ ” وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ؛ مَعَ أَنَّهُ يَحْكِي قَوْلَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ ” إبْطَالِ التَّاوِيلِ ” لَا يَجُوزُ رَدُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَا التَّشَاغُلُ بِتَاوِيلِهَا وَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّهَا صِفَاتُ اللَّهِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ سَائِرِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا مِنْ الْخَلْقِ؛ وَلَا يَعْتَقِدُ التَّشْبِيهَ فِيهَا؛ لَكِنْ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ بَعْضَ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَالْأُسُودِ بْنِ سَالِمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي حِكَايَةِ أَلْفَاظِهِمْ طُولٌ
إلَى أَنْ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ التَّاوِيلِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ حَمَلُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَاوِيلِهَا وَلَا صَرَفُوهَا عَنْ ظَاهِرِهَا؛ فَلَوْ كَانَ التَّاوِيلُ سَائِغًا لَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ التَّشْبِيهِ وَرَفْعِ الشُّبْهَةِ.
مجموع الفتاوى (5/ 87)
قال ابن عثيمين:
ومن فوائد حديث أبي موسي: إثبات أن الله -تعالي- له يده، وهو كذلك، بل له يدان جل وعلا- كما قال تعالي:) وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) (المائدة: من الآية64)، وهذه اليد التي أثبتها الله لنفسه- بل اليدان- يجب علينا أن نؤمن بهما؛ وأنهما ثابتتان لله.
ولكن لا يجوز أن نتوهم أنها مثل أيدينا
انظر شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
قال الراجحي:
وفيه: إثبات اليد لله عز وجل،
وصفتا البسط والقبض صفتان على الحقيقة، لا استعارة فيهما ولا مجاز، والقرآن لا استعارة فيه ولا مجاز
«توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم» (8/ 38)
8 – قال ابن رجب:
فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض هذه الآيات التي لا يقبل معها عمل. قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة ويوشك أن تنفق، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير
ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية.
قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون … } ….
وفي ” الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: ((ما من ميت يموت إلا ندم))، قالوا: وما ندامته؟ قال: ((إن كان محسنا، ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا، ندم أن لا يكون استعتب)). [ضعيف جدا 2403 الترمذي]
فإذا كان الأمر على هذا فيتعين على المؤمن اغتنام ما بقي من عمره، ولهذا قيل: إن بقية عمر المؤمن لا قيمة له. وقال سعيد بن جبير: كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة، وقال بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي
«جامع العلوم والحكم» (3/ 1141 ت الفحل)
9 – قال المناوي:
وقال الطيبي: في الحديث رد لمن ينكر صدور الذنب عن العباد ويعده نقصا فيهم مطلقا وأنه تعالى لم يرد من العباد صدوره كالمعتزلة فنظروا إلى ظاهره وأنه مفسدة صرفة ولم يقفوا على سره أنه مستجلب للتوبة والاستغفار الذي هو موقع محبة الله عز ذكره {إن الله يحب التوابين} وفي الحديث ” إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ” وفيه ” لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن ” وسره إظهار صفة الكرم والحلم والغفران ولو لم يوجد لانثلم طرف من صفات الألوهية والإنسان إنما هو خليفة الله في أرضه يتجلى له بصفات الجلال والإكرام والقهر واللطف
«فيض القدير» (5/ 305)
10 – قال ابن عثيمين:
وفي هذا الحديث: دليل على محبة الله- سبحانه وتعالي- للتوبة، وقد سبق في الحديث السابق – في قصة الرجل الذي أضل راحلته حتى وجدها-: أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب إليه اشد فرحا من هذا براحلته.
وفي هذا الحديث: أن الله- سبحانه وتعالي- يقبل توبة العبد وإن تأخرت، لكن المبادرة بالتوبة هي الواجب؛ لأن الإنسان لا يدري، فقد يفجأه الموت فيموت قبل أن يتوب. فالواجب المبادرة، لكن مع ذلك، لو تأخرت تاب الله على العبد.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الشمس إذا طلعت من مغربها، انتهي قبول التوبة.
