2689 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي وعبدالله الديني
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
جاء في صحيح مسلم، (8) – بابُ فَضْلِ مَجالِسِ الذِّكْرِ:
(25) – ((2689)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ حاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنا بَهْزٌ، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا سُهَيْلٌ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ?، قالَ: «إنَّ لِلَّهِ تَبارَكَ وتَعالى مَلائِكَةً سَيّارَةً، فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجالِسَ الذِّكْرِ، فَإذا وجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأجْنِحَتِهِمْ، حَتّى يَمْلَئُوا ما بَيْنَهُمْ وبَيْنَ السَّماءِ الدُّنْيا، فَإذا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وصَعِدُوا إلى السَّماءِ، قالَ: فَيَسْألُهُمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: مِن أيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنا مِن عِنْدِ عِبادٍ لَكَ فِي الأرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ ويُهَلِّلُونَكَ ويَحْمَدُونَكَ ويَسْألُونَكَ، قالَ: وماذا يَسْألُونِي؟ قالُوا: يَسْألُونَكَ جَنَّتَكَ، قالَ: وهَلْ رَأوْا جَنَّتِي؟ قالُوا: لا، أيْ رَبِّ قالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأوْا جَنَّتِي؟ قالُوا: ويَسْتَجِيرُونَكَ، قالَ: ومِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قالُوا: مِن نارِكَ يا رَبِّ، قالَ: وهَلْ رَأوْا نارِي؟ قالُوا: لا، قالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأوْا نارِي؟ قالُوا: ويَسْتَغْفِرُونَكَ، قالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأعْطَيْتُهُمْ ما سَألُوا، وأجَرْتُهُمْ مِمّا اسْتَجارُوا، قالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطّاءٌ، إنَّما مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قالَ: فَيَقُولُ: ولَهُ غَفَرْتُ هُمُ القَوْمُ لا يَشْقى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».
==========
التمهيد:
“يقول الله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة (30)]، نعم الملائكة منهم الراكع أبدا ومنهم الساجد أبدا ومنهم الذاكر أبدا ومنهم المسبح أبدا، والسائحون من الملائكة إذا وجدوا مجلس ذكر في الأرض أسرعوا إليه يحفونه بأجنحتهم ويستمعون لهم ويذكرون بذكرهم …. “.
قَال الإمامُ القرطبي رحمهُ اللهُ: “أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ، وَيُكْثِرُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ دُونَ حَدٍّ؛ لِسُهُولَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَلِعِظَمِ الْأَجْرِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فِي تَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ”؛ (تفسير القرطبي – جـ14 – صـ 197).
إن خير المجالس وأزكاها وأطهرها وأشرفها واعلاها قدراً عند الله وأجلها مكانة عنده مجالس الذكر, فهي حياة القلوب ونماء الإيمان وزكاء النفس وسبيل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة , ولهذا ورد في فضلها والحث على لزومها والترغيب في المحافظة عليها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة , فمجالس الذكر هي مجالس الملائكة بخلاف مجالس الغفلة واللهو والباطل فإنها مجالس الشيطان , والله تعالى يقول: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الزخرف36 , إن مجالس الذكر تؤمن العبد من الحسرة والندامة يوم القيامة بخلاف مجالس اللهو والغفلة فإنه تكون على صاحبها حسرة وندامة يوم القيامة , فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة)) , أي نقص وتبعة وحسرة. .ومجالس الذكر سبب عظيم من أسباب حفظ اللسان وصونه عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والسخرية والباطل , فإن العبد لابد له من أن يتكلم وما خلق اللسان إلا للكلام فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره بالخير والفائدة , تكلم ولابد بهذه المحرمات أو ببعضها , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو, ومن يَبُس لسانه عن ذكر الله نطق بكل باطل ولغو وفحش.
ومما ينبغي للمسلم أن يتفطن له في هذا المقام أن ذكر الله تعالى لايختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله بالتسبيح والتكبير ونحوه بل تشمل ماذكر فيه أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه ومايحبه ويرضاه , بل إنه ربما كان هذا الذكرأنفع من ذلك لأ معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم بحسب مايتعلق به من ذلك , وأما ذكر الله باللسان فأكثره يكون تطوعاً وقد يكون واجباً كالذكر في الصلوات المكتوبة , وأما معرفة ما أمر الله به وما يحبه ويرضاه ومايكرهه فيجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلمه. من فوائد الذكر: 1 – أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره. 2 – أنه يرضي الرحمن عزوجل. 3 – أنه يزيل الهم والغم عن القلب. 4 – أنه يجلب للقلب الفرح والسرور. 5 – أنه يقوي القلب والبدن. 6 – أنه ينور الوجه والقلب. 7 – أنه يجلب الرزق. 8 – أنه يحط الخطايا. 9 – أنه سبب نزول السكينة. 10 – أنه غراس الجنة
راجع – الفوائد المنثورة لعبدالرزاق البدر – والوابل الصيب لابن القيم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“ولما كان ذكر الله يعم هذا كله قالوا: إن مجالس الحلال والحرام ونحو ذلك مما فيه ذكر أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ونحو ذلك من مجالس الذكر.”
مجموع الفتاوى 233/ 32
وقال أيضا:
*و لهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض أو جلس مجلسا يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذي سماه الله و رسوله فقها فهذا أيضا من أفضل ذكر الله.
مجموع الفتاوى (660/ 10)
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((8)) – (بابُ فَضْلِ مَجالِسِ الذِّكْرِ)
قال الأتيوبي عفا الله عنه:
وقال في «الفتح»: المراد بالذكر هنا: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب
في قولها، والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات، وهي: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، وما يلتحق بها من الحوقلة، والبسملة، والحسبلة، والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة.
