2699 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي ، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي وعبدالله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
١١ – بابُ: فَضْلِ الِاجْتِماعِ عَلى تِلاوَةِ القُرْآنِ وعَلى الذِّكْرِ
٣٨ – (٢٦٩٩) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى التَّمِيمِيُّ، وأبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ العَلاءِ الهَمْدانِيُّ – واللَّفْظُ لِيَحْيى، قالَ يَحْيى: أخْبَرَنا وقالَ الآخَرانِ: حَدَّثَنا – أبُو مُعاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَوْمِ القِيامَةِ، ومَن يَسَّرَ عَلى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ، ومَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ، ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وحَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَن عِنْدَهُ، ومَن بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»،
٣٨ – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أبِي، ح وحَدَّثَناهُ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، قالا: حَدَّثَنا الأعْمَشُ، حَدَّثَنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ أبِي صالِحٍ، وفِي حَدِيثِ أبِي أُسامَةَ، حَدَّثَنا أبُو صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، بِمِثْلِ حَدِيثِ أبِي مُعاوِيَةَ، غَيْرَ أنَّ حَدِيثَ أبِي أُسامَةَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّيْسِيرِ عَلى المُعْسِرِ.
٣٩ – (٢٧٠٠) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، وابْنُ بَشّارٍ، قالا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ أبا إسْحاقَ، يُحَدِّثُ عَنِ الأغَرِّ أبِي مُسْلِمٍ، أنَّهُ قالَ: أشْهَدُ عَلى أبِي هُرَيْرَةَ وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّهُما شَهِدا عَلى النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إلّا حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، ونَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَن عِنْدَهُ»،
٣٩ – وحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ فِي هَذا الإسْنادِ نَحْوَهُ.
٤٠ – (٢٧٠١) حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أبِي نَعامَةَ السَّعْدِيِّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قالَ: خَرَجَ مُعاوِيَةُ عَلى حَلْقَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَقالَ: ما أجْلَسَكُمْ؟ قالُوا: جَلَسْنا نَذْكُرُ اللهَ، قالَ آللَّهِ ما أجْلَسَكُمْ إلّا ذاكَ؟ قالُوا: واللهِ ما أجْلَسَنا إلّا ذاكَ، قالَ: أما إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وما كانَ أحَدٌ بِمَنزِلَتِي مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ أقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وإنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ عَلى حَلْقَةٍ مِن أصْحابِهِ، فَقالَ: «ما أجْلَسَكُمْ؟» قالُوا: جَلَسْنا نَذْكُرُ اللهَ ونَحْمَدُهُ عَلى ما هَدانا لِلْإسْلامِ، ومَنَّ بِهِ عَلَيْنا، قالَ: «آللَّهِ ما أجْلَسَكُمْ إلّا ذاكَ؟» قالُوا: واللهِ ما أجْلَسَنا إلّا ذاكَ، قالَ: «أما إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، ولَكِنَّهُ أتانِي جِبْرِيلُ فَأخْبَرَنِي، أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُباهِي بِكُمُ المَلائِكَةَ»
==========
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
شرح الحديث الأول:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-؛ أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن نَفَّسَ) بتشديد الفاء؛ أي: فَرّج، قال الطيبيّ رَحِمَهُ اللهُ: يقال: نفّست عنه كَرْبه: إذا رفعته، وفرّجته عنه، مأخوذ من قولهم: أنت في نفَس: أي: سَعَة … [»الكاشف عن حقائق السنن«٢/ ٦٦٥].
(عَنْ مُؤْمِنٍ) وفي بعض النسخ: أمن مؤمن»، والمراد: أيّ مؤمن، ولو كان فاسقًا؛ مراعاة لإيمانه [»مرقاة المفاتيح«١/ ٤١٤]، وفي رواية ابن ماجه: «عن مسلم».
(كُرْبَةً) بضمّ الكاف، وسكون الراء: اسم مِن كَرَبه الأمر، من باب نصر: إذا شقّ عليه، وأهمّه، قال القاري: وقال الطيبيّ: قوله: «كربة»؛ أي: غمًّا وشدّةً، نكّرها تقليلًا، وميّز بها بعد الإبهام، وبيّنها بقوله: أمن كُرَب الدنيا«؛ للإيذان بتعظيم شان التنفيس؛ يعني: أن أقلّه المختصّ بالدنيا يفيد هذه الفائدة، فكيف بالكثير المختصّ بالعقبى. انتهى [»الكاشف عن حقائق السنن” ٢/ ٦٦٥].
(ومَن يَسَّرَ عَلى مُعْسِرٍ)؛ أي: سَهّل على فقير، وهو يشمل المؤمن
والكافر المعاهَد؛ أي: من كان له دَين على فقير، فسَهَّل عليه بإمهال، أو بترك
بعضه، أو كله
(ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا)؛ أي: في قبيحِ يفعله، فلا يَفْضحه، أو كساه ثوبًا، قاله القاري، وقال غيره: أي: ستر بدنه باللباس، أو عيوبه بعدم الغيبة له، ولو رآه في معصية، فينكرها بحسب القدرة، وإن عجز يرفعها إلى الحاكم، إذا لم يترتب عليه مفسدة، وأما جرح الرواة والشهود، وأمناء الصدقات، فواجب [«الكاشف عن حقائق السنن» ٢/ ٦٦٥].
. (فِي عَوْنِ أخِيهِ)؛ أي: مشغولًا بقضاء حاجة أخيه المسلم، وفيه إشارة إلى فضيلة عون الأخ على أموره، والمكافأة عليها بجنسها من العناية الإلهية، سواء كان بقلبه، أو بدنه، أو بهما؛ لدفع المضارّ، أو جلب المسارّ؛ إذ الكل عون.
ولمّا فرغ من الحثّ على الشفقة على خَلْق الله تعالى أتبعه بما يُنبئ عن التعظيم لأمر الله تعالى؛ لأن العلم وسيلة إلى العمل، ومقدّمة له، ومن ثمّ ختمه .
بقوله: «ومن بطّأ به عمله»، فقال:
(ومَن سَلَكَ)؛ أي: دخل، أو مشى (طَرِيقًا)؛ أي: قريبًا، أو بعيدًا، أيّ سبب كان، من التعلّم، والتعليم، والتصنيف، والكدح فيه، ومفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، والإنفاق فيه، وغير ذلك مما لا يُحصى كثرةً انتهى.
وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: قوله :تحصيل علم شرعيّ، قاصدًا به وجه الله تعالى،
(عِلْمًا) نَكّره؛ ليشمل كل نوع من أنواع علوم الدِّين، قليله، أو كثيره، إذا كان بنيّة القربة، والنفع، والانتفاع، وفيه استحباب الرحلة في طلب العلم، وقد ذهب موسى إلى الخضر -عليهما الصلاة والسلام- وقال له: ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف ٦٦]،، ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد.
(سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ)؛ أي: بذلك السلوك، أو الطريق، أو الالتماس، أو العلم، والباء سببيّة. (طَرِيقًا) موصلًا، ومُنْهِيًا (إلى الجَنَّةِ)؛ أي: يسهّل الله له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه، وييسّره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، أو يُيسّر الله له إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنّة بذلك، وقد يُيسّر الله لطالب العلم علومًا أخرى ينتفع بها، وتكون موصلة إلى الجنة، أو يسهّل الله له طريق الجنة الحسيّ يوم القيامة، وهو الصراط، وما قبله، وما بعده من الأهوال .
(وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ)؛ أي: مجمع (مِن بُيُوتِ اللهِ) بضمّ الباء، وتكسر، وإنما عدل عن المساجد إلى بيوت الله؛ ليشمل كل ما يبنى تقربًا إلى الله تعالى، من المساجد، والمدارس، والرُّبُط.
وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: بيوت الله هي المساجد، كما قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾ [النور ٣٦]. انتهى، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَتْلُونَ) حال من«قوم»؛ لتخصيصه. (كِتابَ اللهِ)؛ أي؛ القرآن الكريم، مع التدبّر فيما يتعلق بذات الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ومعرفة الحلال والحرام، وغير ذلك مما حواه الكتاب من عجائب الدنيا والآخرة.
(ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ) فيشمل جميع ما يتعلّق بالقرآن، من التعليم، والتعلم، والتفسير، والتحقيق في مبانيه، والاستكشاف عن دقائق معانيه.
(إلّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ) يجوز فيه كسر الهاء، وضم الميم، وهو الأكثر، وضمهما، وكسرهما. (السَّكِينَةُ) قال القرطبيّ: هي إما السكون، والوقار، والخشوع، وإما الملائكة الذين يستمعون القرآن، سُمُّوا بذلك؛ لِما هم عليه من السكون والخشوع. انتهى [«المفهم» ٦/ ٦٨٧ – ٦٨٨].
(وغَشِيَتْهُمُ)؛ أي: أتتهم، وعَلَتهم، وغطّتهم (الرَّحْمَةُ)؛ أي: فتكفّر خطيئاتهم، وتُرفع درجاتهم، ويصلون إلى جنته وكرامته، (وحَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ)؛ أي: أحدقت ملائكة الرحمة، والبركة، وأحاطت بهم، أو طافت بهم، وداروا حولهم إلى سماء الدنيا، يستمعون القرآن، ودراستهم، ويحفظونهم من الآفات (وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَن عِنْدَهُ)؛ أي: في الملأ الأعلى، تشريفا ومباهاة
وقال الحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: وذِكر الله لعبده هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته، ومباهاته به، وتنويهه بذكره. قال الربيع بن أنس: إن الله ذاكر مَن ذكره، وزائد مَن شكره، ومعذِّب مَن كفره، قال تعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا (٤٢)﴾ [الأحزاب ٤١، ٤٢]، وصلاة الله على عبده هي ثناؤه عليه بين ملائكته، وتنويهه بذكره، كذا قال أبو العالية، ذكره البخاري في «صحيحه». انتهى[«جامع العلوم والحكم» ٢/ ٣٠٧].
(ومَن بَطَّأ عمله) (لم يسرع به نَسَبُهُ»)؛ أي: شَرَف نَسَبه؛ ، قال تعالى: ﴿إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات ١٣].
وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: يعني: أن الآخرة لا ينفع فيها إلا تقوى الله تعالى، والعمل الصالح، لا الفخر الراجح، ولا النسب الواضح [«المفهم» ٦/ ٦٨٨].
قال النووي :
[فإن قلت]: هذا ينافي قوله تعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآية [الطور ٢١]، فإنه يدلّ على أن النسب ينفع.
[قلت]: هذه الآية فيمن تَبِع في الإيمان، ولكنه مقصّر في بعض الأعمال، فيُلحق بهم تكريمًا لهم، وأما الحديث فهو محمول على من اتبع هواه، فضلّ السبيل، فإنه لا ينفعه نسبه، ولا يُلحقه بآبائه. انتهى.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رَحِمَهُ اللهُ.
[تنبيه]: ذكر أبو الفضل بن عمّار الحافظ علّة لهذا الحديث، وأن الاعمش دلسه لكن صرح في بعض الروايات بالتحديث فتنتفي العلة
فوائد وفقه الحديث:
١ – (منها): أن هذا الحديث حديث عظيم، جامع لأنواع من العلوم والقواعد، والآداب.
٢ – (ومنها): بيان فضل التنفيس عن المسلم، والحثّ عليه.
٣ – (ومنها): بيان فضل الستر على المسلم، وعدم كشف معايبه، وهذا مخصوص بمن كان مستقيمًا، وأما الفاسق المنتهك لحرمات الله عز وجل فلا يُستر عليه، بل يجب ردعه عن جرائمه بحسب ما يقتضيه الحال.
