27 فتح المنان شرح أصول الإيمان
جمع نورس الهاشمي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا والمسلمين جميعا).
——-‘——‘——-‘
——-‘——‘——-‘
——-‘——‘——-‘
الباب الثالث
مسائل متفرقة في العقيدة
ويتضمن خمسة فصول:
الفصل الأول: الإسلام والإيمان والإحسان
المبحث الأول: الإسلام
المبحث الثاني: الإيمان
المبحث الثالث: الإحسان
المبحث الرابع: العلاقة بين الإسلام والإيمان والإحسان
—
المبحث الأول: الإسلام
تعريف الإسلام:
أركان الإسلام:
معنى الشهادتين:
المبحث الثاني
الإيمان وأركانه وبيان حكم مرتكب الكبيرة
تعريفه:
أركانه وأدلته:
زيادة الإيمان ونقصانه:
حكم مرتكب الكبيرة:
الأدلة على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر:
المبحث الثالث:
الإحسان
تعريفه:
أدلته:
المبحث الرابع
العلاقة بين الإسلام والإيمان والإحسان
——-‘—–‘——
الاسلام
ما معنى الإسلام؟
جـ: معناه الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، وقال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}.
ما الدليل على تعريفه بالأركان الخمسة عند التفصيل؟
جـ: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل إياه عن الدين: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس … »
ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله؟
جـ: معناها نفي استحقاق العبادة عن كل ما سوى الله تعالى وإثباتها لله عز وجل وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه ليس له شريك في ملكه، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
ما هي شروط شهادة أن لا إله إلا الله التي لا تنفع قائلها – إلا باجتماعها فيه؟
جـ: شروطها سبعة: الأول: العلم بمعناها نفيا وإثباتا. الثاني: استيقان القلب بها، الثالث: الانقياد لها ظاهرا وباطنا. الرابع: القبول لها فلا يرد شيئا من لوازمها ومقتضياتها. الخامس: الإخلاص فيها. السادس: الصدق من صميم القلب لا باللسان فقط. السابع: المحبة لها ولأهلها، والموالاة والمعاداة لأجلها.
انظر: ” أعلام السنة المنشورة” (23). للحافظ الحكمي رحمه الله.
و قال النووي رحمه الله: وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح – رحمه الله -: قوله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: ” أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، والإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ” قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة، والحج، والصوم، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لأنها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم. ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة، لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد؛ ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ” واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات؛ فإن ذلك كله استسلام. قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون. وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف، وأئمة الخلف، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص. وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين. ” شرح النووي على مسلم” (1/ 69).
و قال النووي رحمه الله: واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنا. أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى العرب فإنه لا يحكم بإسلامه إلا بأن يتبرأ، ومن أصحابنا أصحاب الشافعي رحمه الله من شرط أن يتبرأ مطلقا، وليس بشيء: أما إذا اقتصر على قوله لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله: فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلما. ومن أصحابنا من قال: يكون مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتدا. ويحتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ” وهذا محمول عند الجماهير على قول الشهادتين، واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطهما وشهرتهما والله أعلم.
أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها فهل يجعل بذلك مسلما؟ فيه وجهان لأصحابنا، فمن جعله مسلما قال: كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلما. أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية وهو يحسن العربية فهل يجعل بذلك مسلما؟ فيه وجهان لأصحابنا: الصحيح منهما أنه يصير مسلما لوجود الإقرار، وهذا الوجه هو الحق ولا يظهر للآخر وجه وقد بينت ذلك مستقصى في شرح المهذب والله أعلم. ” شرح النووي على مسلم” (1/ 69).
و قال ابن رجب رحمه الله: فإن الصلاة أفضل أعمال الجوارح، وحيث اجاب بذكر الإيمان أو بذكر الصلاة، فإنما مقصوده التمثيل بأفضل مباني الإسلام، ومراده المباني بجملتها؛ فإن المباني الخمس كالشيء الواحد، وكل من دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين أو بالصلاة- على رأي من يرى فعلها إسلاماً-، فإنه يؤمر ببقية المباني، ويلزم بذلك، ويقاتل على تركه.
