2669 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي أبوعيسى ، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي ونزار وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
٣ – بابُ: اتِّباعِ سُنَنِ اليَهُودِ والنَّصارى
٦ – (٢٦٦٩) حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وذِراعًا بِذِراعٍ، حَتّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاتَّبَعْتُمُوهُمْ» قُلْنا: يا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ والنَّصارى؟ قالَ: «فَمَن».
٦ – وحَدَّثَنا عِدَّةٌ مِن أصْحابِنا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ، أخْبَرَنا أبُو غَسّانَ وهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، بِهَذا الإسْنادِ، نَحْوَهُ،
٦ – قالَ أبُو إسْحاقَ إبْراهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، حَدَّثَنا ابْنُ أبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنا أبُو غَسّانَ، حَدَّثَنا زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ، وذَكَرَ الحَدِيثَ نَحْوَهُ.
==========
التمهيد:
“يحذر ﷺ من زمن يصبح فيه المسلمون أتباعا لأعدائهم مقلدين لهم في شعائرهم وحياتهم، والتابع مغرم بتقليد المتبوع، يحذر من اتباعهم، يحذر من الزمن الذي نعيش فيه نحتفل فيه بأعيادهم، ونسمح لنسائنا أن يقلدن نساءهم في الاختلاط واللباس والعلاقات الجنسية والاجتماعية، وحتى في أخلاقهم الفاسدة، وجحورهم الخربة ندخلها اليوم كما يدخلون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.
تخريج : ذكر الألباني حديث في الصحيحة
٣٣١٢- (ليحْملَنّ شرار هذه الأمّة على سَنَنِ الذين خلَوا من قبلهم- أهل الكتاب- حذو القُذَّةِ بالقُذَّة).
أخرجه أحمد (٤/١٢٥)، والطبراني في «المعجم الكبير» (٧/٣٣٨/٧١٤٠)، وابن عدي (٤/ ٤٠) من طريق عبد الحميد بن بَهرام قال: ثنا شهر بن حوشب: حدثني ابن غنم أن شداد بن أوس حدثه عن رسول الله – ﷺ – مرفوعًا.
قلت: وهذا إسناد حسن في الشواهد
وذكر من شواهده حديث ابن مسعود رفعه ليث بن أبي سليم وأوقفه الثوري لكن له حكم الرفع .
ومن حديث حذيفة ثم روى ابن أبي شيبة عن أبي البختري قال: قال حذيفة:
لا يكون في بني إسرائيل شيء إلا كان فيكم مثله. فقال رجل: فينا قوم لوط؟! قال: نعم، وما ترى بلغ ذلك لا أم لك؟!
وإسناده حسن؛ لولا أنه منقطع بين أبي البختري- واسمه سعيد بن فيروز- وحذيفة.
وأخرج عبد الرزاق في «مصنفه» (١١/٣٦٩/٢٠٧٦٥) من طريق قتادة أن حذيفة قال: …..فقال له رجل: قد كان في بني إسرائيل قردة وخنازير؟! قال: وهذه الأمة سيكون فيها قردة وخنازير.
ورجاله ثقات؛ لكنه منقطع.
ورد أيضا من حديث سهل بن سعد مرفوعًا بلفظ:
«لتتبعن سنن من كان قبلكم؛ شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم».
قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال:
«فمن إلا اليهود والنصارى؟!».
أخرجه الطبراني (٦/٢٢٩/٥٩٤٣)، والروياني في «مسنده» (ق ١٨٢/٢). وقال الهيثمي- بعد لفظ أحمد المختصر-:
«رواه أحمد والطبراني بنحوه، وزاد..، وفي إسناد أحمد ابن لهيعة؛ وفيه ضعف، وفي إسناد الطبراني يحيى بن عثمان عن أبي حازم، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات»
وفيه يحيى بن عثمان ترجمه في
الضعفاء» للعقيلي، وساق له هذا الحديث، وقال (٤/٤١٩):«هذا يروى بغير هذا الإسناد من طريق أصلح من هذه».
قال الألباني:
والطريق الأصلح التي أشار إليها العقيلي في قوله المتقدم؛ لا أدري بالضبط ما يعني بها؛ فإنه قد صح من حديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين، وأبي هريرة عند مسلم، وابن عمرو عند ابن أبي عاصم في «السنة»، وهي مخرجة في «ظلال الجنة» (١/٣٦- ٣٧/٧٢- ٧٥)، ومن حديث ابن عباس عند الحاكم وغيره، وقد مضى تخريجه برقم (١٣٤٨) بنحو حديث يحيى بن عثمان، وانظر لفظه في «صحيح الجامع الصغير» (٤٩٣٩).
(فائدة): قوله: «حذو القذة بالقذة»، وفي حديث سهل: «حذو النعل بالنعل». قال في «النهاية»:
«أي: تعملون مثل أعمالهم، كما تقطع إحدى النعلين على قدر النعل
الأخرى، و(الحذو): التقدير والقطع».
وفي الصحيحة أيضا
١٣٤٨ – «لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع حتى لو أن
أحدهم دخل جحر ضب دخلتم وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم».
وكان ضعف اللفظة الأخيرة في ضعيف الجامع وتراجع في الصحيحة ١٣٤٨ ونبه على ذلك . انتهى المراد من تخريج الألباني باختصار
وبعض الشراح حمل ذلك على زوجة الأب لنفرة الطباع عن الأم
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
(٣) – (بابُ: اتِّباعِ سُنَنِ اليَهُودِ، والنَّصارى)
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[٦٧٥٨] (٢٦٦٩) – (سَنَنَ) بالسين المهملة، والنون، بعدها نون أخرى؛ أي: طريق، وقال في «العمدة»: «السنن» بفتح السين: السبيل والمنهاج، وقال الكرمانيّ: ويروى بالضم [«عمدة القاري» ١٦/ ٤٣].
وقال النوويّ رحمه الله: «السنن» بفتح السين، والنون، وهو الطريق، والمراد بالشبر، والذراع، وجُحْر الضبّ: التمثيل بشدّة الموافقة لهم، والمراد: الموافقة في المعاصي، والمخالفات، لا في الكفر.
وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله – ﷺ -، فقد وقع ما أخبر به – ﷺ -. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ٢١٩ – ٢٢٠].
وقال الطيبيّ رحمه الله: «السُّنَن» جمع سُنّة، وهي الطريقة حسنةً كانت أو سيّئةً، والمراد بها هنا: طريقة أهل الأهواء والبِدَع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم، من تغيير دِينهم، وتحريف كتابهم، كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ١١/ ٣٣٩٠].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم» قيَّدناه «سَنَن» بفتح السين، وهو الطريق، وبضمّها، وهو جمع سنّة، وهي الطريقة المسلوكة، وذِكر الشبر، والذراع، والحُجْر أمثال تفيدُ أن هذه الأمة يطرأ عليها من الابتداع، والاختلاف، مثل الذي كان وقع لبني إسرائيل، وقد رَوى الترمذيّ هذا المعنى بأوضح من هذا، فقال: «ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حَذْوَ النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من يأتي أمه علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملّةً، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلها في النار، إلا واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»[حديث حسنٌ، رواه الترمذي برقم (٢٦٤١)]، خرّجه من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -، وقد رواه أبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان، وقال: «اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة». [حديث صحيح، رواه أبو داود برقم (٤٥٩٦)]؛ يعني: جماعة أصحابي، ومن تابعهم على هديهم، وسلك طريقهم، كما قال في حديث الترمذيّ.
وقد تبيّن بهذه الأحاديث أن الافتراق المحذَّر منه إنما هو في أصول الدِّين وقواعده؛ لأنه قد أطلق عليها مِللًا، وأخبر أن التمسّك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار، ومثل هذا لا يقال على الاختلاف في الفروع، فإنه لا يوجب تعدّد الملل، ولا عذاب النار، وإنما هو على أحد المذهبين السابقَين: إما مُصيب، فله أجران، وإما مخطئ، فله أجر، على ما ذكرناه في الأصول. انتهى كلام القرطبي رحمه الله [«المفهم» ٦/ ٦٩٤ – ٦٩٥]، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
* تنبيه : حديث معاوية المشار إليه أخرجه أبو داود أورده في سننه في شرح السنة
4597 – ﺣَﺪَّﺛَﻨَﺎ ﺃَﺣْﻤَﺪُ ﺑْﻦُ ﺣَﻨْﺒَﻞٍ، ﻭَﻣُﺤَﻤَّﺪُ ﺑْﻦُ ﻳَﺤْﻴَﻰ[ابن فارس]، ﻗَﺎﻻَ: ﺣَﺪَّﺛَﻨَﺎ ﺃَﺑُﻮ اﻟْﻤُﻐِﻴﺮَﺓِ، ﺣَﺪَّﺛَﻨَﺎ ﺻَﻔْﻮَاﻥُ، ﻭﺣَﺪَّﺛَﻨَﺎ ﻋَﻤْﺮُﻭ ﺑْﻦُ ﻋُﺜْﻤَﺎﻥَ، ﺣَﺪَّﺛَﻨَﺎ ﺑَﻘِﻴَّﺔُ، ﻗَﺎﻝَ: ﺣَﺪَّﺛَﻨِﻲ ﺻَﻔْﻮَاﻥُ، ﻧَﺤْﻮَﻩ،ُ ﻗَﺎﻝَ: ﺣَﺪَّﺛَﻨِﻲ ﺃَﺯْﻫَﺮُ ﺑْﻦُ ﻋَﺒْﺪِ اﻟﻠَّﻪِ اﻟْﺤَﺮَاﺯِﻱُّ، ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻲ ﻋَﺎﻣِﺮٍ اﻟْﻬَﻮْﺯَﻧِﻲِّ، ﻋَﻦْ ﻣُﻌَﺎﻭِﻳَﺔَ ﺑْﻦِ ﺃَﺑِﻲ ﺳُﻔْﻴَﺎﻥَ، ﺃَﻧَّﻪُ ﻗَﺎﻡَ ﻓِﻴﻨَﺎ ﻓَﻘَﺎﻝَ: ﺃَﻻَ ﺇِﻥَّ ﺭَﺳُﻮﻝَ اﻟﻠَّﻪِ ﷺ ﻗَﺎﻡَ ﻓِﻴﻨَﺎ ﻓَﻘَﺎﻝَ: ﺃَﻻَ ﺇِﻥَّ ﻣَﻦْ ﻗَﺒْﻠَﻜُﻢْ ﻣِﻦْ ﺃَﻫْﻞِ اﻟْﻜِﺘَﺎﺏِ اﻓْﺘَﺮَﻗُﻮا ﻋَﻠَﻰ ﺛِﻨْﺘَﻴْﻦِ ﻭَﺳَﺒْﻌِﻴﻦَ ﻣِﻠَّﺔً، ﻭَﺇِﻥَّ ﻫَﺬِﻩِ اﻟْﻤِﻠَّﺔَ ﺳَﺘَﻔْﺘَﺮِﻕُ ﻋَﻠَﻰ ﺛَﻼَﺙٍ ﻭَﺳَﺒْﻌِﻴﻦَ، ﺛِﻨْﺘَﺎﻥِ ﻭَﺳَﺒْﻌُﻮﻥَ ﻓِﻲ اﻟﻨَّﺎﺭِ، ﻭَﻭَاﺣِﺪَﺓٌ ﻓِﻲ اﻟْﺠَﻨَّﺔِ، ﻭَﻫِﻲَ اﻟْﺠَﻤَﺎﻋَﺔُ. ﺯَاﺩَ اﺑْﻦُ ﻳَﺤْﻴَﻰ، ﻭَﻋَﻤْﺮٌﻭ ﻓِﻲ ﺣَﺪِﻳﺜَﻴْﻬِﻤَﺎ: ﻭَﺇِﻧَّﻪُ ﺳَﻴَﺨْﺮُﺝُ في ﺃُﻣَّﺘِﻲ ﺃَﻗْﻮَاﻡٌ ﺗَﺠَﺎﺭَﻯ ﺑِﻬِﻢْ ﺗِﻠْﻚَ اﻷَْﻫْﻮَاءُ ﻛَﻤَﺎ ﻳَﺘَﺠَﺎﺭَﻯ اﻟْﻜَﻠَﺐُ ﻟِﺼَﺎﺣِﺒِﻪِ ” ﻭَﻗَﺎﻝَ ﻋَﻤْﺮٌﻭ: «اﻟْﻜَﻠَﺐُ ﺑِﺼَﺎﺣِﺒِﻪ،ِ ﻻَ ﻳَﺒْﻘَﻰ ﻣِﻨْﻪُ ﻋِﺮْﻕٌ ﻭَﻻَ ﻣَﻔْﺼِﻞٌ ﺇِﻻَّ ﺩَﺧَﻠَﻪُ».