ويُطلق ذكر الله أيضًا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة،
ثم الذكر يقع تارة باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يُشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذِّكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح، مهما فُرض من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحّح التوجه، وأخلص لله تعالى في ذلك، فهو أبلغ الكمال.
وقال الفخر الرازيّ: المراد بذكر اللسان: الألفاظ الدالة على التسبيح، والتحميد، والتمجيد، والذكرُ بالقلب: التفكر في أدلة الذات والصفات، وفي أدلة التكاليف، من الأمر والنهي، حتى يَطَّلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله، والذكرُ بالجوارح: هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثَمّ سمى الله الصلاة ذكرًا، فقال: {فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة (9)].
ونُقل عن بعض العارفين قال: الذِّكر على سبعة أنحاء: فذِكْرُ العينين بالبكاء، وذِكْرُ الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء. انتهى [«الفتح» (14) / (458)، «كتاب الدعوات» رقم ((6408))].
وابن القيم -رحمه الله- ذكر أن في الذكر أكثر من مائة فائدة، وأورد منها ثلاث وسبعين فائدة،
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه -.
(عَنِ النَّبِيِّ ?) أنه (قالَ: «إن للهِ تَبارَكَ وتَعالى مَلائِكَةً سَيارَةً) مبالغة في السائرة؛ أي: يسيرون في الأرض، وفي رواية: سيّاحين، (فُضْلًا) قال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ضبطوه على أوجه:
أحدها: – وهو أرجحها، وأشهرها في بلادنا -» فُضُلا «بضم الفاء، والضاد.
والثانية: بضم الفاء، وإسكان الضاد، ورجّحها بعضهم، وادَّعى أنها أكثر وأصوب.
والثالثة: بفتح الفاء، وإسكان الضاد، قال القاضي: هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاريّ ومسلم.
والرابعة: «فُضُلٌ» بضم الفاء والضاد، ورفع اللام، على أنه خبر مبتدأ محذوف.
والخامسة: «فضلاء» بالمدّ جمع فاضل.
قال العلماء: معناه على جميع الروايات: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم، من المرتّبين مع الخلائق، فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حِلَق الذّكر. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (14)].
وقال في «الفتح»: قوله:
قال الحافظ: ونسبة عياض هذه اللفظة للبخاريّ وهَمٌ، فإنها ليست في «صحيح البخاريّ» هنا في جميع الروايات، إلا أن تكون خارج الصحيح، وفي رواية ابن حبان: «سياحين في الأرض»، وكذا هو في رواية أبي معاوية، عند الترمذيّ، والإسماعيليّ، عن كتاب الآبديّ، ولمسلم من رواية سهيل، عن أبيه: «سيّارةً فُضْلًا». انتهى [«الفتح» (14) / (461) – (462)، «كتاب الدعوات» رقم ((6458))].
(يَتَبَّعُونَ مَجالِسَ الذكْرِ) وفي رواية البخاريّ: «يطوفون في الطُّرُق يلتمسون
أهل الذكر»،
قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: «فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر … إلخ»؛ يعني:
مجالس العلم والتذكير، وهي المجالس التي يُذكر فيها كلام الله، وسُنّة رسوله ?، وأخبار السلف الصالحين، وكلام الأئمة الزهّاد المتقدِّمين، المبرأة عن التصنع والبدع، والمنزَّهة عن المقاصد الرديئة، والطمع، وهذه المجالس قد انعدمت في هذا الزمان، وعُوِّض منها الكذب والباع، ومزامير الشيطان –نعوذ بالله تعالى من حضورها-، ونسأله العافية من شرورها. انتهى [«المفهم» (7) / (11) – (12)].
(قَعَدُوا مَعَهُمْ)؛ أي: مع القوم الذين وجدوهم في مجلس الذكر، وفي رواية البخاريّ: «فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم»،
(وحَف) بفتح أوله، وتشديد الفاء، من باب نصر؛ أي: أحاط (بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأجْنِحَتِهِمْ) قال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: هكذا هو في كثير من نُسَخ بلادنا: «حَفّ»
بالفاء، وفي بعضها: «حَضّ» بالضاد المعجمة؛ أي: حَثّ على الحضور، والاستماع، وحَكى القاضي عن بعض رواتهم: «وحَطّ» بالطاء المهملة،
واختاره القاضي، قال: ومعناه: أشار بعضهم إلى بعض بالنزول، ويؤيد هذه الرواية قوله بعده في البخاريّ: «هَلُمّوا إلى حاجتكم»، ويؤيد الرواية الأولى، وهي «حَفّ» قوله في البخاريّ: «يَحُفّونهم بأجنحتهم»؛ أي: يُحدِقون بهم، ويستديرون حولهم، ويحوف بعضهم بعضًا [» شرح النوويّ «(17) / (14) – (15)].
وقال في «الفتح»: «فيحفّونهم بأجنحتهم»؛ أي: يُدْنون بأجنحتهم حول
الذاكرين، والباء للتعدية، وقيل: للاستعانة. (حَتّى يَمْلَئُوا ما بَيْنَهُمْ وبَيْنَ السَّماءِ
الدُّنْيا) (فَإذا تَفَرَّقُوا)؛ أي: افترق الملائكة عن مجلس الذكر؛ لانتهائه، أو المراد: فإذا تفرّق أهل المجلس عن مجلس ذِكرهم
(فَيَسْألُهُمُ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ-)
وهو من نحو مباهاة الله تعالى الملائكة بأهل عرفة انتهى [» المفهم” (7) / (122)].