وفي حديث خرجه الإمام أحمد. أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن جيمعاً: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، [وحج البيت])).
وفي حديث آخر: ((الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئاً دون شيء)) -فذكر مباني الإسلام الخمس، وأن من أتى ببعضها دون بعض لم يقبل منه.
ونفي القبول لها بمعنى نفي الرضا بذلك واستكمال الثواب عليه، وحينئذٍ فذكر بعض المباني مشعر بالباقي منها، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – تارة يكتفي في جواب من ساله عن أفضل الأعمال بالشهادتين، وتارة بالصلاة، ومراده في كلا الجوأبين سائر المباني، لكنه خص بالذكر أشرفها، فكأنه قال: الشهادتان وتوابعهما، والصلاة وتوابعها ولوازمها، وهو بقية المباني الخمس.
ويشهد لهذا: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)).
فتوهم طائفة من الصحابة أن مراده أن مجرد هذه الكلمة يعصم الدم حتى توقفوا في قتال من منع الزكاة، حتى بين لهم أبو بكر- ورجع الصحابة إلى قوله-: أن المراد: الكلمتان بحقوقهما ولوازمهما، وهو الإتيان ببقية مباني الإسلام.
وقد تبين صحة قولهم بروايات أخر تصرح بإضافة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى الشهادتين في شرط عصمة الدم.
وكذلك قوله- صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله لم تمسه النار- أو دخل الجنة)).
إنما أراد الشهادتين بلوازمهما وتوابعهما، وهو الإتيان ببقية أركان الإسلام ومبانيه. ” فتح الباري” (4/ 20).
والزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، قال عليه الصلاة والسلام: «بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» فهذه دعائم الإسلام وقواعده، لا يتم إسلام من جحد واحدة منها ألا ترى فهم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، لهذا المعنى
وقوله: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال» وأجمع العلماء على أن مانع الزكاة تؤخذ من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب دونها قوتل اقتداءً بأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى أهل الردة. (شرح البخاري لابن البطال) (5/ 436).
[الإيمان]:
قال بعض علماء العربية: العرب تطلق الإيمان لغة على التصديق، وهذا موجود في لغتها وإن أنكره بعض أهل العلم، كقوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: آية 17] أي: بمصدقنا في أن يوسف أكله الذئب {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: آية 17].
والإيمان في الشرع: هو التصديق الكامل من جهاته الثلاث، أعني: تصديق القلب بالاعتقاد والنية الصالحة، وتصديق اللسان بالإقرار، وتصديق الجوارح بالعمل. ” العذب النمير” (237).
اشكال وجواب
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106)
[10\ 31] كقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون [43\ 87]، وقوله: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [43\ 9]، وقوله: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [29\ 61]، وقوله: ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون [29\ 63]، وقوله: قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون [23\ 84 – 88] إلى غير ذلك من الآيات.
ومع هذا فإنهم قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [38\ 5].
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن توحيد الربوبية لا ينقذ من الكفر إلا إذا كان معه توحيد العبادة، أي عبادة الله وحده لا شريك له، ويدل لذلك قوله تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [12\ 106].
وفي هذه الآية الكريمة إشكال: وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها، وعليه فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو ” يؤمن ” مقيد بها، فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين، وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة.
قال مقيده عفا الله عنه: لم أر من شفى الغليل في هذا الإشكال، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي ; لأن من يعبد مع الله غيره لا يصدق عليه اسم الإيمان البتة شرعا.
أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق، فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله، ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعا.
وإذا حققت ذلك علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به، وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [49\ 14]، فهو الإسلام اللغوي ; لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه، والعلم عند الله تعالى.
وأركان الإيْمان ستة:
اعلم أيها المسلم -وفقني الله وإياك- أن أصول العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة هي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وهذه الأصول دلت عليها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة وأجمعت عليها الأمة.