٤ – (ومنها): بيان فضل العلماء، والحثّ على العلم.
٤ – (ومنها): بيان فضل إنظار المعسر، والتخفيف عنه.
٥ – (ومنها): بيان فضل قيام العبد بعون أخيه المسلم، وقضاء حوائجه، ونَفْعه بما تيسّر، من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك.
٦ – (ومنها): فضل المشي في طلب العلم، والمراد به: العلم الشرعيّ، علم الكتاب والسُّنَّة، لا العلم المتعلّق بامور الدنيا، قال لهم مرة : «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
ومما يتعيّن على طالب العلم أن يقصد به وجه تعالى، وهو وإن كان شرطًا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيّدون هذه المسألة به؛ لكونه قد يَتساهل فيه بعض الناس، ويغفُل عنه بعض المبتدئين ونحوهم، قاله النوويّ رَحِمَهُ اللهُ [«شرح النوويّ» ١٧/ ٢١]. باختصار
٧ – (ومنها): بيان استحباب الرحلة في طلب العلم،
قال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: الحديث فيه الحضّ والترغيب في الرحلة في طلب العلم، والاجتهاد في تحصيله، وقد ذكر أبو داود هذا الحديث من حديث أبي الدرداء، وزاد زيادات حسنة، فقال: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لَتَضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا، ولا درهمًا، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وهذا حديث عظيم يدلّ على أن طلب العلم أفضل الأعمال، وأنه لا يبلغ أحد رتبة العلماء، وإن رتبتهم ثانية عن رتبة الأنبياء.
وقوله: «إن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم»: قيل: معناه: تخضع له، وتعظّمه، وقيل: تبسطها له بالدعاء؛ لأنَّ جناح الطائر يده.
وقوله: «وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض»؛ يعني
بـ «من» هنا: من يعقل، وما لا يعقل، غير أنه غلب عليه من يعقل … فأمّا استغفار من يعقل فواضح، فإنَّه دعاء بالمغفرة، وأما استغفار ما لا يعقل، فهو -والله أعلم- أن الله يغفر له، ويأجره بعدد كل شيء لَحِقه أثرٌ من علم العالم.
وبيان ذلك: أن العالم يبيّن حكم الله تعالى في السموات وفي الأرض، وفي كل ما فيهما، وما بينهما، فيغفر له ذنبه، ويعظم له أجره بحسب ذلك. والله تعالى أعلم.
وقوله: «إن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»: هذه المفاضلة لا تصحّ حتى يكون كل واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل والقمر يضيء لغيره بخلاف الكوكب
وقوله: «وإن العلماء ورثة الأنبياء» إنما خصّ العلماء بالوراثة، وإن كان العبّاد أيضًا قد ورثوا العلم بما صاروا به عبّادًا؛ لأنَّ العلماء هم الذين نابوا عن النبيّ ﷺ في حَمْلهم العلم عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم.
وقوله: «فمن أخذه أخذ بحظ وافر»؛ أي: بحظ عظيم، لا شيء أعظم منه، ولا أفضل، كما ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ [«المفهم» ٦/ ٦٨٥ – ٦٨٧]، وهو بحث نفيش، والله تعالى أعلم.
٨ – (ومنها): بيان فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، قال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه، ويُلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة
و لمسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنهما- بلفظ: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة …» الحديث، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الحديث الأول خرج مخرج الغالب، لا سيما في ذلك الزمان، فلا يكون له مفهوم يُعمل به، قاله النوويّ رَحِمَهُ اللهُ [«شرح مسلم» ١٧/ ٢١ – ٢٢].
٩ – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: فيه ما يدلّ على جواز تعليم القرآن في المساجد، أما للكبار الذين يتحفّظون بالمسجد فلا إشكال فيه، ولا يُختلف فيه، وأما الصغار الذين لا يتحفّظون بالمساجد، فلا يجوز، لأنه تعريض للمسجد للقذر والعبث، وقد قال ﷺ: «جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» وهو ضعيف؛ لأن في سنده الحارث بن نبهان، متروك، وشيخه ضعيف.
وأخرجه عبد الرزاق في «مصنّفه» ١٧٢٦١)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٢/
١٠ – (ومنها): أن العبرة بالأعمال الصالحات، لا بالنسب الشريف،
ابن رجب ذكر مسائل في شرح الحديث مختصرة :
مسألة :
– الجزاء من جنس العمل …. ثم ذكر شواهد ذلك
مسألة:
– قوله ﷺ: «ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة»: هذا مما تكاثرت النصوص بمعناه،
وقد رُوي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس لهم عيوبًا، وأدركت قومًا كانت لهم عيوب، فكَفُّوا عن عيوب الناس، فنُسيت عيوبهم، أو كما قال.
– وشاهِدُ هذا الحديث: حديث أبي برزة -رضي الله عنه-، عن النبيّ ﷺ؛ أنه قال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم، تتبَّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته» [صحيح بشواهده]، خزجه الإمام أحمد، وأبو داود، وخزج الترمذ في معناه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(مسألة )
– (واعلم): أن الناس على ضربين:
أحدهما: من كان مستورًا لا يُعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلة، فإنه لا يجوز هتكها، فهتكها من إشاعة الفاحشة
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور سَتر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا، كما أمر النبيّ ﷺ ماعزًا، والغامدية، وكما لم يستفسر الذي قال: أصبت حدًّا، فأقمه عليّ، ومثل هذا لو اخذ بجريمته، ولم يبلغ الإمام، فإنه يُشفع له، لا يبلغ الإمام، وفي مثله جاء في الحديث عن النبيّ ﷺ: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»، خرّجه أبو داود، والنسائيّ، من حديث عائشة -رضي الله عنها- [صححه ابن حبّان].
والثاني: من كان مشتهرًا بالمعاصي، مُعلنًا بها، ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، هذا هو الفاجر المعلن، وليس له غِيبة، كما نصّ على ذلك الحسن البصريّ وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لتقام عليه الحدود، وصرَّح بذلك بعض أصحابنا -يعني: الحنبليّة- واستَدَلّ بقول
النبيّ ﷺ:»واغْدُ يا أُنيسُ على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها«[متّفقٌ عليه].
– وكَرِه الإمام أحمد رَفْع الفسّاق إلى السلطان بكل حال، … ثم ذكر أنهم ضربوا رجلًا، فمات؛ يعني: أنه لم يكن قَتْله جائزًا. والله تعالى أعلم.
(مسألة ):
قوله: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»،
وبَعَث الحسن البصريّ قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل، وقال لهم: مُرّوا بثابت البنانيّ، فخذوه معكم، فأتَوْا ثابتًا، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن، فأخبروه، فقال: قولوا: يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة؟، فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه، وذهب معهم.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابنة لخباب بن الأرتّ، قالت: خرج خباب في سرية، فكان النبيّ ﷺ يتعاهدنا، حتى يحلُب عنزة لنا في جفنة لنا، فتمتلئ حتى تفيض، فلما قَدِم خباب حلبها، فعاد حلابها إلى ما كان.
وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يحلُب للحيّ أغنامهم، فلما استُخلف قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بل وإني لأرجو أن لا يغيّرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله، أوكما قال.
وإنما كانوا يقومون بالحِلاب؛ لأن العرب كانت لا تحلب النساء منهم،
وكان عمر يتعاهد الأرامل، يستقي لهنّ الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فماذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا مذ كذا وكذا يتعاهدني، ياتيني بما يصلحني، وُيخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعورات عمر تتبع؟
وكان أبو وائل يطوف على نساء الحيّ وعجائزهنّ كل يوم، فيشتري لهنّ حوائجهنّ، وما يصلحهن.
وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني.
وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم في السفر،
وفي «الصحيحين» عن أنس قال: كنا مع النبيّ ﷺ في السفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلًا في يوم حارّ، أكثرُنا ظلًّا صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصُّوّام، وقام المفطرون، وضربوا الأبنية، وسَقَوا الركاب، فقال رسول الله ﷺ: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر».
(مسألة ):
قوله ﷺ: «ومن سلك طريقًا، يلتمس فيه علمًا، سهل الله له طريقًا إلى الجنة».
وما دام العلم باقيًا في الأرض، فالناس في هُدًى، ، كما في «الصحيحين» عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، عن النبيّ ﷺ: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يَبق عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا».
وذكر النبيّ ﷺ يومًا رَفْع العلم، فقيل له: كيف يذهب العلم، وقد قرأنا القرآن، وأقرأناه نساءنا، وأبناءنا؟ فقال النبيّ ﷺ: «هذه التوراة، والإنجيل، عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟»، فسئل عبادة بن الصامت عن هذا الحديث، فقال: إن شئت لأخبرتك بأول علم يُرفع من الناس: الخشوع، وإنما قال عبادة هذا؛ لأن العلم قسمان:
أحدهما: ما كان ثمرته في قلب الإنسان، وهو العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، المقتضية لخشيته، ومهابته، وإجلاله، والخضوع له، ومحبته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، ونحو ذلك، فهذا هو العلم النافع، كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إن أقوامًا يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب، فَرَسَخ فيه نفع.
وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم، كما في الحديث: «القرآن حجة لك، أو عليك»، وعِلم في القلب، فذاك العلم النافع.
والقسم الثاني: العلم الذي على اللسان، وهو حجة لك، أو عليك، فأول ما يُرفع من العلم: العلم النافع، وهو الباطن الذي يخالط القلوب، ويُصلحها، ويبقى عِلم اللسان حجة، فيتهاون الناس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حَمَلَته، ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته، فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف، وليس ثَمّ من يعلم معانيه، ولا حدوده، ولا أحكامه، ثم يُسرى به في آخر الزمان، فلا يبقى في المصاحف، ولا في القلوب منه شيء بالكلية، وبعد ذلك تقوم الساعة، كما قال ﷺ: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس»، وقال: «لا تقوم الساعة، وفي الأرض أحد يقول: الله الله».
(مسألة ):
قوله ﷺ: «ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
هذا يدلّ على استحباب الجلوس في المساجد؛ لتلاوة القرآن، ومدارسته، وهذا إن حُمل على تعلم القرآن، وتعليمه، فلا خلاف في استحبابه، وفي «صحيح البخاريّ» عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ قال: «خيركم من تعلم القرآن، وعلّمه»، وقال أبو عبد الرحمن السُّلَميّ: فذلك الذي أقعدني في مقعدي هذا، وكان قد عَفَم القرآن في زمن عثمان بن عفان، حتى بلغ الحجاج بن يوسف.
وإن حُمل على ما هو أعمّ من ذلك دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلقًا، وقد كان النبيّ ﷺ أحيانًا يامر من يقرأ القرآن؛ ليسمع قراءته، كما كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقرأ عليه، وقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، متّفقٌ عليه.
وسئل ابن عباس -رضي الله عنهما-: أيُّ العمل أفضل؟ قال: ذِكر الله، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتعاطون فيه كتاب الله فيما بينهم، ويتدارسونه، إلا
أظلّتهم الملائكة باجنحتها، وكانوا أضياف الله ما داموا على ذلك، حتى يخوضوا في حديث غيره. ورُوي مرفوعًا، والموقوف أصحّ.
ورَوى يزيد الرّقاشيّ عن أنس قال: كانوا إذا صَلَّوا الغداة قعدوا حِلَقًا حِلَقًا، يقرؤون القرآن، ويتعلمون الفرائض والسنن، ويذكرون الله تعالى.
