2751 – 2756 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في صحيح مسلم،
(4) – بابٌ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى وأنَّها سَبَقَتْ غَضَبَهُ
(14) – ((2751)) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا المُغِيرَةُ يَعْنِي الحِزامِيَّ، عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «لَمّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي».
(15) – ((2751)) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي».
(16) – ((2751)) حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أخْبَرَنا أبُو ضَمْرَةَ، عَنِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطاءِ بْنِ مِيناءَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لَمّا قَضى اللهُ الخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتابِهِ عَلى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي».
(17) – ((2752)) حَدَّثَنا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيى التُّجِيبِيُّ، أخْبَرَنا ابْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، أنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ، أخْبَرَهُ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وتِسْعِينَ وأنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا واحِدًا، فَمِن ذَلِكَ الجُزْءِ تَتَراحَمُ الخَلائِقُ، حَتّى تَرْفَعَ الدّابَّةُ حافِرَها عَنْ ولَدِها، خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ».
(18) – ((2752)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أيُّوبَ، وقُتَيْبَةُ، وابْنُ حُجْرٍ، قالُوا: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنِ العَلاءِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «خَلَقَ اللهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ واحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ وخَبَأ عِنْدَهُ مِائَةً إلّا واحِدَةً»
(19) – ((2752)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا عَبْدُ المَلِكِ، عَنْ عَطاءٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «إنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أنْزَلَ مِنها رَحْمَةً واحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ والإنْسِ والبَهائِمِ والهَوامِّ، فَبِها يَتَعاطَفُونَ، وبِها يَتَراحَمُونَ، وبِها تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلى ولَدِها، وأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِها عِبادَهُ يَوْمَ القِيامَةِ»
(20) – ((2753)) حَدَّثَنِي الحَكَمُ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ مُعاذٍ، حَدَّثَنا سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنا أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنها رَحْمَةٌ بِها يَتَراحَمُ الخَلْقُ بَيْنَهُمْ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ لِيَوْمِ القِيامَةِ»،
(20) – وحَدَّثَناهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى، حَدَّثَنا المُعْتَمِرُ، عَنْ أبِيهِ بِهَذا الإسْنادِ.
(21) – ((2753)) حَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، عَنْ داوُدَ بْنِ أبِي هِنْدٍ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ سَلْمانَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِباقَ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَجَعَلَ مِنها فِي الأرْضِ رَحْمَةً، فَبِها تَعْطِفُ الوالِدَةُ عَلى ولَدِها، والوَحْشُ والطَّيْرُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أكْمَلَها بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ».
(22) – ((2754)) حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الحُلْوانِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ – واللَّفْظُ لِحَسَنٍ – حَدَّثَنا ابْنُ أبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنا أبُو غَسّانَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، أنَّهُ قالَ: قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – بِسَبْيٍ فَإذا امْرَأةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي، إذا وجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أخَذَتْهُ فَألْصَقَتْهُ بِبَطْنِها وأرْضَعَتْهُ، فَقالَ لَنا رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «أتَرَوْنَ هَذِهِ المَرْأةَ طارِحَةً ولَدَها فِي النّارِ؟» قُلْنا: لا، واللهِ وهِيَ تَقْدِرُ عَلى أنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِبادِهِ مِن هَذِهِ بِوَلَدِها».
(23) – ((2755)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أيُّوبَ، وقُتَيْبَةُ، وابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ – قالَ: ابْنُ أيُّوبَ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ – أخْبَرَنِي العَلاءُ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ ما عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ، ما طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أحَدٌ، ولَوْ يَعْلَمُ الكافِرُ ما عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، ما قَنَطَ مِن جَنَّتِهِ أحَدٌ»
(24) – ((2756)) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقِ بْنِ بِنْتِ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنا رَوْحٌ، حَدَّثَنا مالِكٌ، عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «قالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ، لِأهْلِهِ: إذا ماتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ ونِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَو اللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا لا يُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، فَلَمّا ماتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا ما أمَرَهُمْ، فَأمَرَ اللهُ البَرَّ فَجَمَعَ ما فِيهِ، وأمَرَ البَحْرَ فَجَمَعَ ما فِيهِ، ثُمَّ قالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذا؟ قالَ: مِن خَشْيَتِكَ، يا رَبِّ وأنْتَ أعْلَمُ، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ»
(25) – ((2756)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ – قالَ عَبْدٌ: أخْبَرَنا، وقالَ ابْنُ رافِعٍ واللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنا – عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، قالَ: قالَ لِي الزُّهْرِيُّ: ألا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ؟ قالَ الزُّهْرِيُّ: أخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «أسْرَفَ رَجُلٌ عَلى نَفْسِهِ، فَلَمّا حَضَرَهُ المَوْتُ أوْصى بَنِيهِ فَقالَ: إذا أنا مُتُّ فَأحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي البَحْرِ، فَواللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذابًا ما عَذَّبَهُ بِهِ أحَدًا، قالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقالَ لِلْأرْضِ: أدِّي ما أخَذْتِ، فَإذا هُوَ قائِمٌ، فَقالَ لَهُ: ما حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ؟ فَقالَ: خَشْيَتُكَ، يا رَبِّ – أوْ قالَ مَخافَتُكَ – فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ»
((2619)) قالَ الزُّهْرِيُّ: وحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «دَخَلَتِ امْرَأةٌ النّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْها، فَلا هِيَ أطْعَمَتْها، ولا هِيَ أرْسَلَتْها تَاكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ، حَتّى ماتَتْ هَزْلًا» قالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ، لِئَلّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، ولا يَيْأسَ رَجُلٌ،
(26) – ((2756)) حَدَّثَنِي أبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، قالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «أسْرَفَ عَبْدٌ عَلى نَفْسِهِ» بِنَحْوِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، إلى قَوْلِهِ «فَغَفَرَ اللهُ لَهُ» ولَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ المَرْأةِ فِي قِصَّةِ الهِرَّةِ، وفِي حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ قالَ: «فَقالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، لِكُلِّ شَيْءٍ أخَذَ مِنهُ شَيْئًا: أدِّ ما أخَذْتَ مِنهُ»
(27) – ((2757)) حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الغافِرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، «أنَّ رَجُلًا فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، راشَهُ اللهُ مالًا ووَلَدًا، فَقالَ لِوَلَدِهِ: لَتَفْعَلُنَّ ما آمُرُكُمْ بِهِ أوْ لَأُوَلِّيَنَّ مِيراثِي غَيْرَكُمْ، إذا أنا مُتُّ، فَأحْرِقُونِي – وأكْثَرُ عِلْمِي أنَّهُ قالَ – ثُمَّ اسْحَقُونِي، واذْرُونِي فِي الرِّيحِ، فَإنِّي لَمْ أبْتَهِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وإنَّ اللهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أنْ يُعَذِّبَنِي، قالَ: فَأخَذَ مِنهُمْ مِيثاقًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، ورَبِّي، فَقالَ اللهُ: ما حَمَلَكَ عَلى ما فَعَلْتَ؟ فَقالَ: مَخافَتُكَ، قالَ فَما تَلافاهُ غَيْرُها»،
(28) – ((2757)) وحَدَّثَناهُ يَحْيى بْنُ حَبِيبٍ الحارِثِيُّ، حَدَّثَنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ، قالَ: قالَ لِي أبِي: حَدَّثَنا قَتادَةُ، ح وحَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا شَيْبانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ح وحَدَّثَنا ابْنُ المُثَنّى، حَدَّثَنا أبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا أبُو عَوانَةَ، كِلاهُما عَنْ قَتادَةَ ذَكَرُوا جَمِيعًا بِإسْنادِ شُعْبَةَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، وفِي حَدِيثِ شَيْبانَ وأبِي عَوانَةَ، «أنَّ رَجُلًا مِنَ النّاسِ رَغَسَهُ اللهُ مالًا ووَلَدًا» وفِي حَدِيثِ التَّيْمِيِّ «فَإنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا» قالَ: فَسَّرَها قَتادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وفِي حَدِيثِ شَيْبانَ: «فَإنَّهُ، واللهِ ما ابْتَأرَ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا» وفِي حَدِيثِ أبِي عَوانَةَ «ما امْتَأرَ» بِالمِيمِ.
==========
التمهيد:
” يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} [الأعراف (156)]
ولا يشك مسلم في سعة رحمة الله ولا يشك مؤمن أن رحمة الله محيطة بالإنسان في كل لحظة من لحظاته، من حين كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم رضيعا ثم فطيما ثم … ثم … إلخ، ولكن هذه المجموعة من الأحاديث تذكر من لا يتذكر {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات (55)] فتزيدهم إيمانا وثقة ويقينا وعبرة ودفعا إلى الخيرات والطاعات
بدأت هذه المجموعة بأن رحمة الله تعالى بعباده ثابتة ثبوت المكتوب في لوح لا تبديل فيه ولا تغيير عند مالك الملك وخالق الكون الذي إذا قال فعل، والذي لا يتخلف عنده ما وعد وما كتب.
وقد كتب فيما كتب إن رحمتي تغلب غضبي وتغطي عليه وتسبقه، وهي كثيرة شاملة لم أنزل منها للخلائق في الأرض إلا جزءا واحدا من مائة جزء من هذا الجزء؛ تتراحم المخلوقات الإنسان والحيوان والطير والهوام، أما التسعة والتسعون جزءا فهي لي أرحم بها في الدنيا وأرحم بها في الآخرة.
ويؤكد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا المعنى ويرسخه في نفوس أصحابه ليبعث في نفوسهم الرجاء بعد أن رآهم وقد غلب عليهم الخوف حين يرى امرأة من السبي حانية على أطفال غيرها تحتضنهم وتضمهم إلى صدرها وترضعهم من ثديها، فيقول لهم انظروا إلى هذه المرأة هل ترونها وهي بهذه الرحمة تؤذي طفلا من الأطفال أو تحرقه بالنار؟ قالوا لا قال: هل ترون أنه لو كان ابنها هو الذي في أحضانها أتظنون أنها تلقي به في النار مهما كانت الأسباب قالوا لا والله ما تلقي به في النار باختيارها أبدا قال فإن الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها.
ويزيد – صلى الله عليه وسلم – هذه البشرى وسرورا فيحكي لهم قصة رجل كان قبلنا في بني إسرائيل … وهو يعلم أن الحساب قريب وهو مقدم عليه إنه فعل من الشر ما لم يفعله أحد فقال لأبنائه إن الله سيعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين … الحديث.
[وهذه القصة] ساقه – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه لئلا يقنطوا من رحمة الله و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف (87)] “.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((4)) – (بابٌ فِي بَيانِ سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تَعالَي، وأنَّها سَبَقَتْ غَضَبَهُ)
[(6944)] ((2751)) (كَتَبَ)؛ أي: كتابة حقيقيّة، لا مجازيّة، ودليل هذا رواية الترمذيّ وابن ماجة بلفظ: «كتب ربكم على نفسه بيده … » الحديث الصحيحة (1629)، فإنه ظاهر في أنه كَتَبه – سُبْحانَهُ وتَعالى – بيده، كما صحّ أنه كَتَب التوراة لموسى بيده، وقد قدّمنا غير مرّة أن الحقّ أن لله – سُبْحانَهُ وتَعالى – يدًا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في الأحاديث الصحاح، كهذا الحديث وغيره،
أما ما ذكره في «الفتح» في «كتاب بدء الخلق»، وفي «كتاب التوحيد» في شرح هذا الحديث من التأويلات الزائفة المخالفة لطريق السلف فمما يجب الحذر عنه.
