2731 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(22) – بابُ فَضْلِ سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ
(84) – ((2731)) حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا حَبّانُ بْنُ هِلالٍ، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا سَعِيدٌ الجُرَيْرِيُّ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ الجِسْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الصّامِتِ، عَنْ أبِي ذَرٍّ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ? سُئِلَ أيُّ الكَلامِ أفْضَلُ؟ قالَ: «ما اصْطَفى اللهُ لِمَلائِكَتِهِ أوْ لِعِبادِهِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ»
(85) – ((2731)) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أبِي بُكَيْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الجُرَيْرِيِّ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ الجِسْرِيِّ، مِن عَنَزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصّامِتِ، عَنْ أبِي ذَرٍّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ?: «ألا أُخْبِرُكَ بِأحَبِّ الكَلامِ إلى اللهِ؟» قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ أخْبِرْنِي بِأحَبِّ الكَلامِ إلى اللهِ، فَقالَ: «إنَّ أحَبَّ الكَلامِ إلى اللهِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ»
==========
التمهيد:
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(أوْ) للشكّ من الراوي، هل قال: لملائكته، أو قال: (لِعِبادِهِ: سُبْحانَ اللهِ) معناه: تنزيه الله عما لا يليق به، من كل نقص،
ويُطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر، وُيطلق ويراد به صلاة النافلة، و «سبحان» اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف، تقديره: سبّحت الله سبحانًا، [«الفتح» (14) / (454)]،
(وبِحَمْدِهِ) قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبّح الله متلبسًا بحمدي له، من أجل توفيقه، وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبّح الله، وأتلبّس بحمده، ويحْتَمِل أن يكون الحمد مضافًا للفاعل، والمراد من الحمد لازِمه، أو ما يوجب الحمد من التوفيق ونحوه، ويحْتَمِل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف، متقدم، والتقدير: وأثني عليه بحمده، فيكون «سبحان الله» جملة مستقلة، و «بحمده» جملة أخرى.
وقال الخطابيّ في حديث: «سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك»؛ أي: بقوّتك التي هي نعمة توجب عليّ حمدك سبّحتك، لا بحولي وبقوتي، كأنه يريد أن ذلك مما أقيم فيه السبب مقام المسبَّب، قاله في «الفتح» [«الفتح» (17) / (632)، «كتاب التوحيد» رقم ((7563))].
وقال الطيبيّ –رحمه الله-: فيه تلميح إلى قوله تعالى، حكاية عن الملائكة: {ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ} الآية [البقرة (30)]، ويمكن أن يكون «سبحان الله وبحمده» مختصرًا من الكلمات الأربع: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»؛ لِما سبق أن «سبحان الله» تنزيه لذاته عما لا يليق بجلاله، وتقديس لصفاته من النقائص، فيندرج فيه معنى «لا إله إلا الله»،
وقوله: «وبحمده» صريح في معنى «الحمد لله»؛ لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد، ويستلزم ذلك معنى «الله أكبر»؛ لأنه إذا كان كل الفضل، والإفضال لله، ومن الله، وليس من غيره شيء من ذلك، فلا يكون أحد أكبر منه.
[فإن قلت]: يلزم من هذا أن يكون التسبيح أفضل من التهليل.
[قلت]: لا يلزم ذلك؛ إذ التهليل صريح في التوحيد، والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الإلهية في قول «لا إله» نفي لمضمونها من الخالقية، والرازقية، والإثابة، والمعاقبة، وقوله: «إلا الله» إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضادّ الإلهية، ويخالفها من النقائص، فمنطوق «سبحان الله» تنزيه، ومفهومه توحيد، ومنطوق «لا إله إلا الله» توحيد، ومفهومه تقديس؛ يعني: فيكون «لا إله إلا الله» أفضل؛ لأن التوحيد أصل، والتنزيه ينشأ عنه، قال: فإذا اجتمعا دخلا في أسلوب الطرد والعكس، والله يقول الحقّ، وهو يهدي السبيل. انتهى كلام الطيبيّ –رحمه الله-. [«الكاشف عن حقائق السنن» (6) / (1821) – (1822) بزيادة من «المرعاة» (7) / (914)].
وقال النوويّ – رحمه الله -: قوله – ? -: «أحب الكلام إلى الله … إلخ» هذا محمول على كلام الآدميّ، وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح، والتهليل المطلق، فأمّا المأثور في وقت، أو حال، ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (48)].