وذكر كثير من الفوائد سبق ذكرها في الشرح
: (مسألة ):
قوله ﷺ: «ومن أبطا به عمله لم يُسرع به نسبه»
معناه: أن العمل هو الذى يبلغ بالعبد درجات الآخرة، كما قال تعالى: {فَإذا نُفِخَ ﴿فَإذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءَلُونَ (١٠١)﴾ [المؤمنون ١٠١]،
قال ابن مسعود: يأمر الله بالصراط، فيُضرَب على جهنم، فيمرّ الناس على قَدْر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمرّ الريح، ثم كمرّ الطير، ثم كمرّ البهائم، حتى يمرّ الرجل سعيًا، وحتى يمرّ الرجل مشيًا، حتى يمرّ آخرهم يتلبّط على بطنه، فيقول: يا رب لِمَ أبطأت بي؟ فيقول: إني لم أُبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك [حسنٌ مرفوعًا وموقوفًا].
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ حين أنزل عليه: ﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (٢١٤)﴾ [الشعراء ٢١٤]: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة النبيّ ﷺ لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد ﷺ سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا».
وفي رواية خارج «الصحيحين»: «إن أوليائي منكم المتقون، تأتي الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا، تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، يا محمد، فأقول: قد بلَّغت»…..
ويشهد لهذا كله ما في «الصحيحين» عن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-؛ أنه سمع النبيّ ﷺ يقول: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله، وصالحو المؤمنين»، يشير إلى أن ولايته لا تُنال بالنسب، وإن قَرُب، وإنما تنال بالإيمان، والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيمانًا وعملًا، فهو أعظم ولاية له، سواء كان له نسب قريب، أو لم يكن.
وفي هذأ المعنى يقول بعضهم:
لَعَمْرُكَ ما الإنْسانُ إلا بِدِينِهِ … فَلا تَتْرُكِ الئقْوى اتِّكالًا عَلى النَسَبْ
لَقَدْ رَفَعَ الإسْلامُ سَلْمانَ فارِسٍ … وقَدْ وضَعَ الشِّرْكُ النَسِيبَ أبا لَهَبْ
انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث بطوله، وهو
بحث ممتع مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[٦٨٣٣] (٢٧٠١) – (حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا مَرْحُومُ بْنُ
عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أبِي نَعامَةَ السَّعْدِيِّ، عَنْ أبِي عُثْمانَ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، ….
«أما إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، ولَكِنَّهُ أتانِي جِبْرِيلُ، فَأخْبَرَنِي أن اللهَ عزوجل
يُباهِي بِكُمُ المَلائِكَةَ»).
(قالَ: خَرَجَ مُعاوِيَةُ) بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- (عَلى حَلْقَةٍ) – بسكون اللام، وتُفتح-؛
أي: جماعة متحلقة، . انتهى
قال
الطيبيّ: قيل: آللهَ بالنصب؛ أي: أتُقسمون بالله؟
أي: فأردت أن أتحقّق ما هو السبب في ذلك، فالتحليف لمزيد التقرير والتأكيد، لا للتهمة،
د انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ١٧٣٨].
وقال القاري: وقدَّم بيان قُرْبه منه ﷺ وقلة نَقْله من أحاديثه؛
دفعًا لتهمة الكذب عن نفسه فيما ينقله من الكلام.
(أتانِي جِبْرِيلُ) عليه السلام؛ (فَأخْبَرَنِي أن اللهَ عزوجل يُباهِي)؛ أي: يفاخر (بِكُمُ المَلاِئكَةَ»)؛ أي: فاردت أن أتحقق بماذا كانت
المباهاة، فللاهتمام بتحقيق ذلك الأمر، والإشعار بتعظيمه استحلفتكم. وقال النوويّ رحمه الله: معناه: يُظهر فضلكم لهم، وُيريهم حسن عملكم، وُيثني عليكم
عندهم
وحديث معاوية -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
فوائد وفقه الحديث:
١ – (منها): بيان فضل الاجتماع في المساجد لأجل ذكر الله تعالى، وتذكّر نعمه.
٢ – (ومنها): أنه ينبغي للمؤمن أن يشكر الله تعالى أن هداه للإسلام،
وأن جعله من أمة النبيّ ﷺ، فإنه فخر لا فخر بعده
٣ – (ومنها): أن الله سبحانه وتعالى يباهي الملائكة بعباده الصالحين من بني آدم،
وذلك لِعِظَم شانهم، حيث أقبلوا عليه سبحانه وتعالى مدافعين الشيطان والنفس الأمارة والهوى ، وهذا معنى الحديث القدسيّ: «ومن ذكرني في ملأ
ذكرته في ملأخير من ملئه …»، متّفق عليه.
٤ – (ومنها): أن النسائيّ رحمه الله ترجم في «سننه» بقوله: «كيف يَستحلف
الحاكم؟»، ثم أورد هذا الحديث مستدلًّا به على ترجمته، ومحلّ الاستدلال
منه قوله: «آالله ما أجلسكم»، فيقول الحاكم لمن يستحلفه: قل: آلله ما فعلت
كذا، والله تعالى أعلم.
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
ثانيًا: ملحقات:
فصل: فَضْل حَمَلَة القرآن الكريم ومُتَعَلِّمِيه ومُعَلِّمِيه، وما ورد في فضل الاجتماع في المساجد لِمُدارَسَته -، وأبوابًا في الآداب والأخلاق التي ينبغي أن يَتَحَلّى بها أهلُ القرآن عمومًا، وما يُطْلَب من ذلك حال تعليمه أو تَعَلُّمه، أو عند تلاوته.
مقدمة:
” أنْزَلَ اللهُ عز وجل القُرْآنَ عَلى نَبِيِّهِ ﷺ، وأعْلَمَهُ فَضْلَ ما أنْزَلَ عَلَيْهِ، وأعْلَمَ خَلْقَهَ فِي كِتابِهِ وعَلى لِسانِ رَسُولِهِ: أنَّ القُرْآنَ عِصْمَةٌ لِمَن اعْتَصَمَ بِهِ، وهُدًى لِمَنِ اهْتَدى بِهِ، وغِنًى لِمَنِ اسْتَغْنى بِهِ، وحِرْزٌ مِنَ النّارِ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، ونُورٌ لِمَنِ اسْتَنارَ بِهِ، وشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وهُدى ورَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ.
ثُمَّ أمَرَ اللهُ الكريم خَلْقَهُ أنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، ويَعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ فَيُحِلُّوا حَلالَه، ويُحَرِّمُوا حَرامَهُ، ويُؤْمِنُوا بِمُتَشابِهِهِ، ويَعْتَبِرُوا بِأمْثالِهِ، ويقولوا: ﴿آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ [آل عمران ٧].
ثُمَّ وعَدَهُمْ عَلى تِلاوَتِهِ والعَمَلِ بِهِ: النَّجاةَ مِنَ النّارِ، والدُّخُولَ إلى الجَنَّةِ.
ثُمَّ نَدَبَ خَلْقَهَ – إذا هُمْ تَلَوْا كِتابَهُ – أنْ يَتَدَبَّرُوهُ، ويَتَفَكَّرُوا فِيهِ بِقُلُوبِهِمْ، وإذا سَمِعُوهُ مِن غَيْرِهِمْ أحْسَنُوا اسْتِماعَهُ. ثُمَّ وعَدَهُمْ عَلى ذَلِكَ الثَّوابَ الجَزِيلَ، فَلَهُ الحَمْدُ.
ثُمَّ أعْلَمَ خَلْقَهَ: أنْ مَن تَلا القُرْآنَ، وأرادَ بِهِ مُتاجَرَةَ مَوْلاهُ الكَرِيم، فَأنَّهُ يُرْبِحُهُ الرِّبْحَ الِّذِي لا بَعْدَهُ رِبْحٌ، ويُعَرِّفُهُ بَرَكَةَ المُتاجَرَةِ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ: جَمِيعُ ما ذَكَرْتُهُ وما سَأذْكُرُهُ إنْ شاءَ اللهُ بَيانُهُ فَي كِتابِ اللهِ عز وجل، وسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ومِن قَوْلِ صَحابَتِهِ رضي الله عنهم، وسائِرِ العُلَماءِ، وأنا أذْكُرُ مِنهُ ما حَضَرَني ذِكْرُهُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى، واللهُ المُوَفِّقُ في ذَلِكَ.
قالَ عز وجل: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وأقامُوا الصَّلاةَ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُمْ مِن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)﴾ [فاطر]……
ثُمَّ إنّ اللهَ تعالى وعَدَ لِمَنِ اسْتَمَعَ إلى كَلامِهِ، فَأحْسَنَ الأدَبَ عِنْدَ اسْتِماعِهِ بِالاعْتِبارِ الجَمِيلِ ولُزُومِ الواجِبِ لاتِّباعِهِ، والعَمَلِ بِهِ أنْ يُبَشِّرَهُ عز وجل مِنهُ بِكِلِّ خَيْرٍ، ووَعَدَهُ عَلى ذَلِكَ أفْضَلَ الثَّوابِ، فقال عز وجل: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبابِ (١٨)﴾ [الزمر] …
فكلُّ كَلامِ ربِّنا حَسَنٌ لِمَن تَلاهُ، ولِمَنِ اسْتَمَعَ إلَيْهِ، وإنَّما هَذا – واللهُ أعْلَمُ – صِفَةُ قَوْمٍ إذا سَمِعُوا القُرْآنَ يَتَّبِعُونَ مِنَ القُرْآنِ أحْسَنَ ما يَتَقَرَّبُونَ به إلى اللهِ عز وجل، مِمّا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مَوْلاهُمُ الكَرِيمُ، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ رِضاهُ، ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، سَمِعُوا اللَّهَ قالَ: ﴿وإذا قُرِئَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)﴾ [الأعراف]، فَكانَ حُسْنُ اسْتِماعِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلى التَّذَكُّرِ فِيما لَهُمْ وعَلَيْهِمْ، وسَمِعُوا اللهَ عز وجل قال: {فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخافُ وعِيدِ (٤٥)} [ق].
وقَدْ أخْبَرَنا اللهُ عز وجل عَنِ الجِنِّ في حُسْنِ اسْتِماعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، واسْتِجابَتِهِمْ لِما نَدَبَهُمْ إلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلى قَوْمِهِمْ، فَوَعَظُوهُمْ بِما سَمِعُوا مِن القُرْآنِ بِأحْسَنَ ما يَكُونُ مِن المَوْعِظَةِ.
قالَ اللهُ عز وجل: ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فَقالُوا إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ ولَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحَدًا (٢)﴾ [الجن]
وقَدْ قالَ اللهُ عز وجل فِي سُورَةِ ﴿ق والقُرْآنِ المَجِيدِ (١)﴾ [ق] ما دَلَّنا عَلى عظيم ما خَلَقَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ، وما بَيْنَهُما مِن عَجائِبِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ المَوْتَ وعَظيمَ شَأْنه، ثم ذَكَرَ النّارَ وعَظيمَ شَأْنها.
ثم ذَكَرَ الجنَّة وما أعَدَّ فِيها لأوْلِيائِهِ، فَقالَ عز وجل: ﴿لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها ولَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)﴾ [ق] …
ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ كله: ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)﴾ [ق].
فَأخْبَرَ – جَلَّ ذِكْرُهُ – أنَّ المُسْتَمِعَ بِأُذُنَيْهِ يَنْبَغِي له أنْ يَكُونَ مشاهِدًا بِقَلْبِهِ ما يَتْلُو، وما يسمع؛ لِيَنْتَفِعَ بِتِلاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وبِالاسْتِماعِ مِمَّنْ يَتْلُوهُ.
