2675 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي أبوعيسى، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي وحسين البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(48) – كتاب: الذِّكْرِ والدُّعاءِ والتَّوْبَةِ والِاسْتِغْفارِ.
(1) – بابُ: الحَثِّ عَلى ذِكْرِ اللهِ تَعالى.
(2) – ((2675)) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ – واللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ – قالا: حَدَّثَنا جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: يَقُولُ اللهُ عزوجل: «أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنهُمْ، وإنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ مِنهُ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»،
(2) – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو كُرَيْبٍ، قالا: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ بِهَذا الإسْنادِ، ولَمْ يَذْكُرْ: «وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ مِنهُ باعًا».
(3) – ((2675)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، حَدَّثَنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: هَذا ما حَدَّثَنا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ لا – فَذَكَرَ أحادِيثَ مِنها – وقالَ رَسُولُ اللهِ لا: «إنَّ اللهَ قالَ: إذا تَلَقّانِي عَبْدِي بِشِبْرٍ، تَلَقَّيْتُهُ بِذِراعٍ، وإذا تَلَقّانِي بِذِراعٍ، تَلَقَّيْتُهُ بِباعٍ، وإذا تَلَقّانِي بِباعٍ أتَيْتُهُ بِأسْرَعَ».
(4) – ((2676)) حَدَّثَنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطامَ العَيْشِيُّ، حَدَّثَنا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنا رَوْحُ بْنُ القاسِمِ، عَنِ العَلاءِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ لا، يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلى جَبَلٍ يُقالُ لَهُ جُمْدانُ، فَقالَ: «سِيرُوا هَذا جُمْدانُ سَبَقَ المُفَرِّدُونَ» قالُوا: وما المُفَرِّدُونَ؟ يا رَسُولَ اللهِ قالَ: «الذّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، والذّاكِراتُ».
==========
التمهيد:
قال الحافظ النووي رحمه الله في رياض الصالحين: ”
28/ 1435 – وعنْ أَبي هُريرةَ، رضي الله عنه، أنَّ رسُولَ اللَّه لا قالَ: يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذكَرتُهُ في ملإٍ خَيْرٍ منْهُمْ. متَّفقٌ عليهِ.
29/ 1436 – وعَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّه لا: سبقَ المُفَرِّدُونَ قالوا: ومَا المُفَرِّدُونَ يَا رسُول اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّه كَثيرًا والذَّاكِراتُ رواه مسلم.
روي: المُفَرِّدُونَ بتشديد الراءِ وتخفيفها، والمَشْهُورُ الَّذي قَالَهُ الجمهُورُ: التَّشديدُ.
30/ 1437 – وعن جابرٍ رضي الله عنه، قالَ: سمِعْتُ رسُول اللَّه لا يقولُ: أَفْضَلُ الذِّكرِ: لا إلهَ إلاَّ اللَّه. رواهُ الترمِذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ.
31/ 1438 – وعنْ عبداللَّه بن بُسْرٍ رضي الله عنه، أنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رسُولَ اللَّهِ، إنَّ شَرائِع الإسْلامِ قَدْ كَثُرتْ علَيَّ، فَأخبرْني بِشيءٍ أتشَبَّثُ بهِ قَالَ: لا يَزالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حَسَنٌ.”. انتهى.
———
قال الشيخ ابن باز رحمه الله معلقا: “فهذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالذكر وفضل الذكر، تقدمت آيات وأحاديث في فضل الذكر، وأن المشروع للمؤمن أن يكون ملازما لذكر الله دائمًا، لما في ذلك من الخير العظيم وصلاح القلوب ونفي الذنوب وإرضاء الرب عزوجل، فالمؤمن يلزم الذكر ويجتهد، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي لا يذكر الله في كل أحيانه»، والله جل وعلا يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الأحزاب:41]، ويقول سبحانه في سورة الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ) إلى أن قال سبحانه: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35] وقال جل وعلا (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10].
ويقول النبي لا: يقول الله جل وعلا: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه، ويقول جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم فهذا فيه الحث على الإكثار من ذكر الله في نفسك وبلسانك جميعًا، في نفسه يخاف الله ويتذكر عظمته وحقه ويرجوه ويحسن به الظن ويخلص له العمل، ويكون ذاكرا بقلبه عظمة الله في قلبه وعلى باله الإخلاص له ومحبته وتعظيمه وخوفه ورجاءه، وينطق باللسان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقول النبي لا: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويقول لا: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول لا: سبق المفردون قيل: يا رسول الله ما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات رواه مسلم في الصحيح، يعني سبقوا إلى الخيرات، وإلى أسباب النجاة، وهم المكثرون من ذكر الله عزوجل، وصح عنه لا أن لا إله إلا الله هي أفضل الذكر في الصحيحين، واللفظ لمسلم يقول لا: الإيمان بضع وسبعون شعبة أو قال بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان فأفضل الذكر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يروى عنه عليه السلام أنه قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير،. وجاء رجل إلى النبي لا فقال: يا رسول الله إن الشرائع قد كثرت عليَّ – يعني التطوعات – فأخبرني بباب أتمسك به جامع؟.
قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله يعني أكثر من ذكر الله، وهذا معنى سبق المفردون يعني المكثرون من ذكر الله، وفي الحديث الصحيح: ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله هذا فيه الإكثار من ذكر الله جل وعلا، ومن أكثر من ذكر الله ساعده ذلك في أداء فرائض الله وترك محارم الله، والجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك، فإن الإكثار من ذكر الله يحرك القلوب إلى طاعته، وإلى ترك معصيته، وفق الله الجميع”. انتهى.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((50)) – كِتاب: الذِّكْرِ، والدُّعاءِ، والتَّوْبَةِ.
“الذّكْرُ” بالكسر: فقال المجد رحمه الله: هو الحِفْظُ للشيءِ، كالتَّذْكارِ، والشيءُ يَجْري على اللسانِ، والصِّيتُ، كالذُّكْرَةِ بالضم، والثَّناءُ، والشرفُ، والصلاةُ للهِ تعالى، والدُّعاءُ، والكتابُ فيه تفصيلُ الدِّينِ. انتهى [«القاموس المحيط» ص (507)].