وقال القرطبيّ –رحمه الله-: هذا الحديث يعارضه قوله في حديث أبي هريرة المتقدِّم في فضل التهليل: «ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك»، وقوله: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»، وقد تقدَّم في حديث سمرة بن جندب قوله – ? -: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرّك بأيهنّ بدأت» فقد مضى هذا الحديث بأن الأربعة متساوية في الأفضلية، والأحبية، من غير مراعاة تقديم بعضها على بعض، ولا تأخيره، وأن التسبيح وحده لا ينفرد بالأفضلية، ولا التهليل وحده أيضًا ينفرد بها، وإذا ثبت ذلك، فحيث أُطلق أن أحد هذه الأذكار الأربعة أفضل الكلام، أو أحبّه، إنما يراد إذا انضمت إلى أخواتها الثلاث المذكورة في هذا الحديث، إما مجموعة في اللفظ، أو في القلب بالذكر؛ لأنّ اللفظ إذا دلّ على واحد منها بالمطابقة دلّ على سائرها باللزوم.
وبيان ذلك: أن معنى «سبحان الله» البراءة له من كل النقائص، والتنزيه عما لا يليق بجلاله، ومن جملتها تنزيهه عن الشركاء، والأنداد، وهذا معنى «لا إله إلا الله»، هذا مدلول اللفظ من جهة مطابقته، ولمّا وجب تنزيهه عن صفات النقص، لزم اتصافه بصفات الكمال؛ إذ لا واسطة بينهما، وهي المعبَّر عنها بالحمد لله، ثم لمّا تنزه عن صفات النقص، واتّصف بصفات الكمال، وجبت له العظمة والجلال، وهو معنى «الله أكبر»، فقد ظهر لك أن هذه الأربعة الأذكار متلازمة في المعنى، وأنها قد شَمِلها لفظ الأحبّية، كما جاء في الحديث، فمن نطق بجميعها، فقد ذكر الله تعالى بأحب الكلام إلى الله لفظًا ومعنًى، ومن نطق بأحدها، فقد ذكر الله ببعض أحب الكلام نطقًا، وبجميعها معنًى، من جهة اللزوم الذي ذكرناه، فتدبر هذه الطريقة، فإنّها حسنة، وبها يرتفع التعارض المتوهّم بين تلك الأحاديث- والله تعالى أعلم-.
ولم أجد في كلام المشايخ ما يُقنع، وقد استخرت الله تعالى فيما ذكرته. انتهى كلام القرطبيّ – رحمه الله -[» المفهم” (7) / (59) – (60)]، وهو تحقيقٌ مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
قال ابن عثيمين رحمه الله: ” ((سبحان الله وبحمده)) المعنى أنك تنزه الله تعالى عن كل عيب ونقص، وأنه الكامل من كل وجه جل وعلا، مقرونا هذا التسبيح بالحمد الدال على كمال إفضاله وإحسانه إلى خلقه جل وعلا، وتمام حكمته وعلمه وغير ذلك من كمالاته”. [شرح رياض الصالحين (5/ 486)].
وحديث أبي ذرّ – رضي الله عنه -، هذا من أفراد المصنّف –رحمه الله-.
شرح حديث:
[(6902)] ( … ) – قال ابن الملقن رحمه الله:
فصل:
“وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – سلف في الأدعية –أي: «كَلِمَتانِ حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتانِ عَلى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ فِي المِيزانِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ اللهِ العَظِيمِ» -، وهو دال على أن تسبيح الله وتقديسه من أفضل النوافل وأعظم الذخائر عنده تعالى، ألا ترى قوله: «حبيبتانِ إلى الرَّحمن»، ووجهه أن التسبيح لما كان معناه: التنزيه والإبعاد عما ينسب إليه مما لا ينبغي من صاحبة وولد وشريك كان حبيبًا إليه.
وثبت في «صحيح مسلم»، «ومسند أحمد»، و «الأدب» للبخاري، والنسائي في «اليوم والليلة» والترمذي وقال: حسن صحيح عن أبي ذر رضا الله عنه قلت: يا رسول الله، أي الكلام أحب إلى الله تعالى؟ قال: «ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان الله وبحمده. ثلاثًا نقولها».
