2750 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله في صحيح مسلم،
(3) – بابُ فَضْلِ دَوامِ الذِّكْرِ والفِكْرِ فِي أُمُورِ الآخِرَةِ والمُراقَبَةِ وجَوازِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأوْقاتِ والِاشْتِغالِ بِالدُّنْيا
(12) – ((2750)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى التَّيْمِيُّ، وقَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ – واللَّفْظُ لِيَحْيى – أخْبَرَنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إياسٍ الجُرَيْرِيِّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ، قالَ: – وكانَ مِن كُتّابِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: لَقِيَنِي أبُو بَكْرٍ، فَقالَ: كَيْفَ أنْتَ؟ يا حَنْظَلَةُ قالَ: قُلْتُ: نافَقَ حَنْظَلَةُ، قالَ: سُبْحانَ اللهِ ما تَقُولُ؟ قالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يُذَكِّرُنا بِالنّارِ والجَنَّةِ، حَتّى كَأنّا رَايُ عَيْنٍ، فَإذا خَرَجْنا مِن عِنْدِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، عافَسْنا الأزْواجَ والأوْلادَ والضَّيْعاتِ، فَنَسِينا كَثِيرًا، قالَ أبُو بَكْرٍ: فَواللهِ إنّا لَنَلْقى مِثْلَ هَذا، فانْطَلَقْتُ أنا وأبُو بَكْرٍ، حَتّى دَخَلْنا عَلى رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: نافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ فَقالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – «وما ذاكَ؟» قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنا بِالنّارِ والجَنَّةِ، حَتّى كَأنّا رَايُ عَيْنٍ، فَإذا خَرَجْنا مِن عِنْدِكَ، عافَسْنا الأزْواجَ والأوْلادَ والضَّيْعاتِ، نَسِينا كَثِيرًا فَقالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلى ما تَكُونُونَ عِنْدِي، وفِي الذِّكْرِ، لَصافَحَتْكُمُ المَلائِكَةُ عَلى فُرُشِكُمْ وفِي طُرُقِكُمْ، ولَكِنْ يا حَنْظَلَةُ ساعَةً وساعَةً» ثَلاثَ مَرّاتٍ.
(13) – ((2750)) حَدَّثَنِي إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، أخْبَرَنا عَبْدُ الصَّمَدِ، سَمِعْتُ أبِي يُحَدِّثُ، حَدَّثَنا سَعِيدٌ الجُرَيْرِيُّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ، قالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَوَعَظَنا، فَذَكَّرَ النّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضاحَكْتُ الصِّبْيانَ ولاعَبْتُ المَرْأةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أبا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقالَ: وأنا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينا رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ نافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: «مَهْ» فَحَدَّثْتُهُ بِالحَدِيثِ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: وأنا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: «يا حَنْظَلَةُ ساعَةً وساعَةً، ولَوْ كانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصافَحَتْكُمُ المَلائِكَةُ، حَتّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ».
(13) – حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ سَعِيدٍ الجُرَيْرِيِّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيِّ الأُسَيِّدِيِّ الكاتِبِ، قالَ: كُنّا عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَّرَنا الجَنَّةَ والنّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِما.
==========
التمهيد:
“خلق الله عالما طائعا لا يعصون الله ما أمرهم وهم الملائكة، وعالما عاصيا وهم إبليس وجنوده، وعالما يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب على سيئاتهم وهم الإنس والجن المكلفون بالشرائع،
وكان هذا التكليف ذا شعب محرمات يجب الابتعاد عنها، وواجبات يجب التزامها، ومكروهات ينبغي التنزه عنها، ومستحبات ينبغي الحرص عليها، ومباحات ومتع دنيوية رخص بها بقدر الحاجة البشرية، وفتح باب الطاعات ليترقى المؤمن في سلم الإيمانية وليعرج إلى الملأ الأعلى قدر ما يستطيع، لكن بعض الصحابة رضي الله عنهم بحكم سماعهم وعظ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبحكم تأثرهم به وبحكم شدة خوفهم من الله وبحكم عظيم مراقبتهم له ورغبتهم في .. فضله ظنوا أن اشتغالهم بمتع الدنيا وشهواتها وإن كانت مباحة لا تليق بهم وأن الاشتغال بها نوع من النفاق، وجمع بين الخشية الباطنة والعبث واللهو الظاهري، وإن اختلفت أوقاتهما، فبين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن ذلك ليس نفاقا ممنوعا وأنهم غير مكلفين بأن يكونوا على التفكر الدائم والمراقبة المستمرة، وإلا كانوا كالملائكة وصاحبتهم الملائكة، ولكن المطلوب منهم: أن يكونوا على التقوى والخشية وقتا، وأن ينشغلوا بالدنيا المباحة وبزينتها المسموح بها وقتا آخر، على أن لا تطغى وتسيطر الدنيا على قلب المؤمن فيكون من الخاسرين”. [فتح المنعم].
