: 2675 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إماراتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(49) – كتاب: التَّوْبَةِ
(1) – بابٌ: فِي الحَضِّ عَلى التَّوْبَةِ، والفَرَحِ بِها.
(1) – ((2675)) حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أنَّهُ قالَ: «قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، واللهِ لَلَّهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أحَدِكُمْ يَجِدُ ضالَّتَهُ بِالفَلاةِ، ومَن تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، ومَن تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإذا أقْبَلَ إلَيَّ يَمْشِي، أقْبَلْتُ إلَيْهِ أُهَرْوِلُ».
(2) – ((2675)) حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ القَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنا المُغِيرَةُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحِزامِيَّ، عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أحَدِكُمْ، مِن أحَدِكُمْ بِضالَّتِهِ، إذا وجَدَها»
(2) – وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، حَدَّثَنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِمَعْناهُ.
(3) – ((2744)) حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وإسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ – واللَّفْظُ لِعُثْمانَ، قالَ إسْحاقُ: أخْبَرَنا، وقالَ عُثْمانُ: حَدَّثَنا – جَرِيرٌ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عُمارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الحارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، قالَ: دَخَلْتُ عَلى عَبْدِ اللهِ أعُودُهُ وهُوَ مَرِيضٌ، فَحَدَّثَنا بِحَدِيثَيْنِ: حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ، وحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ، مِن رَجُلٍ فِي أرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ راحِلَتُهُ، عَلَيْها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَنامَ فاسْتَيْقَظَ وقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَها حَتّى أدْرَكَهُ العَطَشُ، ثُمَّ قالَ: أرْجِعُ إلى مَكانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأنامُ حَتّى أمُوتَ، فَوَضَعَ رَاسَهُ عَلى ساعِدِهِ لِيَمُوتَ، فاسْتَيْقَظَ وعِنْدَهُ راحِلَتُهُ وعَلَيْها زادُهُ وطَعامُهُ وشَرابُهُ، فاللهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ العَبْدِ المُؤْمِنِ مِن هَذا بِراحِلَتِهِ وزادِهِ»،
(3) – وحَدَّثَناهُ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ آدَمَ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنِ الأعْمَشِ، بِهَذا الإسْنادِ، وقالَ: «مِن رَجُلٍ بِداوِيَّةٍ مِنَ الأرْضِ»
(4) – ((2744)) وحَدَّثَنِي إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، حَدَّثَنا الأعْمَشُ، حَدَّثَنا عُمارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، قالَ: سَمِعْتُ الحارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ، قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ حَدِيثَيْنِ: أحَدُهُما عَنْ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – والآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ» بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ.
(5) – ((2745)) حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ العَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا أبُو يُونُسَ، عَنْ سِماكٍ، قالَ: خَطَبَ النُّعْمانُ بْنُ بَشِيرٍ، فَقالَ: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن رَجُلٍ حَمَلَ زادَهُ ومَزادَهُ عَلى بَعِيرٍ»، ثُمَّ سارَ حَتّى كانَ بِفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَأدْرَكَتْهُ القائِلَةُ، فَنَزَلَ، فَقالَ: تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، وانْسَلَّ بَعِيرُهُ، فاسْتَيْقَظَ فَسَعى شَرَفًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعى شَرَفًا ثانِيًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعى شَرَفًا ثالِثًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَأقْبَلَ حَتّى أتى مَكانَهُ الَّذِي قالَ فِيهِ، فَبَيْنَما هُوَ قاعِدٌ إذْ جاءَهُ بَعِيرُهُ يَمْشِي، حَتّى وضَعَ خِطامَهُ فِي يَدِهِ، فَلَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ العَبْدِ، مِن هَذا حِينَ وجَدَ بَعِيرَهُ عَلى حالِهِ قالَ سِماكٌ: فَزَعَمَ الشَّعْبِيُّ، أنَّ النُّعْمانَ رَفَعَ هَذا الحَدِيثَ إلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وأمّا أنا فَلَمْ أسْمَعْهُ.
(6) – ((2746)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، وجَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ – قالَ جَعْفَرٌ: حَدَّثَنا، وقالَ يَحْيى: أخْبَرَنا – عُبَيْدُ اللهِ بْنُ إيادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ إيادٍ، عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ تَقُولُونَ بِفَرَحِ رَجُلٍ انْفَلَتَتْ مِنهُ راحِلَتُهُ، تَجُرُّ زِمامَها بِأرْضٍ قَفْرٍ لَيْسَ بِها طَعامٌ ولا شَرابٌ، وعَلَيْها لَهُ طَعامٌ وشَرابٌ، فَطَلَبَها حَتّى شَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ فَتَعَلَّقَ زِمامُها، فَوَجَدَها مُتَعَلِّقَةً بِهِ؟» قُلْنا: شَدِيدًا، يا رَسُولَ اللهِ فَقالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «أما واللهِ لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، مِنَ الرَّجُلِ بِراحِلَتِهِ»، قالَ جَعْفَرٌ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ إيادٍ، عَنْ أبِيهِ.
(7) – ((2747)) حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبّاحِ، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قالا: حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ، حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنا أنَسُ بْنُ مالِكٍ وهُوَ عَمُّهُ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ، مِن أحَدِكُمْ كانَ عَلى راحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ، فانْفَلَتَتْ مِنهُ وعَلَيْها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَأيِسَ مِنها، فَأتى شَجَرَةً، فاضْطَجَعَ فِي ظِلِّها، قَدْ أيِسَ مِن راحِلَتِهِ، فَبَيْنا هُوَ كَذَلِكَ إذا هُوَ بِها، قائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطامِها، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وأنا رَبُّكَ، أخْطَأ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ»
(8) – ((2747)) حَدَّثَنا هَدّابُ بْنُ خالِدٍ، حَدَّثَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا قَتادَةُ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، قالَ: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أحَدِكُمْ إذا اسْتَيْقَظَ عَلى بَعِيرِهِ، قَدْ أضَلَّهُ بِأرْضِ فَلاةٍ».
(8) – وحَدَّثَنِيهِ أحْمَدُ الدّارِمِيُّ، حَدَّثَنا حَبّانُ، حَدَّثَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا قَتادَةُ، حَدَّثَنا أنَسُ بْنُ مالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِمِثْلِهِ.
==========
التمهيد:
((52)) (كِتابُ: التَّوْبَة)
مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): في معنى التوبة لغةً وشرعًا:
(اعلم): أن التوبة في اللغة مصدر تاب، قال الفيّوميّ – رَحِمَهُ اللهُ -: تابَ من ذنبه يَتُوبُ تَوْبًا، وتَوْبَةً، ومَتابًا: أقلع، وقيل: التَّوْبَةُ هي التَّوْبُ، ولكن الهاء لتأنيث المصدر، وقيل: التَّوْبَةُ واحدة، كالضربة، فهو تائِبٌ، وتابَ اللهُ عليه: غَفَر له، وأنقذهُ من المعاصي، فهو تَوّابٌ، مبالغةٌ، واسْتَتابَهُ: سأله أن يتوب. انتهى [«المصباح المنير» (1) / (78)].
وقال الجوهريّ – رَحِمَهُ اللهُ -: التوبة: الرجوع من الذَّنْب. وفي الحديث: «النَدمُ توبَةٌ»، وكذلك التَوْبُ مثله. وقال الأخفش: التَوْبُ جمع توبَةٍ. وتاب إلى الله توبةً ومتابًا. وقد تاب الله عليه: وفَّقَهُ لها. واستتابَهُ: سأله أن يتوب. انتهى [«الصحاح في اللغة» (1) / (66)].