وقوله: (وهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ) جملة في محلّ نصب على الحال من الجلالة، وفي رواية البخاريّ؟ «قال: فيسألهم ربهم -عَزَّ وجَلَّ-، وهو أعلم منهم»، وفي رواية الكشميهنيّ: «بهم» كذا للإسماعيلي،
وفي رواية أبي معاوية: «فيقولون: تركناهم يحمدونك، ويمجّدونك، ويذكرونك»، وفي رواية الإسماعيليّ: «قالوا: ربنا مررنا بهم، وهم يذكرونك … إلخ»، وفي حديث أنس عند البزار: «ويعظّمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلُّون على نبيّك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم». ضعيف الترغيب (916)
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-: والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح، والتكبير، ونحوهما، والتلاوة حسبُ، وإن كانت قراءة الحديث، ومدارسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذِكر الله تعالى. انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-[» الفتح «(14) / (463)،» كتاب الدعوات” رقم ((6408))].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: عندي أن دخول مجالس العلم في مجالس الذكر هو الأظهر،
وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: «فكيف لو رأوا جنتي؟» هذا يدلّ على أن للمعاينة زيادةَ مزيّة، ولتحصيل هذه الزيادة سأل موسى -عَلَيْهِ السَّلامُ- الرؤية، والخليل -عَلَيْهِ السَّلامُ- مشاهدة إحياء الموتى، وقد تقدَّم هذا المعنى. انتهى [«المفهم» (7) / (12)].
في رواية البخاريّ: «كانوا أشدّ منها فرارًا، وأشدّ لها مخافةً»، وفي رواية أبي معاوية: «كانوا أشدّ منها هَرَبًا، وأشدّ منها تعوّذًا وخوفًا».
(فِيهِمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطّاءٌ)؛ أي: كثير الخطأ (إنَّما مَرَّ) بهم (فَجَلَسَ مَعَهُمْ) وفي رواية البخاريّ: «يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة»، في رواية أبي معاوية: «فيقولون: إن فيهم فلانًا الخطّاء، لم يُرِدْهم، إنما جاء لحاجة».
قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ إنما استبعدت الملائكة أن يدخل هذا مع أهل المجلس في المغفرة؛ لأنّه لم تكن عادَتُه حضور مجالس الذكر، وإنما كانت عادته ملازمة الخطايا، فعَرَض له هذا المجلس، فجلسه، فدخل مع أهله فيما قُسِم لهم من المغفرة، والرحمة، فيُستفاد منه: الترغيب العظيم، في حضور مجالس الذكر، ومجالسة العلماء، والصالحين، وملازمتهم. انتهى [«المفهم» (7) / (13)].
قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: «لا يشقى بهم جليسهم» هذه مبالغة في إكرامهم، وزيادةٌ في إعلاء مكانتهم، ألا ترى أنه أكْرَم جليسهم بنحو ما أُكرموا به؛ لِأجْلهم، وإن لم يشفعوا فيه، ولا طلبوا له شيئًا، وهذه حالةٌ شريفةٌ، ومنزلة مُنيفة، لا خيّبنا الله منهم، وجعلنا من أهلها. انتهى [«المفهم» (7) / (123)].
وفي رواية البخاريّ: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»، وللترمذيّ: «لا يشقى لهم جليس».
قال في «الفتح»: وهذه الجملة مستأنفة لبيان المقتضِي لكونهم أهل الكمال، فلو قيل: لَسَعِد بهم جليسهم، لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود. انتهى [«الفتح» (14) / (464)، «كتاب الدعوات» رقم ((6408))]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – هذا متَّفقٌ عليه.
قال ابن رجب:
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن جزاء الذين يجلسون في بيت الله يتدارسون كتاب الله أربعة أشياء:
أحدها: تنزل السكينة عليهم …
والثاني: غشيان الرحمة …
والثالث: أن الملائكة تحف بهم …
والرابع: أن الله يذكرهم فيمن عنده …
وهذه الخصال الأربع لكل مجتمعين على ذكر الله تعالى، كما في ” صحيح مسلم ” عن أبي هريرة وأبي سعيد، كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن لأهل ذكر الله تعالى أربعا: تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحف بهم الملائكة، ويذكرهم الرب فيمن عنده»
جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 304)
فوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان فضل مجالس الذكر، والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، قال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وفي هذا الحديث فضيلة الذكر، وفضيلة مجالسه، والجلوس مع أهله، وإن لم يشاركهم، وفضل مجالسة الصالحين، وبركتهم، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (15)].
(2) – (ومنها): بيان أن جليس الذاكرين يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم؛ إكرامًا لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر.
(3) – (ومنها) تبيان محبة الملائكة -عَلَيْهِ السَّلامُ- بني آدم، واعتنائهم بهم.
(4) – (ومنها): بيان أن السؤال قد يصدر من السائل، وهو أعلم بالمسؤول عنه من المسؤول؛ لإظهار العناية بالمسؤول عنه، والتنويه بقَدْره، والإعلان بشَرَف منزلته.
(5) – (ومنها): ما قيل: إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارةَ إلى قولهم: {أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة (30)]، فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح، والتقديس، مع ما سُلِّط عليهم من الشهوات، ووساوس الشيطان، وكيف عالجوا ذلك، وضاهوكم في التسبيح، والتقديس.
(6) – (ومنها): ما قيل أيضًا: إنه يؤخذ من هذا الحديث: أن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة؛ لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل، ووجود الصوارف، وصدوره في عالم الغيب، بخلاف الملائكة في ذلك كله.