-[ أخرجه البزار، وهو في كشف الأستار 3284، وقلنا في تحقيقنا له :الحديث في الصحيح من دلائل النبوة للشيخ مقبل وقال :ﺣﺴﻦ لغيره ]
وأخرج أبوداود أيضا في نفس الباب حديث أبي هريرة؛
4596- ﺣَﺪَّﺛَﻨَﺎ ﻭَﻫْﺐُ ﺑْﻦُ ﺑَﻘِﻴَّﺔَ، ﻋَﻦْ ﺧَﺎﻟِﺪٍ، ﻋَﻦْ ﻣُﺤَﻤَّﺪِ ﺑْﻦِ ﻋَﻤْﺮٍﻭ، ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻲ ﺳَﻠَﻤَﺔَ، ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻲ ﻫُﺮَﻳْﺮَﺓَ ﻗَﺎﻝَ: ﻗَﺎﻝَ ﺭَﺳُﻮﻝُ اﻟﻠَّﻪ ﷺ: «اﻓْﺘَﺮَﻗَﺖِ اﻟْﻴَﻬُﻮﺩُ ﻋَﻠَﻰ ﺇِﺣْﺪَﻯ ﺃَﻭْ ﺛِﻨْﺘَﻴْﻦِ ﻭَﺳَﺒْﻌِﻴﻦَ ﻓِﺮْﻗَﺔً، ﻭَﺗَﻔَﺮَّﻗَﺖِ اﻟﻨَّﺼَﺎﺭَﻯ ﻋَﻠَﻰ ﺇِﺣْﺪَﻯ ﺃَﻭْ ﺛِﻨْﺘَﻴْﻦِ ﻭَﺳَﺒْﻌِﻴﻦَ ﻓِﺮْﻗَﺔً، ﻭَﺗَﻔْﺘَﺮِﻕُ ﺃُﻣَّﺘِﻲ ﻋَﻠَﻰ ﺛَﻼَﺙٍ ﻭَﺳَﺒْﻌِﻴﻦَ ﻓِﺮْﻗَﺔً».
[الصحيح المسند 1317، والحديث ضعفه ابن الوزير، وكأنه بسبب محمد بن عمرو، ولا يقبل تفرده بأصل، وأكثر ما استنكروه لفظة( كلها في النار إلا واحدة ) حتى اعتبره ابن الوزير من وضع الملاحدة، واعتبرها ابن حزم موضوعة، والصواب أن الحديث لا ينزل عن مرتبة الحسن ]
وسُئِلَ شَيْخُ الإسْلامِ أحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة – قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
عَنْ قَوْلِهِ ﷺ «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلاثَةً وسَبْعِينَ فِرْقَةً». ما الفِرَقُ؟ وما مُعْتَقَدُ كُلِّ فِرْقَةٍ مِن هَذِهِ الصُّنُوفِ؟
فَأجابَ:
الحَمْدُ لِلَّهِ، الحَدِيثُ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ فِي السُّنَنِ والمَسانِدِ؛ كَسُنَنِ أبِي داوُد والتِّرْمِذِي والنِّسائِيِّ وغَيْرِهِمْ ولَفْظُهُ ﴿افْتَرَقَتْ اليَهُودُ عَلى إحْدى وسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّها فِي النّارِ إلّا واحِدَةً وافْتَرَقَتْ النَّصارى عَلى اثْنَتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّها فِي النّارِ إلّا واحِدَةً وسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلى ثَلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّها فِي النّارِ إلّا واحِدَةً﴾ وفِي لَفْظٍ ﴿عَلى ثَلاثٍ وسَبْعِينَ مِلَّةً﴾ وفِي رِوايَةٍ ﴿قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ مَن الفِرْقَةُ النّاجِيَةُ؟ قالَ: مَن كانَ عَلى مِثْلِ ما أنا عَلَيْهِ اليَوْمَ وأصْحابِي﴾ وفِي رِوايَةٍ قالَ ﴿هِيَ الجَماعَةُ يَدُ اللَّهِ عَلى الجَماعَةِ﴾. ولِهَذا وصَفَ الفِرْقَةَ النّاجِيَةَ بِأنَّها أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ وهُمْ الجُمْهُورُ الأكْبَرُ والسَّوادُ الأعْظَمُ.
وأمّا الفِرَقُ الباقِيَةُ فَإنَّهُمْ أهْلُ الشُّذُوذِ والتَّفَرُّقِ والبِدَعِ والأهْواءِ ولا تَبْلُغُ الفِرْقَةُ مِن هَؤُلاءِ قَرِيبًا مِن مَبْلَغِ الفِرْقَةِ النّاجِيَةِ فَضْلًا عَنْ أنْ تَكُونَ بِقَدْرِها بَلْ قَدْ تَكُونُ الفِرْقَةُ مِنها فِي غايَةِ القِلَّةِ. وشِعارُ هَذِهِ الفِرَقِ مُفارَقَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ. فَمَن قالَ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ كانَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ. وأمّا تَعْيِينُ هَذِهِ الفِرَقِ فَقَدْ صَنَّفَ النّاسُ فِيهِمْ مُصَنَّفاتٍ وذَكَرُوهُمْ فِي كُتُبِ المَقالاتِ؛ لَكِنَّ الجَزْمَ بِأنَّ هَذِهِ الفِرْقَةَ المَوْصُوفَةَ… (١) هِيَ إحْدى الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعِينَ لا بُدَّ لَهُ مِن دَلِيلٍ فَإنَّ اللَّهَ حَرَّمَ القَوْلَ بِلا عِلْمٍ عُمُومًا؛ وحَرَّمَ القَوْلَ عَلَيْهِ بِلا عِلْمٍ خُصُوصًا وأيْضًا فَكَثِيرٌ مِن النّاسِ يُخْبِرُ عَنْ هَذِهِ الفِرَقِ بِحُكْمِ الظَّنِّ والهَوى فَيَجْعَلُ طائِفَتَهُ والمُنْتَسِبَةَ إلى مَتْبُوعِهِ المُوالِيَةَ لَهُ هُمْ أهْلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ؛ ويَجْعَلُ مَن خالَفَها أهْلَ البِدَعِ وهَذا ضَلالٌ مُبِينٌ. فَإنَّ أهْلَ الحَقِّ والسُّنَّةِ لا يَكُونُ مَتْبُوعُهُمْ إلّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الَّذِي لا يَنْطِقُ عَنْ الهَوى إنْ هُوَ إلّا وحْيٌ يُوحى فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ ما أخْبَرَ؛ وطاعَتُهُ فِي كُلِّ ما أمَرَ….ثم ذكر أصول هذه الفرق والخلاف في تكفير بعضهم . انتهى من مجموع الفتاوى ٣/348
ولعلنا في موضع آخر من شروحنا بإذن الله ننقل كلامه تاما رحمه الله
وقال أعضاء اللجنة الدائمة في فتاويهم: واسألوا عن الفرق فمهدوا للجواب بأن الفرقة الناجية هم الذين يتبعون الكتاب والسنة . قالوا:
فكل من اتبع الكتاب والسنة قولية أو عملية وما أجمعت عليه الأمة ولم تستهوه الظنون الكاذبة ولا
الأهواء المضلة والتأويلات الباطلة التي تأباها اللغة العربية – التي هي لسان رسول الله ﷺ وبها نزل القرآن الكريم – وتردها أصول الشريعة الإسلامية، كل من كان كذلك فهو من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.
وقالوا في بقية الفرق : فأمارة هذه الفرق التي بها تعرف: مفارقة الكتاب والسنة والإجماع بلا تأويل يتفق مع لغة القرآن وأصول الشريعة ويعذر به صاحبه فيما أخطأ فيه.
ثم قرروا أن المجتهد الذي لا تعصب لاجتهاده دائر بين الأجر والأجرين فلا يبدع أحد من العلماء لخطأ أخطأه ؛ قالوا :
خامسا: لم يجعل رسول الله ﷺ الألقاب التي اشتهرت بها الطوائف المنتسبة للإسلام سمات تعرف بها الفرق الثنتان والسبعون، ولا عنوانا يتمايز به بعضها عن بعض، وإنما جعل أمارتها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، اتباعا للظن وما تهوى الأنفس، وقولا على الله بغير علم وعصبية لمتبوعهم سوى رسول الله ﷺ، يعادون في ذلك ويوالون، كما جعل شعارا للفرقة الناجية اتباع الكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين، وإيثار ذلك على مداركهم وظنونهم وأهوائهم، فهواهم تبعا لما جاءت به الشريعة الإسلامية، يوالون في ذلك ويعادون، فمن يتخذ ميزانا يزن
به الطوائف سوى بيان رسول الله ﷺ ويعرف به فرقها ليميز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة فقد تكلم بغير علم وحكم في الفرق بغير بصيرة فظلم بذلك نفسه، وظلم الطوائف المنتسبة للإسلام، ومن رجع في تمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة إلى بيانه ﷺ عدل في حكمه وعرف أن جماعات الأمة درجات متفاوتة، فمنهم من هو أحرص على اتباع الشريعة والاستسلام لها وأبعد الناس عن الابتداع في الدين والتحريف في نصوصه، والزيادة فيه أو النقص منه فهؤلاء أسعد الناس بأن يكونوا من الفرقة الناجية، فعلماء الحديث وأئمة الفقه في الكتاب والسنة منهم من هو أهل للاجتهاد يحرص
على الشريعة ويسلم لها إلا أنه قد يتأول بعض نصوصها تأويلا يخطئ فيه فيعذر في خطئه لكونه في موارد الاجتهاد، ومنهم من ينكر بعض نصوص الشريعة، إما لكونه حديث عهد بالإسلام، وإما لأنه نشأ في أطراف البلاد الإسلامية فلم يبلغه ما أنكره، ومنهم من يرتكب معصية أو يبتدع بدعة لا يخرج بها عن حظيرة الإسلام، فهو مؤمن مطيع لله بما فيه من طاعة، مسيء بما ارتكب من معصية وابتدع من البدع فكان في مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه
فهؤلاء وهؤلاء ليسوا بكفار بتأويلهم الخاطئ أو جحدهم ما جحدوا بل يعذرون ويدخلون في عداد الفرقة الناجية وإن كانوا دون الأولى. ومنهم من جحد معلوما من الدين بالضرورة بعد ما تبين له واتبع هواه بغير هدى من الله أو تأول بعض نصوص الشريعة تأويلا بعيدا مخالفا في ذلك من سبقه من جماعة المسلمين، ولما بين لهم الحق وأقيمت عليهم الحجة بالمناظرات وغيرها لم يرجعوا فهؤلاء كفار مرتدون عن الإسلام .