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((3)) – (بابُ فَضْلِ دَوامِ الذِّكْرِ، والفِكْرِ فِي أُمُورِ الآخِرَةِ، والمُراقَبَةِ، وجَوازِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأوْقاتِ، والِاشْتِغالِ بِالدُّنْيا)
وفي المفهم (ج7/ص66) بوب عليه القرطبي رحمه الله: ((22)) باب فضل الدوام على الذكر. ووضعه في كتاب: الأذكار والدعوات.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6941)] ((2755)) – شرح الحديث:
(عَنْ حَنْظَلَةَ) بن الربيع – بفتح الراء، وكسر الموحّدة، وسكون التحتية -، (الأُسَيِّدِيِّ) قال النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -: ضبطوه بوجهين: أصحهما، وأشهرهما ضم الهمزة، وفتح السين، وكسر الياء المشدّدة، والثاني كذلك، إلّا أنه بإسكان الياء، ولم يذكر القاضي عياض إلّا هذا الثاني، وهو منسوب إلى بني أُسَيّد بطن من بني تميم انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (65)].
وقال الفَتَّني في «المغني: الأُسَيِّدي بمضمومة، ومفتوحة، وشدّة تحتية مكسورة، وسكونها، والشدة عند المحدثين؛ للأصل، وتسكينها عند أهل اللغة؛ لِلْخفة، منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم بن مُرّ، ومنه حنظلة بن الربيع. انتهى.
وقال ابن عبد البرّ: بنو أُسَيِّد بن عمرو بن تميم من أشراف بني تميم، وهو أسَيِّد بكسر الياء، وتشديدها. انتهى.
وحنظلة هذا هو حنظلة بن الرَّبِيع بن صيفيّ التميمي المعروف بحنظلة الكاتب؛ لأنه كتب للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – الوحي، ففي مسلم، والترمذيّ من طريق أبي عثمان النَّهْدي: “عن حنظلة، وكان من كُتّاب النبيّ – صلى الله عليه وسلم – “، وهو ابن أخي أكثم بن صيفيّ حكيم العرب، وليس هو حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، أرسله النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل الطائف، وشَهِد القادسيّة، ونزل الكوفة، وتخلَّف عن عليّ في قتال أهل البصرة يوم الجمل، ونزل قرقيسياء حتى مات في خلافة معاوية – رضي الله عنهما -، ولا عَقِب له [«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (7) / (802)].
(قالَ) حنظلة: (لَقِيَنِي أبُو بَكْرٍ) الصدّيق – رضي الله عنه -، وفي الترمذيّ: «أنه مَرّ بأبي بكر، وهو يبكي».
(نافَقَ حَنْظَلَةُ)؛ أي: صار منافقًا، وأراد: نفاق العمل، لا نفاق الاعتقاد،
وقال الجزريّ: النفاق ضدّ الإخلاص، وأراد به في هذا الحديث: أنني في الظاهر إذا كنت عند النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أخلصت، وإذا انفردت عنه، رغبت في الدنيا، وتركت ما كنت عليه، فكأنه نوعٌ من مخالفة الظاهر للباطن، وما كان يرضى أن يسامح به نفسه، وكذلك كان الصحابة – رضي الله عنهم – أجمعين يؤاخذون أنفسهم بأقل الأشياء.
وقال النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -: وأصلُ النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشرّ، فخاف أن يكون ذلك نفاقًا، فأعلمهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلَّفون الدوام على ذلك. انتهى. [«شرح النوويّ» (17) / (66) – (67)].
وقال القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: فخاف أن يكون ذلك من أنواع النفاق، وأراد من نفسه أن يستديم تلك الحالة التي كان يجدها عند موعظة النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ولا يشتغل عنها بشيء. انتهى [«المفهم» (7) / (66)].