ثُمَّ إنّ اللهَ عز وجل حَثَّ خَلْقَهُ عَلى أنْ يَتَدَبَّرُوا القُرْآنَ، فَقالَ عز وجل: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها (٢٤)﴾ [محمد].
وقالَ عز وجل: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (٨٢)﴾ [النساء] …
ألا تَرَوْنَ – رَحِمَكُمُ اللهُ – إلى مَوْلاكُم الكَرِيم؛ كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهَ عَلى أنْ يَتَدَبَّرُوا كَلامَهُ، ومَن تَدَبَّرَ كَلامَهُ عَرَفَ الرَّبَّ عز وجل، وعَرَفَ عَظِيمَ سُلْطانِهِ وقُدْرَتِهِ، وعَرَفَ عَظِيمَ تَفَضُّلِهُ عَلى المُؤمِنِينَ، وعَرَفَ ما عَلَيْهِ مِن فَرْضِ عِبادَتِهِ، فَألْزَمَ نَفْسَهُ الواجِبَ، فَحَذِرَ مِمّا حَذَّرَهُ مَوْلاهُ الكَرِيمُ، ورَغِبَ فِيما رَغَّبَهُ فيه.
ومَن كانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وعِنْدَ اسْتِماعِهِ مِن غَيْرِهِ، كانَ القُرْآنُ لَهُ شِفاءً، فاسْتَغْنى بِلا مالٍ، وعَزَّ بِلا عَشِيرَةٍ، وأنِسَ بِما يَسْتَوحِشُ مِنهُ غَيْرُهُ، وكانَ هَمُّهُ عِنْدَ تِلاوَةِ السُّورَةِ إذا افْتَتَحَها: مَتى أتَّعِظُ بِما أتْلُو؟ ولَمْ يَكُنْ مُرادُهُ: مَتى أخْتِمُ السُّورَةَ؟ وإنَّما مُرادُهُ: مَتى أعْقِلُ عَنِ اللهِ الخِطابَ؟ مَتى أزْدَجِرُ؟ مَتى أعْتَبِرُ؟ لأنَّ تِلاوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عبادة، والعبادة لا تَكُونُ بِغَفْلَةٍ، واللهُ المُوَفِّقُ لِذَلِكَ.
عَنِ ابْنَ مَسْعُودٍ قالَ: «لا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقْل، ولا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجائِبِهِ، وحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، ولا يَكُنْ هَمُّ أحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ» [إسناده ضعيف، لكنه صحيح بمجموع طرقه] …، عَنْ مُجاهِدٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ [البقرة ١٢١]، قالَ: «يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ» [إسناده صحيح].
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ: وقَبْلَ أنْ أذْكُرَ أخْلاقَ أهْلِ القُرْآنِ وما يَنْبَغِي لهم أنْ يَتَأدَّبُوا بِهِ؛ أذْكُرُ فَضْلَ حَمَلَةِ القُرْآنِ، لِيَرْغَبُوا فِي تِلاوَتِهِ والعَمَلِ بِهِ، والتَّواضُعَ لِمَن تَعَلَّمُوا مِنهُ أوْ عَلَّمُوهُ.
* * *
بابُ: فَضْلِ حَمَلَةِ القُرْآنِ
عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «للهِ مِنَ النّاسِ أهْلُونَ»، قِيلَ: مَن هُمْ يا رَسُولَ اللهِ؟ ! قالَ: «أهْلُ القُرْآنِ، هُمْ أهْلُ اللهِ، وخاصَّتُهُ» [وصححه الحاكم (١/ ٥٥٦)، والمنذري في الترغيب (٢/ ٣٥٤)، والبوصيري في مصباح الزجاجة (١/ ٩١)، وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (٢/ ٦٨٤)، والألباني في الضعيفة (٤/ ٨٤ – ٨٥)] …،
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «يُقالُ لِصاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ، وارْتَقِ، ورَتِّلْ كَما كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيا، فَإنَّ مَنزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُها» [صححه الترمذي وابن حبان (٧٦٦)، والحاكم (١/ ٥٥٢ – ٥٥٣)، والذهبي، والألباني في الصحيحة (٢٢٤٠)]، …، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «تَعَلَّمُوا القُرْآنَ، واتْلُوهُ، فَإنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ بِهِ، إنَّ بِكُلِّ اسْمٍ مِنهُ عَشْرًا، أما إنِّي لا أقُولُ بِـ {الم] عَشْرٌ، ولَكَنْ بِالألف عَشْرٌ، وبِاللام عَشْرٌ، وبِالمِيمِ عَشْرٌ» [صححه الألباني في الصحيحة (٦٦٠)]، … .
* * *
بابُ: فَضْلِ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعلَّمَه
عَنْ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رضي الله عنه – قالَ شُعْبَةَ: قُلْتُ لَهُ: عَنْ النَّبيِّ ﷺ؟ قالَ: نَعَمْ – قالَ: «خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ، وعَلَّمَهُ».
قالَ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ [السلمي]: فَذَلِكَ الذي أقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذا.
فَكانَ يُعَلِّمُ مِن خِلافَةِ عُثْمانَ إلى إمْرَةِ الحَجّاجِ [أخرجه البخاري (٥٠٢٧)] …، عن عُقْبَةَ بْنَ عامِرٍ يقول: خَرَجَ إلَيْنا رَسُولُ اللهِ ﷺ ونَحْنُ فِي الصُّفَّة، فَقالَ: «أيُّكُمْ يُحِبُّ أنْ يَغْدُوَ إلى بُطْحانَ أو العَقِيقِ، فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِناقَتَيْنِ كَوْماوَيْنِ زَهْراوَيْنِ، فَيَأْخُذَهُما فِي غَيْرِ إثْمٍ، ولا قَطْعِ رَحِمٍ؟»، قالَ: قُلْنا: كُلُّنا يا رَسُولَ اللهِ يُحِبُّ ذَلِكَ، قالَ: «فَلَأنْ يَغْدُوَ أحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ، فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِن كِتابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِن ناقَتَيْنِ، وثَلاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلاثٍ، وأرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أرْبَعٍ، ومِن أعْدادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ»[أخرجه مسلم (٨٠٣)].
* * *
بابُ: فضْلِ الاجتماعِ في المَساجِدِ لِدَرْسِ القُرْآنِ
وسبق ذكر الأحاديث
* * *
بابُ: ذِكرِ أخلاقِ أهْلِ القُرْآنِ
يَنْبَغِي لِمَن عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ وفَضَّلَهُ عَلى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يحمِّله كِتابَهُ، وأحَبَّ أنْ يَكُونَ مِن أهْلِ القُرْآنِ وأهْلِ اللهِ وخاصَّتِهِ، ومِمَّنْ وعَدَهُ اللهُ مِنَ الفَضْلِ العَظِيمِ؛ مما تَقَدَّمَ ذِكْرُنا لَهُ، وممن قال اللَّهُ عز وجل: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ [البقرة ١٢١]- قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ -، وممن قال النَّبيُّ ﷺ: «الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وهُوَ ماهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، والَّذِي يقرؤه وهُوَ عَلَيْهِ شاقٌّ له أجْرانِ» [أخرجه البخاري (٤٩٣٧)، ومسلم (٧٩٨)] …،
فَيَنْبَغِي لَهُ أنْ يَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعًا لِقَلْبِهِ، يَعْمُرُ بِهِ ما خَرِبَ مِن قَلْبِهِ، ويَتَأدَّبَ بِآدابِ القُرْآنِ، ويَتَخَلَّقَ بِأخْلاقٍ شَرِيفَةٍ، يَبِينُ بها عَنْ سائِرِ النّاسِ مِمَّنْ لا يَقْرَأُ القُرْآنَ.
فَأوَّلُ ما يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَسْتَعْمِلَ: تَقْوى اللَّهِ عز وجل فِي السِّرِ والعَلانِيَةِ بِاسْتِعْمالِ الوَرَعِ فِي مَطْعَمِهِ، ومَشْرَبِهِ، ومَلْبَسِهِ، ومَكْسَبِه، ويَكُونَ بَصِيرًا بِزَمانِهِ وفَسادِ أهْلِهِ، فَهُوَ يَحْذَرُهُمْ عَلى دِينِهِ، مُقْبِلًا عَلى شَأْنِهِ، مَهْمُومًا بِإصَلاحِ ما فَسَدَ مِن أمْرِهِ، حافِظًا لِلِسانِهِ، مُمَيِّزًا لِكَلامِهِ؛ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ إذا رَأى الكَلامَ صَوابًا، وإن سَكَتَ سَكَتَ بِعِلْمٍ إذا كانَ السُّكُوتُ صَوابًا، قَلِيلَ الخَوْضِ فِيما لا يَعْنِيهِ، يَخافُ مِن لِسانِهِ أشَدَّ مِمّا يَخافُ مِن عَدُوهِ، يَحْبِسُ لِسانَهُ كَحَبْسِهِ لِعَدُوِّهِ، لِيَأْمَنَ شَرَّهُ وسُوء عاقِبَتِهِ.
قَلِيلَ الضَّحِكِ فِيما يَضْحَكُ فيه النّاسُ؛ لِسُوءِ عاقِبَةِ الضَّحِكِ، إنْ سُرَّ بِشَيءٍ مِمّا يُوافِقُ الحَقَّ تَبَسَّمَ، يَكْرَهُ المُزاحَ خَوْفًا مِن اللَّعِبِ، فَإنْ مَزَحَ قالَ حَقًّا، باسِطَ الوَجْهِ، طَيِّب الكَلامِ.
لا يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِما فِيهِ فَكَيْفَ بِما لَيْسَ فِيهِ؟ يَحْذَرُ مِن نَفْسه أنْ تَغْلِبَهُ عَلى ما تَهْوى مِمّا يُسْخِطُ مَوْلاهُ. ولا يَغْتابُ أحَدًا، ولا يَحْقِرُ أحَدًا، ولا يَسُبُّ أحَدًا، ولا يَشْمَتُ بِمُصِيبَةٍ، ولا يَبْغِي عَلى أحَدٍ، ولا يَحْسُدُهُ، ولا يُسِيءُ الظَّنَّ بِأحَدٍ إلا بِمَن يَسْتَحِقُّ، يَحْسُدُ بِعِلْمٍ، ويَظُنُّ بِعِلْمٍ، ويَتَكَلَّمُ بِما فِي الإنْسانِ مِن عَيْبٍ بِعِلْمٍ، ويَسْكُتُ عَنْ حَقِيقِةِ ما فِيهِ بِعِلْمٍ.
قَدْ جَعَلَ القُرْآنَ والسُّنَّةَ والفِقَهَ دَلِيله إلى كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ، حافِظًا لِجَمِيعِ جَوارِحِهِ عَمّا نُهِيَ عَنْهُ، إنْ مَشى مَشى بِعِلْمٍ، وإنْ قَعَدَ قَعَدَ بِعِلْمٍ، يَجْتَهِدُ لِيَسْلَمَ النّاسُ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ. ولا يَجْهَلُ، وإنْ جُهِلَ عَلَيْهِ حَلُمَ، ولا يَظْلِمُ، وإنْ ظُلِمَ عَفا، ولا يَبْغِي على أحد، وإنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ، يَكْظِمُ غَيْظَهُ لِيُرْضِيَ رَبَّهُ، ويَغِيظَ عَدُوَّهُ، مُتَواضِعٌ فِي نَفْسِهِ، إذا قِيلَ لَهُ الحَق قَبِلَهُ، مِن صَغِيرٍ أوْ كَبِيرٍ.
