2674 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي أبوعيسى ، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
٦ – بابُ: مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أوْ سَيِّئَةً ومَن دَعا إلى هُدًى أوْ ضَلالَةٍ
قال الإمام مسلم رحمه الله:
١٥ – (١٠١٧) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ مُوسى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وأبِي الضُّحى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلالٍ العَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قالَ: جاءَ ناسٌ مِنَ الأعْرابِ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَيْهِمِ الصُّوفُ فَرَأى سُوءَ حالِهِمْ قَدْ أصابَتْهُمْ حاجَةٌ، فَحَثَّ النّاسَ عَلى الصَّدَقَةِ، فَأبْطَئُوا عَنْهُ حَتّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وجْهِهِ.
قالَ: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ جاءَ بِصُرَّةٍ مِن ورِقٍ، ثُمَّ جاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتابَعُوا حَتّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وجْهِهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِها بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ مَن عَمِلَ بِها، ولا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، ومَن سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِها بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بِها، ولا يَنْقُصُ مِن أوْزارِهِمْ شَيْءٌ»،
١٥ – حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، وأبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأبُو كُرَيْبٍ جَمِيعًا، عَنْ أبِي مُعاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَحَثَّ عَلى الصَّدَقَةِ، بِمَعْنى حَدِيثِ جَرِيرٍ،
١٥ – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا يَحْيى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أبِي إسْماعِيلَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِلالٍ العَبْسِيُّ، قالَ: قالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا يَسُنُّ عَبْدٌ سُنَّةً صالِحَةً يُعْمَلُ بِها بَعْدَهُ» ثُمَّ ذَكَرَ تَمامَ الحَدِيثِ.
١٥ – حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ القَوارِيرِيُّ، وأبُو كامِلٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ الأُمَوِيُّ، قالُوا: حَدَّثَنا أبُو عَوانَةَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ المُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ح وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ح وحَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، ح وحَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ، حَدَّثَنا أبِي، قالُوا: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ المُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذا الحَدِيثِ.
١٦ – (٢٦٧٤) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أيُّوبَ، وقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وابْنُ حُجْرٍ، قالُوا: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنِ العَلاءِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قالَ: «مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِن أُجُورِهِمْ شَيْئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِن آثامِهِمْ شَيْئًا».
==========
التمهيد:
وفي كتاب الزكاة من صحيح مسلم، بابُ: حَثِّ الإمام النّاسَ عَلى الصَّدَقَةِ إذا دَعَتِ الحاجَة إلى ذَلِكَ، جاء عن جرير رضي الله عنه بلفظ: ” قالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُول اللهِ -ﷺ- فِي صَدْرِ النَّهارِ، قالَ: فَجاءَهُ قَوْمٌ حُفاةٌ، عُراةٌ، مُجْتابِي النِّمارِ، أوِ العَباءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وجْهُ رَسُولِ اللهِ -ﷺ- لِما رَأى بِهِمْ مِنَ الفاقَةِ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَأمَرَ بِلالًا، فَأذَّنَ، وأقامَ، فَصَلّى، ثُمَّ خَطَبَ، فَقالَ: ﴿ياأيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ إلى آخر الآية ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء ١]، والآيةَ الَّتِي فِي الحَشْرِ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الحشر ١٨]، «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينارِه، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صاعِ بُرِّهِ، مِن صاعِ تَمْرِهِ، حَتّى قالَ: ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، قالَ: فَجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ بِصُرَّةٍ، كادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْها، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تتابَعَ النّاسُ، حَتَّى رَأيتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعامٍ وثيابٍ، حَتّى رَأيْتُ وجهَ رَسُول اللهِ -ﷺ- يَتَهَلَّلُ، كأنّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ-: «مَن سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أجْرُها، وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها بَعْدَهُ، مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أجُورِهِمْ شَيءٌ، ومَن سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عَلَيْهِ وِزْرُها، ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها مِن بَعْدِهِ، مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْءٌ»”.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
٦ – بابُ: مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، أوْ سَيِّئةً، ومَن دَعا إلى هُدًى، أوْ ضَلالَةٍ.
حديث : [٦٧٧٦] (١٠١٧) (١) –
(قالَ: جاءَ ناسٌ مِنَ الأعْرابِ) بفتح الهمزة: أهل البدو من العرب، الواحد أعْرابِيّ بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَة، وارتياد للكلإ، وزاد الأزهريّ، فقال:
سواء كان من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَن بِظَعْنهم، فهم أعْرابٌ، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن المدُن، والقرى العربية وغيرها، ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فصحاء، ويقال: سُمُّوا عَربًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسَمّى العَرَباتَ،
ويقال: العَرَبُ العارِبَةُ: هم الذين تكلموا بلسان يَعْرُب بن قَحْطان، وهو اللسان القديم،
والعَرَبُ المُسْتَعْرِبَةُ: هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم -عليهما
الصلاة والسلام- وهي لغات الحجاز، وما والاها، والعُرْبُ، وزانُ قُفْل لغة في العَرَب، ويُجمع العَرَبُ على أعْرُبٍ، مثلُ زَمَن وأزْمُن، وعلى عُرُبٍ بضمتين، مثل أسَد وأسُد، قاله الفيوميّ -رحمه الله- [«المصباح المنير» ٢/ ٤٠٠].
وتقدّم حديث جرير -رضي الله عنه- هذا في «كتاب الزكاة» مطوّلًا.