وروينا في «مسند أحمد» عن ابن مهدي، حدثنا إسرائيل، عن أبي سنان، عن أبي صالح الحنفي، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة – رضي الله عنهما – أن رسول الله – ? -، قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كتب الله له عشرين حسنة أو حط عنه عشرين سيئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتب الله له ثلاثين حسنة أو حط عنه ثلاثين سيئة». [أحمد (2) / (302) وقال الهيثمي في «المجمع»، (10) / (78): رجاله رجال الصحيح]. قال محققو المسند: اسناده صحيح على شرط مسلم.
قلت: وهي إحدى الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، على قول ابن عباس – رضي الله عنهما – وجماعة [انظر: «تفسير الطبري» (8) / (230) – (231)]، فإن زاد: عدد خلقه، وزنة عرشه ورضا نفسه ومداد كلماته كان عظيمًا كما شهد له به – عليه السلام -،
وروينا في «صحيح مسلم» من حديث جويرية أم المؤمنين – قال – عليه السلام -: «لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وُزِنتْ بما قُلْتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته»
انتهى. [التوضيح لشرح الجامع الصحيح (ج33/ 591 – 592)].
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): فضل التسبيح
إنّ التسبيح له شأن عظيم ومكانة رفيعة؛ إذ هو أحد الكلمات الأربع التي وصفها رسول الله ? بأنّها خيرُ الكلام وأحبُّه إلى الله، وقد جاء في بيان فضلها وشرفها وعِظم قدرها نصوصٌ كثيرة في الكتاب والسنة، بل إنّ ما ورد في ذلك لا يُمكن حصرُه لكثرته وتعدّده،
[النصوص الواردة في القرآن الكريم]
وقد ورد ذكر التسبيح في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرة، بصِيغ مختلفة وأساليب متنوِّعة، فورد تارة بلفظ الأمر كما في قوله –تعالى -: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا}، وتارة بلفظ الماضي كما في قوله تعالى: {سَبَّحَ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التسبيح في مُفتتح ثَماني سُوَر من القرآن الكريم،
قال بعض أهل العلم [بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي ((2) / (285) وما بعدها)]: والتسبيح ورد في القرآن على نحو من ثلاثين، وتارة بلفظ المضارع كما في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ للهِ ما فِي السَّمَواتِ وما فِي الأرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ}، وتارة بلفظ المصدر كما في قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ} وجهًا، ستةٍ منها للملائكة، وتسعةٍ لنبيّنا محمد ?، وأربعةٍ لغيره من الأنبياء، وثلاثةٍ للحيوانات والجمادات -كالسماوات والأرض-، وثلاثةٍ للمؤمنين خاصة، وستةٍ لجميع الموجودات.
[لفظة {سُبْحانَ} في القرآن]
وقد ذكر الله – تعالى – لفظة {سُبْحانَ} في القرآن في خمسة وعشرين موضعًا، في ضمن كلِّ واحد منها إثباتُ صفة من صفات المدح، أو نفيُ صفة من صفات الذم [بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي ((3) / (176))]، منها قوله تعالى: {سُبْحاَنَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّمَواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ}، وقوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}، وقوله تعالى: {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ}، وقوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ ولَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَواتِ والأرْضِ وعَشِياًّ وحِينَ تُظْهِرُونَ}، وقوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّ السَّمَواتِ والأرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ}، وقوله تعالى: {دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلاَمٌ}.
فهذه النصوص القرآنية الكريمة وما جاء في معناها في كتاب الله تدل أوضح دلالة على جلالة قدر التسبيح، وعظيم شأنه من الدين، وأنّه من أجَلِّ الأذكار المشروعة، ومن أنفع العبادات المقربة إلى الله تعالى.
[النصوص الواردة في السنة النبوية]
وقد دلّت السنة النبوية – أيضًا – على فضل التسبيح وعظيم مكانته عند الله من وجوه كثيرة، بل إنّ السنةَ مليئةٌ بالنصوص الدّالة على عظيم شأن التسبيح، وشريف قدره، وجزيل ثواب أهله، وبيان ما أعدّ الله لهم من أجورٍ كريمةٍ، وأفضالٍ عظيمةٍ، وعطايا جمَّةٍ. وقد تضمّنت تلك النصوص الدلالةَ على ذلك من وجوهٍ كثيرةٍ:
ومن ذلك أنّ النبيّ ? أخبر أنّ التسبيح أفضل الكلام وأحبُّه إلى الله، وقد سبق أنْ مرَّ معنا ….