وقال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله: الذّكر: تارة يقال، ويراد به هيئة للنفس، بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ، إلا أن الحفظ يقال اعتبارًا بإحرازه، والذِّكر يقال اعتبارًا باستحضاره، وتارةً يقال لحضور الشيء القلب، أو القول، ولذلك قيل: الذّكر ذِكران:
ذِكر بالقلب، وذِكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له: ذكر، فمن الذكر باللسان قوله تعالى: {لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء (10)]، وقوله تعالى: {وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ} [الأنبياء (50)]، وقوله: {هَذا ذِكْرُ مَن مَعِيَ وذِكْرُ مَن
قَبْلِي} [الأنبياء (24)]، وقوله: {أأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنا} [ص (8)] أي: القرآن،
وقوله تعالى: {ص والقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ((1))} [ص (1)]، وقوله: {وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ
ولِقَوْمِكَ} [الزخرف (44)]؛ أي: شرف لك، ولقومك، وقوله: {فاسْألُوا أهْلَ
الذِّكْرِ} [النحل (43)] أي: الكتب المتقدمة. وقوله: {قَدْ أنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا ((10)) رَسُولًا} [الطلاق (10)، (11)]، فقد قيل: الذكر ها هنا وصْف للنبيّ — ، وهذا قول ابن عباس، أخرجه عنه ابن مردويه. [راجع: «الدر المنثور» (8) / (209)]، كما أن الكلمة وصف لعيسى -عليه الصلاة والسلام- من حيث إنه بُشِّر به في الكتب المتقدمة، فيكون قوله: رَسُولاً بدلًا منه، وقيل: {رَسُولًا} منتصب بقوله: {ذِكْرًا} كأنه قال: قد أنزلنا إليكم كتابًا ذكرًا رسولًا يتلو.
قال: ومن الذكر عن النسيان قوله: {فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ} [الكهف (63)]،
ومن الذكر بالقلب واللسان معًا قوله تعالى: {فاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة (200)]، وقوله: {فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} [البقرة (198)]،
وقوله: {ولَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ} [العنكبوت (45)]؟ أي: ذِكر الله لعبده أكبر من ذِكر العبد له، وذلك حثّ على الإكثار من ذكره.
والذكرى: كثرة الذكر، وهو أبلغ من الذكر، قال تعالى: {رَحْمَةً مِنّا وذِكْرى لِأُولِي الألْبابِ} [ص (43)]،
{وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ((55))} [الذاريات (55)]، في آي كثيرة. انتهى كلام الراغب – رحمه الله – باختصار. [» مفردات ألفاظ القرآن الكريم «(1) / (328) – (329)].
وأما “الدعاء”، فهو الرغبة إلى الله تعالى، يقال: دعا دُعاء بالضمّ، ودَعْوى بالفتح والقصر، أفاده المجد. [» القاموس المحيط «ص (434)].
وقال الفيّوميّ –رحمه الله-: دعوت الله دعاءً: ابتَهَلت إليه بالسؤال، ورغِبت فيما عنده من الخير [» المصباح المنير” (1) / (194)].
وقال الراغب رحمه الله: الدعاء كالنداء، إلا أن النداء قد يقال بيا، أو أيا، ونحو ذلك من غير أن يُضم إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم، نحو: يا فلان، وقد يُستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً ونِداءً} [البقرة (171)]، ويستعمل استعمال التسمية، نحو: دعوت ابني زيدًا؛ أي: سمّيته، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور (63)]، حثًّا على تعظيمه، وذلك مخاطبة من كان يقول: يا محمد، ودعَوْتُه: إذا سألته، وإذا استغثته، قال تعالى: «{قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ} [البقرة (68)]؛ أي: سَلْه، وقال: {قُلْ أرَأيْتَكُمْ إنْ أتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أوْ أتَتْكُمُ السّاعَةُ أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ((40))} بَلْ إيّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام (40)، (41)]، تنبيهًا أنكم إذا أصابتكم شدّة لم تفزعوا إلا إليه. انتهى كلام الراغب رحمه الله [«مفردات ألفاظ القرآن الكريم» (1) / (315)].
وأما “التوبة”: فهي الرجوع، يقال: تاب من ذنبه يتوب توبًا، وتوبةً، ومتابًا: أقلع، وقيل: التوبة هي التوب، ولكن الهاء لتأنيث المصدر، وقيل: التوبة واحدة، كالضربة، فهو تائبٌ، وتاب الله عليه: غفر له، وأنقذه من المعاصي، فهو توّابٌ مبالغةٌ، واستتابه: سأله أن يتوب، قاله الفيوميّ -رحمه الله-[«المصباح المنير» (1) / (78)].
وقال الراغب -رحمه الله-: التوب: تَرْك الذَّنْب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت، وأسأت، وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة.
والتوبة في الشرع: تَرْك الذَّنْب لِقُبحه، والندم على ما فَرَط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارُك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة.
وتاب إلى الله، فذِكْر «إلى الله» يقتضي الإنابة، نحو: {فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ}
[البقرة (54)]، {وتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور (31)] {أفَلا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ}
[المائدة (74)]، وتاب الله عليه؛ أي: قَبِل توبته، منه: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ
والمُهاجِرِينَ} [التوبة (117)]، {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة (118)]، {فَتابَ
عَلَيْكُمْ وعَفا عَنْكُمْ} [البقرة (187)].
والتائب يقال لباذل التوبة، ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده.
والتواب: العبد الكثير التوبة، وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركًا لجميعه، وقد يقال ذلك لله تعالى لكثرة قبوله توبة العباد حالًا بعد حال. وقوله: {ومَن تابَ وعَمِلَ صالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ مَتابًا ((71))} [الفرقان (71)] أي: التوبة التامة، وهو الجمع بين ترك القبيح وتحرّي الجميل. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتابِ} [الرعد (30)]، {إنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة (54)]. انتهى كلام الراغب – رحمه الله -[«مفردات ألفاظ القرآن. الكريم» (1) / (169)].
شرح الحديث:
((1)) – (بابُ: الحَثِّ عَلى ذِكْرِ اللهِ تَعالى)
[(6781)] ((2675)) – (عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-؛ أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-:» يَقُولُ اللهُ -عز وجل-: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)؛ أي: أنا قادر على أن أعمل به ما ظنّ أني عامل به.
وقال الكرمانيّ -رحمه الله-: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على
الخوف. [» شرح صحيح البخاريّ «للكرمانيّ (25) / (118)]،
قال الحافظ -رحمه الله-: وكأنه أخذه من جهة التسوية، فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد، وهو جانب الخوف؛ لأنه لا يختاره لنفسه، بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال أهل التحقيق: مقيُّد بالمحتضِر، ويؤيد ذلك حديث: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله»، وهو عند مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه -، وأما قبل ذلك ففي الأولى أقوال، ثالثها الاعتدال.