(إن رَجُلًا) بكسر «إنّ» لوقوعها في الابتداء، ولم يُسمَّ هذا الرجل، كما سبق في «الزكاة». (مِنَ الأنْصارِ جاءَ بِصُرَّةٍ) بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الراء: وعاء الدراهم، والدنانير، جمعها صُرَرٌ، مثل غرفة وغُرَف،
وقوله: (مِن ورِقٍ) بيان لـ «صُرّة»، و«الورق» بفتح الواو، وكسر الراء، وتسكّن للتخفيف: النُّقرة المضروبة، ومنهم يقول: النقرة مضروبة كانت، أو غير مضروبة، وقال الفارابيّ: الورق: المال من الدراهم، وُيجمع على أوراق. [ »المصباح المنير«٢/ ٦٥٥].
(السُّرُورُ فِي وجْهِهِ) ﷺ، وفي الرواية السابقة: »حتى رأيت وجه رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يتهلّل كأنه مُذْهَبَةٌ«.
وأما سبب سروره -ﷺ-، فهو الفرح بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذلِ أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله -ﷺ-، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البرّ والتقوى، فينبغي للإنسان إذا رأى شيئًا من هذا القبيل أن يفرح، ويُظهر سروره، ويكون فرحه لما ذكرناه. انتهى كلام النووي -﵀- في «شرحه»، بزيادة من «المفهم»[»شرح مسلم للنوويّ«٧/ ١٠٥، و»المفهم«للقرطبيّ ٣/ ٦٢ – ٦٣].
(»مَن سَنَ) وفي رواية عند ابن ماجة “(استن) أي: عمل بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء هذا الرجل وعمل بها، وأول ما عمل بها اقتدى به الناس”.
وقوله: (»مَن سَنَ فِي الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً)؛ أي: من أتى بطريقة مرضيّة، يُقتدى به فيها،
وهذا “يعني: أظهر السنة ونشرها وعمل بها، وليس المراد: أنه يحدث سنة من عند نفسه، ويحدث البدع في الدين، بل البدع كلها ضلالة
(ومَن سَن فِي الإسْلامِ سُنَّةً سَيئَةً)؛ أي: من فعل فعلًا قبيحًا، والسُّنَّة السيّئة هي الطريقة المذمومة، وهي التي تُبتدع بعد تمام الدين على أنها منه، وهي المَعنيّة بقوله ﷺ: «كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار»،
قال النوويّ -عافا الله عنه-: وسبب هذا الكلام في هذا الحديث، أنه قال في أوّله: »فجاء رجل بِصُرَّة، كادت كفّه تَعْجِزُ عنها، ثمّ تتابع الناس”، وكان الفضل العظيم للبادئ بهذا الخير، والفاتحِ لباب هذا الإحسان.
وفي هذا الحديث تخصيص قوله -ﷺ-: «كلّ مُحْدَثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة»، وأن المراد به المحدثات الباطلة، والبدع المذمومة، قال: والبدع خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرّمة، ومكروهة، ومباحة. انتهى كلامه.
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: كلام النوويّ هذا فيه نظرٌ من وجهين:
[الأول]: دعواه التخصيص المذكور، فإنه غير صحيح، بل قوله -ﷺ-: «كلّ محدثة بدعة إلخ» باق على عمومه، فإن المراد بالبدعة هي البدعة الشرعيّة، وهي التي ابتُدِعت بعد إكمال الله تعالى الدينَ؛ بقوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ الآية [المائدة ٣]، فلا يَشْهَد لها كتابٌ، ولا سنّة، كما بيّن ذلك النبيّ -ﷺ- فيما أخرجه الشيخان، بقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه» الحديث، فقد بيّن أن إحداث ما دلّ عليه الكتاب والسنّة ليس من البدعة شرعًا، وإن كان يسمّى بها لغة.
[والثاني]: أن تقسيمه لمطلق البدعة إلى خمسة أقسام غير صحيح، فإن هذا التقسيم للبدعة اللغويّة، لا للشرعيّة، فإنها قسم واحد مذموم.
والحاصل أن الذي يقبل التقسيم المذكور هو اللغويّ، ومنه قول عمر بن الخطّاب –رضي الله عنه-: نعمت البدعة لصلاة التراويح، فإنه محمول على المعنى اللغويّ، وكذلك ما نُقل عن الشافعيّ –رحمه الله-، وغيره من تقسيمهم البدعة إلى محمودة ومذمومة، أو بدعة حسنة، وبدعة غير حسنة محمول على هذا المعنى، فتبصّر، ولا تتحيّر، وقد بسطت الكلام على هذا في «شرح سنن ابن ماجه»، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وهذا الحديث من أفراد المصنّف -رحمه الله-، وقد تقدّم في «كتاب الزكاة».
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه- (أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- قالَ: ( مَن دَعا إلى هُدًى)؛ أي: إلى ما يُهتدى به من الأعمال الصالحة، ونَكَّره؛ ليشيع، فيتناول الحقير، كإماطة الأذى عن الطريق. [«شرح الزرقانيّ على الموطّأ» ٢/ ٦١].
قال الطيبيّ -رحمه الله-: الهُدى: إما الدلالة الموصلة إلى البُغية، أو مطلق
الإرشاد، والمراد في هذا الحديث: ما يُهْتَدى به من الأعمال الصالحة، وهو بحسب التنكير مطلق شائعٌ في جنس ما يقال له: هُدًى، يُطلق على القليل والكثير، والعظيم، والحقير، فأعظمه هُدى مَن دعا إلى الله، وعَمِل صالِحًا، وقال: إني من المسلمين، وأدناه هُدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المسلمين، ومن ثَمّ عَظُم شأن الفقيه الداعي المنذر حتى فُضّل واحد منهم على ألف عابد؛ لأن نَفْعه يعمّ الأشخاص والأعصار إلى يوم الدين، ونرجو من رحمة الله وكرمه أن يكون سعينا في هذا الكتاب منتظمًا في هذا السلك، ويرحم الله عبدًا قال: آمين. انتهى.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: آمين آمين آمين.