ومِن فضائل التسبيح ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيَّ ? قال: «مَن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مِثلَ زَبَدِ البحر» [صحيح البخاري (رقم: (6405))، وصحيح مسلم (رقم: (2691))].
وثبت عنه ? أنّ من قالها في الصّباح مائة مرّة وفي المساء مائة مرّة، لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ مَن قال مثل ذلك وزاد عليه. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ?: “مَن قال حين يُصبحُ وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ أحدٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه» [صحيح مسلم (رقم: (2692))].
وثبت عنه ? أنّ من قالها في يومٍ مائة مرّة كُتبت له ألفُ حسنةٍ أو حُطَّت عنه ألفُ خطيئةٍ، والحسنةُ بِعشر أمثالها. روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: كُنّا عند رسول الله ? فقال: «أيَعجزُ أحدُكم أن يكسب كلَّ يومٍ ألفَ حسنةٍ؟ فسأله سائلٌ من جلسائِه: كيف يكسب أحدُنا ألفَ حسنة؟ قال: يسبِّح مائة تسبيحة فيُكتبُ له ألفُ حسنةٍ أو يُحطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ» [صحيح مسلم (رقم: (2698))].
ومما ورد في فضل التسبيح إخبار النبيِّ ? عن ثِقل التسبيح في الميزان يوم القيامة مع خفّة ويسر العمل به في الدنيا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ?: «كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن، خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» [صحيح البخاري (رقم: (6406))، وصحيح مسلم (رقم: (2694))].
ومن فضائل هذه الكلمة العظيمة، ما رواه الترمذي، وابن حبّان، والحاكم، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبيِّ ? أنّه قال: «مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرست له نخلةٌ في الجنَّةِ» [سنن الترمذي (رقم: (3464))، وصحيح ابن حبان (رقم: (826)، (827))، ومستدرك الحاكم ((1) / (501))، وصححه العلاّمة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: (64))]، وله شاهدان:
أحدهما: من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه- موقوفًا، خرّجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه. [المصنف ((6) / (56)).
والآخر: من حديث معاذ بن سهل مرفوعًا، خرّجه الإمام أحمد في مسنده [المسند ((3) / (440))].
ومن فضائل هذه الكلمة ما رواه الطبراني، والحاكم، من حديث نافع بن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله ?: «مَن قال سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكرٍ كانت كالطّابع يطبع عليه، ومَن قالها في مجلس لغوٍ كانت كفّارة له».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وصحّحه العلاّمة الألبانيُّ. [المعجم الكبير (رقم: (1586))، والمستدرك ((1) / (537))، والسلسلة الصحيحة (رقم: (81))].
وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة ? عن النبيِّ ? أنّه قال: «مَن جلس في مجلس فكثُر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاّ غُفر له ما كان في مجلسه ذلك» [سنن الترمذي (رقم: (3433))، وصحيح ابن حبان (رقم: (594))، والمستدرك ((1) / (536))، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم: (6192))].
فهذه جملةٌ من الأحاديث الواردة في التسبيح والدّالة على عظيم فضله وثوابه عند الله، وفي أكثر هذه الأحاديث قُرن مع التسبيح حمدُ الله – تعالى -؛ وذلك لأنّ التسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب، والتحميدُ فيه إثباتُ المحامد كلّها لله عزوجل، والإثبات أكملُ مِنَ السّلب، ولهذا لم يَرِد التسبيحُ مجرّدًا، لكن ورد مقرونًا بما يدلّ على إثبات الكمال، فتارةً يُقرنُ بالحمد كما في هذه النصوص، وتارةً يُقرنُ باسم من الأسماء الدّالة على العظمة والجلال، كقول: سبحان الله العظيم، وقول: سبحان ربّي الأعلى، ونحو ذلك [انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص: (204))].
