2704 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي ، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
١٣ – بابُ اسْتِحْبابِ خَفْضِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ
٤٤ – (٢٧٠٤) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وأبُو مُعاوِيَةَ، عَنْ عاصِمٍ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي مُوسى، قالَ: كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أيُّها النّاسُ ارْبَعُوا عَلى أنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وهُوَ مَعَكُمْ» قالَ وأنا خَلْفَهُ، وأنا أقُولُ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ، فَقالَ يا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ: ألا أدُلُّكَ عَلى كَنْزٍ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ، فَقُلْتُ: بَلى، يا رَسُولَ اللهِ قالَ: «قُلْ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ»،
٤٤ – حَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، وإسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، وأبُو سَعِيدٍ الأشَجُّ جَمِيعًا، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِياثٍ، عَنْ عاصِمٍ، بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَهُ
٤٥ – (٢٧٠٤) حَدَّثَنا أبُو كامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنا التَّيْمِيُّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي مُوسى، أنَّهُمْ كانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وهُمْ يَصْعَدُونَ فِي ثَنِيَّةٍ، قالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ، كُلَّما عَلا ثَنِيَّةً، نادى لا إلَهَ إلّا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ، قالَ: فَقالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: «إنَّكُمْ لا تُنادُونَ أصَمَّ، ولا غائِبًا» قالَ: فَقالَ: «يا أبا مُوسى أوْ يا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ ألا أدُلُّكَ عَلى كَلِمَةٍ مِن كَنْزِ الجَنَّةِ» قُلْتُ: ما هِيَ؟ يا رَسُولَ اللهِ قالَ: «لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ»،
٤٥ – وحَدَّثَناهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى، حَدَّثَنا المُعْتَمِرُ، عَنْ أبِيهِ، حَدَّثَنا أبُو عُثْمانَ، عَنْ أبِي مُوسى، قالَ: بَيْنَما رَسُولُ اللهِ ﷺ فَذَكَرَ نَحْوَهُ،
٤٥ – حَدَّثَنا خَلَفُ بْنُ هِشامٍ، وأبُو الرَّبِيعِ، قالا: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي مُوسى، قالَ: كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عاصِمٍ،
٤٦ – (٢٧٠٤) وحَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنا خالِدٌ الحَذّاءُ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي مُوسى، قالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزاةٍ، فَذَكَرَ الحَدِيثَ، وقالَ فِيهِ: «والَّذِي تَدْعُونَهُ أقْرَبُ إلى أحَدِكُمْ مِن عُنُقِ راحِلَةِ أحَدِكُمْ» ولَيْسَ فِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ
٤٧ – (٢٧٠٤) حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنا عُثْمانُ وهُوَ ابْنُ غِياثٍ، حَدَّثَنا أبُو عُثْمانَ، عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ألا أدُلُّكَ عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ – أوْ قالَ: عَلى كَنْزٍ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ -؟» فَقُلْتُ: بَلى، فَقالَ: «لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ»
٤٨ – (٢٧٠٥) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا لَيْثٌ، ح وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أخْبَرَنا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ، عَنْ أبِي الخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أبِي بَكْرٍ، أنَّهُ قالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: عَلِّمْنِي دُعاءً أدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي، قالَ: «قُلِ اللهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا – وقالَ قُتَيْبَةُ: كَثِيرًا – ولا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا أنْتَ، فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ، وارْحَمْنِي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»،
٤٨ – وحَدَّثَنِيهِ أبُو الطّاهِرِ، أخْبَرَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي رَجُلٌ سَمّاهُ وعَمْرُو بْنُ الحارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ، عَنْ أبِي الخَيْرِ، أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاصِ، يَقَولُ: إنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: عَلِّمْنِي يا رَسُولَ اللهِ دُعاءً أدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي، وفِي بَيْتِي، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ، غَيْرَ أنَّهُ قالَ: «ظُلْمًا كَثِيرًا»
==========
التمهيد:
” بعض الصحابة بالغوا في رفع الصوت بالدعاء ، فقال لهم ﷺ: ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه أو لصممه ليسمعه، وأنتم تدعون الله تعالى، وليس هو بأصم ولا غائب ولا بعيد بل هو سميع قريب، وهو معكم، بل هو أقرب من عنق راحلته، بل من حبل وريده، والله تعالى يقول: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين﴾ [الأعراف ٢٠٥]، بتصرف.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
(١٣) – (بابُ: اسْتِحْبابِ خَفْضِ الصَّوْتِ بِالذكْرِ)
[٦٨٣٨] (٤ ٠ ٢٧) – شرح الحديث:
(عَنْ أبِي مُوسى) عبد الله بن قيس الأشعريّ –رضي الله عنه-؛ أنه (قالَ: كُنّا مَعَ النَّبِيِّ -ﷺ- فِي سَفَرٍ)، وفي رواية للبخاريّ في «القدر»: «كنّا مع رسول الله – ﷺ- في
غَزاةٍ»، قال في «الفتح»: تقدّم في غزوة خيبر من كتاب المغازي بيان أنها غزوة
خيبر. انتهى [»الفتح«١٥/ ٢٢٣،»كتاب القدر«رقم (٦٦١٠)].
(فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ وشرع (النّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ) وفي الرواية التالية: «أنهم كانوا مع رسول الله -ﷺ-، وهم يصعدون في ثنيّة. قال:
فجعل رجل كلّما علا ثنيّة نادى: لا إله إلا الله، والله أكبر»، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الرجل، وفي رواية للبخاريّ: «كنا مع رسول الله -ﷺ- في غزاة، فجعلنا لا نَصعد شرفًا، ولا نعلو شرفًا، ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير». ( فَقالَ النَّبِيُّ -ﷺ-: «أيُّها النّاسُ ارْبَعُوا) بهمزة الوصل المكسورة، وفتح الباء الموحّدة؛ أي: ارفُقُوا،
وقال الخطابيّ: يريد: أمسكوا عن الجهر، وقفوا عنه، ويقال: أصل الكلمة من قولك: رَبَع الرجل بالمكان: إذا وقف عن السير، وأقام به. انتهى [»عمدة القاري” ١٤/ ٢٤٥].
والمعنى: ارفُقوا، ولا تُجهدوا أنفسكم بالمبالغة في رفع الصوت.
وقال في «الفتح»: قوله: «لا تدعون» كذا أطلق على التكبير ونحوه دعاءً من
جهة أنه بمعنى النداء؛ لكون الذاكر يريد إسماع مَن ذَكَره، والشهادة له. انتهى.
(وهُوَ مَعَكُمْ) أينما كنتم، المراد: معيّة العلم، والقبول، والنصر.
(أدُلُّكَ عَلى كَنْزٍ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ «) معنى الكنز هنا:
أنه ثواب مُدَّخَر في الجنة، وهو ثواب نفيسٌ، كما أن الكنز أنفس أموالكم، قاله النوويّ [»الفتح«٢٢٣/ ١٥].
قال: والمراد: أنها من ذخائر الجنة، أو من محصّلات نفائس الجنة، قال النوويّ: المعنى: أن قولها يحصّل ثوابًا نفيسًا يُدّخَر لصاحبه في الجنة.
وأخرج أحمد، والترمذيّ، وصححه ابن حبان، عن أبي أيوب؛ أن النبيّ -ﷺ- ليلةَ أُسري به مَر على إبراهيم- على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام-
فقال: «يا محمد مُرْ أمتك أن يُكثروا من غِراس الجنة، قال: وما غِراس الجنة؟ قال: لا حول، ولا قوّة الا بالله». انتهى [«الفتح» ١٥/ ٢٢٣].
قوله«لا حول»: لا حِيلة، يقال: ماله حيلة [«كشف المشكل» لابن الجوزيّ ١/ ٤١٣].
وقال النوويّ: قال أهل اللغة: الحول: الحركة، والحيلة؛ أي: لا حركة، ولا استطاعة، ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل: معناه لا حول في دفع شرّ، ولا قوة في تحصيل خير، إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحُكي هذا عن ابن مسعود -رضي الله عنه-،
وكله متقارب، قال أهل اللغة: ويعبَّر عن هذه الكلمة بالحوقلة، والحولقة
قال العلماء: سبب كونها كنزًا من كنوز الجنّة أنها كلمة استسلام، وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر. انتهى [«شرح النوويّ» ١٧/ ٢٦ بتصرّف]، والله تعالى أعلم.
فوائد وفقه الحديث:
١ – (منها): بيان استحباب ذكر الله تعالى في السفر.
٢ – (ومنها): بيان عدم مشروعيّة رفع الصوت بالذكر، والمراد به: المبالغة فيه، لا أصل الرفع، فقد ثبت في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة كان على عهد النبيّ -ﷺ-.
قال السنديّ رحمه الله: مقتضاه أن رفع الصوت لا يُكره لذاته، بل لِما فيه من التعب والمشقة على صاحبه، فالمكروه هو الجهر الشديد المشتمِل على النعت، لا مجرد الإظهار، إلا إذا تضمّن مفسدة الرياء، فلا حجة فيه لمن يقول بكراهة الجهر مطلقًا، والله تعالى أعلم. انتهى [«حاشية السنديّ على صحيح البخاريّ» ٢/ ٧١].