قلنا : آمين آمين آمين.
وإنما استَحَقَّ الداعي إلى الهدى ذلك الأجر؛ لكون الدعاء إلى الهدى خَصْلة من خصال الأنبياء -رضي الله عنه-. [»عون المعبود«١٢/ ٢٣٦].
(ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ)؛ أي: من أرشد غيره إلى فعل إثم، وإن قلّ، أو أمَره به، أو أعانه عليه، (كانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ) لتولّده عن فعله الذي هو من خصال الشيطان، والعبد يستحق العقوبة على السبب، وما تولّد منه، كما يعاقب السكران على جنايته حال سُكره؛ لِمَنع السبب، فلم يُعذَر السكران، فإن الله يعاقب على الأسباب المحرّمة، وما تولّد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وما تولّد منها، ولذا كان على قابيل القاتل لأخيه كِفْل من ذَنْب كل قاتل؛ لأنه أول من سنّ القتل، كما في الحديث. [»شرح الزرقانيّ على الموطّأ” ٢/ ٦١].
قوله: (” لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) “وأيضاً يدل على هذا قول الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]،
وفيه التحذير من عمل السوء والترغيب في عمل الخير، وأن الإنسان إذا سابق إلى الخير ودعا إليه فله أجر من عمله،
وفيه التحذير من الشر والبدع والمعاصي؛ لأن من عمل المعاصي ودعا إليها فعليه وزره ووزر من عمل بها”. انتهى.
قال القاري: وبهذا يُعلم أن للنبيّ ﷺ من مضاعفة الثواب بحَسَب تضاعُف أعمال أمته مما لا يُعَدّ، ولا يُحَدّ، وكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكذا بقية السلف بالنسبة إلى الخلف، وكذا العلماء المجتهدون بالنسبة إلى أتباعهم، وبه يُعرف فضل المتقدمين على المتأخرين في كل طبقة وحين.
[تنبيه]: قال ابن حجر: لو تاب الداعي للإثم، وبقي العمل به، فهل ينقطع إثم دلالته بتوبته؛ لأن التوبة تجبّ ما قبلها، أو لا؟ لأن شرطها ردّ الظلامة، والإقلاعُ، وما دام العمل بدلالته موجودًا فالفعل منسوب إليه، فكأنه لم يردّ، ولم يُقلع، كل مُحْتَمِلٌ، ولم أر في ذلك نقلًا، والمنقدح الآن الثاني. انتهى.
وتعقّبه القاري، فقال: والأظهر الأول، وإلا فيلزم أن نقول بعدم صحة توبته، وهذا لم يقل به أحد، ثم ردّ المظالم مقيدٌ بالممكن، وإقلاع كل شيء بحسبه حتمًا، وأيضًا استمرار ثواب الأتباع مبنيّ على استدامة رضا المتبوع به، فإذا تاب، ونَدِم انقطع، كما أن الداعي إلى الهدى إن وقع في الردى –نعوذ بالله منه- انقطع ثواب المتابعة له، وأيضًا كان كثير من الكفار دُعاةً إلى الضلالة، وقُبِل منهم الإسلام؛ لِما أن الإسلام يَجُبّ ما قبله، فالتوبة كذلك، بل أقوى، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. انتهى.
قال الأتيوبي عفا الله عنه: ما قاله القاري هو الذي يظهر لي؛ لوضوح حجّته، وأستنار محجّته.
وخلاصته: أن من تاب من الدعاء إلى الإثم، وحَسُنت توبته، لا يُشترط ترك المدعوّين تلك الضلالة، ولكن ينبغي له أن يقوم بدعوتهم إلى الهدى، كما دعاهم إلى الضلالة، إن استطاع ذلك، والله تعالى أعلم.
قال الشيخ الراجحي في شرحه لـ(سنن ابن ماجة): ” وإذا سن الإنسان سنة سيئة ثم تاب، فعليه أن يبين ما عمله سابقاً، يبين للناس في الأمكنة التي نشر فيها السيئة، وينهى عنها ويبين أنه خطأ”. انتهى.
لقوله تعالى : {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة (160)].
وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا من أفراد المصنّف -رحمه الله-.
فوائد وفقه الحديث:
١ – (منها): الحثّ والتحريض على الدعوة إلى الخيرات، وسَنّ السنن الحسنات.
٢ – (ومنها): التحذير من الدعوة إلى البدع والخرافات التي لا يؤيّدها دليلٌ شرعيّ، بل يردّها ويُبطلها، قال النوويّ -رحمه الله-: هذا الحديث، وحديث جرير المتقدّم صريحان في الحثّ على استحباب سنّ الأمور الحسنة، وتحريم سَنّ الأمور السيّئة، وأن من سن سُنَّة حسنة كان له مثل أجر كلّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنَّة سيئة كان عليه مثل وِزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه، أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم، أو عبادة، أو أدب، أو غير ذلك. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ٢٢٦ – ٢٢٧].
٣ – (ومنها): أن بعض الأعمال لا ينقطع ثوابها، وكذا أوزارها، وهي التي تكون سببًا للاقتداء بفاعلها، فيجب على العاقل أن يكون مفتاحًا للخير، لا مفتاحًا للشرّ، وقد أخرج ابن ماجه في «سننه» من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: «إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحًا للخير، مِغْلاقًا للشر، وويل لعبد جعله الله مِفتاحًا للشرّ، مِغلاقًا للخير». [ٍحسنه الشيخ الألبانيّ في «الصحيحة» ٣/ ٣٢٠ – ٣٢١ رقم (١٣٣٢)].