وقد سبق ذكر ما يتعلق بحسن الظن بالله تعالى.
(وأنا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي) قال القرطبيّ -رحمه الله-: أصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور، والتيقظ له، ومنه قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة (40)]؛ أي: تذكّروها، وقوله لا: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها» متّفقٌ عليه؛ أي: إذا تذكّرها بقلبه، وهو في القرآن كثير، وسمّي القول باللسان ذكرًا؛ لأنّه دلالة على الذكر القلبيّ، غير أنه قد كَثُر اسم الذكر على القول
اللسانيّ حتى صار هو السابق للفهم.
وأصلُ «مَعَ»: الحضور، والمشاهدة، كما قال تعالى: {إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى} [طه (46)]، وكما قال: {وهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ ما كُنْتُمْ} [الحديد (4)] أي: مطّلع عليكم، ومحيط بكم، وقد ينجرّ مع ذلك الحفظ والنصر، كما قيل في قوله تعالى: {إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى}؛ أي: أحفظكما ممن يريد كيدكما.
وإذا تقرر هذا، فيمكن أن يكون معنى: «وأنا معه إذا ذكرني»: أن من ذَكر الله تعالى في نفسه مفرّغةً مما سواه، رفع الله عن قلبه الغفلات، والموانع، وصار كأنه يرى الله تعالى، ويشاهده، وهي الحالة العليا التي هي: أن تذكر الله كأنك تراه، فإن لم تصل إلى هذه الحالة، فلا أقلّ من أن يذكره، وهو عالم بأن الله يسمعه، ويراه، ومن كان هكذا كان الله له أنيسًا إذا ناجاه، ومجيبًا إذا دعاه، وحافظًا له من كل ما يتوقّعه ويخشاه، ورفيقًا به يوم يتوفاه، ومُحِلًّا له من الفردوس أعلاه. انتهى. [«المفهم» (7) / (6) – (7)].
وقال في «الفتح»: قوله: «وأنا معه إذا ذكرني»؛ أي: بعلمي، وهو كقوله: {إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى} [طه (46)] والمعية المذكورة أخصّ من المعية التي في قوله تعالى: {ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هُوَ رابِعُهُمْ} – إلى قوله-: {إلّا هُوَ مَعَهُمْ أيْنَ ما كانُو} [المجادلة (7)].
وقال ابن أبي جمرة: معناه: فأنا معه حَسَب ما قصد من ذِكره لي، قال: ثم يَحْتَمِل أن يكون الذكر باللسان فقط، أو بالقلب فقط، أو بهما، أو بامتثال الأمر، واجتناب النهي، قال: والذي تدلّ عليه الأخبار أن الذكر على نوعين:
أحدهما: مقطوع لصاحبه بما تضمّنه هذا الخبر، والثاني: على خطر، قال:
والأول يستفاد من قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ((7))}
[الزلزلة (7)]، والثاني من الحديث الذي فيه: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء
والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعْدًا» [قال الشيخ الألبانيّ -رحمه الله-: ضعيف جدًّا، وقال في موضع آخر: باطل. «الضعيفة» (1) / (54)]، لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووَجَل مما هو فيه، فإنه يرجى له. انتهى [«بهجة النفوس» (4) / (276)].
(اِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي)؛ أي: إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرًّا، ذكرته بالثواب والرحمة سرًّا.
وقال ابن أبي جمرة [«بهجة النفوس» (4) / (276)]: يَحْتَمِل أن يكون مثل قوله تعالى: {فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ} [البقرة (152)] ومعناه: اذكروني بالتعظيم، أذكركم بالإنعام، وقال تعالى: {ولَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ} [العنكبوت (45)]؛ أي: أكبر العبادات، فمَن ذَكره، وهو خائف آمنه، أو مستوحشٌ آنسه، قال تعالى: {ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد (28)]. انتهى [«الفتح» (17) / (356)، كتاب «التوحيد» رقم ((7405))].
قال الأتيوبي عفا الله عنه معقبا: قوله: «ذكرته بالإنعام» الحقّ أن ذكر الله تعالى لعبد على ظاهره، فهو -سبحانه وتعالى- إذا ذكره عبده في نفسه، ذكره هو في نفسه، وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير من ملئه، ذكرًا حقيقيًّا، لا مجازيًّا، فتأويل «ذَكَر» بالإنعام صَرْف وتأويل لمعنى ذِكر الله تعالى لعبده إلى لازمه، فلا يصحّ،
فتنبّه، وسيأتي قريبًا زيادة تحقيق لذلك -إن شاء الله تعالى-.
وقال القرطبيّ: قوله: «في نفسي»: النفس: اسم مشترَك، يُطلق على نفس الحيوان، وهي المتوفاة بالموت والنوم، ويُطلق ويراد به الدم، والله تعالى منزه عن ذينك المعنيين، ويُطلق، ويراد به ذات الشيء، وحقيقته، كما يقال: رأيت زيدًا نفسه، عينه؛ أي: ذاته، وقد يطلق، ويراد به الغيب، كما قد قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ} [المائدة (116)]؛ أي: ما في غيبك، والأليق بهذا الحديث أن يكون معناه: أن من ذَكر الله تعالى خاليًا منفردًا بحيث لا يطّلع أحد من الخليقة على ذكره، جازاه الله على ذلك بأن يذكره بما أعدّ له من كرامته التي أخفاها عن خليقته، حتى لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وقد قلنا: إن التسليم هو الطريق المستقيم. انتهى.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: كلام القرطبيّ هذا من جنس ما قبله، فالحقّ كما قال هو في آخر كلامه: إن التسليم هو الطريق المستقيم، أن نسلّم أن الله تعالى له نَفْس، لا كنفس المخلوقات، بل على ما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، فإذا ذكره عبده في نفسه ذكره في نفسه ذكرًا حقيقيًّا، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(وإنْ ذَكَرَنِي فِي مَلٍإ) بفتح الميم واللام مهموزًا: الجماعة، قال الفيّوميّ -رحمه الله-: الملأ: مهموزًا: أشراف القوم، سُمّوا بذلك لملاءتهم بما يُلتمَس عندهم، من المعروف، وجَودة الرأي، أو لأنهم يملؤون العيون أُبّهةً، والصدور هيبةً، والجمع: أملاء، مثلُ سبب وأسباب. انتهى [«المصباح المنير» (2) / (580)].
(ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنهُمْ) قال القرطبيّ -رحمه الله-: يعني: أن من يذكره في
ملأ من الناس، ذكره الله تعالى في ملأ من الملائكة؛ أي: أثنى عليه، ونوّه باسمه في الملائكة، وأمر جبريل أن ينادي بذكره في ملائكة السموات، كما تقدَّم، وهو ظاهرٌ في تفضيل الملائكة على بني آدم، وهو أحد القولين للعلماء. انتهى [«المفهم» (7) / (7) – (8)].
وقال في «الفتح»: قال بعض أهل العلم: يستفاد منه أن الذكر الخفيّ أفضل من الذكر الجهريّ، والتقدير: إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب، لا أُطْلِع عليه أحدًا، وإن ذكرني جهرًا ذكرته بثواب أُطْلِع عليه الملأ الأعلى. انتهى [«الفتح» (17) / (356)].
قال الأتيوبي عفا الله عنه معقبا: قوله: «ذكرته بثواب إلخ» هو من جنس ما سبق من التأويل، فلا تلتفت إليه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(وإنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا) بكسر الشين المعجمة، وسكون الموحّدة: ما بين طرفي الخنصرِ والإبهام بالتفريج المعتاد …. قاله الفيوميّ -رحمه الله-[«المصباح المنير» (1) / (302) – (303)].
(تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا) بكسر الذال المعجمة: اليد من كلّ حيوان، لكنها من الإنسان من المِرْفق إلى أطراف الأصابع، وهو مؤنّث، وبعض العرب يذكّره، وهو شاذّ. [راجع: «المصباح المنير» (1) / (207) – (208)].
(وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ مِنهُ باعًا) قال أبو حاتم السجستانيّ: هو مذكّر، يقال: هذا باعٌ، وهو مسافة ما بين الكفّين إذا بسطتهما يمينًا وشمالًا. انتهى [راجع: «المصباح المنير» (1) / (66)].
وقال الخطابيّ: الباع معروف، وهو قدر مَدّ اليدين، وأما البوع بفتح الموحّدة، فهو مصدر باع يبوع بَوْعًا، قال: ويحْتَمِل أن يكون بضم الباء، جَمْع باع، مثل دار ودُور.
قال الحافظ: وأغرب النوويّ، فقال: الباع، والبُوع، والبَوْع بالضم، والفتح، كله بمعنًى، فإن أراد ما قال الخطابيّ، وإلا لم يصرّح أحد بأن البوع بالضم والباع بمعنى واحد.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: قوله: (لم يصرح أحد إلخ) فيه نظر لا يخفى، فقد ذكر صاحب «القاموس» «البُوع» فيه الفتح، والضمّ، ووافقه شارحه المرتضى، حيث قال: الباعُ: قَدرُ مَدِّ اليَدَيْنِ، وما بَيْنَهُما من البَدَنِ، كالبَوْعِ -أي: بالفتح- ويُضَمُّ، الأخِيرَةُ هُذَلِيَّة، قال أبُو ذُؤيبٍ [من الطويل]:
فلَوْ كانَ حَبْلًا مِن ثَمانِينَ قامَةً … وخَمْسِينَ بُوعًا نالَها بالأنامِلِ [» تاج العروس «ص (5115)].
والحاصل: أن ما قاله النوويّ صحيح.
وقال الباجيّ: الباع طُول ذراعي الإنسان، وعضديه، وعَرْض صدره، وذلك قَدْر أربعة أذرع، وهو من الدواب قدر خطوها في المشي، وهو ما بين قوائمها. انتهى [» الفتح «(17) / (586)، كتاب» التوحيد «رقم ((7536))].
(أتيْتُهُ هَرْوَلَةً) يقال: هَرْول هرولةً: إذا أسرع في مشيه دون الخَبَب، ولهذا يقال: هو بين المشي والعَدْو، وجعل جماعة الواو أصلًا. [» المصباح المنير” (2) / (637)]،
قال ابن بطال: ونَقَل عن الطبريّ أنه إنما مَثَّل القليل من الطاعة بالشبر منه، والضعف من الكرامة، والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلًا على مبلغ كرامته لمن أدمن على طاعته، أن ثواب عمله له على عمله الضعف، وأن الكرامة مجاوزة حدّه إلى ما يثيبه الله تعالى. انتهى [«الفتح» (17) / (584) – (585)، كتاب «التوحيد» رقم ((7536))].
وقال القرطبيّ: قوله: «وإن تقرّب إليّ شبرًا إلخ» هذه كلّها أمثالٌ ضُربت لمن عَمِل عملًا من أعمال الطاعات، وقَصَد به التقرّب إلى الله تعالى، تدلّ على أن الله تعالى لا يُضيع عمل عامل، وإن قل، بل يقبله، ويجعل له ثوابه مضاعفًا، ولا يَفهَم من هذا الحديث الخُطا: نقلَ الأقدام إلا من ساوى الحُمُر في الأفهام.
[فإن قيل]: مقتضى ظاهر هذا الخطاب أن من عمل حسنة جوزي بمثليها، فإنّ الذراع: شبران، والباع: ذراعان، وقد تقرر في الكتاب والسُّنَّة أن أقلّ ما يُجازى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، لا تحصى، فكيف وجه الجمع؟
[قلنا]: هذا الحديث ما سيق لبيان مقدار الأجور، وعدد تضاعيفها، وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يُضيّع عمل عامل قليلًا كان أو كثيرًا، وأن الله تعالى يُسرع إلى قبوله، وإلى مضاعفة الثواب عليه إسراع من جيء إليه بشيء، فبادِر لِأخْذه، وتبشبش له بشبشة من سُرّ به، ووقع منه الموقع، ألا ترى قوله: «وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»، وفي لفظ آخر: «أسرعت إليه»، ولا تتقدّر الهرولة والإسراع بضعفي المشي، وأما عدد الأضعاف، فيؤخذ من موضع آخر، لا من هذا الحديث، والله أعلم. انتهى.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: الحقّ أن ما تضمّنه هذا الحديث من ذِكر التقرّب، والمشي، والهرولة على ظاهره حسبما يقتضيه سياق الكلام، ومعلوم أن المشي المضاف للعبد، والهرولة المضافة إلى الله -سبحانة وتعالي- ليس المراد به قطع المسافة، بل مزيد التقرّب.