وقال الراغب الأصبهانيّ – رَحِمَهُ اللهُ – للهُ: التوب: ترك الذَّنْب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذِر: لَمْ أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسات، وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة.
والتوبة في الشرع:
تَرْك الذَّنْب؛ لِقُبحه، والندم على ما فَرَط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة. وتاب إلى الله، فذكر «إلى الله» يقتضي الإنابة. نحو: {فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ} [البقرة (54)]، {وتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّهَ المُؤْمِنُونَ} [النور (31)] {أفَلا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ} [المائدة (74)]،، وتاب الله عليه؛ أي: قبل توبته، ومنه: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ} [التوبة (117)]، {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة (118)]، {فَتابَ عَلَيْكُمْ وعَفا عَنْكُمْ} [البقرة (187)].
والتائب يقال لباذل التوبة، ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده.
والتواب: العبد الكثير التوبة، وذلك بتركه كلّ وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركًا لجميعه، وقد يقال ذلك لله تعالى لكثرة قبوله توبة العباد حالًا بعد حال. وقوله: {ومَن تابَ وعَمِلَ صالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ مَتابًا ((71))} [الفرقان (71)]؛ أي: التوبة التامة، وهو الجمع بين ترك القبيح، وتحري الجميل. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتابِ} [الرعد (30)]، {إنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة (37)]. انتهى [«مفردات ألفاظ القرآن» للراغب الأصبهاني (1) / (149)].
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في معنى التوبة:
قال النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -: أصل التوبة في اللغة: الرجوع، يقال: تاب، وثاب – بالمثلثة – وآب، بمعنى رجع، والمراد بالتوبة هنا: الرجوع عن الذَّنْب، وقد سبق في «كتاب الإيمان» أن لها ثلاثة أركان: الإقلاع، والندم على فعل تلك المعصية، والعزم على أنّ لا يعود إليها أبدًا، فإن كانت المعصية لحقّ آدميّ، فلها ركن رابع، وهو التحلّل من صاحب ذلك الحقّ، وأصلها الندم، وهو ركنها الأعظم، واتفقوا على أنّ التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة، أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام، وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السُّنَّة بالشرع، وعند المعتزلة بالعقل، ولا يجب على الله قبولها إذا وُجدت بشروطها عقلًا عند أهل السُّنَّة، لكنه يقبلها كرمًا وفضلًا، وعرفنا قبولها بالشرع، والإجماع، خلافًا لهم، وإذا تاب من ذنب، ثم ذكره، هل يجب تجديد الندم؟ فيه خلاف لأصحابنا، وغيرهم، من أهل السُّنَّة، قال ابن الأنباريّ: يجب، وقال إمام الحرمين: لا يجب، وتصح التوبة من ذنب، وإن كان مصرًّا على ذنب آخر، وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها، ثم عاود ذلك الذَّنْب كُتب عليه ذلك الذَّنْب الثاني، ولم تبطل توبته، هذا مذهب أهل السُّنَّة في المسألتين، وخالفت المعتزلة فيهما، قال أصحابنا: ولو تكررت التوبة، ومعاودة الذَّنْب صحت، ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها، وما سواها من أنواع التوبة، هل قبولها مقطوع به، أم مظنون فيه؟ خلاف لأهل السُّنَّة، واختار إمام الحرمين أنه مظنون، وهو الأصح، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -[«شرح النوويّ» (17) / (59) – (60)].
وقال القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ – في [«المفهم» (7) / (69) – (71)]: اختلفت عبارات المشايخ فيها، فقائل يقول: إنها الندم، وآخر يقول: إنها العزم على أنّ لا يعود، وآخر يقول: الإقلاع عن الذَّنْب، ومنهم من يَجمع بين الأمور الثلاثة، وهو أكملها، غير أنه مع ما فيه غير مانع، ولا جامع.
أما أوَّلًا: فلأنه قد يجمع الثلاثة، ولا يكون تائبًا شرعًا، إذ قد يفعل ذلك شُحًّا على ماله، أو لئلا يُعَيِّره الناس به، ولا تصح التوبة الشرعية إلّا بالإخلاص، ومن تَرَك الذَّنْب لغير الله لا يكون تائبًا اتفاقًا.
وأما ثانيًا: فلأنه يخرج منه مَن زنى مثلًا، ثم جُبّ ذكره، فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضي، وأما العزم على عدم العود، فلا يتصور منه، قال: وبهذا اغترّ من قال: إن الندم يكفي في حدّ التوبة، وليس كما قال؛ لأنه لو نَدِم، ولم يُقلع، وعزم على العود لَمْ يكن تائبًا اتفاقًا، قال: وقال بعض المحققين: هي اختيار تَرْك ذنب سبق حقيقةً، أو تقديرًا؛ لأجل الله تعالى.
قال: وهذا أسدّ العبارات، وأجمعها؛ لأنّ التائب لا يكون تاركًا للذنب الذي فرغ؛ لأنه غير متمكن من عينه، لا تركًا، ولا فعلًا، وإنما هو متمكن من مثله حقيقةً، وكذا من لَمْ يقع منه ذنب إنما يصح منه اتقاء ما يمكن أن يقع، لا تَرْك مثل ما وقع، فيكون متقيًا، لا تائبًا.
قال: والباعث على هذا تنبيه إلهيّ لمن أراد سعادته لِقُبح الذَّنْب وضرره؛ لأنه سمّ مهلك، يُفَوِّت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا، وعن تقريبه في الآخرة.
قال: ومن تفقّد نفسه وجدها مشحونة بهذا السمّ، فإذا وُفِّق انبعث منه خوف هجوم الهلاك عليه، فيبادر بطلب ما يدفع به عن نفسه ضرر ذلك، فحينئذ ينبعث منه الندم على ما سبق، والعزم على ترك العود عليه.
قال: ثم اعلم أن التوبة إما من الكفر، وإما من الذَّنْب، فتوبة الكافر مقبولة قطعًا، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق، ومعنى القبول: الخلاص من ضرر الذنوب، حتى يرجع كمن لَمْ يعمل، ثم توبة العاصي إما من حقّ الله تعالى، وإما من حق غيره، فحقّ الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لَمْ يكتف الشرع فيه بالترك فقط، بل أضاف إليه القضاء، أو الكفّارة، وحقّ غير الله تعالى يحتاج إلى إيصالها لمستحقها، وإلا لَمْ يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذَّنْب، لكن من لَمْ يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك، فعفو الله تعالى مأمول، فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات، والله أعلم.
وحكى غير القرطبيّ عن عبد الله بن المبارك في شروط التوبة زيادة، فقال: الندم، والعزم على عدم العود، وردّ المظلمة، وأداء ما ضيَّع من الفرائض، وأن يَعْمِد إلى البدن الذي رباه بالسحت، فيذيبه بالهمّ والحزن، حتى ينشأ له لحم طيب، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة، كما أذاقها لذة المعصية.
قال الحافظ: وبعض هذه الأشياء مكملات، وقد تمسك من فَسَّر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد، وابن ماجة، وغيرهما، من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -، رفعه: «الندم توبة» [حديث صحيح، صححه ابن حبّان، والحاكم، وقال: على شرط الشيخين].