(7) – (ومنها): بيان كَذِب من ادَّعى من الزنادقه أنه يَرى الله تعالى جهرًا في دار الدنيا، وقد ثبت في «صحيح مسلم» من حديث أبي أمامة – رضي الله عنه -، رفعه: «واعلموا أنكم لم تروا ربكم حتى تموتوا».
(8) – (ومنها): أن فيه جوازَ القَسَم في الأمر المحقّق تأكيدًا له، وتنويهًا به.
(9) – (ومنها): أن فيه أن الذي اشتَمَلت عليه الجنة من أنواع الخيرات، والنارُ من أنواع المكروهات فوق ما وُصفتا به، وأن الرغبة، والطلب من الله، والمبالغة في ذلك من أسباب الحصول، ذكر هذا كلّه في «الفتح». [«الفتح» (14) / (464) – (465)، «كتاب الدعوات» رقم ((6408))].
(10) – (ومنها): ما قاله القاضي عياض -رَحِمَهُ اللهُ-: ذِكر الله تعالى ضربان: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وذكر القلب نوعان:
أحدهما -وهو أرفع الأذكار، وأجلّها-: الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله، وجبروته، وملكوته، وآياته في سمواته وأرضه، ومنه الحديث: «خير الذكر الخفي» [حديث ضعيف، أخرجه ابن حبّان في «صحيحه» (3) / (91)، من حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال: سمعت النبيّ ? يقول: «خير الذكر الخفيّ، وخير الرزق –أو العيش- ما يكفي»، وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة: ضعيف]، والمراد به هذا.
والثاني: ذِكره بالقلب عند الأمر، والنهي، فيمتثل ما أمر به، ويترك ما نَهى عنه، ويقف عما أشكل عليه.
وأما ذكر اللسان مجردًا فهو أضعف الأذكار، ولكن فيه فضل عظيم، كما جاءت به الأحاديث،
قال: وذَكر ابن جرير الطبريّ وغيره اختلاف السلف في ذِكر القلب واللسان أيهما أفضل؟
قال القاضي: والخلاف عندي إنما يُتصور في مجرد ذكر القلب تسبيحًا، وتهليلًا، وشِبههما، وعليه يدلّ كلامهم، لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه، وإلا فذلك لا يقاربه ذكر اللسان، فكيف يفاضله، وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد، ونحوه، والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب، فإن كان لاهيًا فلا.
واحتَجّ من رَجّح ذكر القلب بأن عمل السر أفضل، ومن رجح ذكر اللسان قال: لأن العمل فيه أكثر، فإن زاد باستعمال اللسان اقتضى زيادة أجر.
قال القاضي: واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب؟
فقيل: تكتبه، ويجعل الله تعالى لهم علامة، يعرفونه بها، وقيل: لا يكتبونه؛ لأنه لا يَطّلع عليه غير الله.
قال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: الصحيح أنهم يكتبونه، وأن ذكر اللسان مع حضور
القلب أفضل من القلب وحده، والله أعلم. انتهى [«إكمال المعلم» (8) / (189)، و «شرح النوويّ» (17) / (15) – (16)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: ما صححه النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ- هو الصحيح عندي؛
لأنه الذي تدلّ عليه ظواهر النصوص، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): في ذِكر بعض ما ورد في فضل الذكر:
(اعلم): أنه ورد في فضل الذكر أحاديث غير ما في الباب:
منها: حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: قال النبيّ ?: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني … » الحديث، متَّفقٌ عليه، وقد تقدّم قبل باب.
ومنها: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أيضًا، رفعه: «يعقد الشيطان … » الحديث، وفيه: «فإن قام، فذكر الله انحلت عقدة … ».
ومنها: ما يأتي لمسلم بعد بابين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد – رضي الله عنهما – مرفوعًا: «لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى، إلا حفّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة … » الحديث.
ومن حديث أبي ذرّ – رضي الله عنه – رفعه: «أحب الكلام إلى الله ما اصطفى لملائكته: سبحان ربي وبحمده … » الحديث.
ومن حديث معاوية – رضي الله عنه – رفعه: «أنه قال لجماعة جلسوا يذكرون الله تعالى: أتاني جبريل، فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة».
ومن حديث سمرة – رضي الله عنه – رفعه: «أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، لا يضرّك بأيهن بدأت».
ومن حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – رفعه: «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس».
وأخرج الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه الحاكم، عن الحارث بن الحارث الأشعريّ – رضي الله عنه – في حديث طويل، وفيه: «فآمركم أن تذكروا الله، وإن مثل ذلك، كمثل رجل خرج العدوّ في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حِصْن حصين أحرز نفسه منهم، فكذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى».
وعن عبد الله بن بُسْر – رضي الله عنه -: «أن رجلًا قال: يا رسول الله ? إن شرائع الإسلام قد كَثُرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رَطْبًا من ذكر الله»، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم.
وأخرج ابن حبان نحوه أيضًا من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه -، وفيه: أنه السائل عن ذلك.
وأخرج الترمذيّ من حديث أنس – رضي الله عنه – رفعه: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر».
وأخرج الترمذيّ، وابن ماجه، وصححه الحاكم، من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – مرفوعًا: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله -عَزَّ وجَلَّ-».
وُيجمع -كما قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ- بين حديث أبي الدرداء هذا وبين ما ورد في فضل المجاهد أنه كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يَفْتُر، وغير ذلك مما يدلّ على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة، بأن المراد بذكر الله- والله أعلم- في حديث أبي الدرداء هو الذكر الكامل، وهو ما يَجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى، واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلًا من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك، كمن يذكر الله بلسانه وقلبه، واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته، أو في صيامه، أو تصدّقه، أو قتاله الكفار مثلًا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى.