ثم قرروا أن الحكومة السعودية لا تفتش عن بواطن الناس بل تعامل الناس والفرق بحسن الظن فلا تمنعهم من الحج . إلا القاديانية فهم كفار
قالوا : ولهذا تسمح لطوائف المسلمين المختلفة بزيارة بيت الله الحرام دون التنقيب عما خفي من عقائدهم عملا بالظاهر دون التنقيب عما في البواطن، والله يتولى السرائر، فإذا وضح لها كفر شخص أو طائفة معينة كالقاديانية مثلا وثبت ذلك لدى العلماء المحققين من الدول الإسلامية فلا يسعها إلا أن تمنع من ثبت كفره وردته من أداء الحج والعمرة . انتهى
(الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) وقال في «الفتح»: قوله: «سنن» بفتح السين للأكثر، وقال
ابن التين: قرأناه بضمها، وقال المهلّب: بالفتح أولى؛ لأنه الذي يُستعمل فيه الذراع والشِّبر، وهو الطريق، قال الحافظ: وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك، وقوله: (شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِراعًا بِذِراعٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: حال مثل «يدًا بيد»[«الكاشف عن حقائق السنن» ١١/ ٣٣٩٠].
وقال في «العمدة»: نُصِب بنزع الخافض، تقديره: لتتبعن سَنَن من قبلكم اتباعًا بشبر ملتبس بشبر، وذراعٍ ملتبس بذراع، وهذا كناية عن شدة الموافقة لهم في المخالفات، والمعاصي، لا في الكفر، وكذلك قوله: «لو سلكوا جحر ضب» بضم الجيم وسكون الحاء، والضب دويبة تُشبه الوَرَلَ، تأكله الأعراب، والأنثى ضبَّة، قال ابن خالويه: يعيش سبعمائة سنة، فأكثر، ولا يشرب ماءً [الأتيوبي في الحاشية: “كلام ابن خالويه يحتاج إلى دليل صحيح، والله أعلم” انتهى]،
وفي المواقع المتخصصة قالوا متوسط عمره ٦٠ سنة .
وبعضهم قال يعيش أكثر من ١٠٠ سنة وبعضهم قال إلى ٢٥٠ سنة
ووجه التخصيص بجحر الضب؛ لشدة ضيقه، ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم، واتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لوافقوهم. انتهى [فتح الباري [»الفتح«١٧/ ٢١٢، كتاب»الاعتصام«رقم (٧٣٢٠)]. و«عمدة القاري» ١٦/ ٤٣، و«فيض القدير» ٥/ ٢٦١].
وفي رواية للبخاريّ: «شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا»، قال عياض: الشبر، والذراع، والطريق، ودخول الجُحْر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء، مما نَهى الشرع عنه وذمّه.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: «حتى لو دخلوا جحر ضبّ .. إلخ» مبالغة في الاتباع … حتى لو بلغوا إلى غاية لبلغتموها، حتى كانت تقتل أنبياءها، فلما عصم الله رسوله – ﷺ – قتلوا خلفاءه؛ تحقيقًا لصدق الرسول – ﷺ -. انتهى [»فيض القدير شرح الجامع الصغير«٥/ ٢٦١].باختصار
وقال الصنعانيّ رحمه الله: الحديث إعلام، وإخبار بأن الأمة، والمراد غالبها
تُشابِه الأمم في المعاصي، وباقي أنواع ما يأتونه غير الكفر، وقد صدق إخباره – ﷺ -، فقد سلك
الناس مسالكهم في إقامة الحدود على الضعفاء،
دون الشرفاء، وقبول الرِّشا، والاتّساع في شهوات الدنيا، وزخرفة المساجد،
واتخاذ القبور أوثانًا، وغير ذلك مما يعرفه كلّ عارف. انتهى [»التنوير شرح الجامع الصغير«٩/ ٢٨]. باختصار
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في لقاء الباب المفتوح (12/ 12)
السؤال: ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ليكونن من أمتي أقوام كذا وكذا، هل القصد بقوله: أمتي المسلم والكافر أم المسلم فقط؟
الجواب: الحديث عام في هذا وهذا، ولكن الغالب أنها تكون للمؤمنين، ولكن ليس هذا دليلاً على جواز هذا الشيء الذي يقع بل قد يكون للتحذير منه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف )، هذا لم يقله على وجه التقرير، لكنه قاله على وجه التحذير أي: فاحذروا من هذا، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن ) فهو أخبر أن من أمته من يتبع اليهود والنصارى، ولكنه لم يقل ذلك على سبيل التقرير بل على سبيل التحذير.
(فَمَن؟ ) استفهام إنكار، والتقدير: فإن لم أُرِدْهم فمن سواهم؟ أي: ليس المراد غيرهم [»الكاشف عن حقائق السنن” ١١/ ٣٣٩٠].
وقد أخرج الطبرانيّ من حديث المستورِد بن شدّاد، رفعه: «لا تترك هذه الأمة شيئًا من سَنَن الأولين حتى تأتيه»، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الشافعيّ، بسند صحيح: «لتركبُنّ سنة من كان قبلكم حُلْوها، ومُرّها»، والله تعالى أعلم.
وحديث أبي سعيد الخدريّ – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
تبويبات الأئمة:
* بوب البخاري في صحيحه 3456 بَابُ مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وذكر عدة أحاديث فيها ذكر لبني إسرائيل.
وبوب على نفس الحديث في موضع آخر 7320 بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وأورد الحديث من مسند أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ».
وبوب ابن ماجه في سننه 3994 على هذا الحديث ولكن من مسند أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَشِبْرًا بِشِبْرٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فِيهِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ إِذًا» [ قال الألباني: حسن صحيح وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح. رجال ثقات، وقال محققو سنن ابن ماجه: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمَّد بن عمرو -وهو ابن علقمة الليثي-.وهو في “مسند أحمد” (9819) عن يزيد بن هارون.
وأخرجه البخاري (7319) من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة.] بوب عليه باب افتراق الأمم، ومما أورده تحت هذه الترجمة:
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»
- عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ»
- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ: الْجَمَاعَةُ “
* بوب ابن حبان على الحديث في صحيحه 6703 ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ” أَرَادَ بِهِ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ
* ابن الأثير في جامع الأصول ذكر كتابًا في الفتن والأهواء والاختلاف، وجعل الفصل الثاني: فيما ورد ذكره من الفتن، والأهواء الحادثة في الزمان، الفرع الثاني منه بعنوان فيما لم يذكر اسمه من الفتن، وأورد تحته من الأحاديث في النوع الثاني والثالث من الأحاديث: فذكر أحاديث الافتراق وأحاديث متابعة الكفار وأحاديث عبادة اللات والعزى
* بوب ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/568) باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم , وتحذيره إياهم ذلك.
* وبوب ابن أبي عاصم في السنة (1/32): باب فيما أخبر به النبي عليه السلام أن أمته ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، وذمه الفرق كلها إلا واحدة، وذكر قوله عليه السلام: إن قوما سيركبون سنن من كان قبلهم، وذكر تحته 16 حديثًا أغلبها تقدمت ومما لم يتقدم: أحاديث اضطراب إليات نساء دوس على ذي الخلصة
* بوب أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (3/533): بَابُ اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ، ومما ذكره تحت هذا الباب:
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ , لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ , وَلَا يُخْطَأُ بِكُمْ , وَلَتُنْتَقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً , وَيَكُونُ أَوَّلَ نَقْضِهَا الْخُشُوعُ , حَتَّى لَا تَرَى خَاشِعًا»
* بوب الآجري في الشريعة (1/317): باب ذكر خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وتحذيره إياهم سنن من قبلهم من الأمم، ثم قال رحمه الله بعد أن أورد أحاديث الباب: ” من تصفح أمر هذه الأمة من عالم عاقل، علم أن أكثرهم العام منهم يجري أمورهم على سنن أهل الكتابين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى سنن [ص:324] كسرى وقيصر وعلى سنن أهل الجاهلية وذلك مثل السلطنة وأحكامهم وأحكام العمال والأمراء وغيرهم، وأمر المصائب والأفراح والمساكن واللباس والحلية، والأكل والشرب والولائم، والمراكب والخدم والمجالس والمجالسة، والبيع والشراء، والمكاسب من جهات كثيرة، وأشباه لما ذكرت يطول شرحها تجري بينهم على خلاف السنة والكتاب، وإنما تجري بينهم على سنن من قبلنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والله المستعان، ما أقل من يتخلص من البلاء الذي قد عم الناس، ولن يميز هذا إلا عاقل عالم قد أدبه العلم، والله الموفق لكل رشاد، والمعين عليه “.
(المسألة الثالثة): الفوائد:
١ – (منها): أن فيه بيان عَلَم من أعلام النبوّة،
٢ – (ومنها): ما قاله المناويّ رحمه الله: هذا الحديث لفظه لَفْظ الخبر، ومعناه النهي عن اتباعهم
٣ – (ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: أعْلَم النبيّ – ﷺ – أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور، والبدع، والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شرّ، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدِّين إنما يبقى قائمًا عند خاصّة من الناس.
قال الحافظ رحمه الله: وقد وقع معظم ما أنذر به – ﷺ -، وسيقع بقية ذلك.
٤ – (ومنها): أن البخاريّ رحمه الله أخرج عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن النبيّ – ﷺ – قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع»، فقيل: يا رسول الله، كفارس، والروم؟ فقال: «ومَنِ الناسُ إلا
أولئك؟» [«صحيح البخاريّ» ٦/ ٢٦٦٩].
فقال الكرمانيّ: حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مغاير لحديث أبي سعيد؛ لأن الأول فُسِّر بفارس والروم، والثاني باليهود والنصارى، ولكن الروم نصارى، وقد كان في الفرس يهود، أوْ ذَكَر ذلك على سبيل المثال؛ لأنه قال في السؤال: كفارس؟ انتهى.
قال الحافظ: ويعكر عليه جوابه – ﷺ – بقوله: «ومَن الناس إلا أولئك»؛ لأن ظاهره الحصر فيهم، وقد أجاب عنه الكرمانيّ بأن المراد: حصر الناس المعهود من المتبوعين.
قلت -القائل هو الحافظ، فتنبّه-: ووجهه أنه – ﷺ – لَمّا بُعث كان مُلكُ البلاد منحصرًا في الفرس والروم، وجميع مَن عداهم من الأمم مِن تحت أيديهم، أو كل شيء بالنسبة إليهم، فصحّ الحصر بهذا الاعتبار.
ويَحْتَمِل أن يكون الجواب اختَلَف بحسب المقام، فحيث قال: فارس والروم، كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس، وسياسة الرعية، وحيث قيل: اليهود والنصارى، كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات: أصولها وفروعها، ومن ثم كان في الجواب عن الأول: «ومَن الناس إلا أولئك»، وأما الجواب في الثاني بالإبهام، فيؤيد الحمل المذكور، وأنه كان هناك قرينة تتعلق بما ذكرت.
[تنبيه]: استَدَلّ ابن عبد البرّ رحمه الله في «باب ذم القول بالرأي إذا كان على غير أصل» بما أخرجه من جامع ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، عن هشام بن عروة، أنه سمع أباه يقول: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيمًا حتى حَدَث فيهم المولَّدون، أبناء سبايا الأمم، فأحدثوا فيهم القول بالرأي، وأضلوا بني إسرائيل، قال: وكان أبي يقول: السننَ السننَ، فإن السنن قِوام الدِّين.
وعن ابن وهب: أخبرني بكر بن مضر، عمن سمع ابن شهاب الزهريّ، وهو يذكر ما وقع الناس فيه من الرأي، وتركهم السنن، فقال: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم، حين استقلّوا الرأي، وأخذوا فيه.
وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول، عن أنس، قيل: يا رسول الله، متى يُترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم».
وفي «مصنَّف قاسم بن أصبغ» بسند صحيح، عن عمر: «فساد الدين إذا جاء العلم من قِبَل الصغير، استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير، تابعه عليه الصغير»، وذكر أبو عبيد: أن المراد بالصِّغَر في هذا: صِغَر القَدْر، لا السنّ، والله تعالى أعلم. [«الفتح» ١٧/ ٢١٢، كتاب «الاعتصام» رقم (٧٣٢٠)].