٣ – (ومنها): ما قاله الطحاويّ رحمه الله: في هذا الحديث أمَر النبيّ -ﷺ-
بالإرباع على أنفسهم في رفع الأصوات بالتكبير، فيما كانوا رفعوها به، وإعلامهم مع ذلك أنهم لا يَدْعُون أصمّ، ولا غائبًا، فكانت التلبية كذلك، إنما يراد بها ذِكر الله، وليس بأصمّ، ولا غائبًا، فيحتاج إلى رفع الأصوات بها، وهذان الحديثان فيهما من التضادّ؛ لِما رويتموه من رفع الأصوات بالتلبية في هذا الباب ما لا خفاء به.
قال: فكان جوابنا له في ذلك:
أن الأمر في ذلك ليس كما ذُكر مما يوجب التضادّ، ولكن الوجه في ذلك أن التلبية من شعائر الحج تُرفع الأصوات بها، ثم أخرج بسنده عن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -ﷺ-: أيّ الحج أفضل؟ قال: «العَجّ والثّجّ».
فكان العجّ المذكور في هذا الحديث هو العجّ بالتلبية، والثجّ المذكور فيه هو نحر البُدْن. انتهى [«شرح مشكل الآثار» ٤٩٨/ ١٤ – ٥٠١].
حديث أبي بكر
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي بَكْرٍ) الصدّيق – رضي الله عنه-، قال في «الفتح»: مقتضى هذا أن الحديث
من مسند الصدّيق – رضي الله عنه-، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسيّ، عن
الليث، فإن لفظه عن أبي بكر، قال: «قلت: يا رسول الله»، أخرجه البزّار من
طريقه، وخالف عمرُو بن الحارث الليثَ، فجعله من مسند عبد الله بن عمرو
( فِي صَلاِتِي) الظاهر أنه يريد عقب التشهد الأخير، والصلاةِ على النبيّ -ﷺ-، والاستعاذةِ من الأربع، وإليه جنح البخاريّ [رحمه الله] في «صحيحه» حيث قال:
«باب الدعاء قبل السلام»، ثم ذكر حديث أبي بكر –رضي الله عنه- هذا.
قال ابن دقيق العيد [رحمه الله] في الكلام على هذا الحديث: هذا يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين محلّه، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين، إما السجود، وإما بعد التشهد؛
وقال النوويّ [رحمه الله]: استدلال البخاريّ صحيح؛ لأن قوله: «في صلاتي» يعمّ جميعها، ومن مظانّه هذا الموطن.
قال الحافظ [رحمه الله]: ويَحْتَمِل أن يكون سؤال أبي بكر –رضي الله عنه- عن ذلك كان
عند قوله لمّا علّمهم التشهّد: «ثم ليتخيّر من الدعاء ما شاء»، ومن ثم أعقب المصنف- يعني: البخاريّ- الترجمةَ بذلك- يعني: قوله: «باب ما يتخيّر من الدعاء بعد التشهد، وليس بواجب»-. انتهى.
وقال العينيّ [رحمه الله]: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة، ولكن المراد:
بعد التشهد الأخير قبل السلام…. والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محلّ التشهد، فلم يبق للدعاء محلّ إلا بعد التشهد قبل السلام. انتهى.
قال الأثيوبي عفا الله تعالى عنه: يؤيّد هذا ما تقدم من قوله -ﷺ-: «ثم ليتخيّر من الدعاء ما شاء»، لكن الأولى ما تقدم عن الفاكهانيّ، يعني الدعاء به في السجود أيضًا؛ لأنه محلّ الدعاء أيضًا؛ لأنه -ﷺ- أمر بالاجتهاد في الدعاء فيه. والله تعالى أعلم.
[فائدة]: المواضع التي صحّ عن النبيّ -ﷺ- أنه كان يدعو فيها في الصلاة سبعة كما قال ابن القيم [رحمه الله] في “زاد المعاد”، ونظمها الصنعانيّ [رحمه الله] بقوله
[من الطويل]:
مَواضِعُ كانَتْ فِي الصَّلاةِ لِأحْمَدِ … إذا ما دَعا قَدْ خَصَّصُوها بِسَبْعَةِ
عَقِيبَ افْتِتاحٍ ثمَّ بَعْدَ قِراءَةٍ … وحالَ رُكُوعٍ واعْتِدالٍ وسَجْدَةِ
وبَيْنَهُما بَعْدَ التّشَهُّدِ هَذِهِ … مَواضِعُ تُرْوى عَنْ ثِقاتٍ بِصِحَّةِ
انتهى [«العدّة حاشية العمدة» ٣/ ٤٠].