وأجاب القاضي أبو بكر ابن العربيّ -رَحِمَهُ اللهُ- بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترَط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صَدَقته، أو صيامه مثلًا فليس عمله كاملًا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية، ويشير إلى ذلك حديث: «نية المؤمن أبلغ من عمله» [حديث لا يثبت، بل قال الشيخ الألبانيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: موضوع]، ذكره الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].
قال الحافظ النووي رحمه الله في (رياض الصالحين): ((15)) – كتاب: الأذْكار، (247) – باب: فضل حِلَقِ الذكر والندب إلى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر، وذكر منها حديث الباب، ومما أورده:
“قالَ الله تَعالى: {واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُريدُونَ وجْهَهُ ولاَ تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ} [الكهف (28)].
(1448) – وعنه وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنهما، قالا: قالَ رسولُ الله ?: «لا يَقْعُدُ قَومٌ يَذكُرُونَ اللهَ – عز وجل – إلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ونَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ؛ وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَن عِنْدَهُ». رواه مسلم.
(1449) – وعن أبي واقدٍ الحارث بن عوف – رضي الله عنه: أنّ رسولَ الله ? بَيْنَما هُوَ جالِسٌ في المَسْجِدِ، والنّاسُ مَعَهُ، إذْ أقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأقْبَلَ اثْنانِ إلى رسُولِ اللهِ
? وذَهَبَ واحِدٌ؛ فَوَقَفا عَلى رسولِ الله ?. فأمّا أحَدُهُما فَرَأى فُرْجةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيها، وأمّا الآخرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأمّا الثّالثُ فأدْبَرَ ذاهِبًا. فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ الله ? قالَ: «ألاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ: أمّا أحَدُهُمْ فَأوى إلى اللهِ فآواهُ اللهُ إلَيْهِ. وأمّا الآخَرُ فاسْتَحْيى فاسْتَحْيى اللهُ مِنهُ، وأمّا الآخَرُ، فَأعْرَضَ، فَأعْرَضَ اللهُ عَنْهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
(1450) – وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قالَ: خرج معاوية – رضي الله عنه – عَلى حَلْقَةٍ في المَسْجِدِ، فَقالَ: ما أجْلَسَكُمْ؟ قالوا: جَلَسْنا نَذْكُرُ اللهَ … الحديث وفيه أنّ الله يُباهِي بِكُمُ المَلاَئِكَةَ». رواه مسلم”. انتهى.
(المسألة الثانية): من الآداب التي تكون في مجالس الذكر
أولاً: بعض آداب المتعلم مع المعلم في مجلسه
1) الجلوس أمام المعلم:
والدليل حديث جبريل أنه جلس فأسند ركبتيه إلى ركبتيه -أي: ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم- ووضع كفيه على فخذيه.
هذا يدل على أن من أدب الطالب في جلوسه عند شيخه: أن يجلس أمامه، وليس عن يمينه أو يساره، ويذكرون أنه أقرب إلى الانتفاع بالشيخ.
2) الإصغاء والوقار في مجلس العلم:
على من يحضر مجالس الذكر أن يكون مُصْغيًا ساكنًا في جلوسه بين يدي معلمه، فلا يشير بيده ولا يعبث بها ولا يومئ بعينه؛ قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه (13)].
قال القرطبي رحمه الله في «تفسير هذه الآية»: وذلك أَنْ يَكُفَّ الْعَبْدُ جَوَارِحَهُ، وَلَا يَشْغَلَهَا، فَيَشْتَغِلُ قَلْبُهُ عَمَّا يَسْمَعُ، وَيَغُضُّ طَرْفَهُ فَلَا يَلْهُو قَلْبُهُ بِمَا يَرَى، ويُحْضِرُ عَقْلَهُ فَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ سِوَى مَا يَسْتَمِعُ إِلَيْهِ، وَيَعْزِمُ عَلَى أَنْ يَفْهَمَ فَيَعْمَلَ بِمَا يَفْهَمُ. اهـ.
وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر]. إنه الرمز بالعين، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ». رواه أبو داود في «سننه» (2683) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ومعنى هذا الحديث كما قال ابن الأثير رَحِمَهُ الله في «النهاية» (2/ 89): أَيْ: يُضْمِرُ فِي نفسهِ غيرَ مَا يُظْهِرُه، فَإِذَا كَفَّ لِسَانَهُ وأومَأَ بعَينِه فَقَدْ خَانَ، وَإِذَا كَانَ ظُهور تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ قِبَل الْعَيْنِ سَمِّيت خَائِنَةَ الأعْيُنِ. اهـ.
3) عدم ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض:
من سوء الأدب أن الشيخ يقرِّرُ شيئًا في مسألة ثم يعترض عليه الطالب، ويقول: لكن الشيخ فلان يقول: كذا، وقد يكون في هذا ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض.
* أما إذا كان لا يقصد الاعتراض وفي حالات نادرة ما يكون هذا ديدنه فلا بأس، ومن أمثلة ذلك:
عن أبي صَالِحٍ الزَّيَّاتَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: «الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ»، فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُهُ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلَّ ذَلِكَ لاَ أَقُولُ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لاَ رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ» رواه البخاري (2178)، ومسلم (1596).
وهكذا في غير وقت كلام الشيخ يذكر له من خالفه هذا ثابت عن بعض السلف، كما روى مسلم (1232) عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا» قَالَ بَكْرٌ-وهو ابن عبد الله المزني الراوي لهذا الحديث-: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: «لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ» فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا».
فلهذا يقول الشيخ ابن عثيمين في «شرح مقدمة المجموع» (186)، عن هذه المسألة: إلا في وقت آخر فلا بأس، والله أعلم.
