2668 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي أبوعيسى، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي ونزار وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
((2)) – (بابٌ: فِي الألدِّ الخَصِمِ)
[(6757)] ((2668)) – حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا وكِيعٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ – لا -: «إنَّ أبْغَضَ الرِّجالِ إلى اللهِ الألدُّ الخَصِمُ».
==========
التمهيد:
“الفجور هو عنوان للدناءة والخسة، ومزيل لكل محبة، ومبعد عن كل مودة، وفي الجملة هو سبب لهلاك الإنسان في الدين والدنيا”.
“ويَعْنِي بِالفُجُورِ أنْ يَخْرُجَ عَنِ الحَقِّ عَمْدًا حَتّى يَصِيرَ الحَقُّ باطِلًا والباطِلُ حَقًّا، وهَذا مِمّا يَدْعُو إلَيْهِ الكَذِبُ، كَما قالَ – لا -: «إيّاكُمْ والكَذِبَ، فَإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ». وقَدْ قالَ – لا -: «إنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكُونَ ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، وإنَّما أقْضِي عَلى نَحْوٍ مِمّا أسْمَعُ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِن حَقِّ أخِيهِ، فَلا يَاخُذْهُ، فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النّارِ». وفِي «سُنَنِ أبِي داوُدَ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ – لا -، قالَ: «مَن خاصَمَ فِي باطِلٍ وهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتّى يَنْزِعَ». وفِي رِوايَةٍ لَهُ أيْضًا: «ومَن أعانَ عَلى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ». [جامع العلوم والحكم لابن رجب رحمه الله]
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((2)) – (بابٌ فِي الألدِّ الخَصِمِ)
(عَنْ عائِشَةَ) – رضي الله عنه -؛ أنها (قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ – لا -: “إنَّ أبْغَضَ الرِّجالِ) قال الكرمانيّ رحمه الله: الأبغض هو الكافر، فمعنى الحديث: أبغض الرجال الكفّار: الكافر المعاند، أو أبغض الرجال المخاصمين.
قال الحافظ رحمه الله: والثاني هو المعتمَد، وهو أعمّ من أن يكون كافرًا، أو مسلمًا، فإن كان كافرًا، فأفعل التفضيل في حقّه على حقيقتها في العموم، وإن كان مسلمًا، فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تُفضي غالبًا إلى ما يُذمّ صاحبه، أو يخصّ في حقّ
المسلمين بمن يُخاصم في باطل، ويشهد للأول حديث: «كفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا»، أخرجه الطبرانيّ، عن أبي أُمامة بسند ضعيف، وورد الترغيب في ترك المخاصمة، فعند أبي داود من طريق سليمان بن حبيب، عن أبي أُمامة – رضي الله عنه -، رفعه: «أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنّة لمن ترك المراء، وإن كان محقًّا»، وله شاهد عند الطبرانيّ من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه -، و «الربض» -بفتح الراء، والموحّدة، بعدها ضاد معجمة: الأسفل. انتهى [«الفتح» (17) / (18)، كتاب «الأحكام» رقم ((7188))].
(إلى اللهِ الألَدُّ الخَصِمُ») بفتح الخاء المعجمة، وكسر الصاد المهملة: فسَّره البخاريّ: بأنه الدائم الخصومة.
وقال ابن المنيّر رحمه الله: «الألدّ»: مشتقّ من اللدد، وهو الاعوجاج والانحراف عن الحقّ، وأصله من اللديد، وهو جانب الوادي، ويُطلق على جانب الفم، ومنه «اللدود»، وهو صبّ الدواء منحرفًا عن وسط الفم إلى جانبه. انتهى [«الفتح» (17) / (18)].
وقال النوويّ رحمه الله: «الألد الخَصِم» -هو بفتح الخاء، وكسر الصاد- و «الألدّ»: شديد الخصومة، مأخوذ من لديدَي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتُجّ عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما «الخصم»: فهو الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حقّ، أو إثبات باطل. انتهى [«شرح النوويّ» (16) / (219)].