(فِي كِتابِهِ) يَحْتَمِل أن يكون المراد: اللوح المحفوظ، ويحْتَمل أن يكون كتابًا آخر مختصًّا بهذا الأمر؛ تنويهًا بشأنه، ورفعًا لقدره. (فَهُوَ)؛ أي: ذلك الكتاب (عِنْدَهُ) – سُبْحانَهُ وتَعالى – عنديّة حقيقيّة على ظاهر اللفظ، على مراد الله تعالى دون أن نؤوله، وقوله: (فَوْقَ العَرْشِ) صفة لـ «كتابه»، أو حال منه، قال في «الفتحِ»: وقيل: إن فوق هنا بمعنى: دون، كما جاء في قوله تعالى: {بَعُوضَةً فَما فَوْقَها} [البقرة (26)]، وهو بعيد. انتهى [«الفتح» (17) / (409)، «كتاب التوحيد» رقم ((7422))].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: تفسير «فوق» في هذا الحديث بـ «دون» غير صحيح، وكذا تفسير ابن حبّان في «صحيحه» له بـ «تحت» حيث قال: قوله: «فوق العرش» من ألفاظ الأضداد التي تستعمل العرب في لغتها، يريد به: تحت العرش، لا فوقه، كقوله جلَّ وعلا: {وكانَ وراءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف (79)] يريد به: أمامهم؛ إذ لو كان وراءهم لكانوا قد جاوزوه، ونظير هذا قوله جلَّ وعلا: {إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها} [البقرة (26)] أراد به: فما دونها. انتهى كلامه [«صحيح ابن حبان» (14) / (12)]، غير صحيح أيضًا، فالأسلم ما ذهب إليه السلف، فإنهم يُثْبتون ما صحّ في الحديث على ظاهره، على مراد الله تعالي، دون تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى (11)]، فاسلك سبيلهم تَسْلم، وتَغْنم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال الخطابي: المراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه، كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي} [المجادلة (21)]؛ أي: قضى ذلك، قال: ويكون معنى قوله: «فوق العرش»؛ أي: عنده علم ذلك، فهو لا ينساه، ولا يُبدله، كقوله تعالى: {فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى} [طه (52)]، وإما اللوح المحفوظ الذي فيه ذِكر أصناف الخلق، وبيان أمورهم، وآجالهم، وأرزاقهم، وأحوالهم، ويكون معنى: «فهو عنده فوق العرش»؛ أي: ذِكره، وعلمه …. [«الفتح» (17) / (409)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: مضمون كلام الخطابيّ المذكور أنه ينفي أن يكون فوق العرش كتاب؛ حيث تأول الكتاب بعلم الله تعالى، وهذا غير صحيح، بل الحقّ أن الله تعالى كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش.
وأجاد صاحب «المرعاة» حيث قال بعد ذكر كلام الخطّابيّ المذكور: قلت: هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا به، ونفينا عنه التكييف؛ إذ ليس كمثله شيء، فالأولى، بل المتعيَّن إمراره على ظاهره، كما جاء من غير تصرف فيه. انتهى [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (166)].
وسيأتي لبعض المحقِّقين مزيد ردّ على الخطابيّ – إن شاء الله تعالى -.
وأما ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة فهو على النقيض من قول الخطّابيّ، فإنه أثبت أن فوق العرش كتابًا، وهو مما اقتضته حكمته، وقدرته، ولكن من المنكَر في كلامه قوله: وقد يكون تفسيرًا لقوله: {الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ((5))} إلخ، فإن ذلك يقتضي أن إضافة الاستواء إلى الله – عَزَّوَجَلَّ – مجازٌ، وأن المراد به كون ذلك فوق العرش، فيؤُول معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ((5))} إلى معنى: كتابه على العرش استوي، وهذا ظاهر الفساد، فإنه تحريف للكلم عن مواضعه. انتهى كلام الشيخ البرّاك [راجع: كتابة الشيخ البرّاك على هامش «الفتح» (17) / (409) – (410)]، وهو تعقّب سديد، وتحقيقٌ مفيد، والله تعالى أعلم.
(إنَّ رَحْمَتي) بكسر الهمزة، وتفتح، فالكسر على أنّها ابتداء كلام، يحكي مضمون الكتاب، والفتح على أنّها مفعول «كَتَبَ»، وفي الرواية التالية: «سبقت رحمتي غضبي»، والمراد بالسبق هو الغلبة.
قيل: المعنى: أن تعلّق الرحمة غالبٌ سابقٌ على تعلّق الغضب؛ لأنّ الرحمة مقتضى ذاته المقدّسة، وأما الغضب فإنه متوقّف على سابق عمل من العبد.
وقيل: معنى الغلبة: الكثرة والشمول، تقول: غلب على فلان الكرم؛ أي: أكثر أفعاله، وهذا كلّه بناءٌ على أنّ الرحمة والغضب من صفات الذات، وهو الحقّ، وقال بعض العلماء: الرحمة والغضب من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدّم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم – عَلَيْهِ السَّلامْ – الجنّة أولّ ما خُلق مثلًا
وقال في «اللمعات»: وذلك لأنّ آثار رحمة الله وجُوده وإنعامه عمَّت المخلوقات كلها، وهي غير متناهية، بخلاف أثر الغضب، فإنه ظاهر في بعض بني آدم بعض الوجوه، كما قال تعالى: {وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَ} [النحل (18)]، وقال: {عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَن أشاءُ ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف (156)]، وأيضًا تهاون العباد، وتقصيرهم في أداء شكر نعمائه تعالى أكثر من أن يُعَدّ ويحصي، {ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّه النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ} [النحل (61)]، فمن رحمته أن يبقيهم، ويرزقهم، ويُنعّمهم بالظاهر، ولا يؤاخذهم بهذا في الدنيا، وظهور رحمته في الآخرة قد تكفل ببيانه الحديث الآتي: «إن لله مائة رحمة …
وفيه: وأخّر تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة»، فإذن لا شك في أن رحمته تعالى سابقة وغالبة على غضبه. انتهى [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (166)].
وقال السنديّ – رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: «كتب على نفسه» يدلّ على أنّه ساق هذا الكلام على أنّه وعَدَ بأنه سيُعامل بالرحمة ما لا يُعامل بالغضب، لا أنه إخبار عن صفة الرحمة والغضب بأن الأُولى دون الثانية؛ لأنّ صفاته كلها كاملة عظيمة، ولأن ما فَعَلَ من آثار الأُولى فيما سبق أكثر مما فَعَل من آثار الثانية.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هكذا قرّر السنديّ، لكن فيه ما المانع من كون الأولى دون الثانية، كما دلّ عليه ظاهر السياق، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال: ولا يُشكل هذا الحديث بما جاء أن الواحد من الألف يدخل الجَنَّة، والبقيّة النار:
إمّا لأنه يعامل بمقتضى الرحمة، ولا يُعامل بمقتضى الغضب، كما قال تعالى: {مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها} [الأنعام (160)]، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية [البقرة (261)]، وقال: {إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر (10)].
وإمّا لأنّ مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب، فإن الملائكة كلهم مظاهر الرحمة، وهم أكثر خلق الله، وكذا ما خلق الله في الجَنَّة من الحور والوالدان وغير ذلك. انتهى [«حاشية السنديّ على النسائيّ» (1) / (123)]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
فوائد وفقه الحديث:
(1) – (منها): بيان سعة رحمة الله تعالى، وهو كقوله – عَزَّوَجَلَّ -: {ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الآية [الأعراف (156)].
(2) – (ومنها): بيان إثبات صفة الكتابة، واليد، والرحمة، والغضب، على ما يليق بجلاله – سُبْحانَهُ وتَعالى -، ولا التفات إلى من فسّر الغضب باللازم، فقال: هو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، كما مشى عليه في «الفتح» وغيره؛
لأنّ ذلك من التأويلات التي مشى عليها المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم، وهو مخالف لهدي السلف، فإن مذهبهم التمسك بظواهر الكتاب والسُّنَّة، فصفة الغضب ثابتةٌ لله تعالى كسائر صفاته، من المحبة، والرضا، والضحك، وغير ذلك على ما يليق بجلاله – سُبْحانَهُ وتَعالى -، فعليك بمذهب السلف تسلم، وتغنم، والله تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم.
(3) – (ومنها): بيان إثبات كتابة الأمور في الأزل، وأن الله – سُبْحانَهُ وتَعالى – عَلِم الأشياء وكَتَبها قبل أن يخلقها، فهي تكون على مقتضى ذلك، دون زيادة أو نقص.
(4) – (ومنها): هذا الحديث من أدلّة أهل السُّنَّة على علوّ الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وهو يدلّ كذلك على أنّ الكتاب الذي كتبه كتب فيه على نفسه أن رحمته تغلب غضبه، وهو عنده فوق العرش، وهذه العنديّة عنديّة مكان؛ لقوله: «فوق العرش»، وهذا الكتاب يَحْتَمِل أن يكون هو اللوح المحفوظ الذي هو أمّ الكتاب، وهو كتاب المقادير، ويَحْتَمِل أن يكون غيره، فهو كتاب خاصّ، والله أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6947)] ((2752))
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهابٍ) محمد بن مسلمة الزهريّ (أنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّب أخْبَرَهُ؛ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه – (قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ:» جَعَلَ اللهُ الرَّحمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ) قال النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -: هكذا وقع في نُسخ بلادنا جميعًا: «جعل الله الرحمة مائة جزء»، وذكر القاضي: «جعل الله الرُّحْم»، بحذف الهاء، وبضم الراء، قال: ورويناه بضم الراء، ويجوز فتحها، ومعناه: الرحمة. انتهى [«شرح النوويّ» (7) / (69) – (70)].
وفي رواية للبخاريّ: «إن الله خلق الرحمة مائة رحمة»، قال في «العمدة»: أي: الرحمة التي جعلها في عباده وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته – عَزَّوَجَلَّ -،
وقال القرطبيّ: يجوز أن يكون معنى «خَلَق»: اخترع، وأوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قَدَّر، وقد ورد «خَلَق» بمعنى قدّر في لغة العرب، فيكون المعنى: أن الله أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض.
وقوله: «كلُّ رحمة تَسَعُ طباق الأرض» المراد بها التعظيم، والتكثير، وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرًا [» الفتح «(13) / (543) رقم ((6000))].
(فَأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وتِسْعِينَ) زاد في رواية للبخاريّ: «جزءًا»، وفي رواية: «وأخَّر عنده تسعة وتسعين رحمة»، وفي رواية العلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة الآتية هنا: «وخبأ عنده مائة إلّا واحدة».
(وأنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا واحِدًا) وفي رواية المقبريّ: «وأرسل في خلقه كلّهم رحمة»،
وفي رواية عطاء: «أنزل منها رحمة واحدة بين الجنّ، والإنس، والبهائم»، وفي حديث سلمان: «فجعل منها في الأرض واحدة»، قال القرطبيّ: هذا نصّ في أن الرحمة يراد بها متعلّق الإرادة، لا نفس الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم [» الفتح” (13) / (543) رقم ((6000))].
(فَمِن ذَلِكَ الجُزْءِ تَتَراحَمُ الخَلائِقُ، حَتّى تَرْفَعَ الدّابَّةُ حافِرَها عَنْ ولَدِها؛ خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ). وفي رواية عطاء:» فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها «، وفي حديث سلمان:» فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش، والطير بعضها على بعض.
قال الحافظ: أن الرحمة رحمتان: رحمة من صفة الذات، وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل، وهي المشار إليها هنا،، وزاد في حديث سلمان: «أنه يكملها يوم القيامة مائة» بالرحمة التي في الدنيا، فتعدد الرحمة بالنسبة للخلق.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في فوائده:
(1) – (منها): بيان سعة رحمة الله – سُبْحانَهُ وتَعالى -.
(2) – (ومنها): بيان عدد أقسام الرحمة، وأنه مائة جزء، والحقّ أنه لا يَعلم حكمة التجزئة إلى هذا العدد إلّا من أخبر بذلك، فالسلامة الإيمان به والتسليم.
(3) – (ومنها): أن الرحمة المنقسمة إلى هذا العدد هي الرحمة الفعليّة التابعة لمشيئته – سُبْحانَهُ وتَعالى -، فإنها مخلوقة قابلة للتقسيم، وأما الرحمة التي هي من صفات ذاته – سُبْحانَهُ وتَعالى -، فإنها صفة قائمة به، لا تتجزّأ.