(فَإذا خَرَجْنا)؛ أي: فارقناه على وصف التفرقة، (مِن عِنْدِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – عافَسْنا الأزْواجَ، والأوْلادَ) بالفاء، والسين المهملة؛ أي: خالطناهم، ولاعبناهم، وعالجنا أمورهم، واشتغلنا بمصالحهم، قال الهرويّ وغيره:
معناه: حاولنا ذلك، ومارسناه، واشتغلنا به؛ أي: عالجنا معايشنا، وحظوظنا.
وقال النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: «عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات» هو بالفاء والسين المهملة، قال الهرويّ وغيره: معناهْ حاولنا ذلك، ومارسناه، واشتغلنا به؛ أي: عالجنا معايشنا، وحظوظنا، والضيعات: جمع ضيعة بالضاد المعجمة، وهي معاش الرجل، من مال، أو حرفة، أو صناعة، وروى الخطابيّ هذا الحرف: «عانسنا» بالنون، قال: ومعناه: لاعَبْنا، ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة، قال: ومعناه: عانَقْنا، والأول هو المعروف، وهو أعمّ. انتهى [» شرح النوويّ «(17) / (66)]. و [» المفهم” (7) / (66) – (67)].
(عَلى ما تَكونُونَ عِنْدِي)؛ أي: من صفاء القلب، والخوف من الله تعالي، قاله الطيبيّ، أو من دوام الذكر، وتمام الحضور، (لَصافَحَتْكُمُ المَلائِكَةُ) قيل: أي: علانية، وإلا فكون الملائكة يصافحون أهل الذكر حاصل، وقال ابن حجر: أي: عيانًا في سائر الأحوال، وإن كنتم (عَلى فُرُشِكُمْ، وفي طُرُقِكُمْ)؛ أي: في حالتَي فراغكم، وشغلكم، وفي زمان أيامكم ولياليكم؛ لأنكم إذا كنتم في الحضور والغَيبة على ما ذكرتم كنتم على أكمل الأحوال دائمًا، ومن هو كذلك مع الموانع البشرية، والقواطع النفسية، يرى الملائكة معظِّمين له في كلّ من الأمكنة والأزمنة [«مرقاة المفاتيح» (5) / (149)].
وقال القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: «لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة» هكذا صحّت الرواية بالواو العاطفة للطرف الثاني على الأول، ويفيد أنه وقَفَ مصافحة الملائكة على حصول حالتين لنا: على حال مشاهدة الجَنَّة والنار مع ذكر الله تعالي، ودوام ذلك، فيعني – والله تعالى أعلم -: أن التمكن إنما هو أن يشاهد الأمور كلها بالله تعالي، فإذا شاهد الجَنَّة مثلًا لَمْ يحجبه ما يشاهد من نعيمها وحُسنها من رؤية الله تعالي، بل لا يلتفت إليها من حيث هي جنة، بل من حيث هي أنّها محل القرب من الله تعالي، ومحل رؤيته، ومشاهدته، فيكون فرقه في جمعه، وعطاؤه في منعه، ومن كان كذلك ناسب الملائكة في معرفتها، فبادرت إلى إكرامه، ومشافهته، وإعظامه، ومصافحته، والمسؤول من الكريم المتعال أن يمنحنا من صفاء هذه الأحوال. انتهى [«المفهم» (7) / (68)].
وقال الطيبيّ: قوله:» على فرُشكم، وطرقكم «يريد به الديمومة في جمِيع الحالات، وقال الأشرف: أي: في حالتَ فراغكم، وشُغلكم، وفي زمانَيْ أيامكم ولياليكم. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (5) / (1732)].
قال: وقوله: (ولَكِنْ يا حَنْظَلَةُ) استدراك عن هذا التعليق، وتقرير على الحالة التي كان عليها حنظلة، وأنكر عليها، ومن ثَمّ ناداه باسمه؛ تنبيهًا على أنه كان ثابتًا على الصراط المستقيم، وما نافق قط. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (5) / (1732)].
(ساعَةً)؛ أي: كذا؛ يعني: المنافسة، (وساعَةً»)؛ أي: كذا؛ يعني: المعافسة، وفي رواية: «ساعة فساعة» بالفاء، قال ابن الملك: الفاء في الساعة الثانية للإيذان بأن إحدى الساعتين معقبة بالأخرى.
والمعنى: أنه لا يكون الرجل منافقًا بأن يكون في وقت على الحضور، وفي وقت على الفتور، ففي ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم، وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم.
ويحْتَمِل أن يكون قوله: «ساعة وساعة» للترخيص، أو للتحفظ؛ لئلا تسأم النفس عن العبادة.