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: «الألد الخصم»: الرواية «الخَصْمُ» -بسكون الصاد- وقد قيّده بعضهم بكسرها، وكلاهما اسم للمخاصم،
غير أن الذي بالسكون هو مصدر في الأصل، وُضع موضع الاسم، ولذلك يكون في المذكّر والمؤنّث، والتثنية، والجمع بلفظ واحد في الأكثر،
ومن العرب من يُثنّيه، ويَجمعه؛ لأنه يَذهب به مذهب الاسم، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وهَلْ أتاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ ((21))} [ص (21)] ثم قال: {خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ} [ص (22)].
فأما الذي بالكسر، فهو الشديد الخصومة.
و «الألدّ»: هو الشديد الخصومة، مأخوذ من اللديدَين، وهما جانبا الوادي؛ لأنه كلما أُخذ عليه جانب أخذ في جانب آخر، وقيل: لإعماله لَديدَيه، وهو صفحتا عنقه عند خصومته.
وكان حكم «الألدّ» أن يكون تابعًا للـ «خصم»؛ لأن «الألدّ» صفة، و «الخصم» اسم، لكن لمّا كان الخصم مصدرًا في الأصل، وكان «الألدّ» صفة مشهورة عُكس الأمر، فجُعل التابع متبوعًا، وهذا على نحو قوله تعالى: {وغَرابِيبُ سُودٌ} [فاطر (27)]، وإنما يُقال: أسود غِرْبيب. انتهى [» المفهم” (6) / (689) – (690)]، والله تعالى أعلم.
وقالَ ابْن قُتَيْبَة: رجل ألد، بَين اللدد، وقوم لد قالَ الزّجاج: واشتقاقه من لديدي العُنُق: وهما صفحتا العُنُق. وتأويله أن خَصمه من أي وجه أخذ عَن يَمِين أو شمال من أبْواب الخُصُومَة غَلبه فِي ذَلِك. [كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (4/ 357)]
وحديث عائشة – رضي الله عنها – هذا متّفقٌ عليه.
فوائد الحديث:
1 – (منها): بيان ذمّ شدّة الخصومة، والمراد به: الخصومة في دفع الحقّ، أو إثبات الباطل، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ، وصححه، وابن ماجه عن أبي أمامة – رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله – لا -: «ما ضلّ قوم بعد هُدًى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل»، ثم تلا تلك الآية: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف (58)] [حسَّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله].
-فعلل غضبه صلى الله عليه وسلم بأن الاختلاف في الكتاب سبب هلاك من كان قبلنا، وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا، وفي غيره نوعا.
والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان:
أحدهما: يذم الطائفتين جميعا، كما في قوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاقٍ بعيدٍ} وكذلك قوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيءٍ}. وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} ووصف اختلاف اليهود بقوله: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله} وقال: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كل حزبٍ بما لديهم فرحون}. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ قال: ” كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة “، وفي الرواية الأخرى: ” من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي “. فبين: أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة. وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة:
فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض، ونحو ذلك، فيجب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك، لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة، وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.
ويكون سببه – تارة – جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق: في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا.
والجهل والظلم: هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: {وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} ”
تعليق الشيخ ابن عثيمين على أقتضاء الصراط المستقيم.
وقال ابن العثيمين في شرح سورة البقرة:
فيه الإشارة إلى ذم الجدل، والخصام؛ لقوله تعالى: {وهو ألد الخصام}؛ لأن الخصومات في الغالب لا يكون فيها بركة؛ وما من إنسان في الغالب أعطي الجدل إلا حرم بركة العلم؛ أما من أراد الحق فإن الحق سهل قريب لا يحتاج إلى مجادلات كبيرة؛ لأنه واضح؛ ولذلك تجد أهل البدع الذين يخاصمون في بدعهم علومهم ناقصة البركة لا خير فيها؛ وتجد أنهم يخاصمون، ويجادلون، وينتهون إلى لا شيء؛ وأما من جادل ليصل إلى العلم، ولإثبات الحق، وإبطال الباطل فإن هذا مأمور به؛ لقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]
[تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (2/ 444)]
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الجدل بالحق وبالباطل فقال:
والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهذا واجب على الكفاية منهم، وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم
وقال رحمه الله أيضا: فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام، وأمر بها في مثل قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَاتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]، وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَاتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، وقوله: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع.