قال الشيخ البرّاك – حفظه الله تعالى -: دلّت النصوص من الكتاب والسُّنَة على أنّ الرحمة المضافة إلى الله تعالى رحمتان:
إحداهما: هي صفته، وصفاته تعالى غير مخلوقة، وإضافتها إليه تعالى من إضافة الصفة إلى الموصوف، كما قال تعالى عن نبيّ الله سليمان – عَلَيْهِ السَّلامْ -: {وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} [النمل (19)]، وقال تعالى: {ورَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف (58)]، وقال تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهذان الاسمان
متضمّنان صفة الرحمة، فاسمه الرَّحمن يدلّ على الرحمة الذاتيّة التي لَمْ يزل، ولا يزال موصوفًا بها، واسمه الرحيم يدلّ على الرحمة الفعليّة التابعة لمشيئته – سُبْحانَهُ وتَعالى -، كما قال تعالى: {إنْ يَشَا يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء (54)]، وقال تعالى: {ويَرْحَمُ مَن يَشاءُ} [العنكبوت (21)].
وأهل السُّنَّة والجماعة يُثبتون الرحمة لله تعالى صفة قائمة به، والمعطّلة، ومن تبعهم ينفون حقيقة الرحمة عن الله تعالى، ومنهم الأشاعرة، ويؤوّلونها بالإرادة، أو النعمة.
والرحمة الأخرى مما يضاف إليه تعالى:
هي رحمة مخلوقة، وإضافتها إليه هي إضافة مخلوق إلى خالقه، ومن شواهدها قول الله تعالى: {فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم (50)]، وقوله تعالى: {وأمّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ((107))}
[آل عمران (107)]، وقوله – للجنّة – كما في الحديث القدسيّ: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء».
والرحمة المذكورة في حديث الباب هي الرحمة المخلوقة، وهي التي جعلها الله – عَزَّوَجَلَّ – في مائة جزء، والرحمة المخلوقة في الدنيا والآخرة هي أثر الرحمة التي هي صفته، ومقتضاها. انتهى كلام البرّاك [راجع: هامش «الفتح» (13) / (544) – (545)]، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًا، والله تعالى أعلم.
(4) – (ومنها): ما قاله النوويّ – رَحِمَهُ اللهَ -: هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء، والبشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار الإسلام، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به، فكيف الظن بمائة رحمة في الدار الآخرة، وهي دار القرار، ودار الجزاء، والله أعلم.
(5) – (ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة – رَحِمَهُ اللهُ -: في الحديث إدخال السرور
على المؤمنين؛ لأنّ العادة أن النفس يكمل فرحها بما وُهب لها إذا كان معلومًا مما يكون موعودًا. انتهى.
(6) – (ومنها): وفيه الحثّ على الإيمان، واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدّخرة للمؤمن في الآخرة، وسيأتي في حديث أبي هريرة الآتي في الباب: «ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنّته أحد»، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6953)] ((2754)) – (وأرْضَعَتْهُ) قال في «الفتح»: كذا للجميع، ولمسلم، وحُذف منه شيء بيَّنته رواية الاسماعيليّ، ولفظه: «إذا وجدت صبيًّا أخذته، فأرضعته، فوجدت صبيًّا، فأخذته، فألزمته بطنها»، وعُرف من سياقه أنّها كانت فقدت صبيّها، وتضررت باجتماع اللبن في ثديها، فكانت إذا وجدت صبيًّا أرضعته؛ ليخفّ عنها، فلما وجدت صبيّها بعينه أخذته، فالتزمته، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الصبيّ، ولا على اسم أمه. انتهى [«الفتح» (13) / (541)].
(أرْحَمُ بِعِبادِهِ)؛ أي: المؤمنين، أو مطلقًا، (مِن هَذِهِ) المرأة (بِوَلَدِها») قال في «الفتح»: كأن المراد بالعباد هنا: من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد، والحاكم، والبزار ورجالهم رجال الصحيح، من حديث أنس – رضي الله عنه -، قال: مَرّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في نفر من الصحابة، وصبيّ على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعي، وتقول: ابني ابني، وسَعَتْ فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: «ولا اللهُ بطارح حبيبه في النار» ((صححه في أنيس الساري))، فالتعبير بحبيبه يُخرج الكافر، وكذا من شاء إدخاله ممن لَمْ يَتُبْ من مرتكبي الكبائر.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العباد عامّ، ومعناه خاصّ بالمؤمنين، وهو كقوله تعالى: {ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف (156)]، فهي عامة من جهة الصلاحية، وخاصة بمن كُتبت له، ثم ذكر ابن أبي جمرة احتمال تعميمه حتى في الحيوانات، ورجحه العينيّ، حيث قال: والظاهر أنّها على العموم لمن سبق له منها نصيب من أيّ العباد كان، حتى الحيوانات على ما ورد في حديث أبي هريرة: «وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق». انتهى من «الفتح» بزيادة من «المرعاة» [«الفتح» (13) / (541)، و «مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (189)]، والله تعالى أعلم.
وحديث عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – هذا متَّفقٌ عليه.
فوائد وفقه الحديث:
(1) – (منها): بيان شدّة رحمة الله تعالى، ورأفته بعباده.
(2) – (ومنها): أن فيه إشارةً إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله تعالى وحده، وأن كُلّ من فُرض أن فيه رحمة ما يُقصد لأجلها، فالله – سُبْحانَهُ وتَعالى – أرحم منه، فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة.
(3) – (ومنها): أن فيه ضربَ المثل بما يُدرَك بالحواش لِما لا يُدرك بها؛ لتحصيل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضُرب له المثل لا يحاط بحقيقته؛ لأنّ رحمة الله لا تُدرك بالعقل، ومع ذلك فقرَّبها النبيّ – صلى الله عليه وسلم – للسامعين بحال المرأة المذكورة.
(4) – (ومنها): جواز النظر إلى النساء المسبيّات؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لَمْ يَنْه عن النظر إلى المرأة المذكورة، بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها.
(5) – (ومنها): جواز ارتكاب أخف الضررين؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لم ينه المرأة عن إرضاع الأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم، فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لمّا كانت حالة الإرضاع ناجزةً، وما يُخشى من المحرمية مُتَوَهَّمٌ اغتُفْر.
(6) – (ومنها): أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وقد يُستدلّ به على عكس ذلك، فأما الأول فمن جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى الإرضاع في تلك الحالة ما تركها النبيّ – صلى الله عليه وسلم – تُرضع أحدًا منهم، وأما الثاني وهو أقوي، فلأنه أقرّها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة، قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. انتهى [» الفتح” (13) / (541)]، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6954)] ((2755)) –
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه -؛ (أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ)
قال الطيبيّ: الحديث في بيان صفتي القهر والرحمة لله تعالى، فكما أن صفات الله تعالى غير متناهية لا يبلغ كُنه معرفتها أحد، كذلك عقوبته ورحمته، فلو فُرض أن المؤمن وقف على كُنه صفته القهارية لَظَهر منها ما يقنط من ذلك الخواطر، فلا يطمع بجنته أحد، وهذا معنى وضع «أحد» موضع ضمير «المؤمن»، ويجوز أن يراد بالمؤمن الجنس على سبيل الاستغراق، فالتقدير: أحد منهم، ويجوز أن يكون المعنى على وجه آخر، وهو أن المؤمن قد اختص بأن يطمع في الجَنَّة، فإذا انتفى الطمع منه، فقد انتفى عن الكل، وكذلك الكافر مختص بالقنوط، فإذا انتفى القنوط عنه، فقد انتفى عن الكل.
وورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته؛ كيلا يغترّ مؤمن برحمته، فيأمَن من عذابه، ولا ييأس كافر من رحمته، ويترك بابه.
وحاصل الحديث: أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف بمطالعة صفات الجمال تارةً، وبملاحظة نعوت الجلال أخري، كذا في «المرقاة» [«المرقاة» (5) / (251)].
وقد ذكر البخاريّ هذا الحديث مع حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الماضي: «جعل الرحمة مائة جزء … » الحديث، ولفظه: من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لَمْ ييأس من الجَنَّة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لَمْ يأمن من النار». انتهى [«صحيح البخاريّ» (5) / (2374)].
قال في «الفتح»: قوله: «فلو يعلم الكافر»
قيل: في الجملة الأُولى نوع إشكال، فإن الجَنَّة لَمْ تُخلق للكافر، ولا طَمَع له فيها، فغير مستبعَد أن يطمع في الجَنَّة من لا يعتقد كُفْر نفسه، فيُشكل ترتب الجواب على ما قبله.
وأجيب بأن هذه الكلمة سيقت لترغيب المؤمن في سعة رحمة الله التي لو علمها الكافر الذي كُتب عليه أنه يختم عليه أنه لا حظ له في الرحمة لتطاول إليها، ولم ييأس منها، إما بإيمانه المشروط، وإما لِقَطْع نَظَره عن الشرط مع تيقنه بأنه على الباطل، واستمراره عليه عنادًا، وإذا كان ذلك حال الكافر، فكيف لا يطمع فيها المؤمن الذي هداه الله للإيمان؟ [«الفتح» (11) / (202).]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متَّفق عليه.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان سعة رحمة الله – سُبْحانَهُ وتَعالى -، بحيث إنه لو يعلم الكافر به حقيقة لَما قنط من الجنّة، وقد ورد أن إبليس يتطاول للشفاعة لِما يرى يوم القيامة من سعة الرحمة، أخرجه الطبرانيّ في «الأوسط»، من حديث جابر، ومن حديث حذيفة، وسند كلّ منهما ضعيف [«الفتح» (11) / (202)].
(2) – (ومنها): بيان شدّة عقوبة الله – عَزَّوَجَلَّ -، بحيث إن المؤمن لو علم بحقيقته، لَما طمع في الجنّة، وقريب من هذا الحديث حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الآخر، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «لَمّا خلق الله الجَنَّة والنار، أرسل جبريل إلى الجَنَّة، فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاء، فنظر إليها، وإلى ما أعدَّ الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلّا دخلها، فأمر بها، فحُفّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها، فإذا هي قد حُفّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، وقال: اذهب إلى النار، فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد، فيدخلها، فأمر بها، فحُفّت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد، إلّا دخلها»، رواه أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) – (ومنها): أن الكرمانيّ – رَحِمَهُ اللهَ – تكلّم هنا على «لو» بما حاصله: أنّها هنا
لانتفاء الثاني، وهو الرجاء لانتفاء الأول، وهو العلم، فأشبهت: لو جئتني أكرمتك، وليست لانتفاء الأول لانتفاء الثاني، كما بحثه ابن الحاجب في قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} [الأنبياء (22)] والعلم عند الله، قال: والمقصود من الحديث: أن المكلَّف ينبغي له أن يكون بين الخوف والرجاء، حتى لا يكون مُفَرِّطًا في الرجاء، بحيث يصير من المرجئة القائلين: لا يضرّ مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث لا يكون من الخوارج، والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة في النار، بل يكون وسطًا بينهما، كما قال الله تعالى: {ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ} [الإسراء (57)]، ومن تتبع دين الإسلام وجد قواعده أصولًا وفروعًا كلها في جانب الوسط، والله أعلم.
(4) – (ومنها): أن الحديث قد اشتمل على الوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف، فمن عَلِم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه، والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه، لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته، ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه، وذلك باعث على مجانبة السيئة، ولو كانت صغيرة، وملازمة الطاعة، ولو كانت قليلة، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
____
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى):
“وكرر إيذانًا بثبوت الوصف، وحصول أثره، وتعلقه بمتعلقاته.
فالرحمن الذي الرحمة وصفه، والرحيم: الراحم لعباده؛ ولهذا يقول تعالى: {وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}،ولم يجئ رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين، مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به … فبناء فعلان للسعة والشمول. ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرًا كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى}؛لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: {ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}،وفي الصحيح من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش: ((إن رحمتي تغلب غضبي»،وفي لفظ: «فهو عنده على العرش».
فتأملْ اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عنده على العرش، وطابقْ بين ذلك وبين قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى}، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا}، ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهيم”. [عقيدة المسلم في ضوء الكتاب والسنة – القحطاني].
(المسألة الثانية): صفة الغضب:
قال ابن عثيمين: “الغضب: الغضب من صفات الله الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
قال الله تعالى فيمن قتل مؤمنا متعمدا: {وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ} [النساء (93)].
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب كتابا عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي» متفق عليه (0).
وأجمع السلف على ثبوت الغضب لله فيجب إثباته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وهو غضب حقيقي يليق بالله.