يَطْلُبُ الرِّفْعَةَ مِنَ اللهِ عز وجل لا مِنَ المَخْلُوقِينَ، ماقِتٌ لِلْكِبْرِ، خائِفًا عَلى نفْسِهِ مِنهُ، لا يَتأكَّلُ بِالقُرْآنِ، ولا يُحِبُّ أنْ تُقْضى لَهُ بِهِ الحَوائِج، ولا يَسْعى بِهِ إلى أبْناءِ المُلُوكِ، ولا يُجالِسُ بِهِ الأغْنِياءَ لِيُكْرِمُوهُ.
إنْ كَسِبَ النّاسُ مِنَ الدُّنْيا الكَثِيرَ بِلا فِقْهٍ ولا بَصِيرَةٍ، كَسِبَ هُوَ القَلِيلَ بِفِقْهٍ وعِلْمٍ، إنْ لَبِسَ النّاسُ اللَّيِّنَ الفاخِرَ، لَبِسَ هُوَ مِن الحَلالِ ما يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، إنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ وسَّعَ، وإنْ أُمْسِكَ عليه أمْسَكَ، يَقْنَعُ بِالقَلِيلِ فَيَكْفِيهِ، ويَحْذَرُ عَلى نَفْسِهِ مِنَ الدُّنْيا ما يُطْغِيهِ.
يَتَّبِعُ واجِباتِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، يَأْكُلُ الطَّعامَ بِعِلْمٍ، ويَشْرَبُ بِعِلْمٍ، ويَلْبَسُ بِعِلْمٍ، ويَنامُ بِعِلْمٍ، ويُجامِعُ أهْلَهُ بِعِلْمٍ، ويَصْحَبُ الإخْوانَ بِعِلْمٍ، يَزُورُهُمْ بِعِلْمٍ، ويَسْتَأذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، يُجاوِرُ جارَهُ بِعِلْمٍ.
ويُلْزِمُ نَفْسَهُ بِرَّ والِدَيْهُ، فَيَخْفِضُ لَهُما جَناحَهُ، ويَخْفِضُ لِصَوْتِهِما صَوْتَهُ، ويَبْذُلُ لَهُما مالَهُ، ويَنْظُرُ إلَيْهِما بِعَيْنِ الوَقارِ والرَّحْمَةِ، يَدْعُو لَهُما بِالبَقاءِ، ويَشْكُرُ لَهُما عِنْدَ الكِبَرِ، لا يَضْجَرُ بِهِما، ولا يحقرهما، إنْ اسْتَعانا بِهِ عَلى طاعَةٍ أعانَهُما، وإنْ اسْتَعانا بِهِ عَلى مَعْصِيةٍ لَمْ يُعِنْهُما، ورَفَقَ بِهِما فِي مَعْصِيتِهِ إيّاهُما، يُحْسِنُ الأدَبَ لِيَرْجِعا عَنْ قَبِيحِ ما أرادا مِمّا لا يَحْسُنُ بِهِما فِعْلُهُ.
يَصِلُ الرَّحِمَ، ويَكْرَهُ القَطِيعَةَ، مَن قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ، مَن عَصى اللهَ فِيهِ أطاعَ اللهَ فِيهِ.
يَصْحَبُ المُؤْمِنِينَ بِعِلْمٍ، ويُجالِسُهُمْ بِعِلْمٍ، مَن صَحِبَهُ نَفَعَهُ، حَسَنُ المُجالَسَةِ لِمَنِ جالَسَ، إنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفَقَ بِهِ، لا يُعَنِّفُ مَن أخْطَأ ولا يُخْجِلُهُ، رَفَيقٌ فِى أُمُورِهِ، صَبُورٌ عَلى تَعْلِيمِ الخَيْرِ، يَأْنَسُ بِهِ المُتَعَلِّمُ، ويَفْرَحُ بِهِ المُجالِسُ، مُجالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا، مُؤَدِّبٌ لِمَن جالَسَهُ بِأدَبِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ.
إنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فالقُرْآنُ والسُّنَّةُ لَهُ مُؤَدِّبانِ، يَحْزَنُ بِعِلْمٍ، ويَبْكِي بِعِلْمٍ، ويَصْبِرُ بِعِلْمٍ، ويَتَطَّهَرُ بِعِلْمٍ، ويُصَلي بِعِلْمٍ، ويُزَكِّي بِعِلْمٍ، ويَتَصَدَّقُ بِعِلْمٍ، ويَصُومُ بِعِلْمٍ، ويَحُجُّ بِعِلْم، ويُجاهِدُ بِعِلْمٍ، ويَكْتَسِبُ بِعِلْمٍ، ويُنْفِقُ بِعِلْمٍ، ويَنْبَسِطُ فِي الأُمُورِ بِعِلْمٍ، ويَنْقَبِضُ عَنْها بِعِلْمٍ.
قَدْ أدَّبَهُ القُرْآنُ والسُّنَّةُ، يَتَصَفَّحُ القُرْآنَ لِيُؤَدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، ولا يَرَضى مِن نَفْسِهِ أنْ يُؤَدِي ما فَرَضَ اللهُ عز وجل عَلَيْهِ بِجَهْلٍ، قَدْ جَعَلَ العِلْمَ والفِقْهَ دَلِيلَهُ إلى كُلِّ خَيْرٍ.
إذا دَرَسَ القُرْآنَ فَبِحُضُورِ فَهْمٍ وعَقْلٍ، هِمَّتُهُ إيقاعُ الفَهْمِ لِما ألْزَمَهُ اللهُ عز وجل مِنِ اتِّباعِ ما أمَرَ، والانْتِهاءِ عَمّا نَهى، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتى أخْتِمُ السُّورَةَ؟ هِمَّتُهُ: مَتى أسْتَغْنِي بِاللهِ عَنْ غَيْرِهِ؟ مَتى أكُونُ مِنَ المُتَقِينَ؟ مَتى أكُونُ مِنَ المُحْسِنِينَ؟ مَتى أكُونُ مِنَ المُتَوَكِّلِينَ؟ مَتى أكُونُ مِنَ الخاشِعِينَ؟ مَتى أكُونُ مِنَ الصّابِرِينَ؟ مَتى أكُونُ مِنَ الصّادِقِينَ؟ مَتى أكُونُ مِنَ الخائِفِينَ؟ مَتى أكُونُ مِنَ الرّاجِينَ؟ مَتى أزْهَدُ فِي الدُّنْيا؟ مَتى أرْغَبُ فِي الآخِرَةِ؟ مَتى أتُوبُ مِن الذُّنُوبِ؟ مَتى أعْرِفُ قدر النِّعَمَ المُتَواتِرَةِ؟ مَتى أشكر عَلَيْها؟ مَتى أعْقِلُ عَنِ اللهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ الخِطابَ؟ مَتى أفْقَهُ ما أتْلُو؟ مَتى أغْلِبُ نَفْسِي على هواها؟ مَتى أُجاهِدُ فِي اللهِ عز وجل حَقَّ الجِهادِ؟ مَتى أحْفَظُ لِسانِي؟ مَتى أغُضُّ طَرْفِي؟ مَتى أحْفَظُ فَرْجِي؟ مَتى اسْتَحِيى مِنَ اللهِ عز وجل حَقَّ الحَياءِ؟ مَتى أشْتَغِلُ بِعَيْبِي؟ مَتى أُصْلِحُ ما فَسَدَ مِن أمْرِي؟ مَتى أُحاسِبُ نَفْسِي؟ مَتى أتَزَوَّدُ لِيَوْمِ مَعادِي؟ مَتى أكُونُ عَنِ اللهِ راضَيًا؟ مَتى أكُونُ بِاللهِ وِاثِقًا؟ مَتى أكُونُ بِزَجْرِ القُرْآنِ مُتَّعِظًا؟ مَتى أكُونُ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ مُشْتَغِلًا؟ مَتى أُحِبُّ ما أحَبَّ؟ مَتى أُبْغضُ ما أبْغَضَ؟ مَتى أنْصَحُ للهِ؟ مَتى أُخْلِصُ لَهُ عَمَلِي؟ مَتى أُقَصِّرُ أمَلِي؟ مَتى أتَأهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وقَدْ غُيِّبَ عَنِي أجَلِي؟ مَتى أُعَمِّرُ قَبْرِي؟ مَتى أُفَكِّرُ فِي المَوْقِفِ وشِدتِهِ؟ مَتى أُفَكِّرُ فِي خلْوَتِي مَعَ رَبِّي؟ مَتى أُفَكِّرُ فِي المُنْقَلَبِ؟ مَتى أحْذَرُ ما حَذَّرَنِي مِنهُ رَبِّي؟ مِن نارٍ حَرُّها شَدِيدٌ، وقَعْرُها بَعِيدٌ، وغَمُّها طَوِيلٌ، لا يَمُوتُ أهْلُها فَيَسْتَرِيحُوا، ولا تُقالُ عَثْرَتُهُمْ، ولا تُرْحَمُ عَبْرَتُهُمْ،
طَعامُهُمْ الزَّقُومُ، وشَرابُهُمُ الحَمِيمُ، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بُدِّلُوا جُلُودًا غَيْرَها لِيَذُوقُوا العَذابَ، نَدِمُوا حَيْثُ لا يَنْفَعُهُمْ النَّدَمُ، وعَضُّوا عَلى الأيْدِي أسَفًا عَلى تَقْصِيرِهِمْ فِي طاعَةِ اللهِ عز وجل، ورُكُوبِهِمْ لِمَعاصِي اللهِ تعالى، فَقالَ مِنهُمْ قائِلٌ: ﴿يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤)﴾ [الفجر]، وقالَ قائل: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون]، وقالَ قائل: ﴿ياوَيْلَتَنا مالِ هَذا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلّا أحْصاها﴾ [الكهف ٤٩]، وقالَ قائِلٌ: ﴿ياوَيْلَتا لَيْتَنِي لَمْ أتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا (٢٨)﴾ [الفرقان]، وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهُمْ، ووُجُوهُهُمْ تَتَقَلَّبُ فِي أنواع مِنَ العذاب: ﴿يالَيْتَنا أطَعْنا اللَّهَ وأطَعْنا الرَّسُولا (٦٦)﴾ [الأحزاب ٦٦].
فَهَذِهِ النّارُ – يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ؛ يا حَمَلَةَ القُرْآنِ – حَذَّرَها اللهُ المُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ، رَحْمَةً مِنهُ لِلمُؤمِنِينَ:
فَقالَ عز وجل: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ نارًا وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)﴾ [التحريم] …
وقالَ عز وجل: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)﴾ [الحشر].
ثُمَّ حَذَّرَ المُؤْمِنِينَ أنْ يَغْفَلُوا عَمّا فَرَضَ عَلَيْهِمْ وما عَهِدَهُ إلَيْهِمْ ألّا يُضَيِّعُوهُ، وأنْ يَحْفَظُوا ما اسْتَرْعاهُمْ مِن حُدُودِه، ولا يَكُونُوا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أمْرِهِ، فَعَذَّبَهم بِأنْواعِ العَذابِ.
فقالَ عز وجل: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهُمْ أنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ (١٩)﴾ [الحشر].
ثُمَّ أعْلَمَ المُؤْمِنِينَ أنَّهُ لا يَسْتَوِي أصْحابُ النّارِ وأصْحابُ الجَنَّةِ.
فَقالَ عز وجل: ﴿لا يَسْتَوِي أصْحابُ النّارِ وأصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزُونَ (٢٠)﴾ [الحشر].