وحاصله: أن هذه المداومة على ما ذكرت يا حنظلة مشقّة لا يطيقها كلّ أحد، فلم يكلَّف بها، وإنما الذي يطيقه الأكثرون أن يكون الإنسان على هذه الحالة ساعة، ولا عليه بأن يصرف نفسه للمعافسة المذكورة وغيرها ساعة أخري، وأنت كذلك، فأنت على الصراط المستقيم، ولم يحصل منك نفاق قط، كما توهمته، فانته عن اعتقادك ذلك، فإنه مما يُدخله الشيطان على السالكين، حتى يغيّرهم عما هم فيه، ثم لا يزال يغيّرهم كذلك إلى أن يتركوا العمل رأسًا. [«مرقاة المفاتيح» (5) / (51)].
(المسألة الثانية): في فوائده:
(1) – (منها): أنه ينبغي للمؤمن أن يكون شديد الخوف من النفاق على نفسه، وقد ترجم البخاريّ – رَحِمَهُ اللهُ – على هذا في «كتاب الإيمان» من «صحيحه»، فقال: «باب خوف المؤمن أن يحبط عمله، وهو لا يشعر»، ….. [» صحيح البخاريّ” (1) / (26)].
(2) – (ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة – رضي الله عنهم – من شدّة الخوف من النفاق، مع قوّة إيمانهم، واجتهادهم في إخلاص العمل لله تعالى.
قال الحافظ ابن رجب – رَحِمَهُ اللهُ – في كتابه الممتع، جامع العلوم والحكم «: كان الصحابة – رضي الله عنهم – يخافون النفاق على أنّفسهم، وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه، وسئل أبو رجاء العُطارديّ: هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخشون النفاق؟ فقال: نعم إني أدركت منهم بحمد الله صدرًا حسنًا، نَعَم شديدًا، نعم شديدًا، وقال البخاريّ في» صحيحه «: وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كلهم يخاف النفاق على نفسه، ويُذكر عن الحسن: ما خافه إلّا مؤمن، ولا أمِنه إلّا منافق. انتهى.
والآثار عن السلف في هذا كثيرة جدًّا، قال سفيان الثوريّ: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث، فذكر منها، قال: نحن نقول: نفاق، وهم يقولون: لا نفاق، وقال الأوزاعيّ: قد خاف عمر النفاق على نفسه، قيل لهم: إنهم يقولون إن عمر لَمْ يَخَفْ أن يكون يومئذ منافقًا حتى سأل حذيفة، ولكن خاف أن يُبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع، يشير إلى أن عمر كان يخاف على النفاق على نفسه في الحال الظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف نفسه في الحال من النفاق الأصغر، والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر كما أن المعاصي بريد الكفر، وكما يُخشى على من أصر على المعصية أن يُسلَب الإيمان عند الموت، كذلك يُخشى على من أصر على خصال النفاق أن يُسلب الإيمان، فيصير منافقًا خالصًا.
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: ومن يأمَن على نفسه النفاق؟
قال: ومن أعظم خصال النفاق العمليّ أن يعمل الإنسان عملًا، ويُظهر أنه قصد به الخير، وإنما عَمِله ليتوصل به إلى غرض له سيئ، فيتم له ذلك، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه، وحَمْد الناس له على ما أظهره، ويتوصل به إلى غرضه السيئ الذي أبطنه، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود، فحَكى عن المنافقين أنهم: {والَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا وكُفْرًا وتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وإرْصادًا لِمَن حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنا إلّا الحُسْنى واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [التوبة (107)]، وأنزل في اليهود: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذابِ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ ((188))} [آل عمران (188)]، وهذه الآية نزلت في اليهود: سألهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره، فخرجوا، وقد أرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفَرِحوا بما أوتوا من كتمانهم، وما سئلوا عنه، قال ذلك ابن عباس، وحديثه مخرَّج في «الصحيحين».
وفيهما أيضًا عن أبي سعيد: أنّها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إلى الغزو، وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلافه، فإذا قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الغزو اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يُحمدوا بما لَمْ يفعلوا.
وفي حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “قال من غشنا فليس منا، والمكر والخديعة في النار» [رواه الطبرانيّ، وصححه ابن حبّان]، وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة.