وفسره أهل التعطيل بالانتقام ونرد عليهم بما سبق في القاعدة الرابعة وبوجه رابع أن الله تعالى غاير بين الغضب والانتقام فقال تعالى: {فَلَمّا آسَفُونا} [الزخرف (55)].
أي: أغضبونا.
{انتَقَمْنا مِنهُمْ} [الزخرف (55)].
فجعل الانتقام نتيجة للغضب فدل على أنه غيره. “. [تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين (56)].
(المسألة الثالثة): “إطلاق النفس على الله
“بوب له البخاري -رحمه الله- بقوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} آل عمران (30)، واستدل بآية {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} المائدة (116)، والنفس في هذه النصوص يراد بها الله – سبحانه وتعالى – ولا يقصد ذات منفكة عن الصفات.
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في أول كتاب التوحيد: فأول ما نبدأ به من صفات الله خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه، جل ربنا عن أن تكون نفسه كنفس خلقه، وعز أن يكون عدمًا لا نفس له. قال تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة} الأنعام (54). فأعلمنا ربنا أن له نفسًا كتب عليها الرحمة. [كتاب التوحيد ((1) / (11))]
والآيات والأحاديث في إطلاق النفس على الله تبارك وتعالى كثيرة فمن القرآن:
قوله تعالى: {واصطنعتك لنفسي} طه (41)، وقوله {كتب ربكم على نفسه الرحمة} الأنعام (54)، وقوله {ويحذركم الله نفسه} آل عمران (30)، وقوله {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} المائدة (116).
ومن الأحاديث: الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) رواه البخاري. [رواه البخاري ح ((6970))].
وحديث مسلم «قال عليه الصلاة والسلام لجويرية -رضي الله عنها-: قد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بهنّ لوزنتهنّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضى نفسه وزنة عرشه [مسلم ح ((2627))]».
وفي حديث البخاري، قال عليه السلام: “ لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو واضع عنده على العرش (إن رحمتي تغلب غضبي) [البخاري ح ((3022))] ”.
وقد أورد البخاري حديثًا في الباب هو: ” ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله” فطريق هذا الحديث ليس فيه ذكر النفس، لكنه تقدم في كتاب التفسير من طريق آخر في تفسير سورة الأنعام وفيه: “ولا شيء أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه”. [البخاري ح ((4358))]
وقال الحافظ رحمه الله: فذكر النفس ثابت في هذا الحديث وإن كان لم يقع في هذا الطريق، لكنه أشار إليه كعادته، فإنه -رحمه الله- كثيرًا ما يترجم ببعض ما ورد في طرق الحديث الذي يورده.
قال ابن خزيمة -رحمه الله- فالله جل وعلا أثبت في آي كتابه أن له نفسًا، وكذلك قد بين على لسان نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن له نفسًا، كما أثبت النفس في كتابه، وكفرت الجهمية بهذه الآي وهذه السنن وزعم بعض جهلتهم أن الله تعالى إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه وزعم أن نفسه غيره كما أن خلقه غيره، وهذا لا يتوهمه ذو لب وعلم فضلًا عن يتكلم به. [التوحيد (1) / (19)]
وهذا واضح البطلان – أعني زعم الجهمية- الذين يزعمون أن الله لا يوصف بالضمير، وهو منفي عن الله كما نقل ذلك عنهم الإمام الدارمي -رحمه الله- حين رد على بشر المريسي، فقال: وادعى المعارض أن الله لا يوصف بالضمير والضمير منفي عن الله، وهي كلمة خبيثة قديمة من كلام جهم، عارض بها قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} المائدة (76)، يدفع بذلك أن يكون الله تعالى سبق له علم في نفسه من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم.
قال أبو سعيد: «وقول جهم هذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق، ثم قال -رحمه الله- فإذا اجتمع قول الله وقول الرسولين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم فمن يكترث لقول جهم والمريسي وأصحابهما؟ فنفس الله هو الله والنفس مجمع الصفات كلها، فإذا نفيت النفس نفيت الصفات، وإذا نفيت الصفات كان لا شيء [عقائد السلف صـ (550) – (552)]».
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: «نفسه ذاته وهذا وإن كان قد حصل من حيث اللفظ مضاف ومضاف إليه يقتضي المغايرة وإثبات شيئين من حيث العبارة فلا شيء من حيث المعنى سواه سبحانه عن الأثنوية من كل وجه [مفردات الأصفهاني صـ (511)]».
ونقل الحافظ -رحمه الله- عن ابن بطال في هذه الآيات والأحاديث إثبات النفس لله تعالى، وللنفس معانٍ والمراد بنفس الله تعالى ذاته وليس بأمر مزيد عليه، فوجب أن يكون هو [الفتح (13) / (384)]»
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: «إن هذه المواضع المراد منها بلفظ النفس عند جمهور العلماء الله نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، وليس المراد بها ذاتًا منفكة عن الصفات ولا المراد بها صفة للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات كما تظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات وكلا القولين خطأ [الفتاوى (9) / (292) – (293)]».
فبان أن البخاري -رحمه الله- يرى جواز إطلاق النفس على الله من باب الإخبار وليس من باب التسمية ومعلوم أن باب الإطلاق والإخبار أوسع من باب التسمية، فأوردها مصدرًا لها بالآية الصريحة {ويحذركم الله نفسه} آل عمران (30). [مسائل العقيدة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري].
(المسألة الرابعة):
“فإن مَن لم يفطن إلى سعة رحمة الله – عز وجل – لن يخرج عن نوعين:
1 – إمَّا إنسان يرى أن ذنوبه أكبر، وأخطر من أن تُغفَر فوكَل نفسه إلى عقله القاصِر عن إدراك رحمة الله – عز وجل -، وقد أخبرنا بها نبينا – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الصحيحين؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قال رجل لم يعمل خيرًا قط لأهله: … ))، وفي رواية: ((أسرف رجل على نفسه، فلمَّا حضره الموت أوصى بنِيه إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلمَّا مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: لِمَ فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له)).
رحمة الله واسعة، وفضله عظيم، لكن يوم يعرف العبد أن رحمة الله واسعة وفضله عظيم، فهذا علم أن له ربًّا وخافَه ولم يعرف الطريق إليه أو سعة رحمة الله، فكان تصرُّفه هذا.
2 – ونوع آخر اصطدم بمَن يقطِّبون عن جبينهم، وظنُّوا أنهم بعباداتهم صاروا يحكمون على عباد الله، وقد أخبرنا رسولنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن مثل هذه النوعية؛ فعن أبي هريرة – رضِي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين؛ أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول: مذنب، فجعل يقول: أقصر أقصر عمَّا أنت فيه، قال: فيقول: خلِّني وربي، قال: حتى وجده يومًا على ذنبٍ استعظمه، فقال: أقصر، فقال: خلِّني وربي، أبُعِثتَ علينا رقيبًا؟! فقال: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الله الجنة أبدًا، قال: فبعث الله إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي، فقال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار))، قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلَّم بكلمة أوَبْقَت دنياه وآخرته؛ أبو داود وأحمد وصحَّحه الألباني”. [سعة رحمة الله تعالى بعبادة]
(المسألة الخامسة):
من رحمة الله ستر الذنوب في الدنيا وغفرانها في الآخرة:
• عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((إن الله – عز وجل – يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها))؛ أخرجه مسلم.
• عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((كل بني آدم خطاء وخير الخطَّائين التوَّابون))؛ الترمذي.
- عن أبي هريرة: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يقول الله – عز وجل -: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ هم خيرٌ منهم، وإن تقرَّب إلي شبرًا، تقرَّبت إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)).
• عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)).
• وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة))؛ رواه البخاري.
• وعن الأغر بن يسار المزني – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة))؛ رواه مسلم. [سعة رحمة الله تعالى بعبادة]===
===
===
تكملة ((4) – بابٌ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى وأنَّها سَبَقَتْ غَضَبَهُ) من صحيح مسلم، قال الإمام مسلم رحمه الله:
(23) – ((2755)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أيُّوبَ، وقُتَيْبَةُ، وابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ – قالَ: ابْنُ أيُّوبَ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ – أخْبَرَنِي العَلاءُ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ ما عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ، ما طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أحَدٌ، ولَوْ يَعْلَمُ الكافِرُ ما عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، ما قَنَطَ مِن جَنَّتِهِ أحَدٌ»
(24) – ((2756)) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقِ بْنِ بِنْتِ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنا رَوْحٌ، حَدَّثَنا مالِكٌ، عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «قالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ، لِأهْلِهِ: إذا ماتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ ونِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَو اللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا لا يُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، فَلَمّا ماتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا ما أمَرَهُمْ، فَأمَرَ اللهُ البَرَّ فَجَمَعَ ما فِيهِ، وأمَرَ البَحْرَ فَجَمَعَ ما فِيهِ، ثُمَّ قالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذا؟ قالَ: مِن خَشْيَتِكَ، يا رَبِّ وأنْتَ أعْلَمُ، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ»
(25) – ((2756)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ – قالَ عَبْدٌ: أخْبَرَنا، وقالَ ابْنُ رافِعٍ واللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنا – عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، قالَ: قالَ لِي الزُّهْرِيُّ: ألا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ؟ قالَ الزُّهْرِيُّ: أخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «أسْرَفَ رَجُلٌ عَلى نَفْسِهِ، فَلَمّا حَضَرَهُ المَوْتُ أوْصى بَنِيهِ فَقالَ: إذا أنا مُتُّ فَأحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي البَحْرِ، فَواللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذابًا ما عَذَّبَهُ بِهِ أحَدًا، قالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقالَ لِلْأرْضِ: أدِّي ما أخَذْتِ، فَإذا هُوَ قائِمٌ، فَقالَ لَهُ: ما حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ؟ فَقالَ: خَشْيَتُكَ، يا رَبِّ – أوْ قالَ مَخافَتُكَ – فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ»
((2619)) قالَ الزُّهْرِيُّ: وحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «دَخَلَتِ امْرَأةٌ النّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْها، فَلا هِيَ أطْعَمَتْها، ولا هِيَ أرْسَلَتْها تَاكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ، حَتّى ماتَتْ هَزْلًا» قالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ، لِئَلّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، ولا يَيْأسَ رَجُلٌ،
(26) – ((2756)) حَدَّثَنِي أبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، قالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «أسْرَفَ عَبْدٌ عَلى نَفْسِهِ» بِنَحْوِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، إلى قَوْلِهِ «فَغَفَرَ اللهُ لَهُ» ولَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ المَرْأةِ فِي قِصَّةِ الهِرَّةِ، وفِي حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ قالَ: «فَقالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، لِكُلِّ شَيْءٍ أخَذَ مِنهُ شَيْئًا: أدِّ ما أخَذْتَ مِنهُ»
(27) – ((2757)) حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الغافِرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، «أنَّ رَجُلًا فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، راشَهُ اللهُ مالًا ووَلَدًا، فَقالَ لِوَلَدِهِ: لَتَفْعَلُنَّ ما آمُرُكُمْ بِهِ أوْ لَأُوَلِّيَنَّ مِيراثِي غَيْرَكُمْ، إذا أنا مُتُّ، فَأحْرِقُونِي – وأكْثَرُ عِلْمِي أنَّهُ قالَ – ثُمَّ اسْحَقُونِي، واذْرُونِي فِي الرِّيحِ، فَإنِّي لَمْ أبْتَهِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وإنَّ اللهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أنْ يُعَذِّبَنِي، قالَ: فَأخَذَ مِنهُمْ مِيثاقًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، ورَبِّي، فَقالَ اللهُ: ما حَمَلَكَ عَلى ما فَعَلْتَ؟ فَقالَ: مَخافَتُكَ، قالَ فَما تَلافاهُ غَيْرُها»،
(28) – ((2757)) وحَدَّثَناهُ يَحْيى بْنُ حَبِيبٍ الحارِثِيُّ، حَدَّثَنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ، قالَ: قالَ لِي أبِي: حَدَّثَنا قَتادَةُ، ح وحَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ مُوسى، حَدَّثَنا شَيْبانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ح وحَدَّثَنا ابْنُ المُثَنّى، حَدَّثَنا أبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا أبُو عَوانَةَ، كِلاهُما عَنْ قَتادَةَ ذَكَرُوا جَمِيعًا بِإسْنادِ شُعْبَةَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، وفِي حَدِيثِ شَيْبانَ وأبِي عَوانَةَ، «أنَّ رَجُلًا مِنَ النّاسِ رَغَسَهُ اللهُ مالًا ووَلَدًا» وفِي حَدِيثِ التَّيْمِيِّ «فَإنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا» قالَ: فَسَّرَها قَتادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وفِي حَدِيثِ شَيْبانَ: «فَإنَّهُ، واللهِ ما ابْتَأرَ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا» وفِي حَدِيثِ أبِي عَوانَةَ «ما امْتَأرَ» بِالمِيمِ.