والحاصل: أن الله -سبحانه وتعالى- يتقرّب من عبده متى شاء، وكيف شاء، وذلك مما يدلّ عليه اسمه «القريب»، فهو – سبحانه وتعالى – قريبٌ من داعيه، وعابديه، ويقرّب من يشاء من عباده، وهذا لا يُشْكِل على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة القائلين بمباينة الله -عز وجل- لخلقه، وأن بعض خَلْقه أقرب إليه من بعض، وإنما يُنكر ذلك، ويستشكله نفاة علوّ الله تعالى من الأشاعرة وغيرهم. [راجع ما كتبه الشيخ البرّاك على هامش: «الفتح» (17) / (584) – (585)، كتاب «التوحيد» رقم ((7536))]، فافهم الحقيقة، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.
فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): إثبات القول لله تعالى، وأنه يتكلّم إذا شاء بما شاء، ويكلّم من شاء إذا شاء.
(2) – (ومنها): إثبات النَّفْس لله تعالى على ما يليق بجلاله –سبحانه وتعالى-.
(3) – (ومنها): بيان أن الجزاء من جنس العمل.
(4) – (ومنها): بيان فضل الله تعالى، وعظيم كرمه على عباده حيث يجزيهم بضُعْفَي ما عملوا، {واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد (21)].
(5) – (ومنها):
قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية:
ومن المواضع ما لا يصلح فيها إلاّ هذا اللفظ كما في قوله ذكرته في نفسي فإنّه لو قال ذكرته فيّ لم يكن من الكلام المعروف بخلاف ذكرته في نفسي وأيضًا ففي هذا من الدلالة على عدم الجهر ما ليس في غيره
وقال مرة:
وهذا الحديث نصٌ صريح في إبطال مذهبهم وأمّا الكلابية والأشعرية فإنّهم لا ينكرون أن يقوم بذاته ذكر هو الكلام النفساني لكن لا يجوز عندهم التفريق بين الإعلان والإسرار فإنّ المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية ولا يكون منه شيء في نفس الربّ وشيء من الملائكة عندهم أكثر ما يقوله بعضهم أنّه قد يسمع الملائكة ما يسمعهم إيّاه فيكون التخصيص في خلق الإدراك للملائكة والحديث نصٌ في الفرق بين ذكره في نفسه وبين ذكره في الملأ بفرق يرجع إلى نفسه لا إلى خلق إدراك الملائكة فالحديث نص في إبطال قول هؤلاء أيضًا والحديث مستفيض في الصحيح وله طرق منها في الصحيح حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول
الله لا يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم
(6) – وقال في الفتوى الحموية:
وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال: «يقول الله عز وجل: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي».
وقال لا: «كتب كتابًا بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي».
وقال: «سبحان الله رضى نفسه»، وقال في محاجة آدم لموسى: «أنت
الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه؟».
فقد صح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفسًا، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر الله به عن نفسه ويكون ذلك مبنيًا على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وراجع مجموع الفتاوى (9) / (292)
(7) -[قال الألباني]:
قلت: اشتهر عند المتأخرين من علماء الكلام – خلافًا للسلف – تأويل هذه
الصفات المذكورة في هذا الحديث من (النفس) و (التقرب) و … وما ذلك إلا لضيق عطنهم، وكثرة تأثرهم بشبهات المعتزلة وأمثالهم من أهل الأهواء والبدع فلا يكاد أحدهم يَطُرقُ سَمعه هذه الصفات إلا كان السابق إلى قلوبهم أنها كصفات المخلوقات، فيقعون في التشبيه، ثم يفرون منه إلى التأويل ابتغاء التنزيه بزعمهم، ولو أنهم تَلقَّوها حين سماعها مستحضرين قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ» لما ركنوا إلى التأويل، ولآمنوا بحقائقها على ما يليق به تعالى، شأنهم في ذلك شأنهم في إيمانهم بصفتي السمع والبصر وغيرهما من صفاته، مع تنزيهه عن مشابهته للحوادث، لو فعلوا ذلك هنا لاستراحوا وأراحوا، ولنجوا. موسوعة الألباني في العقيدة.
وسيأتي البحث في أخر البحث
حول إثبات الهرولة كصفة أو عدم الإثبات
(8) – ورد الحديث بلفظ (6641) – (لا يَذْكُرُنِي عَبْدِي فِي نَفْسِهِ، إلا ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ مِن مَلائِكَتِي، ولا يَذْكُرُنِي فِي مَلأٍ، إلا ذَكَرْتُهُ فِي الرَّفِيقِ الأعْلى). وحكم عليه الألباني بأنه منكر. راجع السلسلة الضعيفة (6641)
(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في تفضيل الملائكة على البشر، وعكسه:
قال ابن بطال: هذا الحديث نصّ في أن الملائكة أفضل من بني آدم، وهو مذهب جمهور أهل العلم، وعلى ذلك شواهد من القرآن، مثل: {إلّا أنْ
تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ} [الأعراف (20)]، والخالد أفضل من الفاني، فالملائكة أفضل من بني آدم.
وتُعُقّب بأن المعروف عن جمهور أهل السُّنَّة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس، والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة: الفلاسفة، ثم المعتزلة، وقليل من أهل السُّنَّة، من أهل التصوف، وبعض أهل الظاهر،
فمنهم من فاضل بين الجنسين، فقالوا: حقيقة الملَك أفضل من حقيقة الإنسان؛ لأنها نورانية، وخيّرة، ولطيفة، مع سعة العلم، والقوّة، وصفاء الجوهر، وهذا لا يستلزم تفضيل كلّ فرد على كل فرد؛ لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة،
ومنهم من خصّ الخلاف بصالحي البشر والملائكة، ومنهم من خصه بالأنبياء، ثم منهم من فضّل الملائكة على غير الأنبياء، ومنهم من فضّلهم على الأنبياء أيضًا إلا على نبيّنا محمد لا.
ومن أدلة تفضيل النبيّ على الملَك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له، حتى قال إبليس: {أرَأيْتَكَ هَذا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء (62)].
ومنها: قوله تعالى: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص (75)]؛ لِما فيه من الإشارة إلى العناية به، ولم يثبت ذلك للملائكة.
ومنها: قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلى
العالَمِينَ ((33))} [آل عمران (33)].