فالمُؤْمِنُ العاقِلُ إذا تَلا القُرْآنَ اسْتَعَرَضَ القُرْآنَ، فَكانَ كالمِرَآةِ يَرى بِها ما حَسُنَ مِن فِعْلِهِ، وما قَبُحَ منه، فَما حَذَّرَهُ مَوْلاهُ حَذِرَهُ، وما خَوَّفَهُ بِهِ مِن عِقابِهِ خافَهُ، وما رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلاهُ رَغِبَ فِيهِ ورَجاهُ. فَمَن كانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ أوْ ما قارَبَ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَدْ تَلاهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، ورَعاهُ حَقَّ رِعايَتِهِ، وكانَ لَهُ القُرْآنُ شاهِدًا، وشَفِيعًا، وأنِيسًا، وحِرْزًا، ومَن كانَ هَذا وصْفُهُ نَفَعَ نَفْسَهُ، ونَفَعَ أهْلَهُ، وعادَ عَلى والِدَيْهِ، وعَلى ولَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ … عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ عَنِ النَّبيِّ ﷺ قالَ: «يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيامَةِ إلى الرَّجُلِ كالرَّجُلِ الشّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: مَن أنْتَ؟ فَيَقُولُ: أنا الَّذِي أظْمَأْتُ نَهارَكَ، وأسْهَرْتُ لَيْلَكَ»[أخرجه ابن ماجه (٣٧٨١). وحسنه البغوي في شرح السنة (١١٩٠)، وابن كثير في تفسيره (١/ ١٥٢)، وابن حجر في المطالب (٣٤٧٨)، والألباني في الصحيحة (٢٨٢٩)].
عَنْ إياسِ بْنِ عامِرٍ أنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ قالَ لَهُ: «إنَّكَ إنْ بَقِيتَ، فَسَيُقْرَأُ القُرْآنُ عَلى ثَلاثَةِ أصْنافٍ: صِنْفٌ للهِ تَعالى، وصِنْفٌ لِلدُّنْيا، وصِنْفٌ لِلْجَدَلِ، فَمَن طَلَبَ بِهِ أدْرَك» [إسناده قوي. أخرجه الدارمي (٣٣٧٢)].
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ: قَدْ ذَكَرْتُ أخْلاقَ الصِّنْفِ الَّذِينَ قَرَؤُوا القُرْآنَ يُرِيدُونَ اللهَ عز وجل بِقِراءَتِهِمْ، وأنا أذْكُرُ الصِّنْفَيْنِ اللَّذَينِ يُرِيدانِ بِقِراءَتِهِما الدُّنْيا والجَدَلَ، وأصِفُ أخْلاقَهُمْ حَتّى يَعْرِفَها مَنِ اتَّقى اللهَ جَلَّتْ عَظَمَتُه، فَيَحْذَرَها – إنْ شاءَ اللهُ -.
بابُ: أخْلاقِ منْ قَرَأ القُرْآنَ لا يُريدُ به اللَّهَ عز وجل
فَأمّا مَن قَرَأ القُرْآنَ لِلدُّنْيا ولأبْناءِ الدُّنْيا فَإنَّ مِن أخْلاقِهِ: أنْ يَكُونَ حافِظًا لِحُرُوفِ القُرْآنِ، مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ، مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ، مُتَكَبِّرًا عَلى غَيْرِهِ. قَدْ اتَّخَذَ القُرْآنَ بِضاعَةً يَتَأكَّلُ بِهِ الأغْنِياءَ، ويَسْتَقْضِي بِهِ الحَوائِجَ، يُعَظِّمُ أبْناءَ الدُّنْيا، ويُحَقِّرُ الفُقَراءَ، إنْ عَلَّمَ الغَنِيَ رَفَقَ بِهِ طَمْعًا فِي دُنْياهُ، وإنْ عَلَّمَ الفَقِيرَ زَجَرَهُ وعَنَّفَهُ؛ لأنَّهُ لا دُنْيا لَهُ يَطْمَعُ فِيها، يستخدم بِهِ الفُقَراءَ، ويَتِيهُ بِهِ عَلى الأغْنِياءِ، إنْ كانَ حَسَنَ الصَّوْتِ أحَبَّ أنْ يَقْرَأ لِلْمُلُوكِ، ويُصَلِّي بِهِمْ طَمعًا فِي دُنْياهُمْ، وإنْ سَألَهُ الفُقَراءُ الصَّلاةَ بِهِمْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لِقِلَّةِ الدُّنْيا فِي أيْدِيهِمْ، إنَّما طَلَبُهُ الدُّنْيا حَيْثُ كانَتْ رَبَضَ عِنْدَها.
يَفْخَرُ عَلى النّاسِ بِالقُرْآن، ويَحْتَجُّ عَلى مَن دُونَهَ فِي الحِفْظِ بِفَضْلِ ما مَعَهُ مِن القراءات، وزِيادَةِ المَعْرِفَةِ بالغرائب من القراءات الَّتِي لَوْ عَقَلَ لَعَلِمَ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ألّا يَقْرَأ بِها [لكونها لم تثبت عند أهل الشأن من القراء، أو ربما لغرابتها على أهل بلده]، فَتَراهُ تائِهًا مُتَكَبِّرًا، كَثِير الكَلامِ بِغَيْرِ تَمْييزٍ، يَعِيبُ كُلَّ مَن لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ، ومَن عَلِمَ أنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَهُ.
مُتَكَبِّرًا فِي جِلْسَتِهِ، مُتَعاظِمًا فِي تَعْلِيمِهِ لِغَيْرِهِ، لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ، كَثِير الضَّحِكِ والخَوْضِ فِيما لا يَعْنِيهِ، يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يَأْخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَن جالَسَهُ، هُوَ إلى اسْتِماعِ حَدِيثِ جَلِيسِهِ أصْغى مِنهِ إلى اسْتِماعِ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَمِعَ لَهُ، يُرِي أنَّه لِما يَسْتَمِعُ حافظ، فَهُوَ إلى كَلامِ النّاسِ أشْهى مِنهِ إلى كَلامِ الرَّبِّ عز وجل.
لا يَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِماعِ القُرْآنِ، ولا يَبْكِي، ولا يَحْزَنُ، ولا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالفِكْرِ فِيما يُتْلى عَلَيْهِ وقَدْ نُدِبَ إلى ذَلِكَ، راغِبٌ فِي الدُّنْيا، وما قَرَّبَ مِنها، لَها يَغْضَبُ ويَرْضى.
إنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ، قالَ: أهْلُ القُرْآنِ لا يُقَصَّرُ فِي حُقُوقِهِمْ، وأهْلُ القُرْآنِ تُقْضى حَوائِجُهُمْ! ! يَسْتَقْضِي مِن الناَّسِ حَقَّ نَفْسِهِ، ولا يَسْتَقْضِي مِن نَفْسِهِ ما للهِ عَلَيْها.
يَغْضَبُ عَلى غَيْرِهِ – زَعَمَ – للهِ، ولا يَغْضَبُ عَلى نَفْسِهِ للهِ، ولا يُبالِي مِن أيْنَ اكْتَسَبَ مِن حَرامٍ أوْ حَلالٍ، قَدْ عَظُمَتْ الدُّنْيا فِي قَلْبِهِ، إنْ فاتَهُ مِنها شَيْءٌ لا يَحِلُّ لَهُ أخْذُهُ حَزِنَ عَلى فَوْتِهِ. لا يَتَأدَّبُ بَأدَبِ القُرْآنِ، ولا يَزْجُرُ نَفْسَهُ عَنْد الوَعْدِ والوَعِيدِ. لاهٍ غافِل عَمّا يَتْلُو أوْ يُتْلى عَلَيْهِ.
هِمَّتُهُ حِفْظُ الحُرُوفِ، إنْ أخْطَأ فِي حَرْفٍ ساءَهُ ذَلِكَ؛ لِئَلا يَنْقُصَ جاهُهُ عِنْدَ المَخْلُوقِينَ، فَتَنْقُصَ رُتْبَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَتَراهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ، وما قَدْ ضَيَّعَهُ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ تعالى مِمّا أُمِرَ بِهِ فِي القُرْآنِ أوْ نُهي عَنْهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ.
أخْلاقُهُ فِي كَثِيرِ مِن أُمُورِهِ أخْلاقُ الجُهّالِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُوَن، لا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالعَمَلِ بِما أوْجَبَ عَلَيْهِ القُرْآنُ، إذْ سَمِعَ اللهَ عز وجل قال: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر ٧]، فَكانَ الواجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ طَلَبَ العِلْمِ لِمَعْرِفَةِ ما نَهى عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ فَيَنْتَهِيَ عَنْهُ.
قَلِيلُ النَّظَرِ فِي العِلْمِ الَّذِي هُوَ واجِبٌ عَلَيْهِ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ عز وجل، كَثِيرُ النَّظَرِ فِي العِلْمِ الَّذِي يَتَزَيَّنُ بِهِ عِنْدَ أهْلِ الدُّنْيا لِيُكْرِمُوهُ بِذَلِكَ، قَلِيلُ المَعْرِفَةِ بِالحَلالِ والحَرامِ الَّذِي نَدَبَه اللهُ تعالى إَلَيْهِ ثُمَّ رسوله ﷺ؛ لِيَأْخُذَ الحَلالَ بِعِلْمٍ، ويَتْرُكَ الحَرامَ بِعِلْمٍ، لا يَرْغَبُ فِي مَعْرِفَةِ عِلْمِ النِّعَمِ، ولا فِي عِلْمِ شُكْرِ المُنْعِم.
تِلاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلى كِبْرٍ فِي نَفْسِهِ، وتَزَيُّنٍ عِنْدَ السّامِعِينَ مِنهُ، لَيْسَ لَهُ خُشُوعٌ فَيَظْهَرُ عَلى جَوارِحِهِ، إذا دَرَسَ القُرْآنَ أوْ دَرَسَهُ عَلَيْهُ غَيْره هِمَّتُهُ مَتى يَقْطَعُ، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتى يَفْهَمُ.
لا يعتبر عِنْدَ التِّلاوَةِ بضرب أمْثالِ القُرْآنِ، ولا يَقِفُ عِنْدَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِرِضا المُخْلُوقِينَ، ولا يُبالِي بِسَخَطِ رَبِّ العالِمِينَ.
يُحِبُّ أنْ يُعْرَفَ بِكَثْرِةِ الدَّرْسِ، ويُظْهِرُ خَتْمَهُ لِلْقُرْآنِ لِيَحْظى عِنْدَهُمْ، قَدْ فَتَنَهُ حُسْنُ ثَناءِ مَن جَهِلَهُ، يَفْرَحُ بِمِدْحِ الباطِلِ، وأعْمالُهُ أعْمالُ أهْلِ الجَهْل، يَتَّبِعُ هَواهُ فيما تحب نَفْسُهُ، غَيْرُ مُتَصَفِّحٍ لِما زَجَرَهُ القُرْآنُ عَنْهُ.
إنْ كانَ مِمَّنْ يُقْرِئُ غَضِبَ عَلى مَن قرأه عَلى غَيْرِهِ، إنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِن أهْلِ القُرْآنِ بِالصَّلاحِ كَرِهَ ذَلِكَ، وإنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ بِمَكْرُوهٍ سَرَّهُ ذَلِكَ، يَسْخَرُ بِمَن دُونَهُ، ويَهْمِزُ مَن فَوْقَهُ، يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أهْلِ القُرْآنِ لِيَضَعَ مِنهُمْ ويَرْفَعَ مِن نَفْسَه، يَتَمَنّى أنْ يُخْطِئَ غَيْرُهُ، ويَكُونَ هُوَ المُصِيب.