==========
التمهيد:
” يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} [الأعراف (156)]
ولا يشك مسلم في سعة رحمة الله ولا يشك مؤمن أن رحمة الله محيطة بالإنسان في كل لحظة من لحظاته، من حين كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم رضيعا ثم فطيما ثم … ثم … إلخ، ولكن هذه المجموعة من الأحاديث تذكر من لا يتذكر {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات (55)] فتزيدهم إيمانا وثقة ويقينا وعبرة ودفعا إلى الخيرات والطاعات
بدأت هذه المجموعة بأن رحمة الله تعالى بعباده ثابتة ثبوت المكتوب في لوح لا تبديل فيه ولا تغيير عند مالك الملك وخالق الكون الذي إذا قال فعل، والذي لا يتخلف عنده ما وعد وما كتب.
وقد كتب فيما كتب إن رحمتي تغلب غضبي وتغطي عليه وتسبقه، وهي كثيرة شاملة لم أنزل منها للخلائق في الأرض إلا جزءا واحدا من مائة جزء من هذا الجزء؛ تتراحم المخلوقات الإنسان والحيوان والطير والهوام، أما التسعة والتسعون جزءا فهي لي أرحم بها في الدنيا وأرحم بها في الآخرة.
ويؤكد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا المعنى ويرسخه في نفوس أصحابه ليبعث في نفوسهم الرجاء بعد أن رآهم وقد غلب عليهم الخوف حين يرى امرأة من السبي حانية على أطفال غيرها تحتضنهم وتضمهم إلى صدرها وترضعهم من ثديها، فيقول لهم انظروا إلى هذه المرأة هل ترونها وهي بهذه الرحمة تؤذي طفلا من الأطفال أو تحرقه بالنار؟ قالوا لا قال: هل ترون أنه لو كان ابنها هو الذي في أحضانها أتظنون أنها تلقي به في النار مهما كانت الأسباب قالوا لا والله ما تلقي به في النار باختيارها أبدا قال فإن الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها.
ويزيد – صلى الله عليه وسلم – هذه البشرى وسرورا فيحكي لهم قصة رجل كان قبلنا في بني إسرائيل … ، وهو يعلم أن الحساب قريب وهو مقدم عليه إنه فعل من الشر ما لم يفعله أحد فقال لأبنائه إن الله سيعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين … الحديث.
[وهذه القصة] ساقه – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه لئلا يقنطوا من رحمة الله و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف (87)] “.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
[(6954)] ((2755)) – شرح الحديث
ورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته؛ كيلا يغترّ مؤمن برحمته، فيأمَن من عذابه، ولا ييأس كافر من رحمته، ويترك بابه.
وحاصل الحديث: أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف بمطالعة صفات الجمال تارةً، وبملاحظة نعوت الجلال أخرى، كذا في «المرقاة» [«المرقاة» (5) / (251)].
وقال في «اللمعات»: سياق الحديث لبيان صفتي اللطف والرحمة والغضب، وعدم بلوغ أحد إلى كنههما، فلو عَلِم المؤمنون الذين هم مظاهر رحمة الله ما عند الله من القهر ما طمع أحد منهم الجَنَّة، وكذا في الكافرين، وهذا مقصود آخر لا ينافي سَبْق رحمته على غضبه بالمعنى الذي سبق. انتهى [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (174)].
وقد ذكر البخاريّ هذا الحديث مع حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الماضي: «جعل الرحمة مائة جزء … » الحديث، ولفظه: من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لَمْ ييأس من الجَنَّة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لَمْ يأمن من النار». انتهى [«صحيح البخاريّ» (5) / (2374)].
قال في «الفتح»:.
قيل: في الجملة الأُولى نوع إشكال، فإن الجَنَّة لَمْ تُخلق للكافر
وأجيب بأن هذه الكلمة سيقت لترغيب المؤمن في سعة رحمة الله التي لو علمها الكافر الذي كُتب عليه أنه يختم عليه أنه لا حظ له في الرحمة لتطاول إليها، ولم ييأس منها [«الفتح» (11) / (202).]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متَّفق عليه.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان سعة رحمة الله – سُبْحانَهُ وتَعالى -، بحيث إنه لو يعلم الكافر به حقيقة لَما قنط من الجنّة [«الفتح» (11) / (202)].
(2) – (ومنها): بيان شدّة عقوبة الله – عَزَّوَجَلَّ -، بحيث إن المؤمن لو علم بحقيقته، لَما طمع في الجنّة، وقريب من هذا الحديث حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الآخر، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «لَمّا خلق الله الجَنَّة والنار، أرسل جبريل إلى الجَنَّة، فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاء، فنظر إليها، وإلى ما أعدَّ الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلّا دخلها، فأمر بها، فحُفّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها، فإذا هي قد حُفّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، وقال: اذهب إلى النار، فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد، فيدخلها، فأمر بها، فحُفّت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد، إلّا دخلها»، رواه أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح. وهو في الصحيح المسند 1400
(3) – (ومنها): أن الكرمانيّ – رَحِمَهُ اللهَ – قال: والمقصود من الحديث: أن المكلَّف ينبغي له أن يكون بين الخوف والرجاء، حتى لا يكون مُفَرِّطًا في الرجاء، بحيث يصير من المرجئة القائلين: لا يضرّ مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث لا يكون من الخوارج، والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة في النار، بل يكون وسطًا بينهما، كما قال الله تعالى: {ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ} [الإسراء (57)]، ومن تتبع دين الإسلام وجد قواعده أصولًا وفروعًا كلها في جانب الوسط، والله أعلم.
(4) – (ومنها): أن الحديث قد اشتمل على الوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف، وذلك باعث على مجانبة السيئة، ولو كانت صغيرة، وملازمة الطاعة، ولو كانت قليلة، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
======
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6955)] ((2756)) –
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه -؛ (أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ:» قالَ رَجُلٌ)؛ أي: ممن كان قبلنا، ففي حديث أبي سعيد الخدريّ: «أن رجلًا كان قبلكم رزقه الله مالًا»، وفي رواية له: «ذكر رجلًا فيمن سلف، أو فيمن كان قبلكم»، وصرح في حديث حذيفة، وأبي مسعود عند الطبرانيّ أنّه كان من بني إسرائيل، ولذلك أورد البخاريّ حديث أبي سعيد، وحذيفة، وأبي هريرة في ذِكر بني إسرائيل،
قيل: اسم هذا الرجل جهينة، فقد أخرج أبو عوانة في «صحيحه» من حديث حذيفة، عن أبي بكر الصديق أن الرجل المذكور في حديث الباب هو آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة … قاله في «الفتح» [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (178)].
وقوله: (لَمْ يَعْمَلْ) صفة «رجلٌ» (حَسَنَةً قَطُّ) ولفظ البخاريّ: «خيرًا قط»؛ أي: عملًا صالحًا بعد الإسلام، قال الباجيّ: ظاهر أن العمل ما يتعلق بالجوارح …. يُحمل هذا الحديث على أنّه اعتقد الإيمان، ولكنه لم يأت من شرائعه بشيء، فلما حضره الموت خاف تفريطه، فأمر أهله أن يحرقوه. انتهى.
قال المباركفوريّ: وقع في رواية أحمد (2) / (304): «كان رجل ممن كان قبلكم، لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد»، وهكذا وقع استثناء التوحيد في حديث ابن مسعود أيضًا عن أحمد (1) / (398)، ورواية الباب وإن لم يذكر فيها هذا الاستثناء صريحًا لكنها كالصريح في ذِكره؛ لإطباق الروايات على ذِكر خشيته، وخوفه من عذابه، وغفرانه تعالى. انتهى [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (178)].
وفي رواية» أسرف رجل على نفسه «؛ أي: بالغ في فعل المعاصي، وهذا لفظ مسلم، وللبخاريّ:» كان رجل يسرف على نفسه «، وفي حديث حذيفة عند البخاريّ:» إنه كان يسيء الظن بعمله «، وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين:» فإنّه لم يبتئر عند الله خيرًا «، وفسَّرها قتادة: لم يَدَّخِر، ووقع في آخر حديث حذيفة عند البخاريّ: قال عقبة بن عمرو أبو مسعود: وأنا سمعته – يعني: النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يقول ذلك، وكان نباشًا – أي: للقبور – يسرق أكفان الموتى، قال الحافظ: قوله:» وكان نباشًا «هو من رواية حذيفة، وأبي مسعود معًا، كما يدلّ عليه رواية ابن حبّان.
ووقع في رواية للطبراني بلفظ:» بينما حذيفة وأبو مسعود جالسين، فقال أحدهما: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن رجلًا من بني إسرائيل كان ينبش القبور».
وقوله: (لأهْلِهِ) متعلّق بـ «قال»، (إذا ماتَ فَحَرِّقُوهُ) بصيغة الأمر من التحريق، (فِي البَرِّ، ونِصْفَهُ فِي البَحْرِ) وفي حديث حذيفة: «إذا أنا مت، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى عظمي، فامتحشت، فخذوها، فاطحنوها، ثمَّ انظروا يومًا راحًا [أي: كثير الريح وشديده]، فاذروه في اليمّ … » الحديث.
وفي حديث أبي سعيد: «فإذا مت فاحرقوني: حتى إذا صرت فحمًا، فاسحقوني – أو قال -: فاسهكوني، ثمَّ إذا كان ريح عاصف، فاذروني فيها، فأخذ مواثيقهم على ذلك».
قال الباجيّ: وذلك على وجهين:
أحدهما: على وجه الفرار مع اعتقاده أنّه غير فائت، كما يفرّ الرجل أمام الأسد، مع اعتقاده أنّه لا يفوته سَبْقًا، ولكنه يفعل نهاية ما يمكنه فعله.
والوجه الثاني: أن يفعل هذا خوفًا من الباري تعالى، وتذللًا ورجاء أن يكون هذا سببًا إلى رحمته، ولعله كان مشروعًا في ملته. انتهى. [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (178)].
(فَو اللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ)
وقد استُشكل هذا الحديث؛
لأنّ صنيع الرجل، وقوله ظاهر في الشكّ في قدرة الله تعالى على البعث والإحياء، والشك في القَدَر كُفر، وقد قال في آخر الحديث: «خَشْيَتك، وغفر له»، والكافر لا يخشاه، ولا يُغفر له.
واختُلف في تأويله،
فقيل: إن «قدَر» بالتخفيف بمعنى ضَيّق، ومنه قوله تعالى: {ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق (7)] بالتخفيف، والتشديد، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: {فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء (87)]، والمعنى: لئن ضيَّق الله عليه، وناقشه في حساب.