[تنبيه]: رواية محمد بن مطرّف عن زيد بن أسلم الذي ذكرها مسلم ساقها البخاريّ رحمه الله في «صحيحه»، فقال:
(٣٢٦٩) – حدّثنا سعيد بن أبي مريم، حدّثنا أبو غسّان، قال: حدّثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد – رضي الله عنه -، أن النبيّ – ﷺ – قال: «لتتبعُنّ سَنَن من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحْر ضَبّ لسلكتموه»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن». انتهى [«صحيح البخاريّ» ٣/ ١٢٧٤].
[تنبيه آخر]: تكلّم الحافظ الرشيد العطّار في «غرر الفوائد» في هذا الحديث، حيث قال فيه مسلم: «حدثني عدّة من أصحابنا إلخ» ولم يسمّ منهم أحدًا، قال: وقد تقدَّم الجواب عن مثل هذا القول بما فيه كفاية، ومع ذلك فقد بَيّنّا أن البخاريّ قد رواه في «صحيحه» عن سعيد بن أبي مريم هذا، ثم ساق رواية البخاريّ بسنده، قال: وهكذا أورده البخاريّ في «صحيحه» في أحاديث بني إسرائيل، فثبت اتّصاله من هذا الوجه الآخر، والحمد لله، وقد وصله أيضًا إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد، راوي «صحيح مسلم»، فرواه عن الإمام أبي عبد الله محمد بن يحيى الذُّهْليّ، عن سعيد بن أبي مريم كذلك، ولعل البخاريّ أحد العِدّة الذين سمع منهم مسلم هذا الحديث، ولم يسمِّهم، والله تعالى أعلم. انتهى مختصر كلام الحافظ العطّار
[تنبيه آخر]:
قال النوويّ رحمه الله: قوله: «حدّثني عدّة من أصحابنا إلخ» قال المازريّ: هذا من الأحاديث المقطوعة في مسلم، وهي أربعة عشر، هذا آخرها، قال القاضي: قَلَّد المازريّ أبا عليّ الغسانيّ الجيانيّ في تسميته هذا مقطوعًا، وهي تسمية باطلة، وإنما هذا عند أهل الصنعة من باب رواية المجهول، وإنما المقطوع ما حُذف منه راوٍ.
قال النوويّ: وتسمية هذا الثاني أيضًا مقطوعًا مجاز، وإنما هو منقطع، ومرسل عند الأصوليين، والفقهاء، وإنما حقيقة المقطوع عندهم: الموقوف على التابعيّ، فمن بعده، قولًا له، أو فعلًا، أو نحوه، وكيف كان فمتن الحديث المذكور صحيح، متصلٌ بالطريق الأول، وإنما ذكر الثاني متابعةً، وقد سبق أن المتابعة يُحْتَمَلُ فيها ما لا يُحْتَمَلُ في الأصول، وقد وقع في كثير من النسخ هنا اتّصال هذا الطريق الثاني من جهة أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان راوي الكتاب عن مسلم، وهو من زياداته، وعالي إسناده، قال أبو إسحاق: حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، فذكره بإسناده إلى آخره، فاتَّصَلت الرواية، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ٢٢٠].
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
ثانيًا: ملحقات:
مسألة: التشبه بالكفار
(المسألة الأولى): تعريف وبيان:
1- تعريف التشبه لغة واصطلاحًا:
التشبه لغة:
قال ابن فارس: “(شبه) الشين والباء والهاء: أصل واحد يدل على تشابه الشيء “[مقاييس اللغة (3/243)].
إذًا التشبه لغة: مصدر تشبه، يقال: تشبه فلان بفلان إذا تكلف أن يكون مثله[الموسوعة الفقهية الكويتيه (12/5)].
والتشبه مأخوذ من المشابهة، وهي المماثلة والمحاكاة والتقليد.
التشبه اصطلاحًا:
قال الغزي: “هو عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبهَ المتشبَّه به وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته، أو هو عبارة عن تكلّف ذلك وتقصُّده وتعلّمه، وقد يعبر عن التشبه بالتشكل والتمثل والتزيِّي والتحلي والتخلق”[حسن التنبه لما ورد في التشبه (ق 2/2)].
وقيل: “هو تمثُّل المسلم بالكفار في عقائدهم أو عباداتهم أو أخلاقهم أو فيما يختصون به من عادات أو خضوعه لهم بشكل من الأشكال”[التدابير الواقية (1/50)].
2- حقيقة التشبه:
قال ابن تيمية: “التشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر, ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير.
فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضًا، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبّهًا نظر، لكن قد يُنْهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/271)].
3- ألفاظ ذات صلة:
أ- التقليد الأعمى:
والمقصود بالتقليد الأعمى هو: “ما سلكه المسلمون ـ من غير إدراك ولا وعي ولا تمحيص ـ من اتباع الكفار “.
ب- الموافقة:
وهي مشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك، سواء أكان ذلك من أجل ذلك الآخر أم لا لأجله[انظر: إحكام الأحكام للآمدي (1/172)].
فالموافقة بهذا الاعتبار أعم من التشبه.
قال ابن تيمية: “الموافقة في القليل تدعو إلى الموافقة في الكثير، وهنا جنس الموافقة يلبس على العامة دينهم، حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/547)].
(المسألة الثانية): أصناف من نُهينا عن التشبه بهم:
الذين نهينا عن التشبه بهم أصناف كثيرة:
الصنف الأول: عموم الكفار:
ويدخل فيهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمشركون، والمجوس، والملاحدة وغيرهم.
الصنف الثاني: الشيطان:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها)).
قال ابن تيمية: “فإنه صلى الله عليه وسلم علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/407)].
الصنف الثالث: المبتدعة:
جاءت نصوص كثيرة عن سلف الأمة في التحذير منهم، ومن ذلك ما جاء عن أبي قلابة أنه قال: “إياكم وأصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون”[ أسنده عبد الله بن أحمد في كتاب السنة (1/137)].
الصنف الرابع: الفساق:
قال القرطبي: “لو خُص أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظن به من لا يعرفه أنه منهم، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظان والمظنون فيه بسبب العون عليه”[نقلاً عن الموسوعة الفقهية (12/11)].
الصنف الخامس: الرجال بالنسبة للنساء والنساء بالنسبة للرجال:
تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من كبائر الذنوب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجّلات من النساء وقال: ((أخرجوهم من بيوتكم))، قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانًا، وأخرج عمر فلانة[أخرجه البخاري في اللباس, باب: إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت (5886)].
قال ابن حجر: “قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء، ولا العكس.
قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد…، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير”[ فتح الباري (10/345)].
وقال ابن تيمية: “الأصل في ذلك ليس هو راجعًا إلى مجرد ما تختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه، فإنه لو كان كذلك لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخُمُر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان، وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك، أن يكون هذا سائغًا!
وهذا خلاف النص والإجماع، فإن الله تعالى قال للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية [النور:31]، وقال: {قُل لأزْوٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} الآية [الأحزاب:59]، وقال: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأولَىٰ} [الأحزاب:33]. فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستندُه مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب، ولا أن يضربن بالخُمُر على الجيوب، ولم يحرم عليهن التبرج تبرجَ الجاهلية الأولى؛ لأن ذلك كان عادة لأولئك، وليس الضابط في ذلك لباسًا معيّنًا من جهة نص النبي صلى الله عليه وسلم، أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده، بحيث يقال: إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم، فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابًا طويلات الذيل بحيث ينجرّ خلف المرأة إذا خرجت، والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين…
فالفارق بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء، وهو ما ناسب ما يؤمر به الرجال وما يؤمر به النساء، فالنساء مأمورات بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور… فإذا اختلف لباس الرجال والنساء فما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب كان للنساء، وكان ضده للرجال.
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان، أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء.
فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأي وجه حصل الاختلاف، وقد تقدم فساد ذلك… وكذلك الأمر في لباس الرجال والنساء، ليس المقصود به مجرّد الفرق، بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار، وكذلك أيضًا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال، بل الفرق أيضًا مقصود…
والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي به الأمر إلى التخنث المحض، والتمكين من نفسه كأنه امرأة، ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء كانوا يسمون الرجال المغنِّين مخانيث.
والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشابهة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجال، وتطلب أن تعلو على الرجال كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفَر [-أي: شدة الحياء-] المشروع للنساء، وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة.
وإذا تبين أنه لا بد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يميز بين الرجال والنساء، وأن يكون لباس النساء فيه من الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر أصل هذا الباب، وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة وإن كان ساترًا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء، والنهي عن مثل هذا بتغير العادات، وأما ما كان الفرق عائدًا إلى نفس الستر، فهذا يؤمر فيه النساء بما كان أستر… ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك، فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة نُهِي عنه من الوجهين، والله أعلم”[ مجموع الفتاوى (22/146-154) باختصار].
الصنف السادس: الحيوانات:
جاءت أحاديث كثيرة في ذم التشبه بالحيوانات والنهي عن ذلك، ومن ذلك:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب))[ أخرجه البخاري (822)، ومسلم (493)].
قال ابن تيمية: “التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه؛ في أصواتها وأفعالها ونحو ذلك, مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك.
(المسألة الثالثة): الأدلة على النهي عن التشبه بالكفار:
التشبه بالكفار في الجملة منهي عنه.
1- قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمينَ * وَءاتَيْنَـٰهُم بَيّنَـٰتٍ مّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُتَّقِينَ} [الجاثية:16-19].
قال ابن تيمية: “أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض, ثم جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته.
وأهواؤهم هو ما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسَرّون به، ويودّون أن لو بذلوا عظيمًا ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحْسَمُ لمادة متابعتهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه، وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول ظهر”. [اقتضاء الصراط المستقيم (1/98)].
2- وقال سبحانه: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ٱلَّذِي جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120].
قال ابن تيمية مبيّنًا وجه دلالة الآية في النهي عن التشبه بالكفار: “فانظر كيف قال في الخبر: {مِلَّتَهُمْ}، وقال في النهي: {أَهْوَاءهُم}؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقًا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/99)].
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))[أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3462), ومسلم في للباس والزينة, باب: في مخالفة اليهود في الصبغ (2103)].
قال ابن تيمية: “أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرًا مقصودًا للشارع، لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود, وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة”. [اقتضاء الصراط المستقيم (1/185)].
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبّه بقوم فهو منهم))[أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75). قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): “هذا حديث جيد”، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): “سنده صحيح”، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104)].
فيه عبدالرحمن بن ثابت؛ وله طرق اختلف الباحثون هل تقويه أم لا؟
الراجح عدم التقوية، وانظر تحقيق البلوغ – دار الآثار
قلت :وورد الأمر بمخالفة المشركين في الصحاح وغيرها، وورد في القرآن والسنة النهي عن توليهم؛ ومن المعلوم أن المشابهه الظاهرة تورث المودة.
وراجع اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية . انتهى من تخريج أبي داود لسيف بن دورة
قال ابن تيمية: “وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم، كما في قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: (من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة). [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/234)].
فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك, وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا لها كان حكمه كذلك.
وبكل حال يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبهًا”.[اقتضاء الصراط المستقيم (1/270-271)].
(المسألة الرابعة): حكمة النهي عن التشبه بالكفار:
ذكر العلماء حكمًا وأسبابًا كثيرة في النهي عن التشبه بالكفار، ومنها ما يلي:
1- أن أعمال الكفار مبناها على الضلال والفساد:
قال ابن تيمية: “إن نفس ما هم عليه من الهدْي والخُلُق قد يكون مضرًا أو منقصًا، فينهى عنه، ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص، لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قط.
فإذًا المخالفة لهم فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم، حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرًا بأمر الآخرة، أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا، فالمخالفة فيه صلاح لنا”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/198)].
وسيأتي تفصيل ذلك في الفتاوى بإذن الله
2- أن مخالفة الكفار تحقِّق مجانبتهم ومباينتهم والبعدَ عن أعمالهم:
قال ابن تيمية: “إن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشدُّ من ضرر أمراض الأبدان”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/197-198)].