ولا حجة فيه؛ لأنّ المعنى الحضّ عليه، وأنه الركن الأعظم في التوبة، لا أنه التوبة نفسها.
ومما يؤيد اشتراط كونها لله تعالى وجود الندم على الفعل، ولا يستلزم الإقلاع عن أصل تلك المعصية، كمن قتل ولده مثلًا، وندم لكونه ولده، وكمن بذل مالًا في معصية، ثم ندم على نقص ذلك المال مما عنده.
واحتجّ مَن شَرَط في صحة التوبة من حقوق العباد أن يردّ تلك المظلمة بأن من غصب أمَة، فزنى بها، لا تصح توبته إلّا بردّها لمالكها، وأن من قتل نفسًا عمدًا لا تصح توبته إلّا بتمكين نفسه من وليّ الدم؛ ليقتصّ، أو يعفو.
قال الحافظ: وهذا من جهة التوبة من الغصب، ومن حق المقتول واضح، ولكن يمكن أن تصح التوبة من العود إلى الزنا، وإن استمرت الأمَة في يده، ومن العود إلى القتل، وإن لَمْ يمكّن من نفسه.
قال: وزاد بعض من أدركناه في شروط التوبة أمورًا أخري، منها: أن يفارق موضع المعصية، وأن لا يصل في آخر عمره إلى الغرغرة، وأن لا تطلع الشمس من مغربها، وأن لا يعود إلى ذلك الذَّنْب، فإن عاد إليه بان أن توبته باطلة.
قال: والأول مستحب، والثاني، والثالث داخلان في حدّ التكليف، والرابع الأخير عُزي للقاضي أبي بكر الباقلاني، ويردّه حديث أبي سعيد – رضي الله عنه -، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغويهم، ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله – عَزَّوَجَلَّ -: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم، ما استغفروني»، حديث صحيح، رواه أحمد، وغيره، وحديث أبي بكر – رضي الله عنه – مرفوعًا: «ما أصرّ من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرّة»، رواه أبو داود، وفيه ضَعف.
وقد قال الحليميّ في تفسير التواب في الأسماء الحسنى: إنه العائد على عبده بفضل رحمته، كلما رجع لطاعته، وندم على معصيته، فلا يَحبِط عنه ما قدمه من خير، ولا يحرمه ما وعد به الطائع من الإحسان.
وقال الخطابيّ: التواب: الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذَّنْب وتاب. انتهى من «الفتح» بتصرّف [«الفتح» (14) / (288) – (290)]، والله تعالى أعلم.
قال ابن عثيمين: في تفسير سورة النساء:
قال الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما (18)} [النساء: 18]
من فوائد الآية الكريمة:
1 – أن التوبة تنقطع باحتضار المرء؛ أي: بحضور الموت، لقوله: {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}.
2 – أن المحتضر لا عبرة بقوله؛ لأنه غير كامل الشروط.
3 – أنه يشترط لصحة التوبة أن تكون في الزمن الذي تقبل فيه التوبة، وذلك قبل حضور الموت، وحينئذ يحسن بنا أن نأتي على شروط التوبة، وقد تتبعناها فوجدناها خمسة شروط:
الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل، بأن لا يكون الحامل له على التوبة إلا محبة الله والقرب منه، والخوف من عذابه، لا لينال شيئا من الدنيا، أو يدفع عنه مذمة في الدنيا، إنما يحمله على التوبة الإخلاص لله عز وجل.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، فإن تاب بلا ندم؛ فتوبته: إما فاسدة؛ لعدم تمام شروطها، أو ناقصة جدا
الشرط الثالث: الإقلاع عن الذنب، فإن لم يقلع فتوبته كاذبة، وهو إلى الإستهزاء بالله أقرب منه إلى تعظيم الله، إذ كيف يقول: إنه تائب من شرب الخمر، وهو مدمن عليه؟! وكيف يقول: إنه تائب من الربا وهو مصر عليه؟! فإن هذا استهزاء بالله عز وجل …
الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى ما تاب منه …
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل من التائب، فان كانت في وقت لا تقبل منه – كما لو حضر الأجل، أو طلعت الشمس من مغربها – فإن التوبة لا تقبل، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تنقطع التوبة حتى تنقطع الهجرة، ولا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها” (1)، فإذا تاب الإنسان عند طلوع الشمس من مغربها، أو عند حلول الأجل؛ لم تقبل منه …
«تفسير العثيمين: النساء» (1/ 141)
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في الأشياء التي يُتاب منها، وكيف التوبة منها:
قال أبو عبد الله القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: قال العلماء: الذَّنْب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقًّا لله تعالى، أو للآدميين، فإن كان حقًّا لله تعالى، كترك صلاة، فإن التوبة لا تصحّ منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها، وهكذا إن كان ترك صوم، أو تفريطًا في الزكاة.
وإن كان ذلك قَتْل نفس بغير حقّ فأن يُمَكِّن من القصاص إن كان عليه، وكان مطلوبًا به، وإن كان قذفًا يوجب الحدّ، فيبذل ظهره للجَلْد، إن كان مطلوبًا به، فإن عُفي عنه كفاه الندم، والعزم على ترك العود بالإخلاص، وكذلك إن عُفي عنه في القتل بمال، فعليه أن يؤديه إن كان واجدًا له، قال الله تعالى: {فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ} [البقرة (178)]، وإن كان ذلك حدًّا من حدود الله كائنًا ما كان، فإنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه، وقد نصّ الله تعالى على سقوط الحدّ عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم، وفي ذلك دليل على أنّها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم، وكذلك الشُّرّاب، والسُّرّاق، والزُّناة، إذا أصلحوا، وتابوا، وعُرف ذلك منهم، ثم رُفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدّهم، وإن رُفعوا إليه، فقالوا: تبنا، لَمْ يُتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غُلبوا، هذا مذهب الشافعيّ.
فإن كان الذَّنْب من مظالم العباد، فلا تصح التوبة منه إلّا بردّه إلى صاحبه، والخروج عنه – عينًا كان، أو غيره – إن كان قادرًا عليه، فإن لَمْ يكن قادرًا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت، وأسرعه.
وإن كان أضرّ بواحد من المسلمين، وذلك الواحد لا يشعر به، أو لا يدري من أين أُتي؟
فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه، ويستغفر له، فإذا عفا عنه، فقد سقط الذَّنْب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه – عرفه بعينه، أو لَمْ يعرفه – فذلك صحيح، وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزّعه بغير حقّ، أو غمّه، أو لطمه، أو صَفَعه بغير حقّ، أو ضربه بسوط، فآلمه، ثم جاءه مستعفيًا نادمًا على ما كان منه، عازمًا على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه، فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذَّنْب، وهكذا إن كان شانَهُ بشتم لا حدّ فيه. انتهى كلام القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ -[«الجامع لأحكام القرآن» (18) / (199) – (200)]، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى التوبة النصوح:
قال الراغب – رَحِمَهُ اللهُ -: النصح: تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، قال تعالى: {لَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي ونَصَحْتُ لَكُمْ ولَكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ ((79))} [الأعراف (79)]، وقال: {وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ ((21))} [الأعراف (21)]، {ولا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُمْ} [هود (34)] وهو من قولهم: نصحت له الودّ؛ أي: أخلصته، وناصحُ العسلِ: خالصه، أو من قولهم: نصحت الجلد: خِطته، والناصح: الخياط، والنِّصاح: الخيط، وقوله: {تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم (8)]، فمن أحد هذين؛ إما الإخلاص؛ وإما الإحكام، ويقال: نَصوح، ونَصاح نحو ذَهُوب وذهاب، قال: أحْبَبْتُ حُبّا خالَطَتْهُ نَصاحَةٌ انتهى كلام الراغب – رَحِمَهُ اللهُ -[«مفردات ألفاظ القرآن» (2) / (432)].
وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر – رَحِمَهُ اللهُ -: اختَلَفت عبارة العلماء، وأرباب
القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولًا:
فقيل: هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، وروي عن عمر، وابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل – رضي الله عنهم -، ورَفَعه معاذ إلى النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وقال قتادة: النصوح: الصادقة الناصحة. وقيل: الخالصة، يقال: نصح؛ أي: أخلص له القول. وقال الحسن: النصوح: أن يُبغض الذَّنْب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره. وقيل: هي التي لا يثق بقبولها، ويكون على وجلَّ منها. وقيل: هي التي لا يحتاج معها إلى توبة. وقال الكلبيّ: التوبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذَّنْب، والاطمئنان على أنّه لا يعود. وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة، ولا تُقبل ما لَمْ يكن فيها ثلاثة شروط: خوف أن لا تُقبَل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات.
وقال سعيد بن المسيِّب: توبة تنصحون بها أنفسكم. وقال القرظيّ: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، وإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيّئ الخلان. وقال سفيان الثوريّ: علامة التوبة النصوح أربعة: القلّة، والعلّة، والذلّة، والغربة. وقال الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذَّنْب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه. ونحوه عن ابن السماك: أن تنصب الذَّنْب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك، وتستعدّ لمنتظرك. وقال أبو بكر الوراق: هو أن تَضِيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك؛ كالثلاثة الذين خُلِّفوا. وقال أبو بكر الواسطيّ: هي توبة لا لِفَقد عِوَض؛ لأنّ من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه، ثم تاب طلبًا لرفاهيتها في الآخرة، فتوبته على حفظ نفسه، لا لله. وقال أبو بكر الدقاق المصريّ: التوبة النصوح هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. وقال رُويم: هو أن تكون لله وجهًا بلا قفًا، كما كنت له عند المعصية قَفًا بلا وجه. وقال ذو النون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قلّة الكلام، وقلّة الطعام، وقلّة المنام. وقال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة، لينجو من آفاتها بالسلامة.
وقال سريّ السقطيّ: لا تصلح التوبة النصوح إلّا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأنّ من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذَّنْب، فلا يذكره أبدًا؛ لأنّ من صحت توبته صار محبًّا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله. وقال ذو الأذنين [هذا لقب لأنس بن مالك – رضي الله عنه -، لقبه به النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، قيل: هو من جملة مزاحه – صلى الله عليه وسلم -،
ولكن نسبة هذا التفسير له بعيد، فليحرّر]: هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح. وقال فتح الموصليّ:
علامتها ثلاث: مخالفة الهوي، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ. وقال سهل بن عبد الله التستريّ: هي التوبة لأهل السُّنَّة والجماعة؛ لأنّ المبتدع لا توبة له، بدليل قوله – صلى الله عليه وسلم -: «حجب الله على كلّ صاحب بدعة أن يتوب». وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشرّ أن يتوب من الذَّنْب، ثم يعود فيه.
وأصل التوبة النصوح من الخلوص، يقال: هذا عسل ناصح: إذا خلص من الشمع. وقيل: هي مأخوذة من النصاحة، وهي الخياطة، وفي أخذها منها وجهان:
أحدهما: لأنَّها توبة قد أحكمت طاعته، وأوثقتها، كما يُحكم الخياط الثوب بخياطته، ويوثقه.
والثاني: لأنَّها قد جمعت بينه وبين أولياء الله، وألصقته بهم، كما يجمع الخياط الثوب، ويُلصق بعضه ببعض.
انتهى كلام القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهَ -[«الجامع لأحكام القرآن» (18) / (197) – (199)].
قال الحافظ – رَحِمَهُ اللهُ – بعد ذكر بعض كلام القرطبيّ المذكور ما نصّه: وجميع
ذلك من المكملات، لا من شرائط الصحة. انتهى [«الفتح» (14) / (291)]، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): الإمام العلّامة ابن قيّم الجوزيّة – رَحِمَهُ اللهُ – كتب في كتابه «مدارج السالكين» بحثًا نفيسًا في التوبة:
قال – رَحِمَهُ اللهُ -: وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أنّ لا يعاود الذَّنْب، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي. وإن كان في حق آدمي فلا بد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها.
وإلا فالتوبة في كلام الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم – كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قُرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه، فإذا أفردت تضمنت الأمرين، وهي كلفظة التقوى التي عند إفرادها تقتضي فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وعند اقترانها بفعل المأمور تقتضي الانتهاء عن المحظور، فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال: {وتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور (31)] فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحًا إلّا مَن فَعَل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقال تعالى: {ومَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} [الحجرات (11)] وتارك المأمور ظالم كما إن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه بالتوبة الجامعة الأمرين،
قال: وإنما سمي التائب تائبًا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم، فإذًا التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله مَن فَعَل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإذًا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقدمات.
قال ابن القيم – مشيرًا إلى الفرق بين الاستغفار والتوبة -:
وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد ومقرون بالتوبة؛ فالمفرد كقول نوح – عَلَيْهِ السَّلامْ – لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غَفّارًا ((10)) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا ((11))} [نوح (10)، (11)]، وكقول صالح – عَلَيْهِ السَّلامْ – لقومه: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل (46)]، وكقوله تعالى: {واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل (20)]، وقوله: {وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ((33))} [الأنفال (33)]،
والمقرون كقوله تعالى: {وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود (3)]، وقول صالح لقومه: {فاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود (61)]، وقول شعيب: {واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ودُودٌ ((90))} [هود (90)]
فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها مع تضمّنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذَّنْب، وإزالة أثره، ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس إنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له، ومن لا يغفر له، ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية شر الذَّنْب، ومنه المِغْفَر لِما يقي الرأس من الأذى، والستر لازم لهذا المعني،
وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرًا، ولا القبع ونحوه مع ستره، فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية، وهذا الاستغفار الذي يمنع العذاب في قوله: {وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال (33)] فإن الله لا يعذب مستغفرًا.
وأما من أصر على الذَّنْب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب، فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضي، والتوبة والرجوع طلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان، ذنب قد مضى فالاستغفار طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة العزم على أنّ لا يفعله، والرجوع إلى الله يتناول النوعين، رجوع إليه ليقيه شر ما مضي، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة من ارتكب طريقًا تؤديه إلى هلاكه، ولا توصله إلى المقصود فهو مأمور أن يوليها ظهره، ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، وتوصله إلى مقصوده، وفيها فلاحه، فها هنا أمران لا بد منهما، مفارقة شيء، والرجوع إلى غيره، فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة، وعند إفرادهما يتناولان الأمرين، ولهذا والله أعلم جاء الأمر بهما مرتبًا بقوله: {واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} [هود (90)]
فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل، وأيضًا فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذَّنْب، والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم.