وزاد في »الفتح «ثامنًا، وهو أنه كان يدعو في حال القراءة إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ. انتهى [«الفتح» ١٢/ ٤١٧].
قال الأثيوبي عفا الله تعالى عنه: قد نظمت الثامن بقولي:
وزِدْ ثامِنًا وهْوَ الدُّعاءُ إذا تَلا … ومَرَّ بآيَةٍ بَها ذِكْرُ رَحْمَةِ
فَيَسْألُ رَحْمَة وإنْ آيَةٌ بِها … تَعْذِيبٌ لأُمَّةٍ أنابَ بِعَوْذَةِ
(قالَ: قُل: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي)؛ أي: بملابسة ما يوجب العقوبة، أو ينقص الحظّ والأجر، وقوله: (ظُلْمًا كَبِيرًا- وقالَ قُتَيْبَةُ: كَثِيرًا) أشار به إلى اختلاف شيخيه في هذا اللفظ
(ولا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنْتَ) هذا مثل قوله تعالى: ﴿ومَن يَغفِرُ الذُّنوُبَ
إلّا اللَّهُ﴾ ففيه الإقرار بوحدانية الباري، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار، كما قال تعالى: «عَلِم عبدي أن له ربّا يغفر الذنب، ويأخذ به»، وقد وقع في هذا الحديث امتثال لِما أثنى الله تعالى عليه في قوله: ﴿والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ
ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا اللَّهُ﴾ [آل عمران ١٣٥]، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثنائه بالاستغفار لوّح بالأمر به، كما قيل: إن كلّ شيء أثنى اللهُ على فاعله، فهو آمر به، وكلّ شيء ذَمَّ فاعلَه فهو ناهٍ عنه. قاله في«الفتح» [«الفتح» ٣/ ٦٦، «كتاب الأذان» رقم (٨٣٤)].
(فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ) قال الطيبيّ [رحمه الله]: دلّ التنكير على أن
المطلوب غُفران عظيم، لا يُدرَك كُنْهُهُ، ووَصَفَهُ بكونه من عنده مُريدًا لذلك
العِظَمِ؛ لأن الذي يكون من عند الله تعالى لا يُحيط به وصف.
وقال ابن دقيق العيد [رحمه الله]: يَحْتَمِل وجهين:
أحدهما: الإشارة إلى التوحيد المذكور، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله لي أنت.
الثاني: – وهو أحسن- أنه إشارة إلى طلب مغفرة مُتفَضَّل بها، لا يقتضيها سبب من العبد، من عَمَل حَسَن، ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير، ليس للعبد فيها سبب، وهذا تبرّؤٌ عن الأسباب، والإدلالِ بالأعمال، والاعتقادِ في كونها موجبة للثواب . انتهى.
قال في »الفتح«: وبهذا الثاني جزم ابن الجوزيّ [«كشف المشكل» ١/ ١٣]، فقال: المعنى: هَبْ لي المغفرة تفضّلًا، وإن لم أكن لها أهلًا بعملي. انتهى [«الفتح» ٣/ ٦٦، «كتاب الأذان» رقم (٨٣٤)].
(وارْحَمْنِي إنَّكَ أنتَ الغفُورُ الرَّحِيمُ») هما صفتان ذُكرتا ختمًا للكلام على جهة المقابلة لِما قبله، فـ «الغفور» مقابل لقوله: «اغفر لي»، و«الرحيم» مقابل
لقوله: «ارحمني»، وقد وقعت المقابلة ههنا للأول بالأول، والثاني بالثاني،
وقد يقع على خلاف ذلك بأن يُراعى القربُ، فيُجعَل الأول للأخير، وذلك
على حسب اختلاف المقاصد، وطلب التفنن في الكلام، ومما يُحتاج إليه في
علم التفسير مناسبة مقاطع الآي لِما قبلها، قاله ابن دقيق العيد ، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي بكر الصدّيق – رضي الله عنه – هذا مُتّفقٌ عليه.
فوائد وفقه الحديث:
١ – (منها): استحباب طلب التعليم من العالم، خصوصًا في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم.
٢ – (ومنها): ما قاله الكرمانيّ [رحمه الله]: هذا الدعاء من الجوامع؛ لأن فيه الاعترافَ بغاية التقصير، وطلبَ غاية الإنعام، فالمغفرة سَتْر الذنوب ومحوها،
والرحمة إيصال الخيرات، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار، وفي الثاني طلب الجنة، وهذا هو الفوز العظيم.