وقيل: المعنى: لئن قَدَر عليه العذاب؛ أي: قضى، من قَدَر بالتخفيف، والتشديد، بمعنى واحد؛ أي: لئن قدر عليه أن يعذبه ليعذبنه،
ولكن هذا كالذي قبله معنى غير مناسب للسوق أصلًا، مع أنّه وقع في حديث معاوية بن حيدة عند أحمد (4) / (447) و (5) / (3)، (4): «ثمَّ اذروني في الريح، لعلي أضلّ الله – عز وجل»؛ أي: أغيب عنه، وأفوته، يقال: ضل الشيءُ: إذا فات وذهب، وهو كقوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي} [طه (52)]،
وهذا يدلّ على أن قوله: «لئن قدر الله عليه» على ظاهره، وأنه أراد التمنع بالتحريق من قدرة الله، ومع ذلك أخبر الصادق بغفرانه،
فلا بد من وجه يمكن القول بإيمانه،
فقيل: مقصود الرجل بهذه الوصية: إن فرقوا أجزائي في البرّ والبحر بحيث لا يكون هناك سبيل إلى جَمْعها، فيَحْتَمِل أنّه رأى أن جَمْعه حينئذٍ يكون مستحيلًا، والقدرة لا تتعلّق بالمستحيل، فلذلك قال: «فلئن قدر الله عليه»، فلا يلزم أنّه نفى القدرة، أو شك فيها، فصار بذلك كافرًا، فكيف يغفر له؟ وذلك أنّه ما نفى القدرة على ممكن، وإنما فَرَض غير المستحيل مستحيلًا فيما لم يثبت عنده أنّه ممكن من الدين بالضرورة، والكفر هو الأوّل لا الثاني.
وقيل: إن الرجل ظن أنّه إذا فعل هذا الصنيع تُرك فلم يُنْشَر، ولم يعذَّب،
وأما تلفّظه بقوله: «لئن قدر الله»، وبقوله: «فلعلي أضل الله» فلأنه كان جاهلًا بذلك.
وقد اختُلف في مثله، هل يكفر أم لا؟ بخلاف الجاحد للصفة.
قال الخطابيّ: إنه لم ينكر البعث، وإنما جهل، فظن أنّه إذا فُعل به ذلك لا يعاد، فلا يعذَّب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنّه إنما فعل ذلك من خشية الله.
وقيل: كان هذا الرجل موحّدًا مثبتًا للصانع، وكان في زمن الفترة حين ينفع مجرد التوحيد، ولم تبلغه شرائط الإيمان، ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح؛ لقوله تعالى: {وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء (15)].
وقيل: إنما وصى بذلك تحقيرًا لنفسه، وعقوبة لها بعصيانها، وإسرافها؛ رجاء أن يرحمه، فيغفر له، وهذا يؤيد أن قوله: «لئن قدر» بمعنى ضيّق،
وقيل: لقي من هول المطلع ما أدهشه، وسَلَب عقله، فلم يتمكن من تمهيد القول، وتخميره، فبادر بسَقْط من القول، وأخرج كلامه مخرجًا لم يعتقد حقيقته.
قال التوربشتيّ: وهذا أسلم الوجوه، وقال الطيبيّ: وهو كلام صدر عن غلبة حيرة، ودهشة، من غير تدبر في كلامه، كالغافل، والناسي، فلا يؤاخذ فيما قال، قال القاري: هذا هو الظاهر من الحديث كما سيأتي حيث قال تعالى: «لِمَ فعلت؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم».
وقيل: ذلك لا يؤاخذ عليه، وقال السنديّ: يَحْتَمِل أن شدة الخوف طيَّرت عقله، فما التفت إلى ما يقول، وما يفعل، وأنه هل ينفعه أم لا؟، كما هو المشاهَد في الواقع في مهلكة، فإنّه قد يتمسك بأدنى شيء لاحتمال أنّه لعله ينفعه؛ إذ هو فيما قال، وفَعَل في حُكْم المجنون. انتهى.
وجعل الحافظ هذا القول أظهر الأقوال، حيث قال: وأظهر الأقوال أنّه قال ذلك في حال دهشته، وغلبة الخوف عليه، حتى ذهب بعقله لِما يقول، ولم يقله قاصدًا لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل، والذاهل، والناسي الذي لا يؤاخَذ بما يصدر منه، قال: وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شَرْعهم جواز المغفرة للكافر. انتهى.
وقال ابن أبي جمرة: كان الرجل مؤمنًا؛ لأنه قد أيقن بالحساب، وإن السيئات يعاقَب عليها، وأما ما أوصى به فلعله كان جائزًا في شرعهم لتصحيح التوبة، فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قَتْلهم أنفسهم، وقيل: ظن هذا الرجل أن الله تعالى إن وجده على حاله وهيئته يعذبه شديدًا، وإذا وجده محترقًا مطحونًا مفرقًا، فلعله يرحمه، ويُشفق عليه؛ لتحمّله تلك المشاقّ والشدائد، كما هو دأب الموالي الكرماء، فإنهم إذا وجد أحدهم عبده المسيء في مرض، أو شدة رَحِمه، وعَطَف عليه، ورضي عنه، وإن كان قبل ذلك ساخطًا عليه، وغضبان، والله تعالى أعلم [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (8) / (178)].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح كتاب البخاري: ” ((ثم قال لم فعلت؟)) وهذا الحديث فيه إشكال، وهو أن ظاهره أن هذا القائل ظن أن الله لم يقدر لا يقدر عليه والشك في قدرة الله كفر، فكيف غفر الله له؟
يقال: إن هذا كان جاهلا، كان جاهلا فظن أنه إذا فعل ذلك فإن الله تعالى لا يبعثه فلم يلحقه معرة من ذلك، لكن ما في قلبه من خشية الله وخوفه منه هو الذي جعل الله تعالى يغفر له بسبب ما عنده من الخوف والخشية”. انتهى.
(فَلَمّا ماتَ الرَّجُلُ) الموصي بذلك، (فَعَلُوا)؛ أي: أهله، أو بَنُوه، (ما أمَرَهُمْ) به، من التحريق وغيره، (فَأمَرَ اللهُ البَرَّ، فَجَمَعَ ما فِيهِ)؛ أي: من أجزاء الرجل، (وأمَرَ البَحْرَ، فَجَمَعَ ما فِيهِ)؛ أي: من أجزائه أيضًا، وفي رواية: «فأمر الله تعالى الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم»، وفي حديث أبي سعيد: «فقال الله: كن، فإذا رجل قائم»، وفي حديث سلمان الفارسيّ عند أبي عوانة في «صحيحه»: «فقال الله له: كن، فكان كأسرع من طرفة العين»، وهذا جميعه كما قال ابن عقيل: إخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم: إنه خاطب روحه، فإن ذلك لا يناسب قوله: فجمعه الله؛ لأنّ التحريق، والتفريق، إنما وقع على الجسد، وهو الذي يُجمع، ويعاد عند البعث. انتهى [» مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح «(8) / (178)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: لا داعي إلى صرف ظاهر الحديث بهذا التأويل، فإن الحديث ظاهر في كون هذا الأمر بعد أن فَعل الرجل ما أمر به مباشرة، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم. انتهى
يقصد جمع الله جسده حالا
مع أن هناك نصوص يستعمل فيها الماضي في أمور الآخرة يراد بها التأكيد. لكن لا يمنع ذلك من أعمال بعضها حالا.
(ثُمَّ قالَ) الله – عز وجل – للرجل: (لِمَ فَعَلْتَ هَذا؟)؛ (قالَ) الرجل: (مِن خَشْيَتِكَ)؛ أي: فعلتُ ما فعلتُ من أجل خشيتي لعذابك (يا رَبِّ) وفي حديث حذيفة: «ما حملني إلا مخافتك»، (وأنْتَ أعْلَمُ) بقصدي من ذلك، قال ابن عبد البرّ – رحمه الله -: وهذا دليل على إيمانه؛ إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن، بل لعالم، قال تعالى: {إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ} [فاطر (28)]، ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به، وقد رُوي الحديث بلفظ: «قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد»، وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه، والأصول تعضدها: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء (48)].
قلت [-القائل هو المباركفوري، صاحب» المرعاة”، فتنبّه-]: الخشية من لوازم الإيمان.
(فَغَفَرَ اللهُ لَهُ «) وفي حديث أبي سعيد – رضي الله عنه -:» فما تلافاه أن رحمه «؛ أي: تداركه، و» ما «موصولة؛ أي: الذي تلافاه هو الرحمة، أو نافية، وصيغة الاستثناء محذوفة، وفي رواية بلفظ:» فتلقاه رحمة «.
قال الحافظ – رحمه الله -: قالت المعتزلة: غُفر له؛ لأنه تاب عند موته، وندم على فعله، وقالت المرجئة: غُفر له بأصل توحيده الذي لا تضرّ معه معصية.
وتُعُقّب الأوّل بأنّه لم يَرِد أنّه ردَّ المظلمة، فالمغفرة حينئذ بفضل الله، لا بالتوبة؛ لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظالم، وقد ثبت أنّه كان نَبّاشًا.
وتُعُقِّب الثاني بأنّه وقع في حديث أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – المشار إليه أولًا أنّه عُذّب، فعلى هذا فتُحْمَل الرحمة والمغفرة على إرادة ترك الخلود في النار، وبهذا يردّ على الطائفتين معًا: على المرجئة في أصل دخول النار، وعلى المعتزلة في دعوى الخلود فيها، وفيه أيضًا ردّ على من زعم من المعتزلة أنّه بذلك الكلام تاب، فوجب على الله قبول توبته. انتهى.
وقيل: إن مغفرته إنما هي لكمال خوفه، وخشيته من الله – عز وجل -؛ لأنّ الخشية من المقامات السنية، ولمّا كانت على أقصى مراتبها، وإن حصلت عند حضور علامات الموت، صارت سببًا لمحو جميع سيئاته، ووسيلة إلى مغفرة جميع ذنوبه: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ}، وقد تقدَّم أن الخوف من الله من لوازم الإيمان، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
ويقال أنه لم تحصل له الغرغرة فتاب وعظمت توبته حتى أمرهم بتحريقه
(مسألة): قد ذكر الإمام أبو عمر بن عبد البرّ – رحمه الله – اختلاف رواة «الموطّأ» في رفع هذا الحديث ووقفه …. انتهى. [«التمهيد» (18) / (37)].
وقال في «الاستذكار» بعدما ذكر نحو هذا: والصواب رفعه؛ لأنّ مثله لا يكون رأيًا، وقد ذكرنا في «التمهيد» طرقًا كثيرة لحديث أبي هريرة هذا، وذكرنا من رواه معه من الصحابة – رضي الله عنهم -. انتهى [«الاستذكار» (3) / (94)].
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان إثبات البعث بعد الموت، وإن تفرقت الأجزاء، وتلاشت.
(2) – (ومنها): بيان عظمة قدرة الله تعالى.
(3) – (ومنها): بيان فضيلة الخوف من الله تعالى، وغَلَبتها على العبد، وأنها من مقامات الإيمان، وأركان الإسلام، وبها انتفع هذا المسرف، وحصلت له المغفرة.
[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين – رحمه الله -: إن قلت: في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، عن الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي»، وهذا قد ظنّ بربه تعذيبه، وعدم المغفرة له، فكيف غفر له؟
قلت: قد اختلفوا في معنى هذا الحديث،
فقيل: المراد به الرجاء، وتأميل العفو.
وقيل: معناه: بالغفران له إذا استغفر، والقبول له إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية.
فإن قلنا بالثاني، فالجمع واضح؛ لأنّ هذا قد ندم على ما فَرَطَ منه، ولولا ندمه لَما أمَر أن يُفعل به ذلك، فكان تائبًا، فقُبلت توبته، وغُفر له.
وإن قلنا بالأوّل، فقد حكى القاضي عياض، والنوويّ في «شرح مسلم» أنّه قيل: إنما أوصى بذلك تحقيرًا لنفسه، وعقوبة لها؛ لعصيانها، وإسرافها، رجاء أن يرحمه الله تعالى، فهو حينئذ قد رجا العفو، وأمّله، فكان الله عند ظنّه به، فعفا عنه، وهذا بعيد من قوله: «إن قدر الله عليّ»، إن لم يؤوّله بما تقدَّم، والله تعالى أعلم. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: ما قاله القاضي عياض، والنوويّ – رحمهما الله تعالى – جواب سليم، وتوجيه مستقيم، وبه يزول الإشكال. والله تعالى أعلم.
(4) – (ومنها): أنّه لا ضرر على العبد في غلبة الخوف، وإن كانت بقرب الوفاة، وإن كان المطلوب من العبد في تلك الحالة أن يُحسن ظنه بربّه، لِما أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ – رضي الله عنهما -، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل موته بثلاثة أيام، يقول: «لا يموتنّ أحدكم، إلا وهو يحسن الظن بالله – عز وجل -».