3- أن التشابه يوقع شيئًا من المشاكلة:
قال ابن تيمية: “إن الله تعالى جَبَل بني آدم, بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط.
ولما كان بين الإنسان وبين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص كان التفاعل فيه أشد, ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط، فلا بدّ من نوع تفاعل بقدره، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلا بد من نوع ما من المفاعلة، ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة…
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/547-548)].
وقال أيضًا: “إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/93)].
4- تحقيق مبدأ الولاء والبراء:
قال ابن تيمية: “إن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقيق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/93)].
5- تمييز المسلمين عن غيرهم من الكفرة والملحدين:
قال ابن تيمية: “إن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميّز ظاهرًا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/94)].
(المسألة الخامسة): أحكام التشبه بالكفار:
قال ابن عثيمين: “الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا وهم الكفار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عبادات، القسم الثاني: عادات، القسم الثالث: صناعات وأعمال.
أما العبادات فمن المعلوم أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم, ومن تشبه بهم في عباداتهم فإنه على خطر عظيم, فقد يكون ذلك مؤديًا إلى كفره وخروجه من الإسلام.
وأما العادات كاللباس وغيره فإنه يحرم أن يتشبه بهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبّه بقوم فهو منهم))[أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود (4031)، وغيرهما، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): “سنده صحيح”، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104)].
وأما الصناعات والحرف التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يُعدّ من قام بها متشبهًا بهم”.[مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (3/40)].
“إن أحكام التشبه على جهة التفصيل لا يمكن استقراؤها، لأن كل حالة من أحوال التشبه لها حكم يعرض على النصوص وعلى قواعد الشرع من قِبَل أهل العلم والفقه في الدين, ولكن هناك بعض الأحكام العامة التي تنتظم جميع أنواع التشبه في الجملة، لا على جهة التفصيل، على النحو التالي:
أولاً: من أنواع التشبه بالكافرين ما هو شرك أو كفر، كالتشبه في العقائد، والتشبه في بعض العبادات، وكالتشبه باليهود والنصارى والمجوس في الأمور المخلة بالتوحيد والعقيدة، كالتعطيل والإلحاد والحلول, وتقديس الأشخاص من الأنبياء والصالحين وعبادتهم ودعائهم من دون الله، وكتحكيم الشرائع والنظم البشرية، كل ذلك إما شرك وإما كفر.
ثانيًا: من التشبه ما هو معصية وفسق، كتقليد الكفار في بعض العادات، كالأكل باليد الشمال، والشرب بها، والتختم بالذهب، والتحلي به للرجال، وحلق اللحى، وتشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، ونحو ذلك.
ثالثًا: ما هو مكروه، وهو ما تردد الحكم فيه بين الإباحة والتحريم، على سبيل عدم الوضوح في الحكم، أعني أنه قد تتردد بعض أنماط السلوك والعادات والأشياء الدنيوية بين الكراهة وبين الإباحة، فهذا دَفْعًا لوقوع المسلمين في التشبه، يبقى حكمه مكروهًا.
رابعًا: ما هو مباح، وهو ما ليس من خصائصهم من أمور الدنيا، أي: ليس فيه سمة تخصهم وتميزهم عن المسلمين الصالحين، وما لا يجر إلى مفسدة كبرى على المسلمين أو إلى منفعة للكفار تؤدي إلى الصغار للمسلمين، ونحو ذلك. ومن المباح: الإنتاج المادي البحت والعلوم الدنيوية البحتة”.
* قال ابن تيمية:
[التحذير من اتباع بدع اليهود والنصارى]
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من وقوعها في بعض هذه الأمة، وإن كان قد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال في أمته أمة قائمة على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، وأن أمته لا تجتمع على ضلالة، ولا يغلبها من سواها من الأمم، بل لا تزال منصورة متبعة لنبيها المهدي المنصور.
لكن لا بد أن يكون فيها من يتتبع سنن اليهود والنصارى والروم والمجوس، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟» .
وفي الصحيحين أيضا، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتأخذ أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم، قال: فمن الناس إلا أولئك»
وفي المظهرين للإسلام منافقون، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار تحت اليهود والنصارى ; فلهذا كان ما ذم الله به اليهود والنصارى قد يوجد في المنافقين المنتسبين للإسلام الذين يظهرون الإيمان بجميع ما جاء به الرسول، ويبطنون خلاف ذلك كالملاحدة الباطنية، فضلا عمن يظهر الإلحاد منهم.
ويوجد بعض ذلك في أهل البدع، ممن هو مقر بعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، باطنا وظاهرا، لكن اشتبه عليه بعض ما اشتبه على هؤلاء، فاتبع المتشابه، وترك المحكم كالخوارج وغيرهم من أهل الأهواء.
وللنصارى في صفات الله سبحانه وتعالى، واتحاده بالمخلوقات ضلال شاركهم فيه كثير من هؤلاء، بل من الملاحدة من هو أعظم ضلالا من النصارى.
والحلول والاتحاد نوعان: عام، وخاص.
فالعام: كالذين يقولون إن الله بذاته حال في كل مكان، أو إن وجوده عين وجود المخلوقات.
والخاص: كالذين يقولون بالحلول والاتحاد في بعض أهل البيت، كعلي، وغيره، مثل النصيرية، وأمثالهم، أو بعض من ينتسب إلى أهل البيت كالحاكم، وغيره، مثل الدرزية وأمثالهم أو بعض من يعتقد فيه المشيخة، كالحلاجية، وأمثالهم.
فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى حل، أو اتحد بأحد من الصحابة، أو القرابة، أو المشايخ، فهو من هذا الوجه أكفر من النصارى الذين قالوا بالاتحاد والحلول في المسيح، فإن المسيح عليه السلام أفضل من هؤلاء كلهم ومن قال بالحلول والاتحاد العام، فضلاله أعم من ضلال النصارى، وكذلك من قال بقدم أرواح بني آدم، أو أعمالهم، أو كلامهم، أو أصواتهم، أو مداد مصاحفهم، أو نحو ذلك، ففي قوله شعبة من قول النصارى.
فبمعرفة حقيقة دين النصارى وبطلانه يعرف به بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع.
فإذا جاء نور الإيمان والقرآن أزهق الله به ما خالفه، كما قال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} [الإسراء: 81] .
وأبان الله سبحانه وتعالى من فضائل الحق ومحاسنه ما كان به محقوقا.
[الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 92)]
(المسألة السادسة): ضوابط وقواعد:
لكي تكون مسألة التشبه بالكفار واضحة جلية لجميع الناس ذكر العلماء جملة من الضوابط والقواعد الشرعية من خلال استعراض الأدلة من القرآن الكريم ثم من السنة النبوية الصحيحة الواردة في النهي عن تشبه المسلمين بالكفار، وإجماع المسلمين في العصور الفاضلة على ذلك, ومن تلكم الضوابط والقواعد ما يلي:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق أن هذه الأمة لا بد أن تتبع سنن من كان قبلها من الأمم الأخرى.
قال ابن تيمية: “فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم”[ اقتضاء الصراط المستقيم (1/81)].
ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن طائفة من أمته ستبقى مستمسكة بالحق.
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)).
قال ابن تيمية بعد أن ذكر التشبه بالكفار: ” وليس هذا إخبارًا عن جميع الأمة, [وقد] عُلِم بخبره الصادق أن في أمته قوم مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا, وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود، أو شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضًا، بل قد يكون الانحراف كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ”
“وهذه القواعد لا يمكن أن ينفصل بعضها عن بعض عند النظر في مسائل التشبه، لأنا لو فصلنا هذه النصوص بعضها عن بعض لتوهم بعض الناس أن المسلمين كلهم سيقعون في التشبه، وهذا لا يمكن أبدًا؛ لأن هذا يناقض حفظ الدين، والله تعالى تكفل بحفظه، ولأن هذا يناقض إخباره صلى الله عليه وسلم بأن في أمته طائفة ستبقى على الحق ظاهرة، كما أنا لو أخذنا بهذا الحديث الآخر وهو: ((ستبقى طائفة)) ولم نأخذ بالحديث الأول وهو: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) لتوهم بعض الناس أن هذه الأمة معصومة من الوقوع في التشبه بالكافرين.
والأمر ليس بهذا ولا بذاك، إنما ستبقى الأمة الأوسط أهل السنة والجماعة، هم الذين على السنة لا يتشبهون. والفرق الأخرى التي افترقت عن أهل السنة والجماعة إنما افتراقها صار بوقوعها في التشبه, فما من طائفة من طوائف الأمة خرجت عن السنة إلا وقعت في شيء من سنن الأمم الهالكة”[ اقتضاء الصراط المستقيم (1/356)].
ثالثًا: لا يكون التشبه بالكفار إلا بفعل ما اختصوا به من دينهم أو من عاداتهم.
قال ابن عثيمين: “مقياس التشبه أن يفعل المتشبِّه ما يختص به المتشبَّه به. فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئًا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبّهًا، فلا يكون حرامًا من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرمًا من جهة أخرى.
وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة، وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال (1/272): وقد كره بعض السلف لبس البُرْنُس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى! قال: كان يلبس ها هنـا. اهـ. قلت: لو استدل مالك بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس)) الحديث[أخرجه البخاري في الصلاة, باب: التوجه نحو القبلة حيث كان (399) واللفظ له, ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة, باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (525)] لكان أولى.
وفي الفتح (1/307) أيضًا: وإن قلنا: النهي عنها ـ أي: عن المياثر الأرجوان ـ من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة والله أعلم”. انتهى.
رابعًا: إن جنس المخالفة للكافرين والأعاجم ونحوهم أمر مقصود للشارع، وإن التشبه بهم منهي عنه في الجملة في عامة أمورهم الدينية والدنيوية. [اقتضاء الصراط المستقيم (1/81)].
خامسًا: أن هناك أمورًا خُصّت بالنهي، ووردت بها السنة بعينها، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، وحلق اللحى وإعفاء الشوارب، والأكل والشرب بالشمال، ونحو ذلك.
سادسًا: أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا ـ نحن المسلمين ـ في دنيانا وآخرتنا.
سابعًا: أنه ليس شيء من أمور الكفار، في دينهم ودنياهم إلا وهو إما فاسد وإما ناقص في عاقبته، حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون اتباعنا لهم فيه مضرًا؛ إما بدنيانا وآخرتنا أو أحدهما وإن لم ندرك ذلك..
ثامنًا: “كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرًا أو معصية ينهى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدًا للذريعة وحسمًا للمادة.
تاسعًا: لا تشبه فيما اتفقت عليه الملل.
عاشرًا: ما كان منهيًا عنه للذريعة فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة.
حادي عشر: كل فعل يفعله المسلم تشبهًا بالكفار أو يؤدي إلى التشبه بهم فلا يعان عليه.
ثاني عشر: كل تشبه تضمّن تدليسًا فهو محرم”[جلباب المرأة المسلمة (ص 172)].
ثالث عشر: يجب التفريق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم.
قال ابن تيمية: “واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقًا يجب اعتباره، وإجمالاً يحتاج إلى تفسير، وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين”.[ أخرجه مسلم في الصيام, باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (1096)].
(المسألة السابعة): الأمور التي ورد النهي فيها عن التشبه بالكفار:
الأمور التي ورد النهي عن التشبه بالكفار فيها يمكن حصرها في أنواع أربعة:
النوع الأول: العقائد:
وهي أخطر أمور التشبه, والتشبه بهم فيها كفر أو شرك.
ومن أمثلة التشبه في هذا المجال:
– صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى.
– ادعاء النبوة.
– ادعاء أبوة الله سبحانه لأحد من خلقه، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله، وكما قالت اليهود: العزير ابن الله. تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وما يتفرع عن ذلك من أمور كفرية أو شركية، فإن هذا من الأمور العقائدية”.
عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل, فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)).