٣ – (ومنها): أن فيه ردًّا على من زعم أنه لا يستحقّ اسم الإيمان إلا من لا خطيئة له، ولا ذنب؛ لأن الصدّيق –رضي الله عنه- من أكبر أهل الإيمان، وقد علّمه النبيّ -ﷺ- أن يقول: «إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت». قاله الطبريّ رحمه الله تعالى.
٤ – (ومنها): أن فيه مشروعيّةَ الدعاء في الصلاة، وفضلَ هذا الدعاء على غيره، وطلبَ التعليم وإن الأعلى، وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع، وخص الدعاء بالصلاة لقوله -ﷺ-: «أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجد».
٥ – (ومنها): أن المرء ينظر في عبادته إلى الأرفع، فيتسبب في تحصيله، وفي تعليم النبيّ -ﷺ- لأبي بكر هذا الدعاء إشارةٌ إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدنيا.
٦ – (ومنها): ما قاله العلامة المحقق ابن دقيق العيد [رحمه الله]: في الحديث دليل على أن الإنسان لا يَعرى من ذنب وتقصير، كما قال-ﷺ-: «استقيموا، ولن تُحصوا …» وفي الحديث: «كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون»، وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقًا من غير تقييد بحالة، فلو كان ثمّة حال لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لَما كان هذا الإخبار مطابقًا للواقع، فلا يؤمر به. انتهى [«إحكام الأحكام»٣/ ٤٠ – ٤١ بحاشية «العدّة»].
وقال الحافظ [رحمه الله]: فيه أن الإنسان لا يعرى عن تقصير، ولو كان صدّيقًا.
وقال السنديّ [رحمه الله] – بعد نقل كلام الحافظ هذا-: بل فيه: أن الإنسان كثير التقصير، وإن كان صدّيقًا؛ لأن النِّعم عليه غير متناهية، وقوّته لا تطيق أداء أقلّ قليل من شكرها، بل شُكره من جملة النعم أيضًا، فيحتاج إلى شكره هو أيضًا كذلك، فما بقي إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير، كيف، وقد جاء في جملة أدعيته -ﷺ-: «ظلمت نفسي». انتهى [«شرح السندي على النسائيّ» ٣/ ٥٣].
٧- قال الراجحي:
وفي هذا الحديث: إثبات السمع لله عز وجل.
وفيه: أن الله حاضر وليس بغائب، قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس تدعون أصم، ولا غائبا)).
وفيه: أنه ينبغي للإنسان ألا يجهد نفسه برفع الصوت في الذكر والدعاء؛ لأن الله يسمعه، ولا سيما إذا كان يشق عليه.
وفيه: فضل هذه الكلمة: ((لا حول ولا قوة إلا بالله))، وأنها كنز من كنوز الجنة
«توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم» (7/ 527)
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): فَوائِدِ الذِّكرِ
وَقَد ذَكَرَ الإمامُ العَلّامَةُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى- فِي كِتابِهِ العَظِيم «الوابِلُ الصَّيِّبُ» كَثِيرًا مِنَ فَوائِدِ الذِّكرِ مِنها:
الأُولى: أنَّ الذِّكرَ يَطرُدُ الشَّيطانَ ويَقمَعُهُ ويَكسَرُهُ.
الثّانِيَةُ: أنَ الذِّكرَ يُرضِي الرَّحمَنَ -عَزَّ وجَلَّ-.
لثّالِثَةُ: أنَّ الذِّكرَ يُزِيلُ الهَمَّ والغَمَّ عَن القَلب، ويَجلِبُ لِلقَلبِ الفَرَحَ والسُّرُورَ والنَّشاطَ.
الرّابِعَةُ: أنَّهُ يُقَوِّي القَلبَ والبَدَنَ.
الخامِسَةُ: أنَّهُ يُنَوِّرُ الوَجهَ والقَلبَ.
السّادِسَةُ: أنَّ الذِّكرَ يَجلِبُ الرِّزقَ.
السّابِعَةُ: أنَّهُ يَكسُو الذّاكِرَ المَهابَةَ والحَلاوَةَ والنَّضرَةَ.
الثّامِنَةُ: أنَّهُ يُورِثُ المَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الإسلامِ، وقُطبُ رَحى الدِّين، ومَدارُ السَّعادَةِ والنَّجاةِ.
التّاسِعَةُ: أنَّ الذِّكرَ يُورِثُ المُراقَبَةَ حَتّى يَدخُلَ فِي بابِ الإحسان، فَيَعبُدَ اللَّهَ كَأنَّهُ يَراهُ، ولا سَبِيلَ لِلغافِلِ عَن الذِّكرِ إلى مَقامِ الإحسان.