(5) – (ومنها): أنّه يدلّ على أن خوف العبد من ذنبه، ليس كراهية للقاء الله تعالى؛ لأنّ الخائف من ذنبه يطلب أن يكون مصيره إلى الدار الآخرة على وجه مرضيّ، يقربه إلى الله تعالى، فَكَرِه حالة نفسه التي هو عليها، ولم يكره لقاء الله تعالى مطلقًا، بل أحبّ لقاءه على غير تلك الحالة، قاله وليّ الدين – رحمه الله -.
(6) – (ومنها): أن الأعمال بالنيّات، والمقاصد، فإن الله تعالى لم ينظر إلى هذا العمل، بل إلى القصد، فقال له: «لم فعلت هذا؟»، ولما كان الحامل عليه الخشية، كان سبب المغفرة، ولو حَمَل عليه سبب آخر فاسد، لكان الأمر بخلاف ذلك، فيما يظهر، والله تعالى أعلم.
(7) – (ومنها): أن فيه بيانَ سعة رحمة الله تعالى، ومغفرته، وأن المسرف على نفسه لا ييأس من ذلك، وقد قال الله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر (53)]، وقد قيل: إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله تعالى، اللَّهُمَّ اغفر لنا
ذنوبنا، وكفّر عنّا سيّاتنا، وأدخلنا الجنّة برحمتك يا أرحم الراحمين.
(مسألة): أنّه استُشكل قوله: «لئن قدر الله عليّ، ليعذّبنّي»؛ لأنّ ظاهره نفي قدرة الله تعالى على إحيائه، وإعادته، والشاكّ في قدرة الله تعالى كافر ….. وسبق بيانه
ومما نزيد هنا
أن غاية ما فيه أن هذا رجل جهل صفة من صفات الله تعالى، وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة، فممن كفّره بذلك محمَّد بن جرير الطبريّ، وقاله الشيخ أبو الحسن الأشعريّ أوّلًا.
وقال آخرون: لا يكفّر بجهل الصفة، ولا يخرج به عن اسم الإيمان، بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن الأشعريّ، وعليه استقرّ قوله، قال: لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادًا نقطع بصوابه، ويراه دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حقّ؛ قال هؤلاء:
ولو سئل الناس عن الصفات، لَوُجد العالم بها قليلًا.
وحكاه ابن عبد البرّ عن المتقدّمين، من العلماء، ومن سلك سبيلهم، من المتأخرين، واستدلّ عليه بأن عمر، وعمران بن حُصين، وجماعة من الصحابة، سألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن القدَر، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك، وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين. انتهى.
* وأما قوله: «لم يعمل حسنة قط» وقد روي: «لم يعمل خيرًا قط» ما عدا التوحيد من الحسنات والخير، بدليل حديث أبي رافع المذكور.
وهذا شائع في لسان العرب أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض، وقد تقول العرب: لم يفعل كذا قط تريدُ الأكثر من فعله، ألا ترى إلى قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يضع عصاه عن عاتقه» يريد أن الضرب للنساء كان منه كثيرًا، لا أن عصاه كانت ليلًا ونهارًا على عاتقه.
والدليل على أن الرجل كان مؤمنًا قوله حين قال له: «لم فعلت هذا؟» قال: من خشيتك يا رب،
قال: وروى الإمام أحمد – رحمه الله – في «مسنده»، وغيرُهُ بإسناد جيّد، عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لرجل: «فعلتَ كذا وكذا؟»، قال: لا، والذي لا إله إلا هو، يا رسول الله، ما فعلت، فقال: “بلى، ولكن غُفر لك بالإخلاص». وروي هذا المعنى أيضًا من حديث ابن عباس، وأنس، وابن الزبير – رضي الله عنهم -. انتهى كلام وليّ الدين – رحمه الله -.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: لعله – صلى الله عليه وسلم – أراد بالإخلاص التوحيد، فإن الرجل موحّد، والموحّد يُغفر له؛ كما قال تعالى: {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ} [النساء (48)]، ولعله – صلى الله عليه وسلم – أوحي إليه أن الرجل ممن شاء الله مغفرته، فأخبر بذلك، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6956) و (6957)] ((2619)) – (حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قالَ عَبْدُ: أخْبَرَنا، وقالَ ابْنُ رافِعٍ – واللَّفْظُ لَهُ -: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، قالَ: قالَ لِيَ الزُّهْرِيَّ: ألا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ؟ قالَ الزُّهْرِيُّ: أخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «أسْرَفَ رَجُلٌ عَلى نَفْسِهِ، فَلَمّا حَضَرَهُ المَوْتُ أوْصى بَنِيهِ، فَقالَ: إذا أنا مُتُّ، فَأحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي البَحْرِ، فَو اللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذابًا ما عَذَّبَهُ بِهِ أحَدًا، قالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقالَ لِلأرْضِ: أدِّي ما أخَذْتِ، فَإذا هُوَ قائِمٌ، فَقالَ لَهُ: ما حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ؟ فَقالَ: خَشْيَتُكَ يا رَبِّ، أوْ قالَ: مَخافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ»).
(قالَ الزُّهْرِيُّ: وحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: «دَخَلَتِ امْرَأةٌ النّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْها، فَلا هِيَ أطْعَمَتْها، ولا هِيَ أرْسَلَتْها تَاكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ، حَتّى ماتَتْ هَزْلًا»، قالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، ولا يَيْأسَ رَجُلٌ).
وقوله: (دَخَلَتِ امْرَأةٌ النّارَ) لا يُعرف اسمها، فقيل: حِمْيريّة، وقيل: إسرائيلية، ولا تعارض؛ لأنّ طائفة من حِمْيَر تهوّدت، فنُسبت إلى دينها تارةً، وإلى قبيلتها أخرى.
وقوله: (فِي هِرَّةٍ)؛ أي: بسببها.
وقوله: (مِن خَشاشِ الأرْضِ) بفتح الخاء المعجمة، وكسرها، وضمها، حكاهنّ في «المشارق»، والفتح أشهر، ورُوي بالحاء المهملة، والصواب المعجمة، وهي هوامّ الأرض، وحشراتها، كما وقع في الرواية الأخرى، وقيل: المراد به: نبات الأرض، وهو ضعيف، أو غلط، قاله النوويّ [«شرح النوويّ» (16) / (173)].
وقوله: (قالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ) إشارة إلى سبب ذكره الحديثين: حديث صاحب الوصيّة، وحديث صاحبة الهرّة، فذكرتُ الحديث الثاني (لِئَلّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ) من أهل الطاعة على طاعته، فيستخفّ بالمعاصي، ويسترسل فيها؛ اتّكالًا على الطاعة، فإن هذه المرأة الظاهر أنّه كانت مطيعة، وإنما دخلت النار بسبب ظُلمها الهرة فقط، فإذا سمع القصّة تَرَك الاتكال على طاعته، وانكفّ عن الاسترسال في المعاصي؛ خوفًا من المؤاخذة، كما وقع لهذه المرأة.
(ولا يَيْأسَ رَجُلٌ)؛ أي: وذكرتُ الحديث الأوّل؛ لئلا يقع رجل من أهل المعاصي في القنوط بسبب كثرة معاصيه، فإذا سمع هذا الحديث انشرح صدره لرجاء رحمة ربه، فأناب، وتاب، فقبل الله تعالى توبته، كما قبل توبة الرجل، والله تعالى أعلم.
وراجع [«تكملة فتح الملهم» (6) / (19) – (20)].
وقال الإمام مسلم رحمه الله: [(6958)] ((2756)) – الحديث
وقال الإمام مسلم رحمه الله: [(6959)] ((2757)) – الحديث
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى):
قال الشيخ محمد أمان الجامي في الصفات الإلهية [ص (355) وما بعدها –تراث]: الباب الخامس: حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، وحقيقة الإلحاد في صفات الله وأسمائه وأنواع الإلحاد:
أ- حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة:
أما حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة فهو حكم يحتاج إلى نوع من التأني والتريث ثم التفصيل؛ لأنه من الخطورة بمكان إصدار حكم مجمل غير مفصل في مثل هذه القضية، التي هي قضية كفر أو إيمان ولا واسطة بينهما.
فأقول مستعينًا بالله تعالى: إن من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة لا يخلو حاله من أحد أمرين:
أ- أن يكون النافي عالمًا بالنص الذي ثبتت به الصفة المنفية كتابًا كان أو سنة، ولا توجد لديه شبهات قد تغر مفهومه في النص، كأن يفهم أو يظن -متأثرًا بالشبهة- أن النص الذي ثبتت به الصفة لم يكن باقيًا على ظاهره مثلًا أو غير ذلك من الشبهات الكثيرة التي قد تضلل الإنسان الساذج أو قليل الاطلاع.
والتي من أخطرها تأثره بآراء أهل الكلام المذموم التي تفسد القلوب وتغير المفاهيم في الغالب ولو نفى – وحاله ما وصفنا من العلم وعدم وجود الشبهات- معاندًا وجاحدًا لخراب قلبه ومرضه، فهو كافر في هذه الحالة كفرًا ينقله من الملة الإسلامية؛ لتكذيبه كلام الله أو كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو غير معذور لما علمت، وحقيقة الكفر هي ذلك الخراب الذي سبّبّه له العناد والجحود.
ب- أن ينفي في غير هذه الحالة المذكورة آنفًا، كجهله للنص أو عدم علمه المفهوم الصحيح على ما تقدم تفصيله، فأرجو أن يكون معذورًا في هذه الحالة.
والخلاف مشهور بين أهل العلم في: هل يعذر الإنسان بجهله في أصول الدين أن لا؟
ولشيخ الإسلام ابن تيمية موافق كثيرة تدل على أنه يرى أن المرء يعذر بالجهل مطلقًا دون تفريق بين الأصول والفروع.
(1) – الموقف الأول: هو ما يدل عليه النص التالي من كلامه رحمه الله، يقول شيخ الإسلام في كتابه موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، وهو يناقش بعض علماء أهل الكلام في بعض مسائل الصفات: «لكن من لم يكن عارفًا بآثار السلف وحقائق أقوالهم، وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة وحقيقة المعقول الصحيح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك، لا يمكنه أن يقول إلا بمبلغ علمه {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَها}، ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك يهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام بحسب إمكانه فهو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاده، ولا يؤاخذه بما أخطأه تحقيقًا لقوله تعالى {رَبَّنا لاَ تُؤاخِذْنا إن نَّسِينا أوْ أخْطَانا}.
وقال في موضع آخر في الكتاب نفسه: ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد، والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف) إلى آخر كلامه رحمه الله وهو يتحدث عن الأشعرية» اهـ. [راجع موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لشيخ الإسلام ابن تيمية ص: (56). تحقيق محمد محي الدين].
ب- كان رحمه الله – ذات مرة- يناقش كبار علماء أهل الكلام ممن لعبت الفلسفة بعقولهم وغيّرت مفاهيمهم -ونَرْوي (الحوار) بالمعنى لا باللفظ ونوجزه في الآتي:
ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية فطاحل علماء الكلام محاولًا إقناعهم بضرورة الاكتفاء بالأدلة النقلية – في المطالب الإلهية- أو تقديمها على العقل لتكون هي الأساس في هذا الباب والعقل تابع لها، لأن العقل الصريح لا يكاد يخالف النقل الصحيح إذا أحسن المرء التصرف، فلم يمكن إقناعهم، بل أصروا على ضرورة تقديم العقل في زعمهم، ظنًا منهم أن بينهما اختلافًا- وهو ظن الذين لا يفقهون إلا قليلًا.
وفي آخر الحوار قال لهم ذلك العالم البصير: لو كنت أنا مكانكم لحكمت على نفسي بالكفر ولكنكم جهال!
فعذرهم بجهلهم- وهم يرون أنفسهم أنهم من أعلم الناس، إلاّ أن ذلك العلم لم يخرجهم من عداد الجهال في نظر الإمام ابن تيمية، لأنهم إنما تعلموا وتبحروا في آراء الرجال وفلسفة اليونان، وأما بالنسبة لعلم الكتاب والسنة فهم في حكم الجهال، ولذا عذرهم الإمام رحمه الله، فيظهر جليًا من هذين الموقفين أنه ممن يعذر الجاهل، والمجتهد، والمخطئ، حتى في باب أصول الدين وبالله التوفيق [موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول وغيره للإمام ابن تيمية].