وعن معاوية رضي الله عنه قال: (إن تسوية القبور من السنن، وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تتشبهوا بهم)[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/352)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[أخرجه البخاري في الجنائز, باب: ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم (1390), ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة, باب: النهي عن بناء المساجد على القبور (529)].
النوع الثاني: العبادات:
وقد ورد في السنة النبوية على جهة التفصيل نصوص كثيرة في النهي عن التشبه بالكافرين في العبادات، ومنها:
1- في باب الطهارة:
عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِ صلى الله عليه وسلم النبيَ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنّسَاء فِي ٱلْمَحِيضِ} إلى آخر الآية [البقرة:222]، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعُهُنَّ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننّا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما[أخرجه مسلم في الحيض, باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها (302)].
قال ابن تيمية: “فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم، حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه, ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم، وتارة في وصفه.
ومجانبة الحائض لم يخالَفوا في أصله، بل خولفوا في وصفه، حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الباب ـ أي: باب الطهارة ـ كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النصارى ترك ذلك كله، حتى أنهم لا ينجسون شيئًا بلا شرع من الله، فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى وسط من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضًا مشروعًا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربةٌ لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/215-216)].
2- في باب الأذان والصلاة:
أ- مخالفة أهل الكتاب في طريقة النداء للصلاة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة, ليس ينادى لها، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، قم فنادِ بالصلاة))[أخرجه البخاري في الأذان, باب: بدء الأذان (604), ومسلم في الصلاة, باب: بدء الأذان (377)].
وجاء تعليل انصرافه صلى الله عليه وسلم عن البوق والناقوس لكونهما من أمر اليهود والنصارى في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: اهتمّ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القُنْع ـ يعني الشَّبُّورـ فلم يعجبه ذلك، وقال: ((هو من أمر اليهود))، قال: فذكر له الناقوس، فقال: ((هو من أمر النصارى))، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا رسول الله، إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آت فأراني الأذان… فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله))، قال: فأذّن بلال[أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: بدء الأذان (498)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/81)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (468)].
قال ابن تيمية: “إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد علّل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى، لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقًا في غير الصلاة أيضًا لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعدِّدة غير أوقات عباداتهم. وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله، الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/356)].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمعهم أمر بالنداء فلم يستعمل الناقوس ولا البوق
ب- مخالفة اليهود في استقبال القبلة:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلىّ نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يُوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاء} [البقرة:144]، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس ـ وهم اليهود ـ: {مَا وَلَّـٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآء إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، ثم خرج بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلـى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجّه نحو الكعبة، فتحرّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة[أخرجه البخاري في الصلاة, باب: التوجه نحو القبلة حيث كان (399) واللفظ له, ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة, باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (525)].
قال مجاهد: “قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا, فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويستفرض القبلة، فنزلت: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} [البقرة:144]، وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا! في صلاة الظهر، فجعل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال”[جامع البيان (3/173-174) طبعة محمود شاكر.].
ج- النهي عن قيام المأمومين والإمام قاعد:
عن جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسْمِعُ الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلّم قال: ((إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا)).
د- الأمر بالصلاة في النعال لمخالفة أهل الكتاب:
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم))[صحيح سنن أبي داود (607)].
قال الألباني: “فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود مطلقًا، فهو دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، ثم خص بالذكر مخالفتهم بالصلاة في النعال والخفاف، وليس ذلك من قبيل تخصيص العام أو تقييد المطلق، بل هو من قبيل ذكر بعض أفراد العام”[جلباب المرأة المسلمة (ص 172)].
3- في باب الصيام:
أ- الترغيب في السحور:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)).
قال النووي: “معناه: الفارق والمميز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحرون, ونحن يستحب لنا السحور”[شرح صحيح مسلم (7/214)].
ب- الترغيب في تعجيل الفطر مخالفةً لأهل الكتاب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون))[أخرجه أحمد (2/450)، وأبو داود في كتاب الصيام، باب: ما يستحب من تعجيل الفطر (2336)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في تعجيل الإفطار (1698)، وصححه ابن حبان (3503، 3509)، والحاكم (1573)، والنووي في المجموع (6/359)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2063)].
قال الطيبي: “في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب، وأن في موافقتهم تلفًا للدين”[انظر: عون المعبود (6/480)].
وقال ابن تيمية: “وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى, وإذا كان مخالفتهم سببًا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/209)].
ج- مخالفة اليهود والنصارى في صوم يوم عاشوراء:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: “ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا”.
وقد جاء التصريح بمخالفة أهل الكتاب كما في حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يومًا، أو بعده يومًا))[أخرجه أحمد (1/241)، والبزار (1052 ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): “رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام”، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508). وصحّ موقوفًا عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287)].
قال ابن تيمية: “فتدبر هذا, يوم عاشوراء يوم فاضل، يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى! أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك, ولهذا استحب العلماء ـ منهم الإمام أحمد ـ أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء، وبذلك علّلت الصحابة رضي الله عنهم”[ اقتضاء الصراط المستقيم (1/284)].
4- في باب الحج:
ومن ذلك مخالفتهم في الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون من جَمْع -أي: جمع: مزدلفة- حتى تشرق الشمس على ثبير, وكانوا يقولون: أشرِق ثبير. كَيْما نغير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فدفع قبل أن تطلع الشمس[أخرجه البخاري في المناقب, باب: أيام الجاهلية (3838)].
5- في باب الأعياد والاحتفالات والمهرجانات:
جاءت نصوص كثيرة تدل على عدم جواز موافقتهم في أعيادهم، ومنها:
قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرامًا} [الفرقان:72].
قال ابن عباس وأبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: الزور أعياد المشركين[انظر: تاريخ بغداد (12/13)، وتفسير القرطبي (13/79)، وتفسير ابن كثير (3/329-330)].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر)).
قال ابن تيمية: “فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: ((إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين))، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما)) يقتضي ترك الجمع بينهما, لا سيما وقوله: ((خيرًا منهما)) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية”[اقتضاء الصراط المستقيم (1/486)].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تعلّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم)[أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1609)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/234)].
قال الذهبي: “قال العلماء: ومن موالاة الكفار التشبه بهم وإظهار أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسلمين، فإذا فعلها المسلم معهم فقد أعانهم على إظهارها, وهذا منكر وبدعة في دين الإسلام، ولا يفعل ذلك إلا كل قليل الدين والإيمان، ويدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))” [تشبّه الخسيس بأهل الخميس (ص 34)].
النوع الثالث: الأخلاق والعادات:
وردت نصوص في الكتاب والسنة تنهى المسلمين عن التشبه بالكفار في أخلاقهم وعاداتهم، من ذلك:
أ- الحسد:
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ} [البقرة:109].
قال ابن تيمية: “فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم، وقد يُبْتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله بعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم”[اقتضاء الصراط المستقيم (ص 1/83)].
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء…)) الحديث[أخرجه أحمد (1/164، 167)، والترمذي في كتاب صفة القيامة (2510)، والبزار (2232)، قال الهيثمي في المجمع (8/30): “إسناده جيد”، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2038)].
ب- النهي عن التشبه بالمشركين في دعوى الجاهلية:
عن جابر رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعّاب فكَسَع أنصاريًا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟)) ثم قال: ((ما شأنهم؟)) فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة))[ أخرجه البخاري في التفسير, باب: قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ..} (4905)، ومسلم في البر والصلة, باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584)].
ج- اللباس والزينة:
قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأولَىٰ} [الأحزاب:33].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))[أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3462), ومسلم في للباس والزينة, باب: في مخالفة اليهود في الصبغ (2103)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا تبد العورة، ولا تستن بسنة الجاهلية).
(المسألة الثامنة): أسباب وقوع المسلمين في التشبه بالكفار:
“إن ما نلمسه اليوم من ظاهرة تشبه المسلمين بغيرهم من الأمم الكافرة أمرٌ له بواعثه ودوافعه وأسبابه العديدة التي تضافرت على الوصول بالأمة الإسلامية إلى هذه الظاهرة.
ومن هذه الدوافع والأسباب ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي”[ التدابير الواقية (1/84)].
أولاً: الأسباب الداخلية:
1- الانحرافات العقدية.
2- الركود العلمي والفكري.
3- التنازع السياسي.
4- التعصب المذهبي.
5- التخلف المادي والاقتصادي.
6- الهزيمة النفسية والانبهار بالحضارة الغربية.
فهذه هي أهم الأسباب الداخلية لوجود ظاهرة تشبه المسلمين بالكفار، وهي أسباب لم يزل بعضها يأخذ بحجز البعض، حتى انتهى الأمر ببعض المسلمين إلى فقدانهم للمناعة الذاتية والقدرة على المقاومة، وشاع بين بعض ضعاف النفوس من المسلمين روح الانهزام الفكري, فأصبحوا بذلك مهيّئين لاستقبال البديل الغربي في العقيدة وفي الشريعة والحكم، وفي الفكر والثقافة والأخلاق، وغير ذلك من المجالات التي غزاها الفكر الوافد.[التدابير الواقية (1/105-106)].
ثانيًا: الأسباب الخارجية:
ومنها مكايد الكفار للإسلام والمسلمين.
“وهذا حاصل من أول ظهور الإسلام حتى اليوم، فالكفار بمختلف مللهم وعقائدهم وأديانهم وأهوائهم كادوا ولا يزالون يكيدون للإسلام.
فكان من مكائدهم إيقاع المسلمين في كثير مما كانوا عليه من أمور العقائد والعادات والأعياد والسلوك.
ولذلك نجد أن أغلب أسباب الافتراق في الأمة هي مكائد الكافرين.
وما من فرقة افترقت عن الأمة إلا ونجد أن من أسباب افتراقها وجود طوائف من الكفار, إما أن يكونوا أسهموا في بثها وترويجها بين أهل الأهواء والبسطاء من المسلمين، أو كانوا رؤوسًا فيها أو من أتباعها.
فمكائد الكفار أصحاب الديانات والملل هي من أهم أسباب وقوع المسلمين في التشبه.
والله سبحانه وتعالى أخبرنا بذلك في مثل قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وفي مثل قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء مِنْ أَفْوٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، ومثل قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ} [البقرة:105]، ومثل قوله تعالى، {إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ} [آل عمران:149]، وقال: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ كَـٰفِرِينَ} [آل عمران:100].
إذًا فالكفار لا شك أنهم حرصوا ـ ولا يزالون من أحرص الناس ـ على صرف المسلمين عن دينهم، وهم الآن يبذلون جهودًا أكثر من أي وقت مضى، وكل مسلم متأمل لواقع المسلمين الآن في العالم كله يدرك تكالب الكفار على الأمة المسلمة اليوم، لمحاولة فرض أحوال وأمور الكافرين من عقائد ومن عادات ومن أنظمة ومن سياسات وأخلاق وغيرها”.
وهناك أسباب أخرى نذكر بعضًا منها باختصار وهي كما يلي:
1- الحروب الصليبية الأولى.
2- الغزو الفكري.
3- الاستعمار.
4- الابتعاث الطلابي.
وهناك سبب داخلي خارجي في وقوع المسلمين في التشبه بالكفار، ألا وهو كيد المنافقين؛ فهم يعيشون بين ظهراني المسلمين، مظهرين الإسلام ومبطنين الكفر, وهم الأداة الفعّالة والقوية في خدمة الكفار قديمًا وحديثًا، فالمنافقون الذين بين المسلمين لهم أثر كبير في جرّ المسلمين إلى التشبه، سواء منهم من كان كافرًا وأظهر الإسلام للكيد بالمسلمين، أو كان مسلمًا وارتدّ عن دين الله في الباطن، أو كان زنديقًا مظهرًا للإسلام محرّفًا له”.
(المسألة التاسعة): آثار التشبه بالكفار ومظاهره:
للتشبه بالكفار آثار وخيمة ومظاهر سيئة تتجلى في عقيدة المسلم وعباداته وسلوكه وأخلاقه وعاداته وتصرفاته وهيئته وحركاته وسكونه وهويته, بل في جميع جزئيات حياته.