والمفتاح يفتح الخير لينال غيره الخير ويتابعوه عليه
٤ – (ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ -رحمه الله-: هذا الحديث أبلغ شيء في فضل تعليم العلم اليوم، والدعاء إليه، وإلى جميع سبل الخير والبرّ. [«تنوير الحوالك» ١/ ١٧٠].
٥ – (ومنها): ما قاله بعضهم: إن في هذا الحديث وحديث: «من سنّ سُنَّة حسنةً إلخ» المتقدم ما يدلّ على أن كل أجر حصل للدالّ والداعي حصل للنبيّ ﷺ مثله زيادةً على ما له من الأجر الخاصّ من نفسه على دلالته… انتهى [«فيض القدير شرح الجامع الصغير» ٦/ ١٢٧]، والله تعالى أعلم.
6 – (ومنها): بيان كمال رحمة النبيّ -ﷺ- لأمته، وشدة رأفته بهم، كما وصفه الله تعالى بذلك في كتابه بقوله: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ماعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة ١٢٨].
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
7 – (ومنها): “الحثُّ على البَداءةِ بالخيرِ؛ ليُستَنَّ به، والتَّحذيرُ مِن البَداءةِ بالشَّرِّ؛ خوفَ أن يُستَنَّ به”.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): لا بدعة حسنة في الإسلام
قال الشيخ عبد المحسن العباد: البدع ضلال وليس فيها بدعة حسنة
والبدع كلُّها ضلالٌ؛ لعموم قوله ﷺ في حديثي جابر والعرباض المتقدمين: «وكلُّ بدعة ضلالة»، وهذا العموم في قوله ﷺ: «وكلُّ بدعة ضلالة» يدلُّ على بطلان قول مَن قال: إنّ في الإسلام بدعة حسنة، وقد قال ابن عمر رضي الله عنه في الأثر الذي تقدَّم ذكره قريبًا: «كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة»، ولا يُقال: إنّ في الإسلام بدعة حسنة؛ لقوله ﷺ: «من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة فله أجرها …» رواه مسلم (١٠١٧)؛ لأنّ المرادَ به السَّبق إلى فعل الخير والاقتداء بذلك السابق كما هو واضح من سبب الحديث . فقد كمل الدين
قال ابن عمر رضي الله عنهما: “كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة»، وقول مالك: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنّ محمدًا خان الرسالة؛ لأنّ الله يقول: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فما لَم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا».
وقول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح كما في البخاري (٢٠١٠): «نِعْمَ البدعة هذه»، المراد به البدعة في اللغة لا في الشرع. [ الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع وبيان خطرها]
وقال الشيخ عبد المحسن أيضًا في نفس المصدر: “الفرق بين البدعة في اللغة والبدعة في الشرع
المعاني اللغوية غالبًا أعمُّ من المعاني في الشرع، والمعنى الشرعي غالبًا جزء من جزئيات المعنى اللغوي، ومن أمثلة ذلك التقوى والصيام والحج والعمرة والبدعة، فإنّ التقوى في اللغة أن يجعل الإنسانُ بينه وبين كلِّ شيء يخافه وقاية تقيه منه، كاتخاذه البيوت والخيام للوقاية من حرارة الشمس والبرد، واتخاذ الأحذية للوقاية من كلِّ شيء يؤذي في الأرض، وأمّا تقوى الله، فأن يجعل المسلمُ بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، والصيامُ في اللغة كلُّ إمساك، وفي الشرع إمساكٌ مخصوص، وهو الإمساكُ عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والحجُّ لغة كلُّ قصد، وفي الشرع قصد مكة لأداء شعائر مخصوصة، والعمرة في اللغة كلُّ زيارة، وفي الشرع زيارة الكعبة للطواف بها والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير، والبدعة في اللغة كلُّ ما أُحدث على غير مثال سابق، وفي الشرع ما أُحدث مِمّا لَم يكن له أصل في الدِّين، وهي مقابلة للسنَّة”. انتهى.
ثم تكلم الشيخ العباد عن المصالح المرسلة بعنوان ( ليس من البدع المصالح المرسلة).
وقال الإمام الشاطبي – رحمه الله -: «ليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وإنما المراد العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة بدليل ما ثبت في الصحيح من حديث جرير … فذكره
الوجه الثاني من وجهي الجواب: أن قوله – صلى الله عليه وآله وسلم -: «من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة … » لا يمكن حمله على الاختراع من أصل؛ لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة، أعنى: التحسين والتقبيح بالعقل، فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة، وما أشبهها من السنن المشروعة وتبقى السنة السيئة مُنَزّلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي، كالقتل في حديث ابن آدم حيث قال – صلى الله عليه وآله وسلم -: «لأنه أول من سَنَّ القتل»، وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم»[الاعتصام (1/ 179 – 181) بتصرف].