والتنزيه لا يكون مدحًا إلاّ إذا تضمّن معنىً ثبوتيًّا، ولهذا عندما نزَّه الله – تبارك وتعالى – نفسه عمّا لا يليق به ممّا وصفه به أعداء الرُّسل سلَّم على المرسلين الذين يثبتون لله صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه اللاّئق به، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}، وفي هذه الآية – أيضًا – حمد الله نفسه بعد أن نزّهها؛ وذلك لأنّ الحمدَ فيه إثباتُ كمال الصفات، والتسبيحَ فيه تنزيه الله عن النّقائص والعيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح وإثبات الكمال بالحمد، وهذا المعنى يرِد في القرآن والسنّة كثيرًا، فالتسبيحُ والحمدُ أصلان عظيمان وأساسان متينان يقوم عليهما المنهجُ الحقُّ في توحيد الأسماء والصفات، وبالله وحده التوفيق”. [دراسات في الباقيات الصالحات — عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (42 – 51)].
(المسألة الثانية): تسبيحُ جميع الكائنات لله
إنّ الله – تعالى – لكمال عظمته، ولتمام ملكه وعزَّته، تسبِّحُ له جميعُ الكائنات، من سماء، وأرض، وجبال، وأشجار، وشمس، وقمر، وحيوان، وطيرٍ، وإنْ مِن شيءٍ إلاّ يُسبِّح بحمده.
وهو تسبيحٌ حقيقيٌّ يصدر من هذه الكائنات بلسان المقال، وليس بلسان الحال كما يدّعيه بعضهم، واللهُ – جلَّ وعلا – يجعل لهذه الكائنات إدراكات تسبِّح بها يعلمها هو – جلَّ وعلا – ونحن لا نعلمها، كما قال سبحانه: {وإن مِن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
قال الإمام أبو منصور الأزهريُّ – رحمه الله – في كتابه تهذيبُ اللغة: «وممّا يدلُّك على أنّ تسبيح هذه المخلوقات تسبيحٌ تُعُبِّدت به، قول الله جلّ وعزّ للجبال: {ياجِبالَ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْر}، ومعنى أوِّبي أي: سبِّحي مع داود النّهار كلّه إلى الليل، ولا يجوز أن يكون معنى أمر الله جلّ وعزّ للجبال بالتأويب إلاّ تعبُّدًا لها، وكذلك قوله جلّ وعزّ: {ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَواتِ ومَن فِي الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ}، فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها، وكذلك قوله: {وإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ مِنها لَما يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللهِ}، وقد علم الله هبوطها من خشيته، ولم يعرّفنا ذلك، فنحن نؤمن بما أعلمنا ولا ندّعي بما لم نكلّف بأفهامنا، مِن عِلْمِ فِعلِها كيفيّةً نحدّها» [تهذيب اللغة ((4) / (340))] اهـ. كلامه – رحمه الله -، وهو كلام عظيم وتقرير حسن.
وقال النووي – رحمه الله – بعد أن أشار إلى ما قيل في المراد بالتسبيح، قال: «والصحيح أنّه يسبِّح حقيقة، ويجعل الله – تعالى – فيه تمييزًا بحسبه» [شرح صحيح مسلم ((15) / (26))].
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: «وأمّا تسبيح الطّير مع داود عليه السلام فتسبيح الجبال الصمّ أعجبُ مِن ذلك، وقد تقدّم في الحديث أنّ الحصا سبّح في كفِّ رسول الله ?، قال ابن حامد: وهذا حديثٌ معروفٌ مشهورٌ، وكانت الأحجارُ والأشجارُ والمدرُ تسلِّم عليه ?.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال:» لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل «يعني بيد النبيِّ ?، -أخرجه البخاري- وكلّمه ذراعُ الشّاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السُّمِّ، وشهدت بنبُوَّته الحيواناتُ الإنسيّة والوحشيّة، والجمادات – أيضًا – كما تقدّم بسط ذلك كلِّه، ولا شكّ أنّ صدور التسبيح من الحصا الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها أعجبُ مِن صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنّها وما شاكلها تردّد صدى الأصوات العالية غالبًا كما قال عبد الله بن الزبير كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزَرُود، ولكن من غير تسبيح، فإنّ ذلك من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله ? وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب» [البداية والنهاية ((6) / (286))] اهـ. كلامه –
تنبيه: حديث تسبيح الحصا بيد أبي بكر وعمر وعثمان ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (325)، (326) ونقل عن النسائي أنه حديث باطل
لكن قال ابن حجر في موافقة الخبر:
ووجدت في مسند البزار من طريق عبد اللَّه بن سالم عن الزبيدى عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي نحو حديث الباب، فإن يكن محفوظا تأيد التفسير المذكور وقوي القول بصحة الإسناد
رواه البزار ((2414)) وابن أبي عاصم والسنة ((1146)) والطبراني في مسند الشاميين ((1837)) وصححه الألباني في تعليقه على كتاب السنة، فراجعه.