فمن أبرز هذه المظاهر والآثار ما يلي:
1- انحسار المفهوم الشامل للدين.
2- ضعف الإيمان بالغيب.
3- قيام حركة التشكيك في مصادر العقيدة وإثارة الشبهات حولها.
4- ضعف الرابطة الدينية بين المسلمين, وإحلال الروابط الجاهلية محلها.
5- الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب الكافر.
6- الدعوة إلى تطوير المعاهد الإسلامية بما يضعِف التعليم الديني.
7- محاربة اللغة العربية الفصحى.
8- استيراد النظم والمناهج التعليمية الغربية.
9- تسرب مذاهب الأدب والنقد الغربية إلى الأدب العربي.
10- الاستمداد من النظم والقوانين الغربية.
11- فصل الدين عن السياسة.
12- تغريب المرأة المسلمة بدعوى تحرير المرأة, وذلك بمهاجمة تعدد الزوجات، وبمساواة المرأة بالرجل، ثم بإباحة الاختلاط، ونزع جلباب المرأة المسلمة. [انظر: التدابير الواقية (1/133-229) باختصار].
(المسألة العاشرة): سبل الوقاية من التشبه بالكفار:
إن من أجلّ نعم الله تعالى على المسلمين أن مَنَّ عليهم بالإسلام, وأرسل عليهم أفضل رسله، وأنزل عليهم أفضل كتبه، وهداهم إلى صراطه المستقيم، وبيّن لهم طريقه القويم, وكذلك أرشدهم كيف يصونون دينهم وعقيدتهم من الشرك والشبهات.
ومعلوم أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين[انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/352)]، لذا لم يقتصر الشارع على تحريم التشبه بالكفار فحسب, بل بادر بسد جميع السبل والمنافذ المؤدية إلى ذلك، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: بناء شخصية الفرد المسلم:
وذلك من خلال تكوين روح الاعتداد بالنفس وروح الجماعة وروح الاعتزاز بالدين لدى المسلم:
1- تكوين روح الاعتزاز بالنفس لدى المسلم:
إن مما يدفع بعض الناس إلى تقليد الآخرين والتشبه بهم ومحاكاتهم ضعف شخصيتهم وشعورهم بالهزيمة النفسية من الداخل،
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لا يكونن أحدكم إمّعة)، قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (يقول: إنما أنا مع الناس، إن اهتدَوا اهتديت، وإن ضلّوا ضلَلت، ألا ليوطِّن أحدكم نفسه على إن كفر الناس أن لا يكفر). [أخرجه الطبراني في الكبير (9/152)، وأبو نعيم في الحلية (1/136-137)، وروي معناه مرفوعا ولا يصح].
قال الزمخشري: “الإمّعة هو الذي يتبع كلَّ ناعق، ويقول لكل أحد: أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه”[الفائق في غريب الحديث (1/57)].
وقال القاري: “فيه إشعار بالنهي عن التقليد المجرّد حتى في الأخلاق, فضلاً عن الاعتقادات والعبادات”.[انظر: تحفة الأحوذي (6/145)].
2- تكوين روح الجماعة لدى المسلم:
اعتنى الإسلام بتكوين روح الجماعة لدى المسلم تتكاتف جهودهم للعمل لهذا الدين والانتصار له وإقامة الأمة الإسلامية القوية المنيعة التي تأبى على الذل والهوان، وتترفع عن الخضوع للكفار والتبعية لهم.
ومن الطرق التي سلكها الإسلام لتكوين الروح الجماعية لدى المسلم ما يلي:
أ- تقوية أواصر الأخوة الإسلامية بين المسلمين والتحذير من كلّ ما يزعزعها.
ب- تكوين الوعي الكامل بوحدة الأمة الإسلامية وترابط مصالح الفرد والجماعة.
ج- تقرير المسؤولية الجماعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د- التأكيد على الجماعة في الشعائر التعبدية المشروعة أداؤها جماعة كالصلاة المفروضة.
هـ- الدعوة الصريحة إلى لزوم جماعة المسلمين وترك التفرق.
وإذْ يَهْتم الإسلام هذا الاهتمام الكبير بأن يكون المسلم متآلفًا مع الجماعة، فإنه لا يترك هذه الروح الجماعية بدون شروط تجب مراعاتها، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة تبين هذه الشروط التي يجب توفرها في تنمية الروح الجماعية، ولعل أهم هذه الشروط أن يكون الاجتماع والتآلف والتآخي على أساس الإيمان والتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدّينِ} [التوبة:11].
ومن هذا الباب جاء الحث على اختيار الرفقة الصالحة حتى تكون وسيلة للتعاون على الخير والمحافظـة على شـخصية المسلم ووقايتها من الذوبان والانحلال الذي ربما جـر ـ والعياذ بالله ـ إلى التشبه بالكفار.
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة))[أخرجه البخاري في الذبائح والصيد, باب: المسك (5534)، ومسلم في البر والصلة, باب: استحباب مجالسة الصالحين (2628)].
وإن الروح الجماعية وعملية اختيار الرفقة الصالحة إذا تم تكوينهما وترسيخهما في نفس المسلم تكون لهما آثار إيجابية في حياة المسلمين أفرادًا وجماعات ودولاً وشعوبًا، ومن تلكم الآثار ما يلي:
أ- التعلم والتعليم واكتساب الخبرات.
ب- اكتشاف صفات النفس.
ج- التأدب والتأديب.
د- بعث الأمل في النفس وتجديد النشاط.
هـ- التعاون من أجل التمكين لدين الله في الأرض.
و- حفظ الهيبة والكرامة الإسلامية.
ز- بث روح التراحم والتوادد بين المسلمين.
3- تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم:
ومن أهم آثار ونتائج تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم ما يلي:
أ- تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل.
ب- اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
ج- إخلاص الولاء لله ورسوله وللمؤمنين.
ثانيًا: تحصين وصيانة شخصية المسلم بعد بنائها وتكوينها:
إن من محاسن الدين الإسلامي حفظ وصيانة شخصية المسلم بعد إعدادها وبنائها وتكوينها، وذلك من الانصياع والذوبان والتأثر بالكفار أو الخضوع لهم أو موالاتهم والركون إليهم.
ومن أهم طرق تحصين شخصية المسلم بعد بنائها ما يلي:
1- التمسك بمبدأ الولاء والبراء:
يقول عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: “أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجر ونحو ذلك من الأعمال، والولي ضد العدو”.[الرسائل والمسائل النجدية (3/290)].
2- مخالفة الكفار وعدم التشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم وعاداتهم وسائر ما يختصون به.
3- التزام ضوابط وشروط التعامل مع غير المسلمين في حالة السلم:
ومن تلكم الشروط ما يلي:
أ- أن لا يترتب على هذا التعامل مذلة على المسلم ولا على الدين.
ب- أن لا تؤدي إلى ولاية الكافر على المسلم ولا إلى تسلطه عليه.
ج- أن لا تكون فيها موالاة للكافر، ولا تشبه به، ولا ركون إليه، أو نحو ذلك من صور الموالاة.
ثالثًا: تحصين وصيانة ديار الإسلام من نفوذ الكفار:
لم يكتف الإسلام بصيانة شخصية المسلم من التأثر بالكفار عن طريق تطعيمه عقديًا وتعبديًا وأخلاقيًا، وعن طريق رسم المنهج الصحيح لتعامله مع الكفار لمنع تسرُّب أيِّ أثر من آثارهم إليه؛ إذ لا بد أن تتوازى مع عملية صيانة شخصية المسلم عمليةُ صيانة أخرى للبيئة التي يعيش فيها، بمكافحة أسباب انتشار أوبئة الكفر والفسق في هذه البيئة، لذلك اتخذ الإسلام بعض التدابير الواقية، ومنها:
1- منع دخول الكفار إلى بعض الديار الإسلامية وهي حدود الحرمين الشريفين فضلاً عن إقامتهم فيها، كما سمح بدخولهم فقط دون الاستيطان في بعض الديار الأخرى وهي الحجاز، لما لهذه الأماكن من أهمية خاصة في قلوب المؤمنين؛ فهي مهبط الوحي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومنطلق الدعوة الإسلامية، فأولى بأن يمنع الكفار من دخولها والاستيطان فيها، للحفاظ على نقاوتها؛ لتبقى مشاعل النور والهدى للمسلمين كلما داهمتهم دياجير ظلمات التشبه بالكفار.
2- سمح الإسلام بدخول وإقامة الكفار في سائر الديار الإسلامية الأخرى سواء كانت إقامتهم إقامة دائمة مؤبدة كأهل الذمة، أو كانت إقامة مؤقتة كالمستأمنين، وذلك تلبية لمطالب الحياة البشرية القائمة على التعاون وتبادل المنافع، وطبقًا لطبيعة دين الإسلام الدعوية التي تقتضي التغلغل بين الأمم والشعوب الأخرى لإبلاغ دعوة الإسلام إليها.
3- منع تمكين الكفار في دار الإسلام, فإن الأصل في تمكين الكفار في الأرض حصول الفساد والضلال فيها، وتأسيسًا على هذا الأصل سعى الإسلام إلى منع تمكين الكفار في دار الإسلام متخذًا في ذلك التدابير الواقية التالية:
أ- منع تولية الكافر على المسلمين ولاية عامة في الدولة الإسلامية حدًا من تمكين الكفار فيها، وتفاديًا لخضوع المسلمين لسلطانهم المتنافي مع قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
ب- قيّد الإسلام ملكية الكفار للعقار في الدولة الإسلامية، حيث ملكهم فقط منافع الأراضي دون رقابها، ومن ثم لا يسمح لهم باستخدام أراضيهم في إقامة المعابد الشركية، أو الملاهي وأماكن المعاصي، كما لا يسمح لهم بالوقف والوصية على هذه الأماكن.
ج- فرض الإسلام قيودًا شرعية على الصادرات من الدولة الإسلامية وعلى الواردات إليها، فلا يسمح بتصدير السلاح وصغار العبيد وكل ما فيه قوة للكفار على حرب المسلمين، لأن ذلك يؤدي إلى تمكينهم من دار الإسلام، كما لا يسمح بتوريد ما هو محرم شرعًا إلى داخل الدولة الإسلامية حفاظًا على عقيدة المسلمين وأخلاقهم.
4- كفل الإسلام لغير المسلمين المقيمين على أرضه كافة الحقوق والحريات التي يحتاجها الإنسان في حياته، وألزمهم في مقابل ذلك بواجبات تهدف إلى كسر شوكتهم في دار الإسلام، ومن هذه الواجبات:
أ- حملهم على الخضوع لأحكام الشرع الإسلامي فيما يتعلق بالمسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية دون ما يتعلق بالعقيدة.
ب- منعهم من الإساءة لشعائر الإسلام، فلا يجوز لهم التعرض لدين الإسلام، ولا لكتاب الله ولا لرسوله بإهانة أو طعن أو تحريف أو تكذيب، كما يجب عليهم الامتناع عن كل ما فيه ضرر بالمسلمين في دينهم ونفوسهم وأعراضهم وأموالهم.
ج- منعهم من إظهار شعائر دينهم درءًا للفتنة في الدين، ومنعهم من التظاهر بالمنكرات التي يستحلونها وأقروا عليها بموجب عقد الذمة أو الأمان، حيث إن إظهار ذلك مما يغري بعض سفهاء المسلمين بتناوله تشبهًا بهم.
د- منع الذميين من التشبه بالمسلمين في اللباس والهيئات، وفي الأسماء والكنى والألقاب والمراكب, ومن التعالي على المسلمين في المساكن, وألزمهم بالغيار؛ وهو لبس علامة فارقة تميزهم عن المسلمين في المجتمع، حتى يمكن إنزال كل فريق منزلته، ويعطى ما يستحقه من حقوق، ويطالب بأداء ما يجب عليه من واجبات.