تنبيه بالنسبة للتقبيح والتحسين إليك كلام ابن تيمية:
الجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبلمجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئا قبيحا وكان شرا. لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجيء الرسول؛ ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ” ثلاثة أقوال “: قيل: إن قبحهما معلوم بالعقل وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة وإن لم يأتهم الرسول كما يقوله المعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وحكوه عن أبي حنيفة نفسه وهو قول أبي الخطاب وغيره. و ” قيل “: لا قبح ولا حسن ولا شر فيهما قبل الخطاب وإنما القبيح ما قيل فيه لا تفعل؛ والحسن ما قيل فيه افعل أو ما أذن في فعله. كما تقوله الأشعرية ومن وافقهم من الطوائف الثلاثة. وقيل إن ذلك سيء وشر وقبيح قبل مجيء الرسول؛ لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول. وعلى هذا عامة السلف وأكثر المسلمين وعليه يدل الكتاب والسنة. فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شر وقبيح وسيء قبل الرسل وإن كانوا لا يستحقون العقوبة إلا بالرسول. وفي الصحيح {أن حذيفة قال: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر. قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها} “.
( مجموع الفتاوى ( 11 / 677)
وهو ما قرره الشيخ الفوزان تماما
وكذلك ابن عثيمين قال :
الفائدة التاسعة: أنه لا يجوز لأحد أن يحكم بغير ما أنزل الله، لقوله: (( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ))[النمل:91] لأن من جملة الأشياء الحكم بين العباد
قال تعالى (( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ))[البقرة:44]
فالعقل يحسّن ويقبّح، لكنه لا يوجب ويحرّم.. الإيجاب والتحريم إلى الله، وأما التحسين والتقبيح فيحسّن ويقبّح، ولهذا يحيل الله تعالى أشياء كثيرة إلى العقل، فدل ذلك على أن للعقل أن يحسّن ويقبّح.
ولكن من الأشياء ما لا يُعلم حسنه وقبحه إلا بطريق الشرع، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة.. مسألة التقبيح والتحسين العقلي صار فيها نزاع طويل بين أهل السنة والجماعة، وبين أهل البدع، منهم من قال: لا يحسّن ولا يقبّح. والغريب أن هذا هو المفهوم من مذهب الحنابلة، قال الفتوحي في كتاب مختصر التحرير في أصول الفقه: ” العقل لا يحسّن ولا يقبّح ولا يوجب ولا يحرّم “.
نقول: أما قوله: ” لا يوجب ولا يحرّم ” هذا صحيح، وأما لا يحسّن ولا يقبّح فهذا ليس بصحيح.
يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ” ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح “.
وربما يشهد لهذا قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس ) فإن هذا دليل على أن الإنسان، لكن الإنسان الذي صفت سريرته وخلصت نيته، هذا ما يطمئن للإثم أبداً، أما الإنسان الفاسق فالفاسق تعرفون أن الزبّال لا تهمه الزبالة، لكن العطّار إذا قعد عند الزبالة ما يمكن يجلس.
فالإنسان الذي صفت سريرته وخلصت نيته، وعلم الله منه حسن القصد يوصى، وتجده إذا عمل السيئة لو هو ما يدري أنها سيئة ما تطيب نفسه ولا تستقر، ولهذا قال: ( البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، الإثم ما حاك في نفسك وتردد في الصدر ) لكن هذا من نخاطب به؟ كل الناس؟ لا. صاحب القلب الصافي والإيمان الخالص، أما الناس المنهمكون في هذا فلا يخاطبون به
المصدر: تفسير سورة النمل لابن عثيمين رحمه الله
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله عند شرح قوله -ﷺ-: «وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة»، في بيان البدعة الشرعية واللغوية: فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكّد ذلك بقوله: «كلُّ بدعة ضلالة».
والمراد بالبدعة ما أُحدِث مما لا أصل له في الشريعة يَدُلُّ عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة.
وفي «صحيح مسلم» عن جابر –رحمه الله- أنّ النبي -ﷺ- كان يقول في خطبته: «إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -ﷺ-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». وأخرجه الترمذي والمصنّف من حديث كثير بن عبد الله المزني، وفيه ضعف، عن أبيه، عن جده، عن النبي -ﷺ- قال: «من ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضاها الله ولا رسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا يَنقُص ذلك من أوزارهم شيئا».
وأخرج الإمام أحمد من رواية غُضَيف بن الحارث الثُّمالي، قال: بعث إليّ عبد الملك بن مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد صلاة الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثلُ بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منها؛ لأن النبي -ﷺ- قال: «ما أحدث قومٌ بدعةً إلا رُفِع مثلها من السنة»، فتمسك بسنّة خير من إحداث بدعة. وقد رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه من قوله نحوُ هذا.
فقوله -ﷺ-: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله -ﷺ-: «مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد».
فكل من أحدث شيئًا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يَرجِع إليه، فهو بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية.
فمن ذلك قول عمر –رضي الله عنه- لمّا جَمَع الناسَ في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: نعمت البدعة هذه. ورُوِيَ عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعةً فنعمت البدعة. ورُوِيَ عن أُبَيّ بن كعب –رضي الله عنه- قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر –رضي الله عنه-: قد عَلِمتُ، ولكنه حسن.
ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصولٌ في الشريعة يَرجِعُ إليها:
فمنها أن النبي -ﷺ- كان يَحُثُّ على قيام رمضان، ويُرَغِّب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرقةً ووُحْدانًا، وهو -ﷺ- صَلّى بأصحابه في رمضان ليلةً، ثم امتنع من ذلك مُعَلِّلا بأنه خَشِيَ أن يُكتَب عليهم، فيَعجَزُوا عن القيام به، وهذا قد أُمِن بعده -ﷺ-.
ورُوِي عنه -ﷺ- أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر[ صحيح أخرجه أبو داود رقم ١٣٧٥ والترمذيّ ٨٠٦ والنسائيّ ١٦٠٥].
ومنها: أنه -ﷺ- أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر، وعثمان، وعليّ –رضي الله عنهم-.
ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده عثمان –رضي الله عنه- لحاجة الناس إليه، وأقرّه عليّ، واستمر عمل المسلمين عليه.
ورُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هو بدعة. قال ابن رجب: ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام شهر رمضان.
ومن ذلك جَمْعُ المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت –رضي الله عنه-، وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي -ﷺ-، ثم عَلِمَ أنه مصلحة، فوافق على جَمْعه، وقد كان النبي -ﷺ- يأمر بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يُكتَب مُفَرقًا أو مجموعا، بل جَمْعُهُ صار أصلح.
وكذلك جَمْعُ عثمان –رضي الله عنه- الأمة على مصحف واحد، وإعدامه لِما خالفه؛ خشيةَ تفرق الأمة، وقد استحسنه عليّ، وأكثر الصحابة –رضي الله عنهم-، وكان ذلك عينَ المصلحة.
وكذلك قتال مَن مَنَعَ الزكاةَ توقف فيه عمر وغيره، حتى بَيَّن له أبو بكر أصله الذي يَرجِع إليه من الشريعة، فوافقه الناس على ذلك.
ومن ذلك القَصَصُ، وقد سبق قول غُضَيف بَن الحارث: إنه بدعة، وقال الحسن: إنه بدعة، ونعمت البدعة، كم من دَعْوة مستجابةٍ، وحاجةٍ مَقْضِيّةٍ، وأخٍ مُستفاد.
وإنما عَنى هؤلاء بقولهم: إنه بدعةٌ الهيئةَ الاجتماعيةَ عليه في وقت معين، فإن النبي -ﷺ- لم يكن له وقت معين يَقُصُّ على أصحابه فيه، غير خُطَبه الراتبة في الجُمَع والأعياد، وإنما كان يُذَكِّرهم أحيانًا أو عند حدوث أمر يَحتاج إلى التذكير عنده، ثم إن الصحابة –رضي الله عنهم- اجتمعوا على تعيين وقت له، كما سبق عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه كان يُذَكِّر أصحابه كل يوم خميس.
وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حَدِّثِ الناسَ في كل جمعة مرة، فإن أبيتَ فمرتين، فإن أكثرت فثلاثًا، ولا تُمِلُّ الناسَ.
وفي «المسند» عن عائشة رضي الله عنها أنها وصَّتْ قاصَّ أهل المدينة بمثل ذلك.
ورُوِي عنها أنها قالت لسعيد بن عمير: حَدِّث الناسَ يومًا، ودع الناس يومًا. ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاصّ أن يقص كل ثلاثة أيام مرة. ورُوي عنه أنه قال: رَوِّحِ الناسَ، ولا تُثْقِل عليهم، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء.
وقد رَوى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجُنيد قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر –رضي الله عنه-: نعمت البدعة هي.
ومراد الشافعي رحمه الله ما ذكرناه من قبلُ أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصلٌ في الشريعة تَرجِع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة يعني: ما كان لها أصل من السنة تَرجِع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعًا؛ لموافقتها السنة. وقد رُوي عن الشافعي كلام آخر يُفَسِّر هذا، وأنه قال: المحدثات ضربان: ما أُحدث مما يخالف كتابًا، أو سنةً، أو أثرًا، أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، وما أُحدث فيه من الخير، لا خِلاف فيه لواحد من هذا، فهذه مُحْدَثةٌ غير مذمومة.
وكثيرٌ من الأمور التي أُحدثت، ولم يكن قد اختَلَف العلماء في أنها هل هي بدعة حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا؟
(فمنها): كتابة الحديث، نَهى عنه عمر، وطائفة من الصحابة –رضي الله عنهم-، ورَخَّص فيها الأكثرون، واستدلوا له بأحاديث من السنة.
(ومنها): كتابة تفسير الحديث والقرآن، كَرِهه قوم من العلماء، ورخص فيه كثير منهم، وكذلك اختلافهم في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه، وفي توسعة الكلام في المعاملات، وأعمال القلوب التي لم تُنقَل عن الصحابة والتابعين، وكان الإمام أحمد يَكرَه أكثر ذلك.
وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعلوم السلف يَتَعيَّن ضبط ما نُقِل عنهم من ذلك كله؛ ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم، وما أُحدِث في ذلك بعدهم، فيُعلمَ بذلك السنة من البدعة.
وقد صَحَّ عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه قال: إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحدِثون، ويُحدَث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالعهد الأول. وابن مسعود –رضي الله عنه- قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين.
وروى ابنُ مَهديّ عن مالك قال: لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي -ﷺ-، وأبي بكر وعمر وعثمان، وكان مالك يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات، من أمور الخوارج، والروافض، والمرجئة ونحوهم، ممن تَكَلَّم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواص هذه الأمة، أو عَكَسَ ذلك، فزعم أن المعاصي لا تضر أهلها، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد.
وأصعب من ذلك ما أُحدث من الكلام في أفعال الله تعالى في قضائه وقدره، فكَذّب بذلك من كَذَّب، وزَعَم أنه نزه الله بذلك عن الظلم.
وأصعب من ذلك ما حَدَث من الكلام في ذات الله وصفاته، مما سكت عنه النبي -ﷺ-، والصحابة والتابعون لهم بإحسان، فقومٌ نَفَوا كثيرًا مما ورَد في الكتاب والسنة من ذلك، وزَعَموا أنهم فعلوا تنزيها لله عما تقتضي العقول تنزيهه عنه، وزعموا أن لازم ذلك مستحيلٌ على الله تعالى. وقوم لم يكتفوا بإثباته، حتى أثبتوا ما يُظَنّ أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين، وهذه اللوازم نفيًا وإثباتًا دَرَجَ صدرُ الأمة على السكوت عنها.