ومنها: قوله تعالى: {وسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأرْضِ} [الجاثية (13)]،
فدخل في عمومه الملائكة، والمسخَّر له أفضل من المسخَّر، ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة، وطاعة البشر غالبًا مع المجاهدة للنفس؛ لِما طُبعت عليه من الشهوة، والحرص، والهوى، والغضب، فكانت عبادتهم أشقّ، وأيضًا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم، وطاعة البشر بالنصّ تارةً، وبالاجتهاد تارةً، والاستنباط تارةً، فكانت أشقّ، ولأن الملائكة سَلِمت من وسوسة الشياطين، وإلقاء الشُّبَه، والإغواء الجائزة على البشر، ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت، والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام، فلا يَسْلَم منهم مِن إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب، وحركة الأفلاك إلا الثابت على دينه، ولا يتم ذلك إلا بمشقة شديدة، ومجاهدات كثيرة.
وأما أدلة الآخرين: فقد قيل: إن حديث الباب أقوى ما استُدِلّ به لذلك؛ للتصريح بقوله فيه: «في ملأ خير منهم»، والمراد بهم: الملائكة، حتى قال بعض الغلاة في ذلك: وكم من ذاكر لله في ملأ، فيهم محمد لا ذكرهم الله في ملأ خير منهم.
وأجاب بعض أهل السُّنَّة بأن الخبر المذكور ليس نصًّا، ولا صريحًا في المراد، بل يطرقه احتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر: الأنبياء، والشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم، فلم ينحصر ذلك في الملائكة.
وأجاب آخر، وهو أقوى من الأول: بأن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معًا، فالجانب الذي فيه ربّ العزة خيرٌ من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب، فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع.
قال الحافظ: وهذا الجواب ظهر لي، وظننت أنه مبتكَر، ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين ابن الزملكانيّ في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى، فقال: فإنما صار الذكر في الملأ الثاني خيرًا من الذكر في الأوّل؛ لأن الله هو الذاكر فيهم، والملأ الذين يذكرون، والله فيهم، أفضل من الملأ الذين يذكرون، وليس الله فيهم. …. ثم ذكر ابن حجر أدلة من فضل الملائكة ورد عليها
انتهى [«الفتح» (17) / (356) – (360)، كتاب «التوحيد» رقم ((7405))].
قال الأتيوبي عفا الله عنه: هذه المسألة هكذا اختلف المتأخرون فيها، وما كان ينبغي لهم ذلك؛ لأنها ليست من المسائل التي كُلّفنا بها، وإلا لأنزل الله تعالى بيان حكمها صريحًا، أو بيّنها النبيّ -صلي الله عليه وسلم- بيانًا شافيًا، فهي مما لا يعني
المكلّفين عِلمه، و «من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»؛ إذ فيه إضاعة للوقت، وشَغْلٌ له عما هو أهمّ.
قال الشيخ ابن أبي العزّ -رحمه الله- في شرح العقيدة الطحاويّة بعدما ذكر الخلاف: والأدلّة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدلّ على الفضل، لا على الأفضليّة، ولا نزاع في ذلك.
قال: وللشيخ تاج الدين الفزاريّ مصنّف سمّاه: «الإشارة في البشارة» في تفضيل البشر على الملك، قال في آخره: اعلم أن هذه المسألة من بِدَع علم الكلام التي لم يتكلّم فيها الصدر الأول من الأمّة، ولا مَن بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقّف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلّق بها من الأمور الدينيّة كبير من المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنّفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكلّ متكلّم فيها من علماء الظاهر بعلمه لم يَخْلُ كلامه عن ضَعف واضطراب. انتهى [«شرح العقيدة الطحاويّة» (2) / (700)، بنسخة ترتيب الشيخ خالد فوزي].
والحاصل: أن الأسلم أن نعتقد أن الله -سبحانه وتعالى- فضّل الملائكة، وفضّل خيار بني آدم، وأما التفضيل بين الجنسين، فَنكِلُ علمه إلى الله تعالى، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6784)] ((2676)) – حَدَّثنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطامَ العَيْشِيُّ، حَدَّثنا يَزِيدُ -يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ – حَدَّثَنا رَوْحُ بْنُ القاسِمِ، عَنِ العَلاءِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَةَ، فَمَرَّ عَلى جَبَلٍ، يُقالُ لَهُ: جُمْدانُ، فَقالَ: «سِيرُوا، هَذا جُمْدانُ، سَبَقَ المُفَرِّدُونَ»، قالُو ا: وما المُفَرِّدُونَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: «الذاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، والذّاكِراتُ».
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- أنه (قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- يَسِيرُ في طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلى جَبَلِ، يُقالُ لَهُ: جُمْدانُ) قال ابن الأثير -رحمه الله-: هو بضم الجيم، وسكون الميَم، في آخره نون: جبل على ليلة من المدينة، مَرّ عليه رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فقال: «سيروا، هذا جُمْدان». [«النهاية في غريب الأثر» (1) / (292)].
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: «سبق المفردون إلخ»: وإنما ذكر النبيّ -صلي الله عليه وسلم- هذا القول عقيب قوله: «هذا جُمْدان»؛ لأن جُمْدان جبل منفرد بنفسه هنالك، ليس بحذائه جبل مثله، فكأنه تفرّد هناك، فذكّره بهؤلاء المفرّدين، والله أعلم.
وهؤلاء القوم سبقوا في الدنيا إلى الأحوال السنية، وفي الآخرة إلى المنازل العلية. انتهى [«المفهم» (7) / (9)].
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: وروى موسى بن عُبيدة، عن أبي عبد الله
القَرّاظ، عن معاذ بن جبل، قال: … الذين يُسْتَهْتَرون بذكر الله»، خرّجه جعفر الفريانيّ [موسى بن عُبيدة ضعيف، ورواه أيضًا الطبرانيّ في «الكبير» (20) / (326)، وذكره الهيثميّ في «المجمع» (10) / (75) وقال: فيه موسى بن عُبيدة، وهو ضعيف].
ورواه بعضهم، فقال فيه: «الذين أُهْتِرُوا في ذكر الله»، وفسّر ابن قتيبة الهَتْر بالسقط في الكلام، قال: والمراد من هذا الحديث: مَن عُمِّر، وخَرِف في ذكر الله وطاعته، قال: والمراد بالمفردين على هذه الرواية: من انفرد بالعمر عن القَرْن الذي كان فيه، وأما على الرواية الأُولى، فالمراد بالمفردين: المتخلّون من الناس بذكر الله تعالى، كذا قال، ويحْتَمِل، وهو الأظهر أن المراد بالانفراد على الروايتين: الانفراد بهذا العمل، وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسيّ، إما عن القرن، أو عن المخالطة، والله أعلم. انتهى [«جامع العلوم والحكم» (2) / (511) – (512)]، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف -رحمه الله-.