وقيل في الفرق بينهما: إن التوبة لا تكون إلّا لنفسه، أي: لِما اجترحته نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره فقط، كما قال تعالى: {والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولِإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ} [الحشر (10)]، وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة: {ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا فاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا} [غافر (7)] وإن التوبة هي الندم على ما فرّط في الماضي، والعزم على الامتناع منه في المستقبل، والاستغفار طلب الغفران لِما صدر منه، ولا يجب فيه العزم في المستقبل هذا.
وقد ذكر صاحب «المنازل» أسرارًا للتوبة بسط ابن القيم الكلام في شرح السر الأول وتوضيحه أحببنا إيراده لغاية حسنه ولطافته.
قال صاحب «المنازل»: ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء:
أولها: أن ينظر الجناية والقضية، فيعرف مراد الله فيها إذ خلّاك وإتيانها، فإن الله – عَزَّوَجَلَّ -، إنما خلى العبد والذنب لمعنيين: أحدهما: أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته.
الثاني: أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته.
قال ابن القيم في شرح هذا الكلام (1) / (111): اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة، فله نظر إلى خمسه أمور:
أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه، فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب.
الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد، فيحدث له ذلك خوفًا وخشية تحْمله على التوبة.
الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها أو تقديرها عليه وإنه لو شاء لعصمه منها وحال بينه وبينها، فيحدث له ذلك أنواعًا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومعرفته وعفوه وحلمه وكرمه، وتوجب هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد بأسمائه وصفاته، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود، وأن كلّ اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه متعلق به لا بد منه، وهذا المشهد يُطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم.
فمن بعضها: ما ذكره الشيخ – يعني: صاحب «المنازل» – أن يعرف العبد عزته في قضائه، وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء، وإنه لكمال عزه حَكَم على العبد وقضى عليه بأن قلّب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه، وجعله مريدًا شائيًا لِما شاء منه العزيز الحكيم. وهذا من كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك، وأما جعلك مريدًا شائيًا لِما شاءه منك، ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة، فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكّن شهوده منه كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له؛ لأنه يصير مع الله لا مع نفسه، ومن معرفة عزته في قضائه: أن يعرف أنه مدبَّر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له، إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد، ومن شهود عزته أيضًا في قضائه: أن يشهد أن الكمال والحمد والغنى التام والعزة كلها لله، وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة، وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله وكماله وعبده وغناه وكذلك بالعكس، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة.
ومنها: أن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية، فإذا شهد جريان الحكم عليه وجعله فاعلًا لِما هو غير مختار له ولا مريد بإرادته ومشيئته واختياره، فكأنه مختار غير مختار، مريد غير مريد، شاءٍ غير شاء، فهذا يشهد عزة الله وعظمته وكمال قدرته.
ومنها: أن يعرف بِرّه سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحَذَروه، وهذا من كمال بره ومن أسمائه البر، وهذا البر من سيده به نَفْع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقًا بل في هذه الحال. فماذا فَقَدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية، ولكل وقت ومقام عبودية تليق به.
ومنها: شهود حِلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة، ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفته سبحانه باسمه الحليم ومشاهدة صفة الحلم، والتعبد بهذا الاسم والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله، وأصلح للعبد وأنفع من فَوْتها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار لا بالقدر، فإنه مخاصمة ومحاجة كما تقدم، فيقبل عذره بكرمه وجُوده فيوجب له ذلك اشتغالًا بذكره وشكره ومحبةٍ أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك، فإن محبتك لمن شَكَرك على إحسانك وجازاك به ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شُكر الإحسان وحده والواقع شاهد بذلك، فعبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا لون آخر؛ يعني: أن عبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا الذي ذكره أخيرًا من معرفة العبد كرم ربه إلخ لون آخر.
ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله، وإلا فلو أخذ بالذنب لأخذ يمحض حقه، وكان عادلًا محمودًا، وإنما عفوه بفضله، لا باستحقاقك، فيوجب لك ذلك أيضًا شكرًا له ومحبة وإنابة إليه وفرحًا وابتهاجًا به ومعرفة له باسمه الغفار، ومشاهدة لهذه الصفة، وتعبدًا بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة.
ومنها: أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه، فإن النفس فيها مضاهاة الربوبية لو قدرت لقالت كقول فرعون ولكنه قَدَر فاظهر، وغيره عجز فأضمر، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية، وهو أربع مراتب:
المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى لله، فأهل السماوات والأرض محتاجون إليه فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم، وكل أهل السماوات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدًا.
المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته، وهو سر العبودية.
المرتبة الثالثة: ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات لمحبوبه وعلى قدر محبته له يكون ذله، فالمحبة أُسست على الذلة للمحبوب
المرتبة الرابعة: ذلّ المعصية والجناية،
فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم، إذ يذل له خوفًا وخشية ومحبة وإنابة وإطاعة وفقرًا وفاقة، وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم، وهذا المعنى أجلّ من أن يسمى بالفقر بل هو في العبودية وسرّها وحصوله أنفع شيء للعبد، وأحب شيء إلى الله فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة، وأسباب العبودية والطاعة، وأسباب المحبة والإنابة، وأسباب المعصية والمخالفة؛ إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وُجُوده، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل وإلا فردّ الباب وارجع بسلام.
ومنها: إن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبَّباتها فاسم السميع البصير يقتضي مسموعًا ومبصرًا، واسم الرزاق يقتضي مرزوقًا، واسم الرحيم يقتضي مرحومًا، وكذلك اسم الغفور والعفو والتواب والحليم يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات؛ إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة، وإحسان وجُود فلا بد من ظهور آثارها في العالم، وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: «لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم»، وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدومًا فلمن يرزق الرزاق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سُدَّت، والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة، وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام؟
فسبحان من تعرَّف إلى خَلْقه بجميع أنواع التعرفات ودلّهم عليه بأنواع الدلالات وفتح لهم إليه جميع الطرقات، ثم نصب إليه الصراط المستقيم وعرّفهم به ودلّهم عليه: {لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيى مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال (42)].
ومنها: السر الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليه الإشارة، لولا ينادى عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، فشهد به قلوب خواص العباد، فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة وشوقًا إليه ولهجًا بذكره وشهودًا لِبِرّه ولطفه وكرمه وإحسانه ومطالعة لسر العبودية وإشرافًا على حقيقة الإلهية، وهو ما ثبت في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّه أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللَّهُمَّ أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»، هذا لفظ مسلم.