ومما حَدَث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرد الرأي، ورَدُّ كثير مما وردت به السنة في ذلك؛ لمخالفته الرأي، والأقيسة العقلية.
ومما حَدَث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذَّوْق والكشف، وزَعْمُ أن الحقيقة تنافي الشريعة، وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة، وأنه لا حاجة إلى الأعمال، وأنها حجاب، أو أن الشريعة إنما يَحتاج إليها العوامُّ، وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يُعلَمُ قطعًا مخالفته للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى. [»جامع العلوم والحكم«٢/ ٩٧ – ١٠٢.].
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: هذا البحث الذي حقّقه الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه النفيس «جامع العلوم والحكم» بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، فعليك بمطالعته، وتدبّره، حتى ينجلي لك الفرق بين البدعة الشرعية المذمومة
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: البدعة كل ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعيّة فما لم يدلّ عليه دليل شرعيّ -إلى أن قال-: ثم ذلك العمل الذي دلّ عليه الكتاب والسنّة ليس بدعةً في الشريعة، وإن سُمّي في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعمّ من لفظ البدعة في الشريعة، وقد عُلم أن قول النبيّ -ﷺ-: «كلُّ بدعة ضلالة» لم يُرد به كلّ عمل مبتدإ، فإن دين الإسلام، بل كلّ دين جاء به الرسل فهو عملٌ مبتدأ، وإنما أراد ما ابتُدىء من الأعمال التي لم يشرعها النبيّ -ﷺ-. انتهى [راجع»الصراط المستقيم” ٢/ ٥٨٩ – ٥٩٠][مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه للأتيوبي رحمه الله]
وفي هذا جاء في (الدرر السنية في الكتب النجدية): مسألة: “من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها” الحديث.
الجواب: وذكروا كلام ابن رجب وقالوا :
وروى ابن وضاح: أن عبد الله بن مسعود حدث: أن أناسا يسبحون بالحصى في المسجد، “وأتاهم وقد كوم كل رجل منهم كومة من حصى بين يديه، فلم يزل يحصبهم، حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماء، أو قد فضلتم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما”.
وبلغه: أن ناسا يجتمعون في المسجد، ويقول أحدهم: هللوا كذا، وسبحوا كذا، وكبروا كذا، فيفعلون; وقال ابن مسعود: “إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أضل؟ بل هذه”، يعني: أضل. فانظر لإنكارهم لهذا الصنيع، مع أن فاعل ذلك ربما ظن دخوله تحت قوله تعالى: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} الآية [سورة الأحزاب آية: 41]. وإنما أنكر ابن مسعود رضي الله عنه الذكر على هذه الهيئة التي لم يكن الصحابة، رضي الله عنهم، يفعلونها.
وقال ابن مسعود: “اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. وكل بدعة ضلالة”، وقال حذيفة: “اتبعوا سبيلنا، فلئن اتبعتمونا لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن خالفتمونا لقد ضللتم ضلالا بعيدا”.
والآثار عن الصحابة في ذلك كثيرة، وكذلك الآثار عمن من بعدهم، في النهي عن البدع والتحذير منها، ومن ذلك كراهة الإمام أحمد للقارئ، إذا أتى على سورة {قل هو الله أحد}، أن يكررها ثلاثا، لعدم وروده، مع ما ورد فيها من الفضل.
وكذلك ما روي عن مالك وسفيان وغيرهما.
وكره أحمد قراءة سورة الجمعة في عشاء ليلة الجمعة، لعدم وروده، وإن كانت المناسبة فيها ظاهرة؛ وكلامهم في ذلك كثير. وكذا: كراهتهم الدعاء إذا جلسوا بين التراويح، وكذا قول المؤذن قبل الأذان: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا} الآية [سورة الإسراء آية: 111]، وكقوله قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ونحو ذلك من المحدثات.
ومثل ذلك: ما أحدثوه من أزمنة، من رفع الأصوات في المنابر ليلة الجمعة، بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسمونه التذكير؛ فلو كان خيرا يحبه الله، لسبقنا إليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كفوا من بعدهم، كما قالوا: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم; فإنهم، رضي الله عنهم، بالخير أعلم، وعليه أحرص. انتهى.
وفي مجلة البحوث:
– باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة
البدعة في لسان الشارع:
البدعة: تطلق ويراد بها في الشرع: ما أحدث وليس له أصل في الشرع. أما ما كان له أصل يدل عليه في الشرع فليس ببدعه.
قال الراغب رحمه الله: البدعة في المذهب: إيراد قول لم يستن قائلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة وروي: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . اهـ.
وقال في فتح الباري: المحدثات جمع محدثة والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة. فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما. اهـ
[مجلة البحوث الإسلامية 14/ 157]
قال ابن تيمية:
ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب.
[قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 1/ 25]
وقال أيضا:
ومن قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان
[قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 1/ 28]
قال القاضي عياض:
قوله: ” من سن فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من اجورهم شيئا ” الحديث، فى هذا الأخذ بالمآل والسبب، لما كان هو سببها واقتدى فاعلها به فى خيره أو شره كتب له مثل أجر العامل بذلك أو وزره، وإن لم يكن له فى ذلك عمل، كما جاء فى خبر ابن آدم القاتل لأخيه أن عليه كفلا من كل نفس قتلت، لأنه أول من سن القتل . وقد يكون له نية فى أن يعمل بها من بعده فيكون بهذا جزاؤه على نيته أو وزره.