تنبيه: لفظ (اهتروا في ذكر الله) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3651) من طريق يحيى بن أبي كثير عن ابن يعقوب سمعت أبا هريرة مرفوعا وفيه (يهترون في ذكر الله) ورجح البخاري هذا السند خلافا لمن رواه عن يحيى بْن أبي كثير عن أبي هريرة. … ولم يذكر البخاري في ابن يعقوب جرحا ولا تعديلا. … وترجم لعبدالرحمن بن يعقوب مولى الحرقة الثقة ترجمه مستقلة. … وقد صرح البيهقي في روايته للحديث في شعب الإيمان أنه عبدالرحمن بن يعقوب نقله الألباني في الصحيحة. وكذلك صرح بذلك الحاكم في المستدرك (1874)
ورواه أحمد 2/ 323 فقال (8290) حدثنا أبوعامر حدثنا علي – يعني ابن المبارك- عن يحيى – يعني ابن أبي كثير- عن ابن يعقوب قال سمعت أبا هريرة …. الحديث وفيه الذين يُهْتَرُون في ذكر الله.
قال الإمام البخاري في التاريخ:
(3651) – ابن يَعقُوب.
قاله يَحيى بن مُوسى: أخبرنا أبو عامر العَقَدِيُّ، حدَّثنا عليُّ بْنَ المُبارك، عَنْ يَحيى بْنِ أبي كَثِير، عَنِ ابْنِ يَعقُوب، قالَ: سَمِعتُ أبا هُرَيرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: سَبَقَ المُفرِدُونَ، قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، ومَنِ المُفرِدُونَ؟ قالَ: الَّذِينَ يُهتَرُونَ فِي ذِكرِ اللهِ ..
قالَ يَحيى: عَنْ مُحَمد بْن بِشر العَبديِّ، عَنْ عَمرو بْن راشد، عَنْ يَحيى بْنِ أبي كَثِير، عَنْ أبي هُرَيرَةَ، عَنِ النَّبيِّ لا … نَحوَهُ.
“وقاَلَ: يَضَعُ الذِّكرُ عَنهُم أثقالهُم، فَيَأتُونَ يَومَ القِيامَةِ خِفافًا.
والأول أصح.
ورَواهُ يَزِيد بْنِ زُرَيع، عَنْ رَوح بْنِ القاسِمِ، عَنِ العَلاَء بْنِ عَبد الرَّحمَن بْنِ يَعقُوب، عَنْ أبي هُرَيرَةَ، عَنِ النَّبيِّ لا.
وقال في التاريخ الكبير:
(1158) – عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْقُوبَ مَوْلى جُهَيْنَةَ مَدِينِيٌّ، سَمِعَ أبا سَعِيدٍ وأبا هُرَيْرَةَ، رَوى عَنْهُ ابْنُهُ العَلاءُ، قالَ ابْنُ يَعِيشَ: حُرْقَةٌ مِن هَمدانَ، قالَ إسْحاقُ حَدَّثَنا يَزِيدُ أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلى الحُرْقَةِ قالَ أبُو هريرة رضى الله عَنْهُ قالَ النَّبِيُّ لا: أزْرَةُ المُؤْمِنِ إلى أنْصافِ ساقَيْهِ، وعَنِ النضر
وقال البيهقي في شعب الإيمان:
(503) – أخْبَرَنا أبُو عَبْدِ اللهِ الحافِظُ، أخْبَرَنا أبُو الحُسَيْنِ أحْمَدُ بْنُ عُثْمانَ المُقْرِئُ بِبَغْدادَ، حدثنا العَبّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، حدثنا أبُو عامِرٍ العَقَدِيُّ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ المُبارَكِ، عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلى الحُرَقَةِ قالَ: سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «سَبَقَ المُفَرِّدُونَ». قُلْتُ: وما المُفَرِّدُونَ؟ قالَ: «الَّذِينَ يُهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللهِ»
وبين الألباني أن ما وقع في شرح النووي على مسلم بلفظ اهتزوا إنما معناه فرحوا وسروا فليس فيه دليل للصوفية على الرقص. راجع الصحيحة (1317)
الفوائد:
(1) – (منها): بيان فضل ذكر الله-سبحانة وتعالي- ذكرًا كثيرًا.
(2) – (ومنها): بيان معنى «المفردين»، و «هم الذاكرون الله تعالى والذاكرات»، وفي رواية: «هم الذين أُهتِروا في ذكر الله»، وفي رواية: «هم المستَهْتَرون في ذكر الله، يضع عنهم الذكر أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خِفافًا».
(3) – (ومنها): ما قاله القرطبي -رحمه الله-: هذه الكثرة المذكورة في هذا الحديث هي المأمور بها في قوله تعالى: {ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ((41))} [الأحزاب (41)]، وهذا المساق يدلّ على أن هذا الذكر الكثير واجب، ولذلك لم يكتف بالأمر، حتى أكّده بالمصدر، ولم يكتف بالمصدر، حتى أكّده بالصفة، ومثل هذا لا يكون في المندوب، وظهر أنه ذكرٌ كثير واجبٌ، ولا يقول أحد بوجوب الذكر باللسان دائمًا، وعلى كل حال، كما هو ظاهر هذا الأمر، فتعيّن أن يكون ذكر القلب، كما قاله مجاهد، وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: ليس شيء من الفرائض إلا وله حدّ ينتهي إليه، إلا ذكر الله، ولم يقل هو ولا غيره -فيما علمناه-: إن ذكر الله باللسان يجب على الدوام، فلزم أنه ذكر القلب.
وإذا ثبت ذلك، فذكر القلب لله تعالى، إما على جهة الإيمان، والتصديق بوجوده، وصفات كماله، وأسمائه، فهذا يجب استدامته بالقلب ذكرًا، أو حكمًا، في حال الغفلة؛ لأنّه لا يُنفكّ عنه إلا بنقيضه، وهو الكفر، والذكر الذي ليس راجعًا إلى الإيمان: هو ذكر الله عند الأخذ في الأفعال، فيجب على كل مكلّف أن لا يُقْدِم على فعل من الأفعال، ولا قول من الأقوال، ظاهرًا، ولا باطنًا، إلا بعد أن يعرف حكم الله في ذلك الفعل؛ لإمكان أن يكون الشرع مَنَعه منه، فإمّا على طريق الاجتهاد، إن كان مجتهدًا، أو على طريق التقليد، إن كان غير مجتهد، ولا ينفكّ المكلّف عن فعل، أو قول دائمًا، فذِكر الله تعالى يجب عليه دائمًا، ولذلك قال بعض السلف: اذكرِ اللهَ عند همّك إذا هممت، وحُكمك إذا حكمت، وقَسْمك إذا قسمت. انتهى [«المفهم» (7) / (9) – (10)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): في ذكر ما ورد من الترغيب في الإكثار من ذكر الله عز وجل-:
(اعلم): أن الحافظ ابن رجب -رحمه الله- جمع في كتابه الممتع «جامع العلوم والحكم» ما ورد في ذلك أحببت إيراده هنا؛ لكونه مجموعًا احتوى على فوائد كثيرة، وعوائد غزيرة.