قال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف، وضعف الحديث النسائي والعراقي.
قال ابن حجر في الفتح: … وأما تسبيح الحصى، فليست إلا هذه الطريق الواحدة، مع ضعفها، وأما تسليم الغزالة، فلم نجد له إسنادا، لا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف. اهـ.
الذي يشكل عندي في قول رجل من أهل الشام يعني الوليد بن عبد الرحمن الجرشي إنما هو عند أبي نعيم فهل جزمه صحيح.
قال ابن القيِّم – رحمه الله – وهو يتحدّثُ عن هذا الباب العظيم: «فسبحان من اختصَّ برحمته من شاء مِن الجبال والرِّجال … هذا وإنّها لَتعلمُ أنّ لها موعدًا ويومًا تنسف فيها نسفًا، وتصير كالعهن من هوله وعظمه، فهي مشفقةٌ من هول ذلك الموعد، منتظرةٌ له … فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقّتُها وخشيتُها وتدكدكها من جلال ربِّها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرُها وباريها أنّه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدّعت من خشية الله. فيا عجبًا من مضغة لحمٍ أقسى مِن هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويُذكرُ الرّبُّ فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب … » [مفتاح دار السعادة ((2) / (89))].
(المسألة الثالثة): معنى التسبيح
لا ريب أنّ التسبيح يُعدُّ من الأصول المهمّة والأُسُس المتينة التي ينبني عليها المُعتَقَد فيما يتعلّق بمعرفة الربّ – تبارك وتعالى – وأسمائه وصفاته، إذ إنّ المُعتَقَدَ في الأسماء والصفات يقوم على أصلين عظيمين وأساسين متينين هما الإثبات للصفات بلا تمثيل، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات بلا تعطيل.
والتسبيح هو التنزيه، فأصل هذه الكلمة من السَّبح وهو البُعد، قال الأزهري في تهذيب اللغة: «ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه، وكذلك تسبيحه تبعيده، من قولك: سبحتُ في الأرض إذا أبعدتَ فيها، ومنه قوله جلّ وعزّ: {وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (1)، وكذلك قوله: {والسّابِحاتِ سَبْحًا} (2)» [تهذيب اللغة ((4) / (338))].
فالتسبيح هو إبعادُ صفات النقص من أن تُضافَ إلى الله، وتنزيهُ الربِّ سبحانه عن السوء وعمّا لا يليقُ به، «وأصلُ التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك» [جامع البيان لابن جرير ((1) / (211))].
وقد ورد هذا المعنى في تفسير التسبيح في حديث يُرفع إلى النبيِّ ? إلاَّ أنّ في إسناده كلامًا، فقد روى الحاكمُ في المستدرك عن عبد الرحمن ابن حمّاد، ثنا حفص ابن سليمان، ثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله ? قال: سألتُ رسولَ الله ? عن تفسير سبحان الله، فقال: «هو تنزيه الله عن كلِّ سوءٍ». قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقّبه الذهبي في تلخيصه للمستدرك بقوله: «بل لم يصح فإن طلحة منكر الحديث، قاله البخاري، وحفصٌ واهي الحديث، وعبد الرحمن، قال أبو حاتم: منكر» [المستدرك ((1) / (502))].
ورُويَ الحديثُ من وجه آخر مرسلًا.
وورد في هذا المعنى آثارٌ عديدةٌ عن السلف – رحمهم الله -، روى جملةً منها الطبريُّ في تفسيره والطبرانيُّ في كتابه الدعاء في باب: تفسير سبحان الله [الدعاء للطبراني ((3) / (1591) وما بعدها)]، وغيرهما من أهل العلم، منها:
ما جاء عن ابن عباس – رضي الله عنه أنه قال: «سبحان الله: تنزيه الله – رضي الله عنه – عن كُلِّ سُوءٍ».
وعن عبد الله بن بريدة أنّ رجلًا سأل علياًّ رضي الله عنه عن سبحان الله فقال: «تعظيم جلال الله».