وفي «مسند البزار» عن أنس قال: قالوا: يا رسول الله إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره، قال: «كيف أنتم وربّكم؟» قالوا: الله ربنا في السر والعلانية، قال: «ليس ذاكم من النفاق». [رواه البزار في «مسنده» رقم ((2) (5))، وأبو نعيم في «الحلية» (2) / (332)، وذكره الهيثميّ في «المجمع» (1) / (32)، وزاد نسبته إلى أبي يعلي، وقال: رجاله رجال الصحيح، انتهى]. انتهى [راجع: «جامع العلوم والحكم» (2) / (491) – (495)].
[تنبيه]: “انظر ما كتبه ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين ((1) / (358)) حول خشية الصحابة من النفاق وخوفهم منه لعلمهم بدقه وجله، مع أن قلوبهم كانت ممتلئة إيمانًا بخلاف غيرهم ممن لا يجاوز الإيمان حناجرهم، ويظنون أنهم أكمل الناس إيمانًا”. [زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه – عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر].
(3) – (ومنها): ما قاله القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: وقول أبي بكر – رضي الله عنه -: «والله إنا لنلقى مثل هذا» ردّ على غلاة الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال، ولا يعرجون بسببها على أهل، ولا مال، ووَجْه الردّ: أن أبا بكر – رضي الله عنه – أفضل الناس كلهم بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى يوم القيامة، ومع ذلك، فلم يدّع خروجًا عن جبلّة البشرية، ولا تعاطى من دوام الذكر، وعدم الفترة ما هو خاصة الملائكة، وقد ادّعى قوم منهم دوام الأحوال، وهو بما ذكرناه شبه المحال، وإنما الذي يدوم المقامات، لكنها تتفاوت فيها المنازلات، والمقام: ما يحصل للإنسان بسعيه وكسبه، والحال: ما يحصل له بهبة ربه، ولذلك قالوا: المقامات مكاسب، والأحوال مواهب، ومن طاب وقته علا نَعْته، ومن صفا وارده طاب وِرْدُه.
وعلى الجملة فسُنَّة الله في هذا العالم الإنسانيّ جَعْلُ تمكينهم في تلوينهم، ومشاهدتهم في مكابدتهم،
وسِرُّ ذلك أن هذا العالَم متوسّط بين عالَمَي الملائكة والشياطين، فمكّن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون، ويسبّحون الليل والنهار لا يفترون، ومكَّن الشياطين في الشرّ والإغواء، بحيث لا يغفلون، وجعل هذا العالم الإنسانيّ متلوّنًا، فيمكّنه، ويُلَوِّنه، ويُفنيه ويُبقيه، ويُشهده، ويُفقده، وإليه أشار النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بقوله: «ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة». هكذا الكمال، وما عداه تُرّهاتٌ وخيال. انتهى [«المفهم» (7) / (67) – (68)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
4 – (ومنها): “فضل التذكير والوعظ.
5 – (ومنها): وأن المطلوب التخول بالموعظة فترة بعد فترة لئلا تمل القلوب.
6 – (ومنها): وفضل التفكر والمراقبة
7 – (ومنها): والرخصة في التمتع بالحلال من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.
8 – (ومنها): ما كان عليه الصحابة من رقة القلوب التي تنفعل بالوعظ مصداقا؛ لقوله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} [الأنفال (2)]
9 – (ومنها): ما كانوا عليه من الحرص على مجانبة النفاق
10 – (ومنها): منقبة لحنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما
11 – (ومنها): استنصاح المسلم أخاه بشأن مصلحته الشخصية
12 – (ومنها): يسر الدين الإسلامي ومسايرته لمطالب العصر ولكل زمان ومكان.
13 – (ومنها): ومن تكراره – صلى الله عليه وسلم – النصيحة ثلاث مرات، استحباب تكرار النصائح؛ لتستقر في النفس وللتأكيد والإشعار بالاهتمام. [فتح المنعم].
14 – (ومنها): الحديث دليل على قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص.
فقول حنظلة رضي الله عنه «نافق حنظلة» لا يلزم منه وقوع النفاق فيه؛ لأن ذلك وقع منه على سبيل المبالغة والورع والتقوى وقوة المراقبة وشدة الخوف، كما هو شأن باقي أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وإنما معنى كلامه هو أنه خاف من النفاق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي – صلى الله عليه وسلم – ويظهر مع شدة المراقبة والتفكر والإقبال على الآخرة وهذا زيادة في الإيمان، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، فيكون إيمانه في هذه الحالة أضعف مما هو عليه عندما يكون في مجلس الذكر. وهذا نقص في الإيمان، فهو رضي الله عنه حسب أن هذا نفاق، فبين له النبي – صلى الله عليه وسلم – أن هذا ليس نفاقًا وأنه لا يستطيع أن يداوم على درجة واحدة من الإيمان، لأن الإيمان يتفاوت فيزيد إذا حصلت أسباب الزيادة وينقص إذا حصلت أسباب النقص.