«شرح رياض الصالحين لابن عثيمين» (1/ 105)
10 – الأحنف بن قيس رحمه الله يلتمس ذكره في القرآن: ففي الزهد لأحمد بن حنبل (191) / (1)
(1307) – حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أبِي، حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنا ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قالَ: قالَ الأحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «عَرَضْتُ نَفْسِي عَلى القُرْآنِ فَلَمْ أجِدْ نَفْسِي بِشَيْءٍ أشْبَهَ مِنِّي بِهَذِهِ الآيَةِ {وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة (102)]»
أما قصة هذا العرض وتفاصيله فقد نقلها محمد بن نصر المروزي في جزء قيام الليل عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا، فَعَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، فَانْتَبَهَ فَقَالَ: «عَلَيَّ بِالْمُصْحَفِ، لِأَلْتَمِسَ ذِكْرِي الْيَوْمَ حَتَّى أَعْلَمَ مَعَ مَنْ أَنَا وَمَنْ أُشْبِهُ».
فَنَشَرَ الْمُصْحَفَ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
قَالَ: فَوَقَفَ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَسْتُ أَعْرِفُ نَفْسِي هَهُنَا».
ثُمَّ أَخَذَ فِي السَّبِيلِ الْآخَرِ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ (إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتَنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ يُقَالُ لَهُمْ (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ).
قَالَ: فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ».
قَالَ: فَمَا زَالَ يُقَلِّبُ الْوَرَقَ وَيَلْتَمِسُ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ».
أي أعدُّ نفسي من هؤلاء الذين خلطوا عملًا صالحًا بعملٍ سيءٍ ويرجون مغفرةَ الله لهم
=====
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى):
1) قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، أي: وقومٌ آخَرونَ أقَرُّوا بذُنوبِهم بتخَلُّفِهم عن الجهادِ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ تَبوكَ، جَمَعوا عملًا صالحًا بالتَّوبةِ وغَيرِها من الطَّاعاتِ، وعملًا سَيِّئًا بالتخَلُّفِ عن الجهادِ وغيرِ ذلك من المعاصي والسَّيِّئاتِ. [يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 650، 658)، قال القرطبي: (يحتملُ أنَّهم كانوا مُنافِقينَ وما مَرَدوا على النِّفاقِ، ويحتمل أنَّهم كانوا مؤمنينَ). ((تفسير القرطبي)) (8/ 241، 242)، وغيرها].
قال السعدي:
وهذه الآيةُ دلَّت على أن المُخَلِّطَ الذي خلطَ الأعمالَ الصَّالحةَ بالأعمالِ السَّيِّئةِ؛ من التجرُّؤِ على بعضِ المُحَرَّمات، والتقصيرِ في بعضِ الواجِباتِ، مع الاعترافِ بذلك والنَّدَمِ، والرَّجاءِ بأن يغفِرَ اللهُ له- أنَّه تحت الخَوفِ والرَّجاءِ، وهو إلى السَّلامةِ أقرَبُ، وأمَّا المخَلِّطُ الذي لم يَعتَرِف ويَندَمْ على ما مضى منه، بل لا يزالُ مُصرًّا على الذُّنوبِ، فإنَّه يُخافُ عليه أشَدَّ الخَوفِ. [يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:350)].
وعن أبي عُثمانَ النَّهديِ قال: ما في القرآنِ آيةٌ أرجى عندي لهذه الأمَّةِ مِن قَولِه تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا … } [يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/ 278)].
2) “إن الاعتراف بالذنب والإقرار به سبب عظيم لمغفرة الذنوب مهما بلغت، وهو سنة الأنبياء عليهم السلام، فهذا آدم وزوجه لما اقترفا الذنب رجعا على أنفسهم باللوم، وأقروا لله به كما قال تعالى مخبرا عنهما: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}،
3) وهذا نوح عليه السلام لما سأل الله لابنه، ونهاه الله عن ذلك لأن ابنه كافر قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}،
4) وذو النون اعترف بذنبه وهو في بطن الحوت في لجة البحر كما قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
5) وموسى عليه السلام لما قتل من لم يؤمر بقتله اعترف بذنبه كما قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
6) وهو سبيل الصالحين، فهؤلاء إخوة يوسف عليه السلام أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}.