ثانيًا: آداب المتعلم في مجالس الذكر، والاستعداد له:
1) حضور المتعلم لحلقات العلم على أحسن حال.
من آداب المتعلم أن يحضر الدرس وهو على أحسن حال في لباسه وهيئته وفراغ قلبه واستعداده.
قال النووي رحمه الله في «التبيان»: وَيَدخُلُ عَلَى شَيخِهِ كَامِلَ الحَالِ مُتَنَظِّفًا بِمَا ذَكَرنَاهُ فِي المُعَلِّمِ مُتَطَهِّرًا مُستَعمِلًا لِلسِّوَاكِ فَارِغَ القَلبِ مِنَ الأُمُورِ الشَّاغِلَةِ.
2) الطهارة:
الطهارة في مجالس العلم مشروعة؛ لأنه قد يكون في مسجد فيحتاج إلى أن يركع ركعتين، ولأجل أن يذكر الله على طهارة، وعند ذِكْرِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عليه وهو على طهارة، ومجالس العلم هي من ذِكْرِ الله.
3) الاستئذان في الدخول على المعلم
قال النووي رحمه الله: “وَأَلَّا يَدخُلَ بِغَيرِ استِئذَانٍ إِذَا كَانَ الشَّيخُ فِي مَكَانٍ يُحتَاجُ فِيهِ إِلى استِئذَانٍ”.
4) إلقاء السلام إذا دخل موضع الدرس
قال النووي رَحِمَهُ الله في «مقدمة المجموع» ص (193): “وَيُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ بِصَوْتٍ يُسْمِعُهُمْ إسْمَاعًا مُحَقَّقًا”، علق الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله وقال: هذا صحيح، لكن إذا كان ذلك لا يشوش على الحاضرين، لأن الصحابة كانوا يسلمون على رسول الله صلى عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه في المسجد. اهـ.
5) السلام عند الانصراف
6) عدم تخطي المتعلم رقاب الناس وجلوسه حيث ينتهي به المجلس
قال البخاري رَحِمَهُ الله: “باب من قعد حيث انتهى به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها”، ثم أخرج حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ برقم (66)، في قصة النفر الثلاثة
وهذا الحديث فيه أن المتعلم إذا دخل ورأى فرجة في حلقة يجلس فيها كما فعل الأول، وهذا فيه تنظيم للحلقة وسد خلَلِها، وإذا لم يجد فرجة يجلس خلفهم كما فعل الثاني.
ومن الفوائد التي استنبطها الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (1/ 157) من هذا الحديث:
– … اسْتِحْبَابُ التَّحْلِيقِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ.
– … أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهِ.
– … اسْتِحْبَابُ الْأَدَبِ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَفَضْلُ سَدِّ خَلَلِ الْحَلْقَةِ كَمَا وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي سَدِّ خَلَلِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ.
– … جَوَازُ التَّخَطِّي لِسَدِّ الْخَلَلِ مَا لَمْ يُؤْذِ فَإِنْ خُشِيَ اسْتُحِبَّ الْجُلُوسُ حَيْثُ يَنْتَهِي كَمَا فَعَلَ الثَّانِي. اهـ.
فإن خشي من الأذية لا يفعل؛ لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ» رواه ابو داود (1118).
* حالات يستثنى من النهي عن التخطي:
– … إذا أذن له الشيخ في التقدم، وهذا كان يفعله المعلم أحيانًا مع ضيفٍ كريمٍ أو مستفيد فيأمره بالتقدم.
– … إذا علم من حال الحاضرين إيثار ذلك، قال الشيخ ابن عثيمين رَحِمَهُ الله في «شرح مقدمة المجموع» ص (194): من الذي أعطى الحاضرين الحق في الإذن له؟ ثم أجاب، وقال: قد يعرفون من حال الشيخ أنه يكرمه. اهـ.
– … حالة أُخرى: قال ابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 316): لَا يَجُوزُ التَّخَطِّي إِلَى الْعَالِمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا يُفِيدُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَالِمِ فَائِدَةً وَيُثِيرُ عِلْمًا فَيَجِبُ حينئذ أن يُفتح له لئلا يُؤْذِيَ أَحَدًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى الشَّيْخِ، وَمِنْ شَرْطِ الْعَالِمِ أَنْ يَلِيَهُ مَنْ يَفْهَمُ عَنْهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليلني منكم أولوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى». يَعْنِي: فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِيَفْهَمُوا عنه ويؤدوا مَا سَمِعُوا كَمَا سَمِعُوا مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ مَعْنًى وَلَا تَصْحِيفٍ. اهـ.
7) حث المتعلم على القرب من المعلم
ينبغي للطالب أن يبكِّرَ في الحضور ليكونَ قريبًا من الشيخ، فإنه أدعى للانتباه وأقوى في التركيز.
قال إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ: قُلْتُ لِأَبِي سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: بِمَ رَاقَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ قَالَ: «كَانَ يَاتِي الْمَجَالِسَ مِنْ صُدُورِهَا، وَلَا يَاتِيهَا مِنْ خَلْفِهَا» الأثر رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 335).
وهذا الأدب قد ذكروه في آداب الطالب، قال القرطبي في «المفهم» (18/ 12): القرب من العالم أولى، لما يحصل من ذلك من حسن الاستماع، والحفظ. اهـ.
8) لا يقيم أحدًا من موضعه
هذه من الآداب العامة، وهي من آداب مجالس العلم وغيرها
واستثنى من النهي الحافظ النووي في «التبيان»: “إِلَّا أَن يَكُونَ فِي تَقَدُّمِهِ مَصلَحَةٌ لِلحَاضِرِينَ، أَو أَمَرَهُ الشِّيخُ بِذَلِكَ”.