وفي الحديث من قواعد العلم: إن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد، ونحوه لا يؤاخذ به ولهذا لم يكن هذا كافرًا بقوله: أنت عبدي وأنا ربك، قال: والقصد أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله، والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله، وقد كان الأولى بنا طَيّ الكلام فيه إلى ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم، ونهاية أقدامهم من المعرفة، وضَعف عقولهم عن احتماله غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفًا بها «فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرَّمه وفضّله وشرّفه وخلقه لنفسه، وخلق كل شيءٍ له وخصه من معرفته ومحبته وقُرْبه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخَّر له في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظَعْنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كُتُبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده ونفخ من روحه وأسجد له ملائكته وعلَّمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة، فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين، واتخذه عدوًا له فالمؤمنون من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرة الله على العالمين، فإنه خَلَقه ليتمّ نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله، ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تُنال إلا بمحبته، ولا تُنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبًا له وأعدّ له أفضل ما يُعِدّه محب غنى قادر جواد لمحبوبه، إذ أقدم عليه وعهد إليه عهدًا يقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يبعده منه ويسخطه عليه، ويسقطه من عينه، وللمحبوب عدو هو أبغض خلق خلقه إليه قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده واتخذ منهم حزبًا ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أعداء له مع هذا
العدو، يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه، ويفتنون أولياءه
ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدالة لهم، ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه، فعرّفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما لهم، وحذّره موالاتهم والدخول في زمرتهم، والكون معهم، وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
وأنه: سبقت رحمته غضبه وحِلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته، وإنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة، وإنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وأن الفضل كله بيده والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلًا ويغمرهم إحسانًا وجُودًا، أو يتم عليهم نعمه، ويضاعف لديهم مننه ويتعرف، إليهم بأوصافه وأسماءه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلاءه فهو الجواد لذاته، وجُود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبدًا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وجُود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدورد في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه، أو يأخذ أحوج ما هو إليه وأعظم ما كان قدرًا، فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟ ففَرَحُ المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فَرَح هذا بما يأخذه، ولله المثل الأعلى؛ إذ هذا شأن الجواد من الخلق، فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه، وجُوده فوق ما يحصل لمن يعطيه، ولكن الآخذ
غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وابتهاجه وسروره.
هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه باستخلاف مثله، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنّهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحدٍ فسألوه فأعطى كلًا ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته، فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضّله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره، ولم يهمله ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه، ووالى عدوه وظاهره عليه، وتحيز إليه وقطع طريق نِعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبِرّه وعطائه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان، فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذ انقلب آبقًا شاردًا رادًّا لكرامته، مائلًا عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله؛ إذ عرضت له فكرة فتذكر بِرّ سيده وعطفه وجُوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعَرْضه عليه، وأنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه، على أسوأ الأحوال، ففر
إلى سيده من بلد عدوه وجَدّ في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه، وتوسد ثرى أعتابه، متذللًا متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده، ويسترحمه، ويستعطفه، ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له وأعطاه قياده، وألقى إليه زمامه، فعلم سيده ما في قلبه، فعاد مكان الغضب عليه رضًا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً وبالمؤاخذة حلمًا، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله، وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فكيف يكون فرح سيده به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعًا واختيارًا، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه، وفَتَح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق عن سيده، فرأى في بعض السكك بابًا قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا فوجد الباب مُرتجًا فتوسده، ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحالة لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة لك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت، فتأمل قول الأم: لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة والشفقة، وتأمل قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها»، وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به.
فهذه نبذة يسيرة تُطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها، ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة، وتَدِقّ [من باب ضرب، كما في» المصباح «] عن إدراكه الأذهان، وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل، فإن كلًّا منهما منزل ذميم، ومرتع على عِلّاته وخيم، ولا يحلّ لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه؛ لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق، فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه، والمحروم كل المحروم من عُرض عليه الغنى والخير فلم يقبله، فلا مانع لِما أعطى الله ولا معطي لِما منع، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هذا ملخّص ما أردت نقله من كلام الإمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله وإن أردت الزيادة في تحقيقاته في هذا الباب، فراجع كتابه الممتع: «مدارج السالكين في شرح منازل السائرين»، تُشْفَ، وتُكْفَ [» مدارج السالكين في شرح منازل السائرين” (1) / (119) – (126)]، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال ابن عثيمين:
حسن الظن بأن يوجد من الإنسان عمل يقتضي حسن الظن بالله عز وجل، فمثلا إذا صليت أحسن الظن بالله بأن الله يقبلها منك، إذا صمت فكذلك، إذا تصدقت فكذلك، إذا عملت عملا صالحا أحسن الظن بأن الله تعالى يقبل منك، أما أن تحسن الظن بالله مع مبارزتك له بالعصيان فهذا دأب العاجزين الذين ليس عندهم رأس مال يرجعون إليه.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) – رضي الله عنه -؛ أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم » لَلَهُ أشَدُّ فَرَحًا)
قال النوويّ: قال العلماء: فَرَحُ الله تعالى هو رضاه. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (60) – (61)].
وتعقّب المباركفوريّ رحمه الله ما ذكره النوويّ من التأويل، وقد أجاد في
ذلك، فقال: لا حاجة إلى التأويل، ومذهب السلف في أمثال هذا الحديث
إمرارها على ظواهرها، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تأويل. انتهى [«تحفة الأحوذي» (9) / (366)].
وقد أجاد الشيخ البرّاك في رده على الحافظ لمّا أكثر النقول في «الفتح» من أقوال المؤوّلين، حيث قال عند قوله: وإطلاق الفرح على الله مجاز عن رضاه … إلخ ما نصّه: كلّ ما ذكره الحافظ، ونقله في هذا الموضع جارٍ على مذهب النفاة، وأهل التأويل منهم، وفي هذا كلّه صرف لفظ «الفرح» عن ظاهره، فمن المعلوم أن الفرح غير الرضا، والرضا غير المحبَّة، وكلّها غير الإرادة، فإن الفرح ضدّه الحزن، والرضا ضدّه السخط، والمحبّة ضدّها البغض، وكلّ هذه الصفات التي وردت في النصوص إضافتها إلى الله تعالى تنفيها الأشاعرة، وأهل التأويل منهم يفسّرونها بالإرادة، وأهل السُّنَّة والجماعة لا يفرّقون بين الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، بل يُثبتونها لله عز وجل على ما يليق به سبحانه وتعالى من غير تكييف، ولا تمثيل، ويردّون على الأشاعرة بأن حكم الصفات واحد، والتفريق بينها تفريق بين المتماثلات، ولهذا يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فرّوا منه فيما نفوه. انتهى كلام البرّاك حفظه الله [تعليق الشيخ البرّاك على هامش «الفتح» (14) / (292)، «كتاب الدعوات» رقم ((6309))]،
قوله (بِتَوْبَةِ أحَدِكُمْ مِن أحَدِكُمْ)؛ أي: من فرح أحدكم (بِضالَّتِهِ)؛ أي: بوجدان ضالته بعد فَقْدها، قال في «النهاية»: الضالة هي الضائعة من كل ما يُقتنى، من الحيوان وغيره، يقال: ضلّ الشيءُ: إذا ضاع، وهي في الأصل فاعلة، ثم اتُّسِع فيها، فصارت من الصفات الغالبة، وتقع على الذكر والأنثى، والاثنين والجمع. انتهى.
(إذا وجَدَها»)؛ أي: الضالّة، و «إذا» ظرف لفرح المقدّر؛ أي: من فرح أحدكم وقت وجدان ضالّته، والله تعالى أعلم.
——–
[(6929)] ( … ) وقوله: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه» قال ابن أبي جمرة [«بهجة النفوس» (4) / (200)]:،
أن المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف، والمراقبة يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيئ.
: وفي الحديث ضَرْب المثل بما يمكن، والإرشاد إلى الحضّ على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان، وفيه أن الفجور أمر قلبيّ كالإيمان، وفيه دليل لأهل السُّنَّة؛ لأنهم لا يُكَفِّرون بالذنوب، وردّ على الخوارج وغيرهم، ممن يكفِّر بالذنوب.