7) وأخبر الله تعالى عن ملكة سبأ أنه لما تبين لها الحق {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ” [الاعتراف بالذنب].
8) وعن سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنا: ((أتاني الليلةَ آتيانِ فابتَعَثاني، فانتهَينا إلى مدينةٍ مَبنيَّةٍ بلَبِنِ ذَهَبٍ، ولَبِنِ فِضَّةٍ، فتلقَّانا رجالٌ شَطرٌ مِن خَلْقِهم كأحسَنِ ما أنت راءٍ، وشطرٌ كأقبَحِ ما أنت راءٍ، قالا لهم: اذهَبُوا فقَعُوا في ذلك النَّهرِ، فوَقَعوا فيه، ثمَّ رَجَعوا إلينا، قد ذهَبَ ذلك السُّوءُ عنهم، فصاروا في أحسَنِ صُورةٍ، قالا لي: هذه جَنَّةُ عَدْنٍ، وهذاك مَنزِلُك، قالا: أمَّا القَومُ الذين كانوا شَطرٌ منهم حَسَنٌ، وشَطرٌ منهم قَبيحٌ، فإنَّهم خَلَطوا عملًا صالحًا وآخَرَ سَيِّئًا، تجاوَزَ اللهُ عنهم)) [رواه البخاري (4674)].
9) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فَإنَّ العَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بِذَنْبهِ، ثُمَّ تابَ، تابَ اللهُ عَلَيهِ)). [الجمع بين الصحيحين لعبد الحق، برقم ((4802))].
10) وفي الصحيحين عن [أبي بكر] الصديق – رضي الله عنهما – أنه قال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلّا أنت، فأغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». قال ابن الملقن رحمه الله: “وهو من أحسن الأدعية، فإن فيه الاعتراف بالذنب الذي هو: كالمانع من الإنعام، فإن ظلم النفس ذنب، والاعتراف به أقرب إلى المحو .. “،
وقال: “الثامن: [فيه دليل] على أن الإنسان لا يعرى من ذنب وتقصير كما قال – عليه الصلاة والسلام -: «استقيموا، ولن تحصوا». وقال: «كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون». ولو كان ثم حالة يعرى عن الظلم والتقصير لما طابق هذا الإخبار الواقع، ولم يؤمر به، فيؤخذ منه الاعتراف بظلم النفس وتقصيرها في كل حالة، ثم إن التقصير في طلب معالي الأمور والتوسل بطاعة الله وتقواه إلى رفيع الدرجات عند الله -تعالى- لا يبعد أن يصدق عليه اسم الظلم بالنسبة لما يقابله من المبالغة والتشمير في ذلك. [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 499)، وما بعدها].
11) ومن الاعتراف بالذنب والنعمة حال الدعاء؛ كما في الحديث عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال سيد الاستغفار، أن تقول: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)). قال ومن قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة. [رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد].
(المسألة الثانية):
قال ابن تيمية رحمه الله:
“وأمّا الِاعْتِرافُ بِالذَّنْبِ عَلى وجْهِ الخُضُوعِ لِلَّهِ مِن غَيْرِ إقْلاعٍ عَنْهُ فَهَذا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفارِ المُجَرَّدِ الَّذِي لا تَوْبَةَ مَعَهُ،
وهُوَ كاَلَّذِي يَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنهُ، وهَذا يَاسٌ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، ولا يُقْطَعُ بِالمَغْفِرَةِ لَهُ؛ فَإنَّهُ داعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً. وقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّهُ قالَ: ((ما مِن داعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيها إثْمٌ ولا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلّا كانَ بَيْنَ إحْدى ثَلاثٍ: إمّا أنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وإمّا أنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِن الجَزاءِ مِثْلَها؛ وإمّا أنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِن الشَّرِّ مِثْلَها)). قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ: إذًا نُكْثِرُ قالَ: ((اللَّهُ أكْثَرُ)).
فَمِثْلُ هَذا الدُّعاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ المَغْفِرَةُ، وإذا لَمْ تَحْصُلْ فَلا بُدَّ أنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ فَهُوَ نافِعٌ كَما يَنْفَعُ كُلُّ دُعاءٍ.