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}.
وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتومن بالقدر خيره وشره).
وهذه الأصول العظيمة -وتسمى أركان الإيمان- قد اتفقت عليها الرسل والشرائع، ونزلت بها الكتب السماوية، ولم يجحدها أو شيئا منها إلا من خرج عن دائرة الإيمان وصار من الكافرين؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. ” الإرشاد الى صحيح الإعتقاد” (24) للعلامة الفوزان حفظه الله.
(الإيمان بالله)
س32 – ما هو الإيمان بالله الذي هو الركن الأول من الإيمان؟
ج- هو الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه وأنه الخالق الرزاق المحيي المميت وأنه المستحق لأن يفرد بالعبادة والذل والخضوع وجميع أنواع العبادة وأن الله هو المتصف بصفات الكمال والعظمة والجلال المنزه عن كل عيب ونقص.
(الإيمان بالملائكة)
س33 – ما هو الإيمان بالملائكة الذي هو الركن الثاني من أركان الإيمان؟
ج- هو التصديق الجازم بأن لله ملائكة موجودون مخلوقون من نور وإنهم كما وصفهم الله عباد مكرمون يسبحون الليل لا يفترون وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بالقيام بها.
س34 – هل يكفي الإيمان إجمالاً بالملائكة؟
ج- أما من ورد تعيينه باسمه المخصوص كجبريل وميكائيل وإسرافيل ورضوان ومالك ومن ورد تعيين نوعهم المخصوص كحملة العرش والحفظة والكتبة فبالتفصيل وأما البقية فيجب الإيمان بهم إجمالاً ولا يحصي عددهم إلا الله.
(الإيمان بكتب الله)
س35 – ما هو الإيمان بكتب الله الذي هو الركن الثالث من أركان الإيمان؟
ج- هو التصديق الجازم بأن لله كتباً أنزلها على أنبيائه ورسله وهي من كلامه حقيقة وأنها نور وهدى وأن ما تضمنته حق ولا يعلم عددها إلا الله وأنه يجب الإيمان بها جملة إلا ما سمى الله منها وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن فيجب الإيمان بها على التفصيل ويجب مع الإيمان بالقرآن وأنه منزل من عند الله الإيمان بأن الله تكلم به حقيقة كما تكلم بالكتب المنزلة على أنبيائه وأنه المخصوص بمزية الحفظ من التبديل والتغيير قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقال (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)
(الإيمان برسل الله)
س36 – ما هو الإيمان برسل الله الذي هو الركن الرابع من أركان الإيمان؟
ج- التصديق الجازم بأن لله رسلاً أرسلهم لإرشاد الخلق في معاشهم ومعادهم اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن لا يهمل خلقه بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين فيجب علينا الإيمان بمن سمى الله منهم في كتابه على التفصيل والإيمان جملة بأن لله رسلاً غيرهم وأنبياء لا يحصي عددهم إلا الله ولا يعلم أسماءهم إلا هو جل وعلا قال تعالى: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك).
” مختصر الاجوبة الاصولية” للسلمان.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية في هذه الأركان الخمسة: إيماننا بالله ثم برسله وبكتبه وقيامة الأبدان
وبجنده وهم الملائكة الأولى هم رسله لمصالح الأكوان
هذي أصول الدين حقاً أصول الخمس للقاضي هو الهمذان.
قال ابن دقيق العيد:
ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بنية وكذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن” 1.
واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام قال: فخرج بما ذكرناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وقال: فهذا التحقيق واف بالتوفيق ونصوص الكتابة والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم والله أعلم. (شرح الأربعين النووية).
[ضابط الكبيرة]
قال العلامة محمد امين الشنقيطي رحمه الله:
“والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية؛ سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، أو كان وجوب الحد فيه، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده”.
اضواء البيان (7) / (199) – (200).
[مخالفة النبي عمداً و لو في امر مستحب من الكبائر التي توجب غضب الله و عقابه]
ومن الأدلة على أن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم على عمد توصل إلى الهلاك ولو كانت في أمر غير واجب ما ثبت في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل يأكل بشماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك، فقال لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا استطعت، فما رفعها إلى فيه. اهـ.