العاشِرَةُ – مِن فَوائدِ الذِّكرِ-: أنَّهُ يُورِثُ الإنابَةَ والرُّجُوعَ إلى اللَّهِ –جَلَّ وعَلا-.
الحادِيَةَ عَشرَةَ: أنَّ الذِّكرَ يُورِثُ القُربَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَعَلى قَدرِ ذِكرِ اللَّهِ تَعالى يَكُونُ القُربُ مِنهُ، وعَلى قَدرِ الغَفلَةِ عَن الذِّكرِ يَكُونُ بُعْدُ العَبدِ عَن رَبِّهِ.
الثّانِيَةَ عَشرَةَ: أنَّهُ يَفتَحُ لَهُ بابًا عَظِيمًا مِن أبوابِ المَعرِفَة، وكُلَّما أكثَرَ مِنَ الذِّكرِ؛ ازدادَ مِنَ المَعرِفَةِ.
الثّالِثَةَ عَشرَةَ: أنَّهُ يُورِثُ الهَيبَةَ لِرَبِّهِ وإجلالَهِ، لِشِدَّةِ استِيلاءِ الذِّكرِ عَلى قَلبِهِ وحُضُورِ العَبْدِ مَعَ رَبِّهِ، بِخِلافِ الغافِل فَإنَّ حِجابَ الهَيبَةِ رَقِيقٌ فِي قَلبِهِ.
الرّابِعَةَ عَشرَةَ – مِن فَوائدِ الذِّكرِ-: أنَّهُ يُورِثُ الذّاكِرَ ذِكرَ اللَّهِ –جَلَّ وعَلا- ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾، ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذِّكرِ إلّا هَذِهِ لَكَفى بِالذِّكرِ فَضلًا وشَرَفًا.
الخامِسَةَ عَشرَةَ: أنَّهُ يُورِثُ حَياةَ القَلب.
السّادِسَةَ عَشرَةَ: أنَّ الذِّكرَ قُوتُ القُلُوبِ ورُوحُها.
السّابِعَةَ عَشرَةَ: أنَّهُ يُورِثُ جِلاءَ القَلبِ مِن صَدَئِه، ولا رَيبَ أنَّ القَلبَ يَصدَأُ كَما يَصدَأُ النُّحاسُ والفِضَّةُ وغَيرُهُما، وجِلاؤُهُ بِالذِّكرِ، فَإنَّهُ يَجلُو القَلبَ حَتّى يَدَعَهُ كالمِرآةِ البَيضاءِ، فَإذا تَرَكَ العَبدُ الذِّكرَ صَدِئَ قَلبُه، فَإذا ذَكَرَ جَلاهُ.
الثّامِنَةَ عَشرَةَ: أنَّهُ يُحِطُّ الخَطايا ويُذهِبُها، فَإنّهُ مِن أعظَمِ الحَسَنات، والحَسَناتُ يُذهِبنَ السَّيِّئات. [للتوسع راجع المصدر]. وسبق لخصناها كاملة في شرحنا للصحيح المسند
(المسألة الثانية): رفع الصوت بالذكر، وفيه عدة فروع:
الفرع الأول: المراد برفع الصوت، وقد مر في الفوائد
الفرع الثاني: حكم رفع التلبية، وقد مر في الفوائد
الفرع الثالث: حكم رفع الصوت بعد الصلوات
فقد استدل بعض السلف بحديث ابن عباس على استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر بعد الصلاة المكتوبة.
قال ابن حبيب: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاثًا.
قال: وهو قديم من شأن الناس، وقال الطبري: في الحديث البيان على صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء والولاة، يكبر بعد صلاته، ويكبر من خلفه.
وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه ﷺ جهر ليعلمهم صفة الذكر، لا أنه كان دائمًا: قال: وأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك إلا أن يقصدا التعليم، فيعلما، ثم يسرا. اهـ
والظاهر أن الأمر لم يستمر على ارتفاع الصوت بالذكر، لهذا قال ابن بطال: إن قول ابن عباس كان على عهد النبي ﷺ فيه دلالة على أنه لم يكن يفعل حين حدث به؛ لأنه لو كان يفعل لم يكن لقوله معنى، فكأن التكبير في أثر الصلوات بصوت مرتفع لم يواظب الرسول ﷺ عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم، فتركوه خشية أن يظن أنه مما لا تتم الصلاة إلا به.