وقَوْلُ مَن قالَ مِن العُلَماءِ: الِاسْتِغْفارُ مَعَ الإصْرارِ تَوْبَةُ الكَذّابِينَ،
فَهَذا إذا كانَ المُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلى وجْهِ التَّوْبَةِ أوْ يَدَّعِي أنَّ اسْتِغْفارَهُ تَوْبَةٌ، وأنَّهُ تائِبٌ بِهَذا الِاسْتِغْفارِ، فَلا رَيْبَ أنَّهُ مَعَ الإصْرارِ لا يَكُونُ تائِبًا، فَإنَّ التَّوْبَةَ والإصْرارَ ضِدّانِ: الإصْرارُ يُضادُّ التَّوْبَةَ، لَكِنْ لا يُضادُّ الِاسْتِغْفارَ بِدُونِ التَّوْبَةِ.
وقَوْلُ القائِلِ:
هَلْ الِاعْتِرافُ بِالذَّنْبِ المُعَيَّنِ يُوجِبُ دَفْعَ ما حَصَلَ بِذُنُوبِ مُتَعَدِّدَةٍ أمْ لا بُدَّ مِن اسْتِحْضارِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ؟
فَجَوابُ هَذا مَبْنِيٌّ عَلى أُصُولٍ:
(أحَدُها): أنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِن ذَنْبٍ مَعَ الإصْرارِ عَلى ذَنْبٍ آخَرَ، إذا كانَ المُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِن أحَدِهِما أقْوى مِن المُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِن الآخَرِ أوْ كانَ المانِعُ مِن أحَدِهِما أشَدَّ،
وهَذا هُوَ القَوْلُ المَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ والخَلَفِ.
وذَهَبَ طائِفَةٌ مِن – أهْلِ الكَلامِ كَأبِي هاشِمٍ – إلى أنَّ التَّوْبَةَ لا تَصِحُّ مِن قَبِيحٍ مَعَ الإصْرارِ عَلى الآخَرِ،
قالُوا: لِأنَّ الباعِثَ عَلى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً، والخَشْيَةُ مانِعَةٌ مِن جَمِيعِ الذُّنُوبِ لا مِن بَعْضِها … .
وما ذَكَرُوهُ: مِن أنَّ الخَشْيَةَ تُوجِبُ العُمُومَ.
فَجَوابُهُ: أنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ قُبْحَ أحَدِ الذَّنْبَيْنِ دُونَ الآخَرِ، وإنَّما يَتُوبُ مِمّا يَعْلَمُ قُبْحَهُ. و (أيْضًا) فَقَدْ يَعْلَمُ قُبْحَها ولَكِنَّ هَواهُ يَغْلِبُهُ فِي أحَدِهِما دُونَ الآخَرِ، فَيَتُوبُ مِن هَذا دُونَ ذاكَ، كَمَن أدّى بَعْضَ الواجِباتِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنهُ.
ولَكِنَّ المُعْتَزِلَةَ لَهُمْ أصْلٌ فاسِدٌ وافَقُوا فِيهِ الخَوارِجَ فِي الحُكْمِ وإنْ خالَفُوهُمْ فِي الِاسْمِ، فَقالُوا: إنّ أصْحابَ الكَبائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النّارِ ولا يَخْرُجُونَ مِنها بِشَفاعَةِ ولا غَيْرِها وعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الواحِدُ مِمَّنْ يُعاقِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُثِيبُهُ؛ ولِهَذا يَقُولُونَ: بِحُبُوطِ جَمِيعِ الحَسَناتِ بِالكَبِيرَةِ.
وأمّا الصَّحابَةُ وأهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فَعَلى أنَّ أهْلَ الكَبائِرِ يَخْرُجُونَ مِن النّارِ ويُشْفَعُ فِيهِمْ، وأنَّ الكَبِيرَةَ الواحِدَةَ لا تُحْبِطُ جَمِيعَ الحَسَناتِ؛ ولَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ ما يُقابِلُها عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ السُّنَّةِ ولا يُحْبِطُ جَمِيعَ الحَسَناتِ إلّا الكُفْرُ، كَما لا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئاتِ إلّا التَّوْبَةُ، فَصاحِبُ الكَبِيرَةِ إذا أتى بِحَسَناتِ يَبْتَغِي بِها رِضا اللَّهِ أثابَهُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ، وإنْ كانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ عَلى كَبِيرَتِهِ.
وكِتابُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ السّارِقِ والزّانِي وقِتالِ المُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وبَيْنَ حُكْمِ الكُفّارِ فِي «الأسْماءِ والأحْكامِ».
والسُّنَّةُ المُتَواتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وإجْماعُ الصَّحابَةِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ كَما هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
وعَلى هَذا تَنازَعَ النّاسُ فِي قَوْلِهِ: {إنّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} فَعَلى قَوْلِ الخَوارِجِ والمُعْتَزِلَةِ لا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلّا مِمَّنْ اتَّقاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَاتِ كَبِيرَةً، وعِنْدَ المُرْجِئَةِ إنّما يَتَقَبَّلُ مِمَّنْ اتَّقى الشِّرْكَ فَجَعَلُوا أهْلَ الكَبائِرِ داخِلِينَ فِي اسْمِ «المُتَّقِينَ»،
وعِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ: يُتَقَبَّلُ العَمَلُ مِمَّنْ اتَّقى اللَّهَ فِيهِ، فَعَمِلَهُ خالِصًا لِلَّهِ مُوافِقًا لِأمْرِ اللَّهِ، فَمَن اتَّقاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنهُ، وإنْ كانَ عاصِيًا فِي غَيْرِهِ.
ومَن لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنهُ وإنْ كانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ.
والتَّوْبَةُ مِن بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ، كَفِعْلِ بَعْضِ الحَسَناتِ المَامُورِ بِها دُونَ بَعْضٍ، إذا لَمْ يَكُنْ المَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ المَفْعُولِ، كالإيمانِ المَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِن الأعْمالِ؛ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: {ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} وقالَ تَعالى: {ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ} وقالَ: {ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
(الأصْلُ الثّانِي): أنَّ مَن لَهُ ذُنُوبٌ فَتابَ مِن بَعْضِها دُونَ بَعْضٍ، فَإنَّ التَّوْبَةَ إنّما تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ ما تابَ مِنهُ، أمّا ما لَمْ يَتُبْ مِنهُ فَهُوَ باقٍ فِيهِ عَلى حُكْمِ مَن لَمْ يَتُبْ، لا عَلى حُكْمِ مَن تابَ،
وما عَلِمْت فِي هَذا نِزاعًا إلّا فِي الكافِرِ إذا أسْلَمَ فَإنَّ إسْلامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِن الكُفْرِ، فَيُغْفَرُ لَهُ بِالإسْلامِ الكُفْرُ الَّذِي تابَ مِنهُ،
وهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَها فِي حالِ الكُفْرِ ولَمْ يَتُبْ مِنها فِي الإسْلامِ؟
هَذا فِيهِ قَوْلانِ مَعْرُوفانِ … .
ومَعْلُومٌ أنَّ التَّوْبَةَ إنّما تُوجِبُ مَغْفِرَةَ ما تابَ مِنهُ، لا تُوجِبُ التَّوْبَةُ غُفْرانَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ.
(الأصْلُ الثّالِثُ): أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ ذُنُوبًا فَيَتُوبُ مِنها، وقَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً لا يَسْتَحْضِرُ مَعَها ذُنُوبَهُ لَكِنْ إذا كانَتْ نِيَّتُهُ التَّوْبَةَ العامَّةَ، فَهِيَ تَتَناوَلُ كُلَّ ما يَراهُ ذَنْبًا؛ لِأنَّ “التَّوْبَةَ العامَّةَ” تَتَضَمَّنُ عَزْمًا عامًّا بِفِعْلِ المَامُورِ وتَرْكِ المَحْظُورِ، وكَذَلِكَ تَتَضَمَّنُ نَدَمًا عامًّا عَلى كُلِّ مَحْظُورٍ.