كما قال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه: «الإيمان يزيد وينقص، قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا، فذلك نقصانه».
وبهذا يتبين وجه دلالة الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، والله أعلم. [زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه – عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ص (96 – 98)].
15 – (ومنها): الرجوع إلى العلماء فيما يستشكل من المسائل.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): معنى: ((ساعة وساعة))
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
“وقوله: ((سَاعَةً وَسَاعَةً)) معناه: ساعة لقوة اليقظة، وساعة للمباح، وإن أوجبت بعض الغفلة؛ وهذا لأن الإنسان لو حقق مع نفسه ما بقي.
فلا بد للمتيقظ من التعرّض لأسباب الغفلة ليعدل ما عنده، ومن أين يقدر على الأكل والشرب والجماع من يرى الأمر – أي الآخرة – كأنه معاين، وإن من الغفلة لنعمة عظيمة، إلا أنها إذا زادت أفسدت، إنما ينبغي أن تكون بمقدار ما يعدّل” [كشف المشكل (4/ 229 – 230)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
” ((ساعة وساعة)) يعني: ساعة للرب عز وجل، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس؛ حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم.
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطي حقه عز وجل، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم؛
حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عز وجل براحة؛ لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها مل وتعب، وأضاع حقوقًا كثيرة.
[تنبيه] وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف، يكون كذلك أيضًا في العلوم، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللًا في مراجعة كتاب ما، فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللًا من دراسة فن معين، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه، ويحصل علمًا كثيرًا.
أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف، إلا ما شاء الله؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبا له، ويكون ديدنًا له، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم. [شرح رياض الصالحين – ابن عثيمين-تراث].
(المسألة الثانية): حال الناس مع المواعظ، وأثره عليهم.
قال ابن الجوزي رحمه الله:
«قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظةٌ، فإذا انفصل عن مجلس الذِّكر، عادت القسوة والغفلة، فتدبَّرت السبب في ذلك، فعرفته، ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أنّ القلب لا يكون على صفه من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين:
أحدهما: أنّ المواعظ كالسِّياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها.
والثّاني: أنّ حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلَّة، قد تخلّى بجسمه وفكره عن أسباب الدُّنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، فكيف يصحُّ أن يكون كما كان؟!
وهذه حالةٌ تعمُّ الخلق!
إلا أنّ أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر،
فمنهم من يعزم بلا تردُّدٍ، ويمضي من غير التفاتٍ، فلو توقَّف بهم ركب الطبع لضجُّوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة!
ومنهم أقوامٌ يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدَّم من المواعظ إلى العمل أحيانًا، فهم كالسُّنبلة تميلها الرِّياح.
وأقوامٌ: لا يؤثِّر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماءٍ دحرجته على صفوانٍ». انتهى [صيد الخاطر (ص (23))].
تنبيه: راجع شرح الصحيح المسند
(84) – قال الإمام أبو يعلى (ج (6) ص (58)): حدثنا عبد الواحد حدثنا غسان بن برزين يعني الطهوي حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: غدا أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم فقالوا: يا رسول الله هلكنا ورب الكعبة فقال: «وما ذاك؟» قالوا: النفاق النفاق قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله؟» قالوا: بلى قال: «ليس ذاك النفاق» قال: ثم عادوا الثانية فقالوا: يا رسول الله هلكنا ورب الكعبة قال: «وما ذاك؟» قالوا: النفاق النفاق قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؟» [ص (81)] قالوا: بلى قال: «ليس ذاك النفاق» قال: ثم عادوا الثالثة فقالوا: يا رسول الله هلكنا ورب الكعبة قال: «وما ذاك؟» قالوا: النفاق النفاق قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؟» قالوا: بلى قال: «ليس ذاك النفاق» قالوا: إنا إذا كنا عندك كنا على حال وإذا خرجنا من عندك همتنا الدنيا وأهلونا قال: «لو أنكم إذا خرجتم من عندي تكونون على الحال الذي تكونون عليه لصافحتكم الملائكة بطرق المدينة».
هذا حديث حسنٌ. وعبد الواحد هو ابن غياث.