ومَن كانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَقَدَ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ مَوْلاهُ الكَرِيمِ، وأعْظَمُ مِن ذَلِكَ أن أظْهَرَ عَلى نَفْسِهِ شِعارَ الصّالِحِينَ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ، وقَدْ ضَيَّعَ فِي الباطِنِ ما يَجِبُ للهِ، ورَكِبَ ما نَهاهُ عَنْهُ مَوْلاهُ الكَرِيم، كُلُّ ذَلِكَ بِحُبِّ الرئاسة، والَمَيْلِ إلى الدُّنْيا. قَدْ فَتَنَهُ العُجْبُ بِحِفْظِ القُرْآنِ، والإشارَة إلَيْهِ بِالأصابِعِ.
إنْ مَرِضَ أحَدُ أبْناءِ الدُّنْيا أوْ مُلُوكها فَسَألَهُ أنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ سارَعَ إلَيْهِ، وسُرَّ بِذَلِكَ، وإنْ مَرِضَ الفَقِيرُ المَسْتُورُ فَسَألَهُ أنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
يَحْفَظُ القُرْآنَ ويَتْلُوهُ بِلِسانِهِ، وقَدْ ضَيَّعَ الكَثِيرَ مِن أحْكامِهِ. أخْلاقُهُ أخْلاقُ الجُهّالِ: إنْ أكَلَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وإنْ شَرِبَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وإنْ نامَ فَبِغَيرِ عِلْمٍ، وإنْ لَبِس فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وإنْ جامَعَ أهْلَهُ فَبِغَيرِ عِلْمٍ، وإنْ صَحِبَ أقْوامًا، أوْ زارَهُم، أوْ سَلَّمَ عَلِيهِم، أوْ اسْتَأْذَنَ عَلِيهِم؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَجْرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ. وغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْفَظُ جُزْءًا مِنَ القُرْآنِ مُطالِبٌ لِنَفْسِهِ بِما أوْجَبَ اللهُ عز وجل عَلَيْهِ مِن عِلْمِ أداءِ فَرائِضِهِ، واجْتِنابِ مَحارِمِهِ، وإنْ كانَ لا يُؤْبَهُ لَهُ، ولا يُشارُ إلَيْهِ بِالأصابِعِ.
فَمَن كانَتْ هَذِهِ أخْلاقُهُ صارَ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ لأنَّهُ إذا عَمِلَ بِالأخْلاقِ الَّتِي لا تَحْسُنُ بِمِثْلِهِ اقْتَدى بِهِ الجُهّالُ، فَإذا عِيبَ عَلى الجاهِلِ قالَ: فُلانٌ الحامِلُ لِكِتابِ اللهِ تعالى فَعَلَ هَذا، فَنَحْنُ أوْلى أنْ نَفْعَلَهُ، ومَن كانَتْ هَذِهِ حالُهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعَظِيمٍ، وثَبَتَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، ولا عُذْرَ لَهُ إلا أنْ يَتُوبَ.
وإنَّما حَدانِي عَلى ما بَيَّنْتُ مِن قَبِيحِ هَذِهِ الأخْلاقِ نَصِيحَةً مِنِي لأهْلِ القُرْآنِ، لِيَتَعَلَّقُوا بِالأخْلاقِ الشَّرِيفَةِ، ويَتَجافَوا عَنِ الأخْلاقِ الدَّنِيئةِ، واللهُ يُوَفِّقُنا وإيّاهُمْ لِلرَّشادِ.
واعْلَمُوا – رَحِمَنا اللهُ وإيّاكُمْ – أنِّي قَدْ رَوَيْتُ فِيما ذَكَرْتُ أخْبارًا تَدُلُّ عَلى ما كَرِهْتُهُ لأهْلِ القُرْآنِ، فَأنا أذْكُرُ مِنها ما حَضَرَنِي، لَيَكُونَ النّاظِرُ فِي كِتابِنا يَنْصَحُ نَفْسَه عِنْد تِلاوَتِهِ للْقُرْآنَ، فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الواجِبَ، واللهُ تَعالى المُوَفِّقُ.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رضي الله عنه قالَ: «لَقَدْ أتى عَلَيْنا حِينٌ، وما نَرى أنَّ أحَدًا يَتَعَلَّمُ القُرْآنَ يُرِيدُ بِهِ إلّا اللهَ تَعالى، فَلَمّا كانَ هَهُنا بِأخَرَةٍ، خَشِيتُ أنَّ رِجالًا يَتَعَلَّمُونَهُ يُرِيدُونَ بِهِ النّاسَ وما عِنْدَهُمْ، فَأرِيدُوا اللهَ تَعالى بِقِراءتِكُم وأعْمالِكُم، فَإنّا كُنّا نَعْرِفُكُم إذْ فِينا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وإذْ يَنْزِلُ الوَحْيُ، وإذْ يُنْبِئُنا اللهُ مِن أخْبارِكُمْ، فَأمّا اليَوْمَ، فَقَدْ مَضى رَسُولُ اللهِ ﷺ، وانْقَطَعَ الوَحْيُ، وإنَّما أعْرِفُكُم بِما أقُولُ: مَن أعْلَنَ خَيْرًا أحْبَبْناهُ عَلَيْهِ، وظَنَنّا بِهِ خَيْرًا، ومَن أظْهَرَ شَرًّا أبْغَضْناهُ عَلَيْهِ، وظَنَنّا بِهِ شَرًّا، سَرائِرُكُم فِيما بَيْنَكُمْ وبَيْنَ ربكم عز وجل» [أخرجه أحمد (١/ ٤١)، وقال ابن المديني – كما نقل ابن كثير في مسند الفاروق (٢/ ٥٤٤) -: «إسناده بصري حَسَنٌ، لا نعلم في إسناده شيئًا نطعن فيه»، وصححه الحاكم (٤/ ٤٤٩)، وحسنه أحمد شاكر في التعليق على المسند (٢٨٦). وأصله في البخاري (٢٦٤١) مختصرًا].
فَإذا كانَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رضي الله عنه قَدْ خافَ عَلى قَوْمٍ قَرَؤُوا القُرْآنَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ بميلهم إلى الدُّنْيا؛ فَما ظنك بِهِمُ اليَوْمَ؟ ! …
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ قالَ: بَيْنا نَحْنُ نَقْتَرِئُ، إذْ خَرَجَ عَلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: «الحَمْدُ للَّهِ، كِتابُ اللهِ واحِدٌ، وفِيكُمْ الأخْيارُ، وفِيكُمْ الأحْمَرُ والأسْوَدُ، اقْرَؤُوا القُرْآنَ، اقْرَؤُوا قَبْلَ أنْ يَأْتِي أقْوامٌ يَقْرَؤُونَهُ، يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ، كَما يُقامُ السَّهْمُ، لا يُجاوِزُ تَراقِيهِم، يَتَعَجَّلُونَ أجْرَهُ، ولا يَتَأجَّلُونَهُ» [أخرجه أبو داود (٨٣١). وصححه ابن حبان (٧٦٠)، والألباني في الصحيحة (٢٥٩)] …
عَنِ الحَسَنِ قالَ: «إنَّ هَذا القُرْآنَ قَدْ قَرَأهُ عَبِيدٌ وصِبْيانٌ، لا عِلْمَ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ، ولَمْ يَتاَوَّلُوا الأمْرَ مِن أوَّلِهِ، قالَ اللهُ عز وجل: ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ﴾ [ص ٢٩]، وما تَدَبُّرُ آياتِهِ إلّا اتِّباعُهُ واللهُ يَعْلَمُ، أما واللهِ ما هُوَ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وإضاعَةِ حُدُودِهِ، حَتّى إنَّ أحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَدْ قَرَأْتُ القُرْآنَ كُلَّهُ، فَما أسْقَطْتُ مِنهُ حَرْفًا! وقَدْ واللهِ أسْقَطَهُ كُلَّهُ، ما يُرى لَهُ القُرْآنُ فِي خُلُقٍ ولا عَمَلٍ، حَتّى إنَّ أحَدَهُمْ لَيَقُولُ: إنِّي لأقْرَأُ السُّورَةَ فِي نَفَسٍ، واللهِ ما هَؤلاءِ بِالقُرّاءِ، ولا العُلَماءِ، ولا الحُكَماءِ، ولا الوَرَعَةِ، مَتى كانَتِ القُرّاءُ تَقُولُ مِثْلَ هَذا؟ لا كَثَّرَ اللهُ فِي النّاسِ مِثْلَ هَؤلاءِ» [أخرجه ابن المبارك في الزهد (٧٩٣). وإسناده لا بأس به في المتابعات، فيه يحيى بن المختار فيه جهالة كما في تهذيب الكمال (٣١/ ٥٣١)، وتهذيب التهذيب (١١/ ٢٧٨)].
عَنْ مُجاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ [البقرة ١٢١] قالَ: «يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ»، … .
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ: هَذِهِ الأخْبارُ كُلُّها تَدُلُّ عَلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُنا لَهُ مِن أنّ أهْلَ القُرْآنِ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ أخْلاقُهُمْ مُبايِنَةً لأخْلاقِ مَن سِواهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ كَعِلْمِهِمْ. إذا نَزَلَتْ بِهِمُ الشَّدائِدُ لَجَؤُوا إلى اللهِ الكَرِيم فِيها، ولَمْ يَلْجَؤوا فيها إلى مَخْلُوقٍ، وكانَ اللهُ عز وجل أسْبَقَ إلى قُلُوبِهِمْ. قَدْ تَأدَّبُوا بِأدَبِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، فَهُمْ أعْلامٌ يُقْتَدى بِفِعالِهِمْ؛ لأنَّهُمْ خاصَّةُ اللهِ وأهْلهُ، و﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ (٢٢)﴾ [المجادلة].
عَنْ عَبْدِالصَّمَدِ بْنِ يَزِيدَ قالَ: سَمِعْتُ الفُضَيْل بْنَ عِياضٍ يَقُولُ: «يَنْبَغِي لِحامِلِ القُرْآنِ ألّا تكون لَهُ حاجَة إلى أحَدٍ مِنَ الخَلْقِ، إلى الخَلِيفَةِ فَمَن دُونَه، ويَنْبَغِي أنْ تَكُونَ حَوائِجُ الخَلْقِ إلَيْهِ».
قالَ: وسَمِعْتُ الفُضَيْلَ يَقُولُ: «حامِلُ القُرْآنِ حامِلُ رايَةِ الإسْلامِ … لا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَلْغُو مَعَ مَن يَلْغُو، ولا يَسْهُو مَعَ مَن يَسْهُو، ولا يَلْهُو مَعَ مَن يَلْهُو»[إسناده صحيح. أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (٨/ ٩٢)].
قالَ: وسَمِعْتُ الفضَيْل يَقُولُ: «إنَّما أُنزل القُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فاتَّخَذَ النّاسُ قِراءَتَهُ عَملًا، أي لِيُحِلُّوا حَلالَهُ، ويُحَرِّمُوا حَرامَهُ، ويَقِفُوا عِنْدَ مُتشابِهِهِ»[إسناده صحيح].