وأكثر العلماء يقولون أن الأكل باليمين من المستحبات لا من الفرائض، ومعلوم أن المستحب في علم الأصول ما في فعله ثواب وليس في تركه عقاب، فلماذا عاقب الله سبحانه وتعالى رجلا رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعينه ونال شرف الأكل معه بهذا العقاب الشديد وهو شلل يده بسبب مخالفته أمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وسواء أكان الأكل باليمين فرضا كما هو الظاهر أو مستحبا كما يقول أكثر الفقهاء، فإن المخالفة فيه على عمد من الكبائر التي توجب غضب الله وعقابه كما رأينا.
” مقام القاضي عياض في محبة النبي و اتباع ما جاء به” للعلامة تقي الدين الهلالي ”
[الناس في الإيمان قسمان]:
قال ابن رجب في الفتح (1/ 129): وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان:
أحدهما: إيمان بالله، وهو الإقرار والتصديق به.
والثاني: إيمان لله، وهو الطاعة والانقياد لأوامره.
فنقيض الإيمان الأول: الكفر، ونقيض الإيمان الثاني: الفسق؛ وقد يسمى كفرا؛ ولكن لا ينقل عن الملة
مفهوم أصل الإيمان
قال ابن تيمية رحمه الله:
فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح كما قال أبو هريرة – رضي الله عنه -: إن القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب}. الإيمان الاوسط (197).
[إذا اطلق الإيمان ماذا يراد به]
قال ابن تيمية رحمه الله: وإذا استعمل مطلقا فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. ” الإيمان الاوسط” (195).
الإيمان عند الفرق
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
الإيمان تصديق القلب فقط كما تقول الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وأما القلب واللسان كما تقوله المرجئة أو باللسان كما تقوله الكرامية.
(الإيمان عند أهل السنة والجماعة)
التصديق بالقلب والقول والعمل – فإن الجميع يدخل في مسمى التصديق على مذهب أهل الحديث كما فسره شيخ الإسلام وغيره -. كتاب الإيمان الأوسط (190).
[الإيمان وتفاضل الناس فيه]
قال ابن تيمية رحمه الله ” والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه: كالحج والصلاة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ومثقال شعيرة من إيمان}. ” الإيمان الاوسط (201).
فهل اسم الإيمان للأصل فقط أو له ولفروعه؟.
والتحقيق: أن الاسم المطلق يتناولهما وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران وقد لا يتناول إلا الأصل إذا لم يخص إلا هو؛ كاسم الشجرة فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن وواجب ومستحب وهو حج أيضا تام بدون المستحبات وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم. والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب؛ بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه؛ لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام: قد يراد به الكمال الواجب والكمال المستحب؛ كما يقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم: إلى كامل ومجزئ فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا إيمان لمن لا أمانة له} و {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن}. ونحو ذلك كان لانتفاء بعض ما يجب فيه؛ لا لانتفاء الكمال المستحب. ” الإيمان الاوسط (200 – 201).
وعند هذا فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلبون الاسم على الإطلاق ولا يعطونه على الإطلاق. فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن عاص أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ويقال: ليس بمؤمن حقا أو ليس بصادق الإيمان. ” الإيمان الأوسط” (228).
هل الإيمان يزيد وينقص؟
وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم الناس في هذا على أقسام: منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل ومنهم من صدق جملة وتفصيلا ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق ومنهم من يغفل عنه ويذهل ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة أو تقليد جازم وهذا التصديق يتبعه عمل القلب وهو حب الله ورسوله وتعظيم الله ورسوله وتعزير الرسول وتوقيره وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه إلى غير ذلك من الأحوال فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة للمعلول.
ويتبع الاعتقاد قول اللسان ويتبع عمل القلب الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك. ” الإيمان الأوسط” (227 – 228).