وقال ابن بطال أيضًا: أصحاب المذاهب المتبعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر حاشا ابن حزم. اهـ
مسألة: إليك حُكمُ الجَهرِ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلواتِ بشيء من التوسع
اختلَفَ العلماءُ في مشروعيَّةِ الجَهرِ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلواتِ إلى قولينِ:
القولُ الأوَّلُ: يُستحَبُّ الجَهرُ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلاةِ، وهو قولُ بعضِ الحنفيَّةِ، وقولُ بعضِ متأخِّري الحنابلةِ، واختارَه ابنُ حزمٍ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمين.
الأدلة مِن السنَّةِ:
١ – عن ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: «أنّ رفعَ الصَّوتِ بالذِّكرِ حينَ ينصرِفُ النّاسُ مِن المكتوبةِ كان على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ)، قال ابنُ عبّاسٍ: ((كنتُ أعلَمُ إذا انصرَفوا بذلك إذا سمِعْتُه»، وفي لفظٍ: «ما كنّا نعرِفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللهِ ﷺ إلّا بالتَّكبيرِ».
٢ – عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ – رضيَ اللهُ عنه – قال: سمِعْتُ النبيَّ ﷺ يقولُ إذا قضى الصَّلاةَ: «لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له».
وجْهُ الدَّلالَةِ: أنّه لا يسمَعُ القولَ إلّا إذا جهَرَ به القائلُ.
٣ – أنّ ابنَ الزُّبيرِ كان يقولُ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ حين يُسلِّمُ: «لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا حولَ ولا قوَّةَ إلّا باللهِ، لا إلهَ إلّا اللهُ، ولا نعبُدُ إلّا إيّاه، له النِّعمةُ وله الفضلُ، وله الثَّناءُ الحسَنُ، لا إلهَ إلّا اللهُ، مُخلِصينَ له الدِّينَ ولو كرِهَ الكافرونَ»، قال ابنُ الزُّبيرِ: (كان رسولُ اللهِ – صلّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم – يُهلِّلُ بهنَّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ).
وجْهُ الدَّلالَةِ: أنّ قولَه: (يُهلِّلُ)، أي: يرفَعُ صوتَه؛ فالتَّهليلُ رفعُ الصَّوتِ.
القول الثاني: لا يُشرَعُ الجَهرُ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلاةِ، وهو مذهبُ المالكيَّةِ، والشافعيَّةِ، وبعضِ الحنفيَّةِ، وحُكِيَ عن أكثرِ العلماءِ، وصوَّبه المَرْداويُّ، واختارَه الألبانيُّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
١ – قولُه تعالى: {ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها} [الإسراء ١١٠].
وجْهُ الدَّلالَةِ: نهى اللهُ في هذه الآيةِ عن الجهرِ بالدُّعاءِ.
٢ – عمومُ قولِه تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً} [الأعراف ٥٥].
٣ – عموم قوله تعالى: {واذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً}
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه، قال: «كنّا مع النبيِّ صلّى اللهُ تعالى عليه وسلَّمَ، وكنّا إذا أشرَفْنا على وادٍ هلَّلْنا وكبَّرْنا ارتفعَتْ أصواتُنا، فقال النبيُّ صلّى اللهُ تعالى عليه وسلَّمَ: يا أيُّها النّاسُ، اربَعُوا على أنفسِكم؛ فإنّكم لا تَدْعونَ أصَمَّ ولا غائبًا، إنّه معكم سميعٌ قريبٌ».
وجْهُ الدَّلالَةِ: أنّ فيه النَّهيَ عن رفعِ الصَّوتِ بالدُّعاءِ والذِّكرِ.
ثالثًا: أنّه يترتَّبُ مِن رفعِ الصَّوتِ بالذِّكرِ التَّشويشُ على المُصلِّين.
رابعًا: أنّ الإسرارَ أبلَغُ في الإخلاصِ، وأقربُ إلى الإجابةِ.
خامسًا: أنّ أحاديثَ الجَهْرِ بالذِّكرِ عَقِيبَ الصَّلاةِ إنّما هي للتَّعليمِ. [الموسوعة الفقهية].
قال الشيخ الإمام ابن باز رحمه الله في تعليقه على باب الذكر بعد الصلاة من صحيح البخاري: “وهذا في شرعية الذكر عقب الصلاة، وأن الذاكر يرفع صوته حتى يسمع من حول المسجد أنهم سلموا وأن الصلاة انتهت …”. انتهى المراد.