و «النَّدَمُ» سَواءٌ قِيلَ: إنّهُ مِن بابِ الِاعْتِقاداتِ أوْ مِن بابِ الإراداتِ أوْ قِيلَ: إنّهُ مِن بابِ الآلامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ ما يَضُرُّها؛ فَإذا اسْتَشْعَرَ القَلْبُ أنَّهُ فَعَلَ ما يَضُرُّهُ حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كانَ مِن السَّيِّئاتِ، وهَذا مِن بابِ الِاعْتِقاداتِ، وكَراهِيَةٌ لِما كانَ فَعَلَهُ، وهُوَ مِن جِنْسِ الإراداتِ؛ وحَصَلَ لَهُ أذًى وغَمٌّ لِما كانَ فَعَلَهُ؛ وهَذا مِن بابِ الآلامِ كالغُمُومِ والأحْزانِ كَما أنَّ الفَرَحَ والسُّرُورَ هُوَ مِن بابِ اللَّذّاتِ لَيْسَ هُوَ مِن بابِ الِاعْتِقاداتِ والإراداتِ …
فاَلَّذِي يُبْغِضُ الذَّنْبَ ولا يَفْعَلُهُ لا يَنْدَمُ، واَلَّذِي لا يُبْغِضُهُ لا يَنْدَمُ عَلى فِعْلِهِ، فَإذا فَعَلَهُ وعَرَفَ أنَّ هَذا مِمّا يُبْغِضُهُ ويَضُرُّهُ نَدِمَ عَلى فِعْلِهِ إيّاهُ؛ وفِي المُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّهُ قالَ: {النَّدَمُ تَوْبَةٌ}.
إذا تَبَيَّنَ هَذا، فَمَن تابَ تَوْبَةً عامَّةً كانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرانِ الذُّنُوبِ كُلِّها، وإنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أعْيانَ الذُّنُوبِ إلّا أنْ يُعارِضَ هَذا العامَّ مُعارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ، مِثْلُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنهُ؛ لِقُوَّةِ إرادَتِهِ إيّاهُ أوْ لِاعْتِقادِهِ أنَّهُ حَسَنٌ لَيْسَ بِقَبِيحِ، فَما كانَ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّوْبَةِ، وأمّا ما كانَ لَوْ حَضَرَ بِعَيْنِهِ لَكانَ مِمّا يَتُوبُ مِنهُ فَإنَّ التَّوْبَةَ العامَّةَ شامِلَتُهُ.
وأمّا «التَّوْبَةُ المُطْلَقَةُ»: وهِيَ أنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً، ولا تُسْتَلْزَمُ التَّوْبَةُ مِن كُلِّ ذَنْبٍ،
فَهَذِهِ لا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الذُّنُوبِ فِيها، ولا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كاللَّفْظِ المُطْلَقِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرانِ المُعَيَّنِ. كَما تَصْلُحُ أنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرانِ الجَمِيعِ؛ بِخِلافِ العامَّةِ فَإنَّها مُقْتَضِيَةٌ لِلْغُفْرانِ العامِّ كَما تَناوَلَتْ الذُّنُوبَ تَناوُلًا عامًّا.