[شبهة والرد عليها]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وكل كلام أطلق في الكتاب والسنة فلا بد أن يقترن به ما يبين المراد منه. والأحكام منها ما يترتب على أصل الإيمان فقط؛ كجواز العتق في الكفارة وكالموالاة والموارثة ونحو ذلك ومنها ما يترتب على أصله وفرعه: كاستحقاق الحمد والثواب وغفران السيئات ونحو ذلك. إذا عرفت ” هذه القاعدة “. فالذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن} والزيادة التي رواها أبو داود والترمذي صحيحة وهي مفسرة للرواية المشهورة. فقول السائل: هل حمل الحديث على ظاهره أحد من الأئمة؟ لفظ مشترك؛ فإن عنى بذلك أن ظاهره أن الزاني يصير كافرا وأنه يسلب الإيمان بالكلية فلم يحمل الحديث على هذا أحد من الأئمة ولا هو أيضا ظاهر الحديث لأن قوله {خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة} دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية فإن الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط. ” الإيمان الاوسط” (228 – 229) |.
[الاستثناء في الإيمان]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
والناس لهم في الاستثناء ” ثلاثة أقوال “: منهم من يحرمه كطائفة من الحنفية ويقولون من يستثني فهو شكاك. ومنهم من يوجبه: كطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يجوزه – أو يستحبه – وهذا أعدل الأقوال فإن الاستثناء له وجه صحيح فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله وهو يعتقد أن الإيمان فعل جميع الواجبات ويخاف أن لا يكون قائما بها فقد أحسن ولهذا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ومن اعتقد أن المؤمن المطلق هو الذي يستحق الجنة؛ فاستثنى خوفا من سوء الخاتمة فقد أصاب وهذا معنى ما يروى عن ابن مسعود أنه قيل له: عن رجل أنت مؤمن؟ فقال: نعم فقيل له أنت من أهل الجنة فقال أرجو فقال: هلا وكل الأولى كما وكل الثانية ومن استثنى خوفا من تزكية نفسه أو مدحها أو تعليق الأمور بمشيئة الله فقد أحسن ومن جزم بما يعلمه أيضا في نفسه من التصديق فهو مصيب. ” الإيمان الاوسط” (236).
وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: عن حكم قول الإنسان: “أنا مؤمن إن شاء الله”؟
فأجاب بقوله: قول القائل: “أنا مؤمن إن شاء الله” يسمى عند العلماء (مسألة الاستثناء في الإيمان)، وفيه تفصيل:
أولا: إن كان الاستثناء صادرا عن شك في وجود أصل الإيمان، فهذا محرم بل كفر؛ لأن الإيمان جزم والشك ينافيه.
ثانيا: إن كان صادرا عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولا وعملا واعتقادا، فهذا واجب خوفا من هذا المحذور.
ثالثا: إن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل، وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز والتعليق على هذا الوجه -أعني بيان التعليل- لا ينافي تحقق المعلق، فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} والدعاء في زيارة القبور: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء في الإيمان، بل لا بد من التفصيل السابق. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 85).
الإحسان:
قال ابن رجب: وقال بعضُ العارفينَ من السلف: “منْ عملَ للَّهِ على المشاهدةِ فهو عارف.
ومنْ عملَ على مشاهدةِ اللَّهِ إياه فهو مخلِصٌ”.
فهذان مقامان: أحدهما: الإخلاصُ، وهو أن يعملَ العبدُ على استحضارِ مشاهدةِ اللَّهِ إياه، واطلاعِهِ عليه وقربِهِ منه، فإذا استحضَر العبدُ ذلكَ في عملِهِ، وعملَ على هذا المقامِ فهو مخلصٌ للَّه، لأنَّ استحضارَهُ ذلكَ يمنعُهُ من
الالتفاتِ إلى غيرِ اللَّهِ وإرادتهِ بالعملِ.