ومَثَّلَ رحمه الله لهذا في «مقدمة المجموع» (36)، وقال: بِأَنْ يَقْرُبَ مِنْ الشَّيْخِ وَيُذَاكِرَهُ مُذَاكَرَةً يَنْتَفِعُ الْحَاضِرُونَ بِهَا. اهـ.
9) عدم الجلوس بين صاحبين بغير إذنهما
روى أبو داود (4844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يُجْلَسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا». والحديث حسن.
هذا من الأدب أن لا يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، إلا إذا كان بينهما فرجة فيجلس، كما في الحديث: «فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا».
10) من فُسِح له في مكان فيضم نفسه
قال الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1/ 179): وَيَجِبُ عَلَى مَنْ فَسَحَ لَهُ اثْنَانِ فَجَلَسَ بَيْنَهُمَا أَنْ يَجْمَعَ نَفْسَهُ. اهـ.
وقال النووي رحمه الله: فَإِن فَسَحَا لَهُ قَعَدَ وَضَمَّ نَفسَهُ.
11) التأدب مع الرفقة ويبتعد عن أمراض القلوب
12) القعود بين يدي الشيخ قِعدة المتعلمين
قال الشيخ ابن عثيمين في «شرح حلية طالب العلم» (117): وهذا صحيح، اجلس جلسة المتأدب، يعني: مثلًا لا تمد رجليك ولا يديك لأن هذا سوء أدب، ولا تجلس متكئًا، هذا أيضًا سوء أدب لا سيما في مكان الطلب، أما إذا كنت في مكان جلوس عادي فالأمر أهون. اهـ.
13) ومن حسن الجلوس بين يدي المعلم:
السكوت، فلا يتكلم لغير حاجة.
14) ألا يجلس في مكان مرتفع أعلى من شيخه.
عدم الاستناد إلى جدار أو نحوه من غير حاجة كوجعِ الظَّهْرِ،
وقد بوب لهذه المسألة البخاري في كتاب العلم من «صحيحه»، وقال: “بَابُ مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِمَامِ أَوِ المُحَدِّثِ”، ثم أخرج حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الحديث وفيه: «فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، فَسَكَتَ».
وجاء ذلك عن جمعٍ من السلف، منهم وكيع بن الجراح: قال محمود بن آدم المروزي: ما رأيت وكيعًا عند ابن عيينة قط إلا جاثيًا بين يديه على ركبتيه ساكتًا لا يتكلم. رواه ابن أبي حاتم في «مقدمة الجرح والتعديل» (50).
والأمر واسع سواءً جلس على هذه الكيفية أو غيرها، ولكن يبتعد عما يعد سوء أدب من الجلسات التي لا تليق في أثناء الدرس، والله أعلم.
15) ألا يكثر من الكلام إلا لحاجة
، أخرج البخاري (121)، ومسلم (65)، عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ»، فَقَالَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
ومن أخلَّ بهذا الأدب فقد أحرم نفسَه خيرًا كثيرًا، قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (483): من الناس من يُحْرَمُ العلم لسوء إنصاته، فيكونُ الكلامُ والممارات آثَر عنده من حُسْن الاستماع.
وهذه آفةٌ كامنةٌ في أكثر النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعهم علمًا ولو كان حَسَنَ الفهم .. إلخ.
16) عدم العبث والالتفات
روى البخاري (2842)، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الحديث وفيه: «وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ».
وكذلك كانت مجالس السلف ممن بعدهم حتى كأنهم في صلاة أخرج ابن أبي حاتم رَحِمَهُ الله في «مقدمة الجرح والتعديل» (ص257): نا أحمد بن سنان، قال: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه ولا يُبْرَى قلمٌ ولا يُبتَسم ولا يقوم أحد قائمًا كأن على رءوسهم الطير، وكأنهم في صلاة.
فإن رأى أحدًا منهم تبسم أو تحدث أو يضحك أو يبرى قلمًا، لبس نعله وخرج.
وثبت عن مسعر بن كدام، قال: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ إِلَى حَلْقَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ لِي رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا فَاتَكَ مِنَ الْعِلْمِ أَكْثَرُ. رواه الخطيب في [«الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (348)].
17) الإصغاء:
الإصغاء هو: الاستماع، والمراد يلقي الطالب سمعه ويحضر ذهنه ويلزم السكوت، وبذلك يستفيد الطالب ويفهم ما يلقيه عليه شيخه، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق]. شهيد: أي: قلب حاضر. فلا يكون الطالب بجسمه فقط بل بقلبه وقالَبه. قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (169): صاحبُ القلب لا ينتفعُ بقلبه إلا بأمرين:
أحدهما: أن يُحْضرَه ويُشْهِدَه لما يُلقى إليه، فإذا كان غائبًا عنه مسافرًا في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفعُ به.
(الثاني): إذا أَحْضَرَه وأَشْهَدَه لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويصغي بكلِّيَّته إلى ما يُوعَظُ به ويُرْشَدُ إليه.
* وها هنا ثلاثةُ أمور:
أحدها: سلامةُ القلب وصحتُه وقبولُه.
الثاني: إحضارُه وجَمْعُه ومنعُه من الشُّرود والتفرُّق.
الثالث: إلقاءُ السمع وإصغاؤه والإقبالُ على الذكر.