[إكمال المعلم بفوائد مسلم 8/ 170]
قال ابن حجر في باب إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة:
قال المهلب هذا الباب والذي قبله في معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين انتهى.
ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في أحداثها.
[فتح الباري لابن حجر 13/ 302]
قال السندي:
قوله (سنة حسنة) أي طريقة مرضية يقتدى فيها والتمييز بين الحسنة والسيئة بموافقة أصول الشرع وعدمها
[حاشية السندي على سنن ابن ماجه 1/ 90]
أدلة على ذم البدع وفاعليها:
– قول الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} سورة الأنعام الآية 153
وقد فسر مجاهد رحمه الله السبل: بأنها البدع والشبهات. تفسير الطبري 12/ 229.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا فقال: هذا سبيل الله، ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية
تفسير ابن كثير سورة الأنعام الآية 153 (1) {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}
– ومنها قوله سبحانه {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} الأنعام الآية 159
– ومنها: ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ». . الحديث. رواه مسلم وابن ماجه .
– وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته » رواه الطبراني وإسناده حسن .
– ومنها ما جاء في الحديث الطويل عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: قلت: «يا رسول الله: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله: صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك » رواه البخاري
ومما جاء عن الصحابة والتابعين في ذم البدع:
ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدع) رواه الحاكم موقوفا بإسناد صحيح
«وعن غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا سليمان إنا قد جمعنا الناس على أمرين فقال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما، قال: لم؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة » رواه أحمد بسند جيد والبزار
وقال الإمام مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها ومن اقتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. [السنة لعبد الله بن أحمد 1/ 357]
وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول: سنت لكم السنن وفرضت عليكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا. [موطأ مالك ت عبد الباقي 2/ 824]
مستفاد من : [مجلة البحوث الإسلامية 14/ 147]
(المسألة الثانية):
الشبهة الأولى:
استشهادهم بحديث: (مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حَسَنة فعَمِلَ بها مَن بعده، كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء)، فقالوا: الاحتفال بالمولد سنة حسنة!
الجواب:
“وهذا منهم تحريف للحديث عن معناه الصحيح، وجهل أو تجاهل لسبب وروده،
فالمقصود بالحديث: مَن أحيا سُنَّة مِن سُنَن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما عند ابن ماجه وغيره: (مَن أحيا سُنَّة مِن سُنَّتي قد أُمِيتَت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومَن ابتدع بِدعَة لا يرضاها الله ورسوله، فإن عليه مثل إثم مَن عَمِل بها من الناس، لا ينقص من آثام الناس شيئا)، عَلَّق الشاطبي بقوله: فدَلَّ على أن السُّنَّة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سُنَّة -يعني الصدقة- وليس المولد!
الشبهة الثانية:
زعمهم أن بعض الصحابة ابتدع بِدعًا حسنة، ويستشهدون بحديث: كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: (سمع الله لمن حمده) قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. فلما انصرف، قال: (من المتكلم؟) قال: أنا. قال: (رأيتُ بضعةً وثلاثين مَلَكًا يبتدرونها؛ أيهم يكتبها أول!). قالوا: هذا الصحابي ابتدع هذا الذِّكْر ولم يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه بِدعة حَسنة!
الجواب:
“هذا فهم خاطئ؛ فالصحابة رضي الله عنهم لهم مزية ليست لغيرهم، وهي كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يصحح أفعالهم؛ فما فعله الصحابي وأَقَرَّهُ النبي صلى الله عليه وسلم عليه فإنه يصير من السُّنن التقريرية وليس من البِدع، كما قرر ذلك علماء الأصول، وكل ما يروونه مما فعله الصحابة وأَقَرَّهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو من هذا القبيل”.
(المسألة الثالثة): الفتاوى:
(٣٤٨) وسئل الشيخ ابن عثيمين:
وإذا عرفنا سبب الحديث وتنزل المعنى عليه؛ تبين أن المراد بسن السنة سن العمل بها، وليس سن التشريع؛ لأن التشريع لا يكون إلا لله ورسوله،
وأن معنى الحديث (من سن سنة) أي: ابتدأ العمل بها واقتدى الناس به فيها، كان له أجرها وأجر من عمل بها، هذا هو معنى الحديث المتعين، أو يحمل على أن المراد «من سن سنة حسنة» من فعل وسيلة يتوصل بها إلى العبادة واقتدى الناس به فيها، كتأليف الكتاب، وتبويب العلم، وبناء المدارس، وما أشبه هذا مما يكون وسيلة لأمر مطلوب شرعًا.
ولو كان معنى الحديث أن الإنسان له أن يشرع ما شاء، لكان الدين الإسلامي لم يكمل في حياة رسول الله -ﷺ-، ولكان لكل أمة شرعة ومنهاج، وإذا ظن هذا الذي فعل هذه البدعة أنها حسنة فظنه خاطئ؛ لأن هذا الظن يكذبه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة». [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين].
قال العباد:
فالسنة الحسنة تحمل على ما جاء في أصل الحديث أو على إحياء السنة وإظهارها بعد أن خفيت أو اندثرت.[شرح الأربعين النووية – ].
وهناك نقولات أيضا عن الشيخ ابن باز والفوزان وغيرهم في تقرير عدم جواز الابتداع في الدين
للفائدة:
راجع رسالة الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع للشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين، والحث على اتباع السنة والتحذير من البدع وبيان خطرها للشيخ عبد المحسن العباد، لضبط مسألة البدع وخطورتها على الدين.
وراجع رسالة: [لا بدعة حسنة في الإسلام للشيخ الألباني رحمه الله، من جامع تراث العلامة الألباني في المنهج والأحداث الكبرى].