ومما يشهد لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله قصة الرجل الإسرائيلي المشهورة وهذا نصها من صحيح البخاري:
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا هشام، أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “كان رجل يسرف على نفسه [ذكر في بعض روايات الحديث أنه كان (نباشا)] فلما حضره الموت قال لبنيه:
إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال لها: اجمعي ما فيك منه! ففعلت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب فغفر له، وقال غيره: مخافتك يا رب» [فتح الباري (7) / (332)].
وللحديث عدة روايات وهذه الرواية من أجمعها تقريبًا:
قال الخطابي تعليقًا على هذا الحديث: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له، وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟
والجواب: أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله.
قال ابن قتيبة: وقد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك، ورده ابن الجوزي وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقًا، وإنما قيل: إن معنى قوله: «لئن قدر الله علي» أي ضيق، وهي كقوله تعالى: {ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق، وأما قوله: «لعَلّي أضّلُ الله» – يعني في رواية أخرى غير التي ذكرناها- فمعناه: لعلي أفوته، يقال: ضل الشيء إذا فات وذهب، وهو كقوله تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي ولاَ يَنسى} ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلظ ذلك الآخر، فقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» ويكون قوله: «لئن قدر» بتشديد الدال، أي: إن قدر عليّ أن يعذبني ليعذبني، أو على أنه كان مثبتًا للصانع وكان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان.
قال الحافظ ابن حجر: «وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله ما يقول، ولم يقل قاصدًا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه» [فتح الباري (7) / (333). طبعة مصطفى البابي الحلبي] اهـ.
قلت -الجامي-: أما ابن الجوزي – مع مكانته العلمية المعروفة- فقد أبعد النعجة وابتعد عن سياق النص فتكلف في تأويل الحديث تأويلًا يشبه تأويل أهل الكلام عفا الله عنه، ولماذا هذا التكلف كله؟ ومعنى الحديث واضح والسياق: يدل على أن الرجل مع إيمانه بربه وخشيته، جهل أن الإنسان الذي يفعل به ما فعله أولاده لا يبعث مثل الذي يدفن في الأرض، كما غفل عن قدرة الله الشاملة لجميع الحالات، هذا ما جهله الرجل، وربه الرؤوف الرحيم رحمه وعذره فغفر له، وهذا هو الذي يليق برحمته سبحانه ولطفه بعباده، وقد سبقت رحمته غضبه وغلبته.
وأستحسن أن أذكر هنا قاعدة عند أهل السنة في مسألة: قبول عذر من جهل شيئًا من الدين:
وهي هكذا: «يعذر الإنسان إذا جهل ما مثله يجهله من المسائل الخفية كمسائل الصفات من حيث تحققها وتحقيقها ومعرفة وجه الصواب فيها»، ولا سيما بعد أن طغى علم الكلام، وفرض سلطانه على جمهور المتأخرين فتغير كثير من المفاهيم في مسائل العقيدة، ودخلت بسببه على العقيدة الإسلامية اصطلاحات كثيرة، فشوشت على الناس في عقيدتهم، وما ذكرناه من كلام الإمام ابن تيمية مأخوذ من هذه القاعدة، أو هو عينها، وقد صرح رحمه الله: أن الفاضل المجتهد الذي يخطئ وهو يريد متابعة الرسول أولى بقبول عذره من الجاهل الذي لم يطلب العلم إذا جهل ما يجهل مثله، أو كما قال رحمه الله.
وللشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تحقيق دقيق في مسألة التكفير، ويرى أن المبادرة بالتكفير والتفسيق والهجر أمر في غاية الخطورة إلا بعد التحقيق ومعرفة تفاصيل ما في المسألة – قلت: بل ومعرفة الزمان والمكان- وينصح الشيخ رحمه الله بالتريّث في المسألة، ثم نقل كلام شيخ الإسلام رحمه الله، حيث يقول شيخ الإسلام: «إن من عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون»، كما نقل قول الإمام الشافعي رحمه الله إذ يقول: “لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت [لعل الصواب (خطأت)]، أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كَفَّرْتَ».
ثم قال الشيخ سليمان رحمه الله: إذا فهمت ذلك وتحققته، فاعلم أن الكفر الذي يخرج من الإسلام ويصير به الإنسان كافرًا وهو جحوده بما علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء به من عند الله عنادًا، من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها من توحيده وحده لا شريك له، وهو مضاد للإيمان من كل وجه، ثم استشهد على ما ذكر بقول الإمام ابن القيم رحمه الله إذ يقول في نونيته المعروفة:
فالكفر ليس سوى العناد وردّ … جاء الرسول به لقول فلان
إلى أن قال رحمه الله:
والله ما خوفي من الذنوب فإنها لعَـ … ـلىَ طريق العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب عن … تحكيم هذا الوحي والقرآن
ورضًا بآراء الرجال وخرصِها … لا كان ذاك بمنة الرحمن
[منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع للشيخ سليمان بن سحمان، وهو من كبار علماء الدعوة والإصلاح في أوائل عهد الملك عبد العزيز رحمهما الله، وله مؤلفات في هذا المجال رحمه الله]
الخلاصة:
كل من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة عالمًا بالنص، فاهمًا له، سالمًا من الشبهة، مُوثِرًا مألوفه من آراء الرجال وغيرها، مستخفًا بالنص وغير مقدرٍ له، فقد كفر كفرًا ناقلًا عن الملة.
وأما من نفى الصفة وهو على خلاف من وصفناه فهو معذور إن شاء الله لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَها}، ولقوله تعالى: {رَبَّنا لاَ تُؤاخِذْنا إن نَّسِينا أوْ أخْطَانا}، والله أعلم.
وعلى كل حال فإن أهل العلم يفرقون بين التكفير العام، وبين تكفير شخص معين:
والتكفير العام يطلق، فيقال: كل من ارتكب شيئًا من المكفرات، كإنكار الصفات مثلًا، فهو كافر، ويعتبر هذا قاعدة للتكفير.
أما التكفير المعين، فيختلف باختلاف أحوال الأشخاص، وما يقوم بنفوسهم مما يستدل عليه بالقرائن والسياق، فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا ضال كافرًا عند أهل السنة،
فانطلاقًا من هذه القاعدة نقول: من أنكر صفة ثابتة بالقرآن أو بالسنة فهو كافر، وهذه القاعدة يدخل في عمومها أكثر المنكرين، ولا يدخل فيها بعضهم لأحوال خاصة قد تشفع لهم، ولا يكون كافرًا مع أنه أنكر ما أنكره غيره -على ما تقدم من التفصيل-.
هذا حكم من نفى نفيًا.
وأما حكم من أول آية من آيات الصفات أو حديثًا من أحاديث الصفات فمثله لا يكفر لسببين:
السبب الأول:
أنه لم ينف الصفة نفيًا، وإنما أثبتها ثم أولها تأويلًا، فهو مخطئ في التأويل ولكنه لا يكفر؛ لأنه يؤمن بالصفة في الجملة.
السبب الثاني:
أنه أول لقصد التنزيه ظنًا منه أنه لا يتم التنزيه إلا بالتأويل، وهو يظن أن هذه هي الطريقة المثلى أو الوحيد في التنزيه.
وهذه شبهة تحول دون تكفيره؛ لأنه معذور بالجهل المصحوب بالشبهة، والله أعلم.
وسبق أن قلنا نقلًا عن بعض أهل العلم [شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه]- إن حقيقة الكفر خراب القلب، والمؤول بقصد التنزيه بعيد عن هذا المعنى إن شاء الله”. انتهى المراد.
[تنويه] انظر: من جامع الأجوبة المفيدة في مسائل العقيدة رقم ((7)). مسألة: تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وفيه ذكر إقامة الحجة، وذكرت القصة وتأويل ذلك.
(المسألة الثانية):
بالنسبة إلى الوصية التي تخالف الشرع، هل تنفذ، أم لا؟ وكيف يتصرف الموصى إليه في هذه الوصية؟
“الوصايا المخالفة لا تنفذ، الوصايا إذا خالفت الشرع لا تنفذ، لا ينفذ منها إلا ما وافق الشرع، فإذا أوصى الإنسان مثلًا في ماله بأكثر من الثلث، لا ينفذ إلا الثلث، إلا برضا الورثة المرشدين إذا رضوا بالزيادة، وإذا أوصى بمال في معصية كأن يشترى به خمرًا، أو يشترى به شيئًا من آلات الملاهي؛ لا تنفذ الوصية، وهكذا لابد من الوصية تكون موافقة للشرع، لابد أن تكون الوصية، أو أوصى للورثة، لبعض الورثة، لا وصية لوارث، لابد أن تكون وصية مطابقة للشرع، موافقة للشرع”.
[هل تنفذ الوصية المخالفة للشرع؟ نور على الدرب للإمام ابن باز رحمه الله].
(المسألة الثالثة): نصيحة للجميع وللشباب خاصة
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
“بهذه المناسبة أنا لا أود من إخواننا وشبابنا ألا يكون أكبر همهم أن يبحثوا عن كفر الحكام أو غير الحكام كأنهم لم يخلقوا إلا للبحث عن هذا كافر أو غير كافر،
عليهم أن يبحثوا في بيان حدود ما أنزل الله على رسوله من العبادات وغير العبادات،
أما مسألة أن يشغلوا أنفسهم بأن هذا كافر أو غير كافر فهذا غلط إضاعة للوقت ولا فيه فائدة، حتى لو وصلوا في النهاية إلى كفر حاكم من الحكام، فماذا يفعلون؟ لن يستطيعوا أن يعملوا شيئا إلا الفتنة وزوال الأمن والشر الذي لا نهاية له، مع أنهم أيضا ربما يكفرون الحاكم بأهوائهم لا بمقتضى الدليل عندهم مثلا عاطفة دينية وغيرة دينية يقولون: هذا كافر، وليس كل من قال الكفر أو فعل الكفر يكون كافرا دل على ذلك القرآن والسنة؛ ففي القرآن يقول الله عز وجل: ((مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) فرفع حكم الكفر عن المكره مع أنه يقول كلمة الكفر ويفعل فعل الكفر،
وفي السنة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن (رجل كان مسرفا على نفسه فأوصى أهله إذا مات أن يحرقوه ويذروه في اليم وقال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا فلما فعلوا جمعه الله عز وجل وسأله لماذا فعلت؟ قال: يا رب فعلت ذلك خوفا منك) مع العلم بأنه في هذه الحال حين أوصى كان شاكا في إيش؟
في قدرة الله يظن أن الله ما يقدر يعيده، وكذلك أخبر أن (الله يفرح بتوبة عبده المؤمن كفرح الرجل الذي أضاع ناقته وعليها طعامه وشرابه فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بالناقة فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح) وهذه الكلمة (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، كلمة كفر لا شك فيها، لكن لما كانت خطأ من شدة الفرح عفي عنه.
فنصيحتي التي أدين الله بها وأرجو لأبنائنا وشبابنا أن يعملوا بها: ألا يكون أكبر همهم وشغلهم هو هذا أي: ما تقول في الحاكم الفلاني؟ والحاكم الفلاني كافر وما أشبه ذلك؛ لأن هذا لا يغني شيئا، ولنا مثل قريب فيما حصل في الجزائر مثلا ما الذي حصل في بعض البلدان؟ حصل أن قتل خمسة ملايين أظن خمسين ألف خمسين ألف في ثلاث سنوات بغير حق سواء من الحكومة تقتل هؤلاء أو منهم يقتلون من هو معصوم الدم، كل هذا من الشر والبلاء فلذلك يجب أن يعرض الشباب وأهل الخير عن هذا إطلاقا؛ لأنه لا يفيد أبدا، وإنما يحدث الشر والفتنة والفوضى، والحمد لله ما دمنا لا نستطيع أن نغير شيئا حتى لو رأينا كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان فما الفائدة؟ ثم علينا أن ننظر نفكر كل البلاد التي حصلت فيها الثورة ما ازدادت بعد الثورة إلا إيش؟ إلا شرا في دينها ودنياها نعم”. [الشيخ محمد بن صالح العثيمين / سلسلة لقاء الباب المفتوح-127 a].