وكَثِيرٌ مِن النّاسِ لا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلّا بَعْضَ المُتَّصِفاتِ بِالفاحِشَةِ أوْ مُقَدِّماتِها أوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسانِ أوْ اليَدِ، وقَدْ يَكُونُ ما تَرَكَهُ مِن المَامُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي باطِنِهِ وظاهِرِهِ مِن شُعَبِ الإيمانِ وحَقائِقِهِ أعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمّا فَعَلَهُ مِن بَعْضِ الفَواحِشِ، فَإنَّ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِن حَقائِقِ الإيمانِ الَّتِي بِها يَصِيرُ العَبْدُ مِن المُؤْمِنِينَ حَقًّا أعْظَمَ نَفْعًا مِن نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظّاهِرَةِ كَحُبِّ اللَّهِ ورَسُولِهِ؛ فَإنَّ هَذا أعْظَمُ الحَسَناتِ الفِعْلِيَّةِ حَتّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أنَّهُ كانَ عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – رَجُلٌ يُدْعى حِمارًا، وكانَ يَشْرَبُ الخَمْرَ وكانَ كُلَّما أُتِيَ بِهِ إلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – جَلَدَهُ الحَدَّ، فَلَمّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنهُ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً، فَأمَرَ بِجَلْدِهِ، فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، فَقالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَلْعَنْهُ فَإنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ)). فَنَهى عَنْ لَعْنِهِ مَعَ إصْرارِهِ عَلى الشُّرْبِ؛ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ مَعَ أنَّهُ – صلى الله عليه وسلم – لَعَنَ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: ((لَعَنَ الخَمْرَ وعاصِرَها ومُعْتَصِرَها وشارِبَها وساقِيَها وحامِلَها والمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وبائِعَها ومُبْتاعَها وآكِلَ ثَمَنِها)). ولَكِنَّ لَعْنَ المُطْلَقِ لا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ المُعَيَّنِ الَّذِي قامَ بِهِ ما يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ، وكَذَلِكَ «التَّكْفِيرُ المُطْلَقُ» و «الوَعِيدُ المُطْلَقُ» …
وحِينَئِذٍ فَأيُّ ذَنْبٍ تابَ مِنهُ ارْتَفَعَ مُوجِبُهُ، وما لَمْ يَتُبْ مِنهُ فَلَهُ حُكْمُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنها، فالشِّدَّةُ إذا حَصَلَتْ بِذُنُوبِ، وتابَ مِن بَعْضِها خُفِّفَ مِنهُ بِقَدْرِ ما تابَ مِنهُ بِخِلافِ ما لَمْ يَتُبْ مِنهُ؛ بِخِلافِ صاحِبِ التَّوْبَةِ العامَّةِ.
والنّاسُ فِي غالِب أحْوالِهِمْ لا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عامَّةً مَعَ حاجَتِهِمْ إلى ذَلِكَ فَإنَّ التَّوْبَةَ واجِبَةٌ عَلى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حالٍ؛ لِأنَّهُ دائِمًا يَظْهَرُ لَهُ ما فَرَّطَ فِيهِ مِن تَرْكِ مَامُورٍ أوْ ما اعْتَدى فِيهِ مِن فِعْلِ مَحْظُورٍ فَعَلَيْهِ أنْ يَتُوبَ دائِمًا. واَللَّهُ أعْلَمُ. [مجموع الفتاوى (10/ 318 وما بعدها)، بتصرف].
(المسألة الثالثة):
“الاعتراف بالذنب، وأن الاعتراف بالذنب لله عز وجل ليس من المجاهرة؛ لقوله: ((أعترف بذنبي))، أما الذي يعترف بالذنب عند الناس فهذا من المجاهرة؛ ولهذا جاء في الحديث: ((كل أمتى معافى إلا المجاهرون))؛ الذي يفعل الذنب في السر وقد ستره الله، ثم يصبح يحدث به الناس هذا مجاهر”. [فتح ذي الجلال للشيخ ابن عثيمين، (6/ 490)].
(المسألة الرابعة): الفتاوي
[1] س: إذا أذنب الإنسان واستغفر، وأذنب واستغفر، وهكذا يأخذ فترة لا يعود إلى الذنب وبعد فترة يعود، فهذا ماذا حكمه؟ وشكرا.
ج: إذا استغفر الله وتاب إليه توبة نصوحا وأقلع عن الذنب تاب الله عليه وغفر له، فإذا عاد إلى الذنب ثم استغفر وتاب توبة نصوحا وأقلع عن الذنب – تاب الله عليه وغفر له، وهكذا، ولا يعود إثم الذنب الماضي بعد التوبة الصادقة منه، قال الله تعالى: {وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى}، وقال: {إنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغْفِرَةِ}.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … نائب الرئيس … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد الله بن غديان … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن عبد الله بن باز [السؤال الثاني من الفتوى رقم ((7825))، فتاوى اللجنة الدائمة – 1].