فرع: الفتاوى:
فتوى لابن عثيمين:
السؤال: ما الأذكار التي يرفع الإنسان بها صوته بعد الصلاة المكتوبة؟ وما قولكم في قول بعضهم إن رفع الصوت في عهد النبي ﷺ من أجل التعليم؟ وما رأيكم في قول شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم رحمهما الله: إن الدعاء يكون قبل السلام والذكر بعده؟
الإجابة: الأذكار التي يرفع الإنسان بها صوته بعد المكتوبة: كل ذكر يشرع بعد الصلاة، لما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي ﷺ، قال: وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعتهم»، فدل هذا على أن كل ما يشرع من ذكر في أدبار الصلاة فإنه يجهر به. وأما من زعم من أهل العلم أنه كان يجهر به في عهد النبي ﷺ للتعليم، وأنه لا يسن الجهر به الآن فإن هذا في الحقيقة مبدأ خطير، لو كنا كلما جاءت سنة بمثل هذا الأمر قلنا إنها للتعليم، وأن الناس قد تعلموا الآن فلا تشرع هذه السنة لبطل كثير من السنن بهذه الطريقة، ثم نقول: الرسول عليه الصلاة والسلام قد أعلمهم بما يشرع بعد الصلاة، كما في قصة الفقراء الذين جاءوا إلى النبي ﷺ [في أن الأغنياء سبقوهم فقال: «ألا أخبركم بشيء تدركون به من سبقكم؟» ثم ذكر لهم أن يسبحوا ويكبروا ويحمدوا ثلاثًا وثلاثين]. فقد علمهم بالقول ﷺ. فالصواب في هذا أنه يشرع أدبار الصلوات المكتوبة أن يجهر الإنسان بكل ما يشرع من ذكر سواء بالتهليل، أو بالتسبيح أو الاستغفار بعد السلام ثلاثًا أو بقول: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وتباركت يا ذا الجلال والإكرام».
وأما ذكر السائل عن شيخ الإسلام بن تيميه، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله من أن الدعاء قبل السلام والذكر بعده، فهذا كلام جيد جدًا ويدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه حينما ذكر أن النبي ﷺ علمهم التشهد، ثم قال بعد ذلك: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه»، فأرشد النبي عليه الصلاة والسلام المصلي أن يدعو بعد التشهد مباشرة وقبل السلام. وأما أن الذكر بعد السلام فلقول الله تعالى: ﴿فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِكُم﴾، وعلى هذا فيكون ما بعد السلام ذكرًا ويكون ما قبل السلام دعاءً هذا ما يقتضيه الحديث، وما يقتضيه القرآن، وكذلك المعنى يقتضيه أيضًا لأن المصلي بين يدي الله عز وجل فمادام في صلاته فإنه يناجي ربه كما أخبر بذلك النبي ﷺ، وإذا انصرف وسلم انصرف من ذلك فكيف نقول أَجِّل الدعاء حتى تنصرف من مناجاة الله، ولكن لا حرج أن الإنسان يدعو بعد الصلاة أحيانًا، أما اتخاذ ذلك سنة راتبة كما يفعله بعض الناس كلما انصرف من السنة رفع يَديه يدعو فإن هذا لا أعلم فيه سنة عن النبي ﷺ.
[مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين – المجلد الثالث عشر – كتاب].
قال الراجحي:
في هذا الحديث: مشروعية هذا الدعاء في الصلاة قبل التسليم: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا))، وفي لفظ: ((ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم))، قال بعضهم: يجمع بينهما في دعائه، فيقول: ((كثيرا، وكبيرا)).
والصواب: أن يقول: كبيرا تارة، وكثيرا تارة أخرى.
وفيه: أن أبا بكر رضي الله عنه- وهو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- يعلم هذا الدعاء؛ فغيره من باب أولى
توفيق الرب المنعم بشرح مسلم
وراجع [التعليق على الصحيح المسند (١١٢٣)]، وفيه من المسائل أيضًا المراد بأدبار الصلوات.
الفرع الرابع: بدعية رفع الصوت بالذكر عند الجنازة
وفي [تعليق على الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين(٩١١)] ذكر أحكام الميت، ومن ذلك التنبيه على رفع الصوت عند ذلك:
“٥/ تعجيل تجهيزه، لحديث (أسرعوا بالجنازة ..)
ومنها حمله واتباعها وفيه أجر عظيم :
* ولا يجوز أن تُتْبَع الجنائز بما يخالف الشريعة، ومن ذلك:
رفع الصوت بالبكاء، وإتْباعها البخور، ويَلحَقُ ذلك، رفع الصوت بالذكر أمام الجنازة، لأنه بدعة، ولقول قيس بن عباد: «كان أصحاب رسول الله ﷺ يكرهون رفع الصوت عند الجنائز»؛ ولأن فيه تشبهًا بالنصارى.”. انتهى.