والثاني: المعرفةُ التي تستلزمُ المحبةَ الخاصةَ، وهو: أن يعملَ العبدُ على
مشاهدةِ اللَّهِ بقلبهِ، وهو أنْ يتنورَ قلبُه بنورِ الإيمانِ وتنفذَ بصيرتُه في العرفانِ.
حتَّى يصيرَ الغيبُ عنده كالعيانِ، وهذا هو مقامُ الإحسانِ المشارُ إليه في حديثِ جبريلَ – عليه السلامُ -، ويتفاوتُ أهلُ هذا المقامِ فيه بحسبِ قوةِ نفوذِ البصائرِ.
الدليل:
ثبتَ في “الصحيحينِ ” و”السننِ ” و”المسانيدِ” من غيرِ وجه أن جبريلَ –
عليه السلامُ – سألَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن الإحسانِ، فقالَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “الإحسانُ: أنْ تعبدَ اللَّهَ كأنكَ تراهُ، فإن لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراكَ “.
[شرحه]
فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
قال العلامة العباد حفظه الله: وهذا فيه بيان عظم شأن الإحسان، وأنه منزلة عالية رفيعة وأنه أعلى من الإسلام والإيمان؛ لأن فيه قدراً زائداً على ذلك، وهو أن الإنسان يعبد الله وكأنه واقف بين يديه، ومن كان كذلك فإنه يتقن عمله فيأتي به على الوجه الأكمل، ولا يحصل منه إخلال فيه. والإحسان كما هو معلوم يكون في عمل الإنسان القاصر مثل الصلاة، فيصلي كأنه واقف بين يدي الله، فهو مقبل على صلاته، ومحافظ عليها وآت بكل ما يلزم فيها، وكذلك يكون في العمل المتعدي، وذلك بالإحسان إلى الناس بالقول أو بالمال، وذلك بإخراج الواجب والمستحب من المال في الزكاة والصدقات، وما إلى ذلك، ويكون أيضاً بالإحسان بالعلم، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالحق والهدى، وتعليم العلم النافع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا كله إحسان إلى من بذل له؛ لأنه يستفيد هدى، ويستفيد علماً نافعاً، يسير به إلى الله عز وجل على بصيرة. ويكون الإحسان بالجاه في وجوه كثيرة، لكن كون الإنسان يأتي بمثل الصلاة، وهو مقبل على الله، ويستشعر بأنه بين يدي الله، فهذه درجة كاملة، ودرجة الكمال لا تحصل لكل أحد، ولا تتيسر لكل أحد. وكذلك إذا لم يكن يراه فإنه يستشعر أن الله مطلع عليه، وأن الله تعالى رقيب عليه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فكل حركاته وسكناته يراها الله تعالى، ويطلع عليها، فإن ذلك أيضاً يدفعه إلى العناية بالعمل، وإلى الإتيان بالعمل على الوجه المطلوب، ولهذا يقول العلماء: إن الإسلام والإيمان والإحسان هي درجات، فالمحسن هو مؤمن ومسلم، ودونه المؤمن فإنه مؤمن مسلم، ودونه المسلم، إذ ليس كل مسلم مؤمناً، وليس كل مؤمن يكون محسناً، أي: بالغاً هذه الدرجة التي جاء وصفها في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والناس متفاوتون في الإيمان وفيما يقوم منه بقلوبهم وفي أعمالهم، وليسوا على حد سواء. ” شرح سنن أبي داود”.
قال العلامة السعدي رحمه الله:”
والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق.
[والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة [ص 149] الخالق]. (1).
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”
وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده. ” تيسير الكريم الرحمن”.
و قال القرطبي في تفسيره (10/ 167): وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين:
أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله: “وجعلت قرة عيني في الصلاة”.
وثانيهما: لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 – 219] وقوله: {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61].