كَتَبَ حُذَيْفَةُ المَرْعَشِيُّ إلى يُوسُفَ بْنِ أسْباطٍ: «بَلَغَنِي أنَّكَ بِعْتَ دِينَكَ بِحَبَّتَيْنِ، وقَفْتَ عَلى صاحِبِ لَبَنٍ، فَقُلْتَ: بِكَمْ هَذا؟ فَقالَ: هُوَ لَكَ بِسُدْسٍ، فَقُلْت: لا بِثُمُنٍ، فَقالَ: هُوَ لَكَ، وكانَ يَعْرِفُكَ! اكْشِفْ عَنْ رَأْسِكَ قِناعَ الغافِلِينَ، وانْتَبِهْ مِن رَقْدَةِ المَوْتى، واعْلَمْ أنَّهُ مَن قَرَأ القُرْآنَ ثُمَّ آثَرَ الدُّنْيا لَمْ آمَن أنْ يَكُونَ بِآياتِ اللهِ مِنَ المُسْتَهْزِئِينَ» [إسناده فيه محمد بن أبي الورد، ترجم له الخطيب في تاريخه (٣/ ٢٠١)، وأثنى عليه بالعبادة والفضل، ولم يذكر ما يدل على توثيقه. إلا أنه تُوبِع، فأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (٨/ ٢٤٣)، والدينوري في المجالسة (٢٠٢٤) كلاهما من طريق يوسف به].
عن أبُي المَلِيحِ قالَ: «كانَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ يَقُولُ: لَوْ صَلَحَ أهْلُ القُرْآنِ صَلَحَ النّاسُ»[إسناده صحيح].
عن بَشِيرِ بنِ أبي عَمْرٍو الخَوْلاني أن الوَليدَ بنَ قَيْسٍ حَدَّثَه أنَّهُ سَمِعَ أبا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يَكُونُ خَلْفٌ بَعْدَ سِنِينَ أضاعُوا الصَّلاةَ، واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، ثُمَّ يَكُونُ خَلْفٌ يَقْرَؤونَ القُرْآنَ لا يَعْدُو تَراقِيَهُمْ، ويَقْرَأُ القُرْآنَ ثَلاثَةٌ: مُؤْمِنٌ ومُنافِقٌ وفاجِرٌ».
فَقالَ بَشِيرٌ: فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ: ما هَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ؟ فقالَ: المُنافِقُ كافِرٌ بِه، والفاجِرُ يَتَأكَّلُ بِهِ، والمُؤْمِنُ مُؤْمِنٌ بِهِ [أخرجه أحمد (٣/ ٣٨)، وصححه الحاكم (٤/ ٢٧٣، ٤/ ٥٤٧)، وابن كثير في تاريخه (٩/ ٢٣٢)، والألباني في الصحيحة (٢٥٨)].
عَنِ الحَسَنِ قالَ: مَرَرْتُ أنا وعِمْرانُ بْنُ الحُصَيْن عَلى رَجُلٍ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقامَ عِمْرانُ يَسْتَمِعُ لِقِراءَتِهِ، فَلَمّا فَرَغَ سَألَ، فاسْتَرْجَعَ وقالَ: انْطَلِقْ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَن قَرَأ القُرْآنَ فَلْيَسْألْ اللهَ عز وجل بِهِ، فَإنَّه سَيَأْتِي قَوْمٌ يَقْرَؤونَ القُرْآنَ، يَسْألُونَ النّاسَ بِهِ» [أخرجه الترمذي (٢٩١٧) وحسنه، وحسنه كذلك الألباني في الصحيحة (٢٥٧)] …،
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ: فِي هَذا بَلاغٌ لِمَن تَدَبَّرَهُ، فاتَّقى اللهَ عز وجل، وأجَلَّ القُرْآنَ وصانَهُ، وباعَ ما يَفْنى بِما يَبْقى، واللهُ عز وجل المُوَفِّقُ لِذَلِكَ.
باب: أخلاقِ المُقرئِ إذا جلس يُقرِئُ ويلقِّنُ لله عز وجل ماذا ينبغي له أن يتخلق به
يَنْبَغِي لِمَن عَلَّمَهُ اللهُ كِتابَهُ، فَأحَبَّ أنْ يَجْلِسَ فِي المَسْجِدِ يُقْرِئ القُرْآنَ للَّهِ تعالى، يَغْتَنِمُ قَوْلَ النَّبيِّ ﷺ: «خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ»، فَيَنْبَغِي لَهُ أنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الأخْلاقِ الشَّرِيفَةِ ما يَدُلُّ عَلى فَضْلِهِ وصِدْقِهِ، وهُوَ أنْ يَتَواضَعَ فِي نَفْسِهِ إذا جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ، ولا يَتَعاظَم فِي نَفْسِهِ … ويَتَواضَعَ لِمَن يُلَقِّنُهُ القُرْآنَ، ويُقْبِلَ عَلَيْهِ إقْبالًا جَمِيلًا……
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ ولا تَغْلُوا فِيهِ، ولا تَجْفُوا عَنْهُ، ولا تَأْكُلُوا بِهِ، ولا تَسْتَكْثِرُوا» [أخرجه أحمد (٣/ ٤٢٨، ٤٤٤).
وصححه ابن حجر في الفتح (٩/ ٨٢)، والألباني في الصحيحة (٢٦٠)].
عَنِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمّا يُبْتَغى بِهِ وجْهُ اللهِ، لا يَتَعَلَّمُهُ إلا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيامَةِ» [أخرجه أبو داود (٣٦٦٤)، وابن ماجه (٢٥٢). وصححه ابن حبان (٧٨)، والحاكم (١/ ٨٥)، والنووي في رياض الصالحين (١٦٢٨)، والعراقي في تخريج الإحياء (١/ ١٧٠)، والألباني في المشكاة (٢٢٧)] …
والأخْبارُ فِي هَذا المَعْنى كَثِيرَةٌ، ومُرادِي مِن هَذا النَصِيحَةُ لأهْلِ القُرْآنِ؛ لِئَلا يَبْطُلَ سَعْيُهُمْ، إنْ هُمْ طَلَبُوا به شَرَفَ الدُّنْيا حُرِمُوا شَرَفَ الآخِرَةِ، إذْ بَذَلُوهُ لأهْلِ الدُّنْيا طَمَعًا فِي دُنْياهُمْ، أعاذَ اللهُ حَمَلَةَ القُرْآنِ مِن ذَلِكَ.
فَيَنْبَغِي لِمَن جَلَسَ يُقْرِئُ المُسْلِمِينَ أنْ يَتَأدَّبَ بِأدَبِ القُرْآنِ، يَقْتَضِي ثَوابَهُ مِن اللهِ، يَسْتَغْنِي بِالقُرْآنِ عَنْ كُلِّ أحَدٍ مِن الخَلْقِ، مُتَواضِعٌ فِي نَفْسِهِ لِيَكُونَ رَفِيعًا عِنْدَ اللهِ جَلَّت عَظَمَتُهُ …
* * *
بابُ: ذِكْرِ أخلاقِ مَن يَقرَأُ عَلى المُقرِئ
مَن كانَ يَقْرَأُ عَلى غَيْرِهِ، ويَتَلَقَّنُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أنْ يُحْسِنَ الأدَبَ فِي جُلُوسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ويَتَواضَعَ فِي جُلُوسِهِ، ويَكُونَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ، فَإنْ ضَجِرَ عَلَيْهِ احْتَمَلَهُ، وإنْ زَجَرَه احْتَمَلَهُ، ورَفَقَ بِهِ، واعْتَقَدَ لَهُ الهَيْبَةَ، والاسْتِحِياَءَ مِنهُ
ويَسْتَعْمِلُ مِنَ الأخْلاقِ الشَّرِيفَةِ فِي حُضُورِهِ، وانْصِرافِهِ ما يُشْبِهُ أهْلَ القُرْآنِ.
واللهُ عز وجل المُوَفِّقُ لِذَلِكَ.
* * *
بابُ: آدابِ القُرّاءِ عِندَ تِلاوتِهِمُ القُرآنَ ممّا لا يَنبَغِي لَهُمْ جَهْلُهُ
وأُحِبُّ لِمَن أرادَ قِراءَةَ القُرْآنِ في لَيْلٍ أوْ نِهارٍ أنْ يَتَطَهَّرَ، وأنْ يَسَتاكَ، وذَلِكَ تَعْظِيمٌ للْقُرْآنِ؛ لأنَّهُ يَتْلُو كَلامَ الرَّبِّ عز وجل، وذَلِكَ أنَّ المَلائِكَةَ تَدْنُو مِنهُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ،
ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَحْمِلَ المُصْحَفَ إلا وهُوَ طاهِرٌ. فَإنْ أحَبَّ أنْ يَقْرَأ في المُصْحَفِ عَلى غَيْرِ طَهارَةٍ فَلا بَأْسَ بِهِ،
ولَكِنْ لا يَمَسُّهُ، ولَكِنْ يَصَّفَّحُ المُصْحَفَ بِشَيْءٍ، ولا يَمَسُّهُ إلا طاهِرًا……
* * *
بابٌ: في حُسنِ الصوتِ بالقُرآنِ
… عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ عَنْ رَسولِ اللهِ ﷺ قال: «زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأصْواتِكُمْ» [علَّقه البخاري في صحيحه (١٣/ ٥٢٨ مع الفتح)، ووصله أبو داود … (١٤٦٨)، والنسائي في المجتبى (١٠١٥)، وابن ماجه (١٣٤٢)، وصححه العقيلي (٤/ ١٢٤٤)، وابن خزيمة (١٥٥١)، وأبو عوانة … (٣٩١١)، وابن حبان (٧٤٩)، والحاكم (١/ ٥٧١)، وابن كثير في تفسيره (١/ ٦٢)، والألباني في الصحيحة (٧٧٢)، وقد أطال الحاكم في إيراد شواهد هذا الحديث في المستدرك (١/ ٥٧١ – ٥٧٥)].
عن صالح بن أحْمَدَ بْنِ حَنْبَل عَنْ أبِيهِ قالَ: قُلْتُ لَهُ: قَوْلُهُ ﷺ: «زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأصْواتِكُمْ»، ما مَعْناهُ؟ قالَ: «التَّزْيِينُ أنْ يُحَسِّنَهُ» [ذكره صالح بن أحمد في مسائل أحمد (٢٨٧)، وعنه الخلال في الأمر بالمعروف (ص ١٠٢)] …
يَنْبَغِي لِمَن رَزَقَهُ اللهُ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالقُرْآنِ أن يَعْلَمَ أنَّ اللهَ قَدْ خَصَّهُ بِخَيْر عَظِيمٍ، فَلْيَعْرِفْ قَدْرَ ما خَصَّهُ اللهُ بِهِ، ولْيَقْرَأْهُ للهِ، لا لِلْمَخْلُوقِينَ، ولِيَحْذَر مِنَ المَيْلِ إلى أنْ يُسْتَمَعَ مِنهُ لِيَحْظى بِهِ عِنْدَ السّامِعِينَ؛ رَغْبَةً فِي الدُّنْيا…
عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: بَلَغَنا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنّ مِن أحْسَنِ النّاسِ صَوْتًا بِالقُرْآنِ مَن إذا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ أُرِيتَ أنَّهُ يَخْشى الله» [إسناده ضعيف.
أخرجه ابن المبارك في الزهد (١١٤) عن الزهري مُعْضَلًا. وفي الباب عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
وبها قوّاه الألباني مرفوعًا في الصحيحة (١٥٨٣)].
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ رحمه الله: وأكْرَهُ القِراءَةَ بِالألْحانِ والأصْواتِ المَعْمُولَةِ المُطْرِبَةِ؛ فَإنَّها مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ العُلَماءِ
واللهُ المُوَفِّقُ لَنا ولَهُمْ إلى سَبِيلِ الرَّشادِ.
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
تم جميع الكتاب * * * [مُخْتَصَر لكتاب «أخلاق حَمَلَة القرآن» للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت: ٣٦٠ هـ) رحمه الله، بتصرف د].