وقال ابن بطال: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيرًا كان، أو كبيرًا؛ لأن الله تعالى قد يعذّب على القليل، فإنه لا يُسأل عما يفعل سبحانه وتعالى. انتهى من «الفتح» [» الفتح” (14) / (292) – (293)].
وقال النوويّ رحمه الله: أما «دوية» فاتفق العلماء على أنها بفتح الدال، وتشديد الواو والياء جميعًا، وذَكَر مسلم في الرواية التي بعد هذه، رواية أبي بكر بن أبي شيبة: «أرض داويّة» بزيادة ألف، وهي بتشديد الياء أيضًا، وكلاهما صحيح، قال أهل اللغة: الدوية: الأرض القفر، والفلاة الخالية، قال الخليل: هي المفازة، قالوا: ويقال: دَوّيّة، وداويّة، فأما الدوية فمنسوب إلى الدوّ، بتشديد الواو، وهي البريّة التي لا نبات بها، وأما الداويّة فهي على إبدال إحدى الواوين ألفًا، كما قيل: في النسب إلى طيء طائيّ.
وأما المهلكة فهي بفتح الميم، وبفتح اللام، وكسرها، وهي موضع خوف الهلاك، ويقال لها: مفازة، قيل: إنه من قولهم: فَوَّز الرجلُ: إذا هلك، وقيل: على سبيل التفاؤل بفوزه، ونجاته منها، كما يقال للّديغ: سَلِيمٌ. انتهى [«شرح مسلم» (17) / (61)].
[تنبيه]: سيأتي في حديث البراء – رضي الله عنه – الآتي ذِكر لسبب لهذا الحديث المرفوع، وأوله: «كيف تقولون بفرح رجل، انفلتت منه راحلته، تَجُرّ زمامها بأرض قفر، ليس بها طعام، ولا شراب، وعليها له طعام، وشراب، فطلبها حتى شقّ عليه، ثم مرت بجذل شجرة، فتعلق زمامها، فوجدها متعلقة به؟»
قلنا: شديدًا يا رسول الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أما واللهِ لَلَّهُ أشدّ فرحًا بتوبة عبده من الرجل براحلته»، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي هريرة مختصرًا: «ذكروا الفرح عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والرجل يجد ضالته، فقال: لَلَّه أشدّ فرحًا … » الحديث [«الفتح» (14) / (296)]، والله تعالى أعلم.
وحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: أشار البخاريّ رحمه الله في «صحيحه» إلى أنه وقع اختلاف في إسناد هذا الحديث، حيث قال بعد إخراج الحديث من طريق أبي شهاب عن الأعمش ما نصّه: تابعه أبو عوانة، وجرير عن الأعمش، وقال أبو أسامة: حدّثنا الأعمش، حدّثنا عمارة، سمعت الحارث، وقال شعبة، وأبو مسلم عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، وقال أبو معاوية: حدّثنا الأعمش، عن عمارة، عن الأسود، عن عبد الله، وعن إبراهيم التيميّ عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله. انتهى كلام البخاريّ رحمه الله [«صحيح البخاريّ» (5) / (2324)].
وقد بحث الحافظ رحمه الله في [» الفتح” (14) / (295) – (296)] ووضح مقصود البخاري، وهو بحث نفيسٌ جدًّا. قال الإتيوبي عفا الله عنه: وحاصله: أن الحديث صحيح بطرقه المختلفة، وأن غرض البخاريّ بذكر الاختلاف معلّقًا الإشارة إلى أن هذا الاختلاف لا يقدح في صحّة الحديث، وهو غرض مهمّ جدًّا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6931)] ( … ) – (وحَدَّثَناهُ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ آدَمَ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنِ الأعْمَشِ، بِهَذا الإسْنادِ، وقالَ: «مِن رَجُلٍ بِداوِيَّةٍ مِنَ الأرْضِ»).
وقوله: (من رجل بِداوَّيةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النُّسخ: «من رجل» بالنون، وهو الصواب، قال القاضي: ووقع في بعضها: «مَرّ رجل» بالراء، وهو تصحيف؛ لأن مقصود مسلم أن يبيّن الخلاف في «دويّة»، و «داوية»، وأما لفظة «مِن» فمتفق عليها في الروايتين، ولا معنى للراء هنا. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (62)].
، (وانْسَلَّ بَعِيرُهُ)؛ أي: ذهب في خُفية، (فاسْتَيْقَظَ، فَسَعى)؛ أي: هرول في مشيه (شَرَفًا) قال القاضي عياض: يَحْتَمِل أنه أراد بالشرف هنا الطّلَقَ [«الطلق» بفتحتين: جريُ الفرس لا تحتبس إلى الغاية. انتهى. «المصباح» (2) / (376) – (377)]،
قال: ويَحْتَمِل أن المراد هنا: الشّرَف من الأرض؛ لينظر منه هل يراها؟ قال: وهذا أظهر. انتهى [«شرح النوويّ» (17) / (62)].
وحديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[(6934)] ((2746)) – شرح حديث البراء:
(عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ) – رضي الله عنهما -؛
والمعنى: أنه أراد أن يحمد الله تعالى بما أنعم عليه من ردّ راحلته إليه، وقصد أن يقول: اللَّهُمَّ أنت ربي، وأنا عبدك، فسبق لسانه عن نهج الصواب. انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: في الكلام على فوائد حديث النيّة: فيه حجة على بعض المالكية من أنهم لا يُدينون من سَبَق لسانه إلى كلمة الكفر إذا ادّعى ذلك، وخالفهم الجمهور، ويدلّ لذلك ما رواه مسلم في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك في قصة الرجل الذي ضلت راحلته، ثم وجدها، فقال من شدّة الفرح: اللَّهُمَّ أنت عبدي، وأنا ربك، قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «أخطأ من شدة الفرح».
قال: والذي جرت به عادة الحكام الحُذّاق منهم اعتبار حال الواقع منه ذلك، فان تكرر منه ذلك، وعُرف منه وقوعه في المخالفات، وقلّة المبالاة بأمر الدِّين، لم يلتفتوا إلى دعواه، ومن وقع منه ذلك فلتة، وعُرف بالصيانة والتحفظ قَبِلوا قوله في ذلك، وهو توسط حسنٌ. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هذا التوسّط الذي حسّنه وليّ الدين رحمه الله هو الذي أراه؛ والله تعالى أعلم.
وحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
* فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان خوف المؤمن من الله تعالى، حيث إنه إذا أذنب ذنبًا، رآه كأنه تحت جبل يخاف سقوطه عليه، وهذه ثمرة قوّة الإيمان.
(2) – (ومنها): بيان تهاون الفاجر، وعدم خوفه من الله تعالى، وأنه إذا أذنب لم يستشعر بقلبه عظمة الذنب، وخطر عاقبته، وأن الله تعالى يُمهله، ولا يُهمله، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي موسى الأشعريّ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، قال: ثم قرأ: {وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهِيَ ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ ((102))} [هود (102)] «.
(3) – (ومنها): إثبات صفة الفرح لله تعالى على ما يليق بجلاله، بلا تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل.
قال ابن العثيمين أيضا:
في هذا الحديث من الفوائد: دليل على فرح الله – عز وجل- بالتوبة من عبده إذا تاب إليه، وأنه يحب ذلك- سبحانه وتعالي- محبة عظيمة، ولكن لا لأجل حاجته إلي أعمالنا وتوبتنا؛ فالله غني عنا، ولكن لمحبته سبحانه للكرم؛ فإنه يحب – سبحانه وتعالي- يفرح، ويغضب، ويكره ويحب، لكن هذه الصفات ليست كصفاتنا؛ لأن الله يقول: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: من الآية11) بل هو فرح يليق بعظمته وجلاله ولا يشبه فرح المخلوقين.