رابعًا: الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه بالكفار:
لم يكتف الإسلام بتشريع سبل الوقاية فقط، بل حمّل أيضًا الدعاة والمحتسبين وظائف ومسؤوليات لترجمة تلك التدابير إلى واقع عملي ملموس وإلى نموذج تطبيقي مشاهد. حيث إن التدابير الإسلامية لتكوين شخصية المسلم والتدابير الواقية من تأثر المسلم بالكفار والتدابير الواقية من نفوذ الكفار في دار الإسلام تحتاج إلى من يبيّنها للناس، ويدعوهم إليها بمختلف الوسائل والأساليب، ويقيم الحجج عليها، ويدفع شبه المخالفين عنها، وهذه مهمة الدعاة.
كما أن تلك التدابير تحتاج أيضًا إلى من يَحْمِل الناس على السير وفق مقتضياتها، ويمنعُهم من مخالفتها، ويؤدِّب المنحرفين عنها، ويتخذ في ذلك كافة الوسائل والأساليب الممكنة لتحقيق الأمور المذكورة، ومن هنا تأتي مهمة المحتسبين.
فمن الوظائف والواجبات الملقاة على عاتق الدعاة والمحتسبين في هذا الصدد ما يلي:
1- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه العقدي:
وذلك بما يلي:
أ- كشف النقاب عن الحركات والتنظيمات العاملة على تقويض العقيدة الإسلامية، كمنظمات التنصير والماسونية والصهيونية وغيرها.
ب- الحرص على بيان العقيدة الصحيحة وتوضيحها للأمة، وتحذيرها من الشرك والبدع.
ج- الاحتساب على المظاهر الشركية والبدعية المؤدية إلى الغلو في الدين وفي الأشخاص.
2- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه التعبدي:
يجب على الدعاة بيان العبادة الصحيحة وأحكامها وشروطها، وما يضاد ذلك من البدعة المحدثة في الشعائر التعبدية، وقايةً للأمة من التخبط في أوحال بدع وطقوس الأمم الكافرة, التي طالما تسربت إلى العبادات الإسلامية بسبب الجهل الذي يعيش فيه غالب المسلمين.
3- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الأخلاقي:
وذلك بما يلي:
أ- الكشف عن الوسائل والأساليب المستخدمة لتقويض الدعائم الخلقية للشعوب الإسلامية، فأعداء الإسلام يتسترون وراء شعارات مختلفة، ويلبسون أقنعة متنوعة، ويتسمّون بأسماء متعددة، مع أن الحقيقة والجوهر واحد. وهم يزرعون أفكارهم بالأساليب المختلفة الخبيثة، المباشرة منها وغير المباشرة، فتنتشر هذه الأفكار كانتشار الجراثيم في البيئة.
وجراثيم الأمراض الخلقية التي يبثها أعداء الإسلام بالوسائل المختلفة الخفية منها والظاهرة قد لا تظهر آثارها في حينها على الأفراد لوجود مقاومة عقدية أو اجتماعية، ولكن مع مرور الأيام تظهر وقد استفحل الأمر واستعصى, مما يجعل الكشف المبكّر والدائم عن تلك الوسائل والأساليب التي يستخدمها أعداء الأمة لزرع جراثيم الأمراض الخلقية في أوساط المسلمين أمرًا له الأهمية القصوى في مواجهة التشبه الأخلاقي.
ومن تلك الوسائل: إنشاء النوادي وبيوت الشباب التي يستخدمونها في ترويج المسكرات والمخدرات، ونشر الأفلام والصحف والمجلات الخليعة والماجنة ونشر تجارة الجنس عن طريق الملاهي والمراقص الليلية وفرق الرقص، وتشجيع السياحة إلى بلاد الكفر، والسماح بالتعري على شواطئ البحار والأنهار، وعن طريق ما يسمونه بالأدب المكشوف، وهو عبارة عن الكتب والقصص الجنسية التي لا تتورع عن تزيين سبل الفساد للشباب.
ب- القيام بتزكية النفوس بالأخلاق الحميدة:
المهمة الثانية التي يجب على الدعاة ـ وهم في مضمار المواجهة مع ظاهرة التشبه الأخلاقي ـ أن يعملوا على تزكية نفوس المسلمين بالأخلاق الحميدة، وذلك بالعمل على إثارة دواعي التمسك بالأخلاق الحميدة لدى الناشئة، وتنفيرهم من دواعي التحلل منها، وبيان مدى فائدة وفضيلة التحلي بالخلق الكريم، وتبصيرهم بعواقب الانحلال الخلقي الوخيمة.
ج- الاحتساب على توريد البضائع المحرمة.
د- القيام بمراقبة المطبوعات.
هـ- القيام بالاحتساب على الكفار المقيمين في ديار الإسلام في مجال الأخلاق.
4- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الثقافي:
مجال الفكر والثقافة من أخطر مجالات تشبه المسلمين بالكفار لكونه سببًا في غيره من مجالات التشبه الأخرى، وقد استخدم الكفار في التغريب الثقافي للشعوب الإسلامية وسيلتين خطيرتين:
إحداهما: المناهج التعليمية، وهي أهم وسيلة لتغيير الشعوب وتشكيلها, وتغيير هويتها حسب الغايات والأهداف التي تراد لها.
ثانيهما: وسائل الإعلام، وهذه لا تقل خطورة عن الوسيلة السابقة، إن لم تكن أخطر منها في عصرنا الحاضر، لسعة انتشارها وسهولة استخدامها ومناسبتها لمختلف فئات الأمة، فقد كان للإعلام في بعض البلاد الإسلامية بوسائله المتعددة دور بارز وخطير ساهمت به مع المناهج التعليمية في طمس معالم الثقافة الإسلامية وتشويهها، وفي التحريض على التشبه بثقافة غير المسلمين وفكرهم ومعارفهم.
ومن هنا كان لا بد لمواجهة التشبه الثقافي من إصلاح المناهج التعليمية ووسائل الإعلام معًا، وذلك بما يلي:
أ- الدعوة إلى التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية والإنسانية.
ب- الدعوة إلى التوجيه الإسلامي للعلوم المختلفة.
ج- الاهتمام بدعوة الأقليات المسلمة في بلاد الكفر.
د- الاحتساب على المدارس الأجنبية القائمة في بلاد المسلمين، وإخضاعها تحت الإشراف والرقابة.
هـ- الاحتساب على أهل الذمة في مجال التعليم والثقافة.
خامسًا: دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة:
لا شك أن التشبه بالكفار انحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين.
قال ابن تيمية: “وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان، فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلاً”.[اقتضاء الصراط المستقيم (1/83)].[ ذم التشبه بالكفار، بتصرف يسير]
(المسألة الأولى): الفتاوى
[1]حكم التشبه باليهود والنصارى وغيرهم من الكفار
السؤال: هل يأثم المسلم بهذا التشبه؟ أفيدونا جزاكم الله كل خير.
الجواب: الواجب على المسلم أن يستقل بنفسه وأن يتباعد عن مشابهة أعداء الله كما أمره الله بذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر الأمة من اتباع سنن من قبلها من الأمم الكافرة، من يهود أو نصارى أو مجوس أو غيرهم من الكفرة، فدل ذلك على وجوب استقلال المسلمين بزيهم الخاص، وطاعاتهم التي أوجب الله عليهم وشرع لهم.. إلى غير ذلك، وأن لا يتشبهوا بأعدائهم، لا في أخلاقهم ولا في أعمالهم، ولا في أقوالهم، ولا في أعيادهم ولا في أزيائهم، ولهذا روى الإمام أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث طويل: ومن تشبه بقوم فهو منهم
لكن لو وجد شيء مشترك بأن.. فعله المسلمون والكافرون فلا يسمى هذا تشبهاً كما وقع الآن في ركوب الطائرات، وركوب السيارات، والقطارات، كانت هذه أول عند أعدائنا ثم يسر الله لنا الانتفاع بها، فهذا صار الآن مشتركاً ليس فيه تشبه بأعداء الله.
فالأمور التي للمسلمين فيها نفع يجوز أن يأخذوها من عدوهم ولا يسمى تشبهاً لما فيه من الإعداد والنفع العام للمسلمين، وهكذا الأشياء التي اشترك فيها المسلمون وصارت من عادة الجميع لا يكون فيها تشبه، وإنما التشبه يكون فيما اختصوا به وصار من زيهم خاص. نعم.
أما ما كان من ديننا نستعمله، ولو تشبهوا بنا فيه، ولو شاركونا .كذلك … التي تنفعنا نأخذ بها مثل نظام المرور، نظام الشرطة، نظام كذا .. نظام كذا.. الذي ينفع الأمة. نعم.
[2] وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء عن المشابهة بالكفار المنهي عنها فأجابوا :
” المراد بمشابهة الكفار المنهي عنها : مشابهتهم فيما اختصوا به من العادات ، وما ابتدعوه في الدين من عقائد وعبادات ، كمشابهتهم في حلق اللحية … .
أما لبس البنطلون والبدلة وأمثالهما من اللباس ، فالأصل في أنواع اللباس الإباحة ، لأنَّهُ من أمور العادات ، قال تعالى : ( قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) الآية ، ويستثنى من ذلك ما دلَّ الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال ، والذي يصف العورة لكونه شفافاً يُرى من ورائه لون الجلد ، أو ككونه ضيقاً يحدد العورة ، لأنه حينئذ في حكم كشفها , وكشفها لا يجوز ، وكالملابس التي هي من سيما الكفار فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء , لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم ، وكلبس الرجال ملابس النساء , ولبس النساء ملابس الرجال , لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال .
وليس اللباس المسمى بالبنطلون مما يختصُّ بالكفار ، بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول ، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد لعدم الإلف ومخالفة عادة سكانها في اللباس ، وإن كان ذلك موافقاً لعادة غيرهم من المسلمين ، لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألاَّ يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات ” انتهى . ” فتاوى اللجنة الدائمة ” ( 3 / 307 – 309 ) .
وقالوا أيضاً :
” يجب على المسلمين والمسلمات أن يحرصوا على الأخلاق الإسلامية ، وأن يسيروا على منهج الإسلام في أفراحهم وأتراحهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وجميع شؤونهم.
ولا يجوز لهم أن يتشبَّهوا بالكفار في لباسهم بأن يلبسوا الملابس الضيقة التي تحدِّد العورة ، أو الملابس الشفافة الرقيقة التي تشف عن العورة ولا تسترها ، أو الملابس القصيرة التي لا تغطي الصدر أو الذراعين أو الرقبة أو الرأس أو الوجه ” انتهى .
” فتاوى اللجنة الدائمة ” ( 3 / 306 ، 307 ) .
[3] وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :
” وتباح ثياب الكفار إذا لم تعلم نجاستها ؛ لأن الأصل الطهارة ؛ فلا تزول بالشك ، ويباح ما نسجوه أو صبغوه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون ما نسجه الكفار وصبغوه ” انتهى . ” الملخص الفقهي ” ( 1 / 20 ).
[4] حكم لبس المرأة الثوب الأبيض ليلة زفافها
الجواب:
الشيخ: إن لبس الثياب البيضاء للمرأة إذا لم تكون خياطتها على شكل خياطة لباس الرجل لا بأس به بشرط ألا تخرج به إلى الأسواق؛ لأن خروجها به إلى الأسواق يعتبر من التبرج بالزينة. وأما لبس ذلك عند الزواج فهو أيضاً لا بأس به إذا لم يكن فيه تشبه بالنصارى أو غيرهم من الكفار، فإن كان فيه تشبه فإنه لا يجوز. ويجوز تغيير تفصيله، إذا أمر بتفصيله حتى صار لا يشبه ثياب النصارى.
وكذلك ذكر أهل العلم أنه إذا صار اللباس شائعاً بين المسلمين والكفار فإنه يجوز التشبه بينهم حينئذ؛ لأن المرء إذا لبسه لم يلبس لباساً مختصاً لغير المسلمين.[فتاوى نور على الدرب للشيخ ابن عثيمين رحمه الله]