وقال ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (7/ 622): قَدْ قِيلَ: إنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَنَاوَلُ الْإِخْلَاصَ وَغَيْرَهُ وَالْإِحْسَانُ يَجْمَعُ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَيَجْمَعُ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَذَكَرَ إحْسَانَ الدِّينِ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْسَانَ ثَانِيًا فَإِحْسَانُ الدِّينِ هُوَ – وَاَللَّهُ أَعْلَمُ – الْإِحْسَانُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؛ فَفِي. . .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (1/ 115):
للعلماءِ في تفسيرِ المحسنين هنا أقوالٌ (4)، والحقُّ الذي لا ينبغي العدولُ عنه أن لا يُعْدَلَ في تفسيرِها عن تفسيرِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وهو قولُه لَمَّا سَأَلَهُ جبريلُ عن الإحسانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (5). يعني: الذين كانوا أشدَّ مراقبةً لله في أعمالهم سيزيدُهم اللَّهُ إيمانًا؛ لأن الإنسانَ كُلَّمَا ازدادَ تَقْوَاهُ لله (جل وعلا) زَادَهُ اللَّهُ، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: آية 17] معناه: وسنزيدُ المحسنين منكم، أي: الذين هم أشدُّ مراقبةً لِلَّهِ سنزيدهم من الخيرِ والإيمانِ. وقال بعضُ العلماءِ: سنزيدُ في جزاءِ أعمالِ المحسنين؛ لأن العملَ الذي يُرَاقِبُ صاحبُه اللَّهَ قد يكونُ ثوابُه أكثرَ ممن هو أقلُّ منه مُرَاقَبَةً.
العلاقة بين الاسلام والايمان والاحسان
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والمقصود أن لفظ الإيمان تختلف دلالته بالإطلاق والإقتران فإذا ذكر مع العمل أريد به اصل الإيمان المقتضى للعمل وإذا ذكر وحده دخل فيه لوازم ذلك الأصل
وكذلك إذا ذكر بدون الإسلام كان الإسلام جزءا منه وكان كل مسلم مؤمن فإذا ذكر لفظ الإسلام مع الإيمان تميز أحدهما عن الآخر كما فى حديث جبريل. ” مجموع الفتاوى” (18/ 275).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الإسلام والإيمان تارة يراد بالإسلام كل الدين فيدخل فيه الإيمان، مثل قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فهذا يشمل الإسلام الذي هو الشرائع الظاهرة والإيمان الذي هو أعمال القلوب وأقوال القلوب، وكذلك إذا أطلق الإيمان مثل قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] يشمل حتى المسلمين، أما إذا قيل: مؤمن ومسلم، فالإيمان في القلب، والإسلام في الجوارح، والإيمان أكمل من الإسلام، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ويدل عليه أيضاً قول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 – 36] لأن الله أنجى لوطاً وأهله إلا امرأته، وكانت امرأته معه في البيت مسلمة ظاهرها أنها مؤمنة بالله ورسوله لكنها تبطن الكفر، فسمى الله البيت بيت إسلام، سمى الله أهله مسلمين كلهم، ولكنه لم ينج منه إلا المؤمن، لأن امرأة لوط كما ذكر الله في القرآن قد خانته فكفرت كفراً لم يعلم به، فصارت بذلك من المنافقين.
وعلى هذا فنقول: كل مؤمن مسلم دون عكس، وليس كل مسلم مؤمن؛ لأن الله قال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
السائل: قد يكون المسلم ليس عنده إيمان؟ الشيخ: لا لكن إيمانه ضعيف، المؤمن إيمانه كامل، فصار الآن لو سألنا: هل كل مؤمن مسلم؟ نقول: إذا أطلق الإيمان دخل فيه الإسلام، وإذا اطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا أطلقا جميعاً فهذا الفرق. ” لقاء الباب المفتوح”.
و قال العلامة العباد حفظه الله: فالخلاصة أن لفظ الإيمان والإسلام من جنس لفظ الفقير والمسكين، ومن جنس لفظ البر والتقوى إذا اجتمعا أو افترقا. وأما مرتبة الإحسان فهي أكملها، وهي أعلى من الإيمان، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فكما أنه لا يقال: كل مسلم مؤمن، فكذلك لا يقال: كل مؤمن محسن؛ لأن الإحسان أخص وأعلى من درجة الإيمان. ” شرح سنن أبي داود”.