(شرح رياض الصالحين لابن عثيمين)
(4) – (ومنها): بيان جواز سفر المرء وحده؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لا يضرب المثل إلا بما يجوز، ويُحْمَل حديث النهي على الكراهة؛ جمعًا، ويظهر من هذا الحديث حكمة النهي، قاله ابن أبي جمرة رحمه الله.
وتعقّبه الحافظ، فقال: والحصر الأول مردود، وهذه القصة تؤكد النهي.
(5) – (ومنها): أن فيه تسميةَ المفازة التي ليس فيها ما يؤكل، ولا يشرب مهلكةً.
(6) – (ومنها): أن من رَكَن إلى ما سوى الله يُقطع به أحوج ما يكون إليه؛ لأن الرجل ما نام في الفلاة وحده إلا ركونًا إلى ما معه من الزاد، فلما اعتمد على ذلك خانه، لولا أن الله لَطَف به، وأعاد عليه ضالته، قال بعضهم: من سرّه أن لا يرى ما يسوؤه، فلا يتخذ شيئًا يخاف له فقدًا.
(7) – (ومنها): أن فرح البشر وغمّهم إنما هو على ما جرى به أثر الحكمة من العوائد، يؤخذ من ذلك أن حُزن المذكور إنما كان على ذهاب راحلته؛ لخوف الموت من أجل فَقْد زادِه، وفرحه بها إنما كان من أجل وجدانه ما فَقَد، مما تُنسب الحياة إليه في العادة.
(8) – (ومنها): بركة الاستسلام لأمر الله تعالى؛ لأن المذكور لمّا أيس من وجدان راحلته، استسلم للموت، فمنّ الله عليه بردّ ضالته.
(9) – (ومنها): ضَرْب المثل بما يصل إلى الأفهام، من الأمور المحسوسة، والإرشاد إلى الحضّ على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان، ذَكَر هذه الفوائد ابن جمرة رحمه الله [«بجهة النفوس» (4) / (204)]، ونَقَلها الحافظ في «الفتح» [«الفتح» (14) / (297) – (298)].
(10) – (ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: في قوله: «قال من شدة الفرح … إلخ» فيه أن ما قاله الإنسان من قبيل هذا من دَهْش، وذهول، غير مؤاخَذ به، وكذلك حكايته عنه على طريق علميّ، وفائدة شرعية، لا على الهزء والمحاكاة والعيب؛ لحكاية النبيّ – صلى الله عليه وسلم – إياه، ولو كان منكَرًا ما حكاه. انتهى [«الفتح» (14) / (297)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج].- قال ابن عثيمين: وفيه: دليل على أن الإنسان إذا أخطأ في قول من الأقوال ولو كان كفرا سبق لسانه إليه؛ فإنه لا يؤاخذ فهذا الرجل قال كلمة كفر؛ لأن قول سبق اللسان لربه: أنت عبدي وأنا ربك هذا كفر لا شك، لكن لما صدر عن خطأ من شدة الفرح _ أخطأ ولم يعرف أن يتكلم-صار غير مؤاخذ به، فإذا أخطأ الإنسان في كلمة؛ كلمة كفر؛ فإنه لا يؤاخذ بها، وكذلك غيرها من الكلمات؛ لو سب أحدا على وجه الخطأ بدون قصد، أو طلق زوجته على وجه الخطأ بدون قصد، أو أعتق عبده على وجه الخطأ بدون قصد، فكل هذا لا يترتب عليه شيء؛ لأن الإنسان لم يقصده، فهو كاللغو في اليمين، وقد قال الله تعالي: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة: من الآية225) بخلاف المستهزئ فإن المستهزئ يكفر إذا قال كلمة الكفر، ولو كان مستهزئا؛ لقول الله سبحانه: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) (التوبة: من الآية65/ 66)، فالمستهزئ قصد الكلام، وقصد
معناه؛ لكن على سبيل السخرية والهزء؛ فلذلك كان كافرا، بخلاف الإنسان الذي لم يقصده؛ فإنه لا يعتبر قوله شيئا.
وهذا من رحمة الله – عز وجل- والله الموفق
«شرح رياض الصالحين لابن عثيمين» (1/ 102)
(11) – قال الراجحي:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:)) فقوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} هو قرب ذوات الملائكة، وقرب علم الله؛ فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد؛ فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إلى بعضه من بعض؛ ولهذا قال- في تمام الآية-: {إذ يتلقى المتلقيان}، فقوله: {إذ} ظرف، فأخبر أنهم أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ما يقول، فهذا كله خبر عن الملائكة، وقوله: {فإني قريب}، وقوله ((وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) فهذا إنما جاء في الدعاء، ولم يذكر أنه قريب من العباد في كل حال، وإنما ذكر ذلك في بعض الأحوال، كما في الحديث: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) ونحو ذلك
وقوله: ((من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) فقرب الشيء من الشيء مستلزم لقرب الآخر منه؛ لكن قد يكون قرب الثاني هو اللازم من قرب الأول، ويكون منه- أيضا- قرب بنفسه.
فالأول: كمن تقرب من مكة، أو من حائط الكعبة، فكلما قرب منه قرب الآخر منه، من غير أن يكون منه فعل.
والثاني: كقرب الإنسان إلى من يتقرب هو إليه، كما في هذا الأثر الإلهي، فتقرب العبد إلى الله وتقريبه له نطقت به نصوص متعددة، مثل: قوله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب} ونحو ذلك، فهذا قرب الرب نفسه إلى عباده، وهو مثل نزوله إلى سماء الدنيا، وفي الحديث الصحيح: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟!)، فهذا القرب كله خاص في بعض الأحوال دون بعض، وليس في الكتاب والسنة- قط- قبط (0) لان قول الحلولية؛ فإنهم عمدوا إلى الخاص المقيد فجعلوه عاما مطلقا؛ كما جعل إخوانهم الاتحادية ذلك في مثل قوله: ((كنت سمعه)) وقوله ((فيأتيهم في صورة غير صورته))، و ((أن الله تعالى قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده)) وكل هذه النصوص حجة عليهم. فإذا تبين ذلك؛ فالداعي والساجد يوجه روحه إلى الله تعالى، والروح لها عروج يناسبها، فتقرب إلى الله بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب فيكون الله عز وجل منها قريبا قربا يلزم من تقربها ويكون منه قرب آخر؛ كقربه عشية عرفة وفي جوف الليل وإلى من تقرب منه شبرا تقرب منه ذراعا والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه والتقرب والرقة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت)). [مجموع الفتاوى، لابن تيمية (5/ 129 – 130)]
وفي الحديث: إثبات الهرولة لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، ولا تشبه هرولة المخلوقين، كالقول في سائر الصفات، فالهرولة صفة لله لا نعلم كيفيتها وإن كنا نعلم معناها.
وفيها: إثبات صفة المجيء، وصفة الإتيان، وصفة التلقي لمن تلقاه
«توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم» (7/ 490)
وكذلك ابن عثيمين قرر أن هذه النصوص يؤمن بها كما جاءت (شرح رياض الصالحين)