فذكرَ اللهُ تعالى الأمورَ الثلاثة في هذه الآية. اهـ
18) “كيفية الجلوس في حِلَقِ العلم
ومِن السُّنَّةِ كذلك ألَّا يكونَ أهلُ المجلسِ مُتفرقينَ مُتباعدينَ، وهي سُنَّةٌ مهجُورة خاصةً عِند طُلابِ العلمِ فِي هَذَا الزَّمان، لا يَلتَفِتُون إِليها وإنْ ذُكِّرُوا بِهَا، وكأنَّهم لا يُبَالُون بأمرِ نبيِّهِم ? ولا مَا أَرْشدَهُم إِليْه.
عن أبي ثَعلبة الخُشَنِي -رضي الله عنه- قال: كان النَّاس إذا نزلُوا مَنزِلاً تفرَّقُوا فِي الشِّعاب والأَودِية، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وآله وَسلَّم-: ((إنَّ تَفَرُّقَكُم فِي هذِهِ الشِّعاب والأَوْدِيَة إنَّما ذَلِكُم مِنَ الشَّيْطَان)).
فَلمْ ينزِل بعدَ ذلك مَنزِلاً إلَّا انضَمَ بعضَهُم إلى بعض حتى يُقال لو بُسِط عليهِم ثَوبٌ لعَمَّهُم.
أخرجه أحمد وأبُو داود والطَّبرانِيُّ والحاكِم وصحَّحَه، وصححهُ الألبانِيُّ فِي صحيح سننِ أبي داود.
وليس من السُّنةِ أن يجلسُوا أوزاعًا متفرقين بل ينضمُوا بعضُهم إلى بعض هذِهِ سنَّة فمن خالفها مُتعمِداً فقد أَتَى ببدعة ببدعةٍ عملية ويُخالفُ أمْرَ سولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، عن جابر بن سَمُره قال دخل علينا (?) المسجدَ ونحن حِلَقٌ مُتفرِّقون فقال ((ما لِي أراكُم عِزين)).أخرجه بهذا اللفظ أحمد والبيهقِي وهو عند مُسلمٍ بغير هذا اللفظ.
قال الشيخ الألبانِيُّ -رحمهُ الله تعالى- وقد ذكر هذا النَّص في حجاب المرأة المُسلِمة في وجُوبِ مخالفةِ المشركين، فبيَّنَ مجالسَ المؤمنين ومجالسَ المنافقين وذَكر هيئَاتِ الجلوسِ مِن المسلمِ في مجالسِ المسلمين فذكر هذا الحديثَ والذي قبلَه، وقال: ((ليس من الأدبِ في الإسلامِ في شيء إذا ما اجتمَعَ طُلابُ العلم أَن يجلِسُوا هكذا كما يشاءون مُتفرِّقِين بعضُهم عن بعض بل عليهِم أن ينضمُّوا)).
قال المُناويُّ: قال الطِّيبِيُّ: ((هذا إنكار منهُ على رؤية أَصْحابِه مُتفرقين أشتاتًا والمقصود الإنكار عليهم كائِنينَ على تِلك الحالة))، يعني لا ينبغي أن تتفرَّقُوا ولا تكُونوا مُجتمعين بعد توصِيَتِي إياكُم بِذلك”. [كيفية الجلوس في حِلَقِ العلم].
ثالثًا: من صفات رواد حلقات الذكر:
1) أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل
لا بد لحامل القرآن أن يكون مميَّزًا في أفعاله وأقواله وأوصافه وسلوكه، وأن يبتعد عن الأخلاق السيئة: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ» رواه مسلم (746).
وعلى حامل القرآن والسنة: أن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن والسنة عنه؛ حتى ولو كان النهي على سبيل الكراهة. إكرامًا وتعظيمًا للذي يحمله في صدره.
2) أن يكون شريف النفس
أي: عالي النفس، ففيه وصية لحامل القرآن أن يكون عاليَ النفس بعيدًا عن مهانتها، وذلتها.
والنفوس الشريفة طموحاتها عالية، قال ابن القيم رَحِمَهُ الله في «الفوائد» (177): فالنفوس الشَّرِيفَة لَا ترْضى من الْأَشْيَاء إِلَّا بِأَعْلَاهَا وأفضلها وأحمدها عَاقِبَة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وَتَقَع عَلَيْهَا كَمَا يَقع الذُّبَاب على الأقذار، فَالنَّفْس الشَّرِيفَة الْعلية لَا ترْضى بالظلم وَلَا بالفواحش وَلَا بِالسَّرقَةِ والخيانة؛ لِأَنَّهَا أكبر من ذَلِك وأجلُّ، وَالنَّفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذَلِك. اهـ.
وقد أثنى الله على النفوس الشريفة وذمَّ النفوس الدنيئة؛ فقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس]، أي: زكاها بطاعة الله، وخَابَ مَنْ دَسَّاهَا بالمعاصي.
وليس هناك أشرف للنفس من طاعة الله عز وجل، قال ابن القيم رحمه الله في «الجواب الكافي» (78): الطَّاعَةُ وَالْبِرُّ تُكَبِّرُ النَّفْسَ وَتُعِزُّهَا وَتُعْلِيهَا، حَتَّى تَصِيرَ أَشْرَفَ شَيْءٍ وَأَكْبَرَهُ، وَأَزْكَاهُ وَأَعْلَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَذَلُّ شَيْءٍ وَأَحْقَرُهُ وَأَصْغَرُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِهَذَا الذُّلِّ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْعِزُّ وَالشَّرَفُ وَالنُّمُوُّ، فَمَا أَصْغَرَ النُّفُوسَ مِثْلُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَمَا كَبَّرَهَا وَشَرَّفَهَا وَرَفَعَهَا مِثْلُ طَاعَةِ اللَّهِ.
[شرح كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للشيخة أم عبد الله بنت الشيخ مقبل الوادعي، بتصرف يسير، وانظر: الموسوعة الفقهية الكويتية: آدابُ المَجْلِسِ].