قال رحمه الله تعالى عند شرح حديث عبد الله بن بُسْر قال: أتى النبيّ -صلي الله عليه وسلم- رجل، فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كَثُرت علينا، فبابٌ نتمسك به جامعٌ؟ قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله»، خرّجه الإمام أحمد بهذا اللفظ، وخرّجه الترمذيّ، وابن ماجه، وابن حبان في «صحيحه» بمعناه، وقال
الترمذيّ: حسنٌ غريبٌ، وكلهم خرّجه من رواية عمرو بن قيس الكنديّ، عن عبد الله بن بُسْر، وخرّجه ابن حبان في «صحيحه» وغيره من حديث معاذ بن جبل، قال: آخر ما فارقت عليه رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أن قلت له: أيّ الأعمال خير، وأقرب إلى الله؟ قال: «أن تموت، ولسانك رطب من ذكر الله».
قال: قد أمر الله -سبحانة وتعالي- المؤمنين بأن يذكروه ذكرًا كثيرًا، ومدح مَن ذكره
كذلك … وذكر الآيات السابقة
وخرّج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه، عن النبيّ -صلي الله عليه وسلم- أن رجلًا سأله، فقال: أيّ الجهاد أعظم أجرًا يا رسول الله؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا»
ثم قال: أيّ الصائمين أعظم؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا»، ثم ذكر لنا الصلاة،
والزكاة، والحج، والصدقة كُلًّا، ورسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول: «أكثرهم لله ذكرًا»،
فقال أبو بكر: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: «أجل» [ضعيف، في سنده ابن لهيعة، وزبّان بن فائد ضعيفان].
وقد خزجه ابن المبارك، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه.
وفي «صحيح مسلم» عن عائشة، قالت: كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يذكر الله على كل أحيانه.
وقال أبو الدرداء: الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله، يدخل أحدهم الجنة، وهو يضحك، وقيل له: إن رجلًا أعتق مائة نسمة، فقال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله.
وقال معاذ: لأنْ أذكر الله من بُكرة إلى الليل أحبّ إليّ من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ} [آل عمران (102)]
قال: أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكْفَر، خرّجه الحاكم
مرفوعًا، وصححه، والمشهور وقْفه.
وقال زيد بن أسلم: قال موسى: يا رب قد أنعمت عليّ كثيرًا، فدُلّني على أن أشكرك كثيرًا، قال: اذكرني كثيرًا، فإن ذكرتني كثيرًا، فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني.
وقال الحسن: أحبُّ عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرًا، وأتقاهم قلبًا.
كان بلال -رضي الله عنه- كلما عذبه المًشركون في الرمضاء على التوحيد، يقول: أحدٌ أحدٌ، فإذا قالوا له: قل: واللات والعزى، قال: لا أُحسنه.
وهذه كانت حال الرسل والصدّيقين، كما قال تعالى: {ياأيُّها الَّذِينَ
آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال (45)].
وقال تعالى: {فَإذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ}
[البقرة (200)]، وقال تعالى: {فاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِكُمْ} [النساء:
(103)]، وقال تعالى: {فَإذا اطْمَانَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء (103)] وقال تعالى
في ذكر صلاة الجمعة: {فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ
اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ((10))} [الجمعة (10)].
فأمَر بالجمع بين الابتغاء من فضله وكثرة ذكره،
قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في صلاة، وإن كان في السوق، وإن حرّك به شفته فهو أفضل. انتهى مختصرا
[فصل]: في وظائف الذكر الموظَّفة في اليوم والليلة:
وذكر هنا ابن رجب الصلوات الخمس والنوافل والأذكار وغيرها من العبادات التي تدل على العبد مرتبط بربه في كل حين فليراجع
(المسألة الثانية): إثبات صفة النفس لله عز وجل من الكتاب والسنة
قال صاحب الاقتصاد في الاعتقاد رحمه الله تعالى: [ومما نطق بها القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النفس.
قال الله عز وجل إخبارًا عن نبيه عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ} [المائدة: (116)]،
والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن المراد بالنفس ذاته عز وجل المتصفة بالصفات، وليس المراد بها ذاتًا مجردة عن الصفات، أو أنها صفة لله تعالى، بل المراد بنفس الله ذاته المتصفة بالصفات لا المجردة عن الصفات كما قاله بعضهم.
هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من المحققين.
وأما القول بأن النفس من الصفات، كما ذهب إليه الدارمي رحمه الله تعالى فغير صحيح، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في الجزء التاسع من صفحة ((292)) ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، كما يقال: رأيت زيدًا نفسه وعينه، وقد قال تعالى: {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ} [المائدة: (116)]، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: (54)]، وقال تعالى: {ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: (28)].
وفي الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لأم المؤمنين: (لقد قلت بعدك أربع كلمات، لو وزن بما قلتيه لوزنته: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته).
وفي الحديث الإلهي عن النبي لا، يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).
فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء هو: (الله) أي: ذاته عز وجل المتصفة بصفاته، وليس المراد بها: ذاتًا منفكة عن الصفات، ولا هي صفة للذات، كما ذهب إلى ذلك المؤلف.
وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ.
والصواب: أن النفس هي الله وهي نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون خلافًا لما ذهب إليه المؤلف هنا فالصفات من العلم، والرحمة، والقدرة، والحب، والبغض إلخ، كلها صفات للنفس التي هي ذات الله.
وحديث أبي هريرة السابق رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد في المسند، وهو حديث قدسي: أي أن معناه من الله ولفظه من الرسول لا، قال: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرًا اقتربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إلى ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) وفيه إثبات أن لله نفسًا، والشاهد قوله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). [شرح الاقتصاد في الاعتقاد – الراجحي].
—–