[2] س: إنني رجل أعزب، فكنت أزني وأتسلى بلعب الورق، وفي يوم من الأيام فكرت، ثم نويت التوبة، حيث صليت ركعتين في أحد المساجد ثم ضرعت إلى الله تعالى أن يقبل توبتي، ولكن بعد مدة ومع مرور الأيام واستمرار الأصدقاء والجماعة في لعب الورق أمامي استطاع الشيطان أعوذ بالله منه أن يرجعني في لعب الورق، فنقضت توبتي، ولعبت الورق، أما الزنا فلم أعد له حتى الآن، وحتى دائما إن شاء الله، ومن كرم الله وفضله في هذه الأيام عزمت على تجديد التوبة بالنسبة للعب الورق الذي سبق وأن نقضت توبتي بشأنه، وإني جددت التوبة فعلا، فما هي كفارة نقض التوبة؟ وهل يمكن لي تجديدها بعدما نقضتها؟ أفتوني جزاكم الله خير الجزاء. علما بأني الآن أشعر بالمرارة وعدم الارتياح بسبب نقضي لتوبتي آنف الذكر.
ج: للتوبة من معصية الله سبحانه وتعالى ثلاثة شروط: الاعتراف بالذنب، والندم على الفعل، والعزم على أن لا يعود إليه، وإذا كانت من حقوق المخلوقين فيجب شرط رابع، وهو استباحة المخلوق من حقه إذا كان يتعذر رد حقه، وإذا كان لا يتعذر رده فإنه يرده إليه إلا أن يسمح عنه.
فالتوبة التي صدرت منك هي توبة من معصية الله جل وعلا،
فإذا كانت الشروط المتقدمة متوفرة، فالتوبة صحيحة، وعليك أن تتوب أيضا من رجوعك إلى لعب الورق، وأن تستغفر الله من النقض الذي حصل منك، والله جل وعلا غفور رحيم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … نائب الرئيس … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن عبد الله بن باز [السؤال الثاني من الفتوى رقم ((2307))، فتاوى اللجنة الدائمة – 1].
[3] س: أنا رجل كنت في صغري متعلقا بتعاليم الدين الحنيف، مؤديا للصلاة والقيام وبقية أركان الإسلام، حتى أن انتهيت من دراسة الكفاءة المتوسطة، ثم التحقت بالقوات الجوية وألحقت في بعثة للولايات المتحدة الأمريكية، وعند وصولي لأمريكا وجدت أن كل شيء يختلف عن بلادنا الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف، فسرت في طريق السوء واتباع الخبائث، وبعد مدة توقفت عن فعل كل هذا، ورجعت إلى الوطن المسلم، لم أكن أؤدي أيا من أركان الإسلام، وبعد ذلك رجعت إلى طريق الصواب، ولكني في بعض الأحيان أسلك الطريق الصواب، ثم أعود إلى الطريق الخبيث، والآن والحمد لله على الطريق الصواب والحق، وإنني خائف من عذاب ذي الجلال والإكرام، وإنني أستغفر الله على ما فعلته من شر؛ لذا أرجو فتواي ونصيحتي إلى الطريق الصحيح، وما هي الطريقة التي يجب أن أتبع لكي لا أنحرف أبدا عن تعاليم الشريعة الإسلامية؟ جزاكم الله كل خير.
ج: أولا: اعلم أن التوبة الصادقة التي يرجى قبولها وأن يبدل الله بها سيئات من جاء بها حسنات هي: المشتملة على الصدق في التوبة، والإقلاع من الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العود فيه، ورد ما كان من حق الإنسان إليه، أو استحلاله منه، إذا تيسر ذلك، فإذا تحقق ذلك العمل فنرجو أن يعفو الله عنك، وأن يغفر لك ما مضى من ذنبك.
ثانيا: الطريقة السليمة هي: الاستقامة على شرع الله بفعل ما استطعت من أوامره سبحانه، وأوامر رسوله – صلى الله عليه وسلم -، والكف عما نهى الله عنه ورسوله؛ رجاء ثوابه وخوف عقابه، والإكثار من فعل نوافل العبادات، صلاة وصدقة وتلاوة لكتابه سبحانه، وتجنبا لمجالسة من قد يجر لسوء من الناس، عسى الله أن يمن علينا وعليك بالاستقامة على شرعه، والوفاة وهو عنا راض، إنه سبحانه وتعالى حسبنا ونعم الوكيل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … نائب الرئيس … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد الله بن غديان … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن عبد الله بن باز [الفتوى رقم ((6254))، فتاوى اللجنة الدائمة – 1].