وجاء عن مجاهد أنه قال: «التسبيح انكفاف الله من كلِّ سوءٍ». قال ابن الأثير في النهاية: «أي: تنزيهه وتقديسه».
وعن ميمون بن مهران قال: «سبحان الله اسم يُعظَّمُ الله به، ويحاشى به من السوء».
وعن أبي عبيدة معمر بن المثنّى قال: «سبحان الله: تنزيه الله وتبرئته».
وعن محمد بن عائشة قال: «تقول العرب إذا أنكرت الشيء وأعظمته سبحان الله، فكأنّه تنزيه الله عن كلِّ سوء، لا ينبغي أن يوصف بغير صفته».
والآثار في هذا المعنى عن السلف كثيرة.
ونقل الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن غير واحد من أئمّة اللغة تفسير التسبيح بالمعنى السابق وقال: «وجِماعُ معناه بُعدُه – تبارك وتعالى – عن أن يكون له مثلٌ أو شريكٌ أو ضِدٌّ أو نِدٌّ» [تهذيب اللّغة ((4) / (339))].
وبهذه النقول المتقدِّمة يتبيَّنُ معنى التسبيح والمراد به، وأنّه تنزيه الله عزوجل عن كلِّ نقص وعيبٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “والأمر بتسبيحه يقتضي تنزيهه عن كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، وإثباتَ المحامد التي يُحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده» [دقائق التفسير لابن تيمية ((5) / (59))]. اهـ كلامه – رحمه الله -.
وبه يتبيّن أنّ تسبيحَ الله إنّما يكون بتبرئة الله وتنزيهه عن كلِّ سوء وعيبٍ، مع إثبات المحامد وصفات الكمال له سبحانه، على وجهٍ يليقُ به، أمّا ما يفعله المعطِّلةُ من أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم من تعطيل للصفات وعدم إثبات لها وجحدٍ لحقائقها ومعانيها بحجة أنّهم يسبِّحون الله وينزِّهونه، فهو في الحقيقة ليس من التسبيح في شيء، بل هو إنكارٌ وجحودٌ، وضلالٌ وبهتانٌ، ولذا يقول ابن هشام النحوي في كتابه مغني اللبيب: «ألا ترى أنّ تسبيحَ المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات» [مغني اللبيب ((1) / (140))، مع أنّه وقع في بعض ذلك، غفر الله له ورحمه].
ويقول ابن رجب رحمه الله في معنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (3) أي: «سبِّحه بما حمد به نفسه؛ إذ ليس كلُّ تسبيحٍ بمحمود، كما أنّ تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات» [تفسير سورة النصر (ص: (73))].
وقوله – عزوجل -: «إذ ليس كلُّ تسبيح بمحمود» كلامٌ في غاية الأهميَّة والدقَّة؛ إذ إنّ تسبيح الله بإنكار صفاته وجحدها وعدم إثباتها أمرٌ لا يُحمد عليه فاعله، بل يُذمُّ غايةَ الذمِّ، ولا يكون بذلك من المسبِّحين بحمد الله، بل يكون من المعطّلين المنكرين الجاحدين، من الذين نزّه الله نفسه عن قولهم ووصفهم بقوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلاَمٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ} (5). فسبّح الله نفسه عمّا وصفه به المخالفون للرسل، وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه في الله من النقص والعيب.
جاء عن عبد الرحمن بن مهدي وقد ذُكر عنده أنّ الجهميّة ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا أنّه قال: «قد هلك قوم من وجه التعظيم فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتابًا أو يرسل رسولًا ثم قرأ: {وما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ} (1) ثم قال: هل هلكت المجوس إلاّ من جِهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أنْ نعبُدَه، ولكن نعبدُ من هو أقربُ إليه منّا، فعبدوا الشمس وسجدوا لها، فأنزل الله: {والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفى} (2)» [ذكره التيمي في الحجة في بيان المحجّة ((1) / (440))].
كما قال الإمام أحمد – رحمه الله -: «لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسولُه ? لا يُتجاوَزُ القرآن والحديث» [ذكره شيخ الإسلام في الحموية، انظر: مجموع الفتاوى ((5) / (26))]. ومن كان على ذلك فهو على هدي قويمٍ، وعلى صراطٍ مستقيمٍ”. [دراسات في الباقيات الصالحات — عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (42 – 60)].