أما الجدل المذموم:
فقال ابن تيمية رحمه الله: والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعدما تبين.
وراجع درء تعارض العقل والنقل (1/ 51 – 52) و (7/ 156).
قال الراجحي:
وفي هذا الحديث: التحذير من الخصومة، والخصومة من شدة الجدال، وأن كثير الخصومة يبغضه الله – عز وجل -.
وفيه: أنه ينبغي للإنسان أن يكون سهلًا بعيدًا عن الخصومة والجدال والنزاع والشقاق، وأن يسلك الطريق الأيسر والأسهل، ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)).
وفيه: إثبات البغض لله – عز وجل -، والرد على من أنكره
[توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (7/ 471)]
2 – (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، وردّه بالأوجه الفاسدة، والشُّبَهِ الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله – لا -، وسَلَف أمته إلى طُرُق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، ….. وسكت عنها الصحابة – رضي الله عنهم -، ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لِعِلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تُعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حدّ تقف عنده، وهو العجز عن التكييف، لا يتعدّاه، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى (11)]،
ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين، ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من جعل دِينه غَرَضًا للخصومات، أكثر الشغل، والدِّين قد فُرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه.
وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال: كان يقال: لا تمكّن زائغ القلب من أُذنك، فإنك لا تدري ما يَعلق من ذلك.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لأن يُبتلى العبد بكلّ ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام، وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمّى، أو غير المسمّى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دِين له.
قال: وحكمي في أهل الكلام أن يُضربُوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر، والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنَّة، وأخذ في الكلام.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة.
وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة – رضي الله عنهم – ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضِيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت طريقة المتكلّمين أولى من طريقة أبي بكر، وعمر، فبئسما رأيته.
قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات
قال: وقد رجع كثير من أئمة المتكلّمين عن الكلام، بعد انقضاء أعمار مديدة، وآماد بعيدة، لَمّا لَطَف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته، وباطن برهانه، فمنهم: إمام المتكلّمين أبو المعالي إمام الحرمين (ت (478) هـ)، فقد حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خلّيت أهل الإسلام، وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء، نَهى عنه أهل العلم رغبةً في طلب الحق، وهربًا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحقّ عليكم بدين العجائز وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الجُوَينيّ.
وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسىّ خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدًا أعلم مني؟
قالوا: لا، قال: فتَتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أفتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحقّ معهم.
وقال أبو الوفاء بن عَقِيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عُدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب.
وهذا الشهرستاني، صاحب «نهاية الإقدام في علم الكلام»، وصَف حاله فيما وصل إليه من علم الكلام، وما ناله، فتمثّل بما قاله:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعاهِدَ كُلَّها … وصَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ المَعالِمِ
فَلَمْ أرَ إلّا واضِعًا كَفَّ حائِرِ … عَلى ذَقَنٍ أوْ قارعٍ سِنَّ نادِمِ
ثم قال: عليكم بدِين العجائز، فإنه أسنى الجوائز.
قال القرطبي: ولو لم يكن في الكلام شيء يُذمُّ به إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذمّ، وجديرًا بالذِّكر:
[إحداهما]: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر، أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله:
ركبت البحر.
[والثانية]: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرّقوها، والأبحاث التي حرّروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر، فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين، من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره: أباه، وأسلافه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك، وأسلافك، وجيرانك، فقال: لا تُشَنِّع علىَّ بكثرة أهل النار.
انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله [«المفهم» (6) / (690) – (694)، ببعض تغيير من «الفتح»].
[تنبيه]: قيل: إن سبب نزول قوله تعالى: {ومِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وهُوَ ألَدُّ الخِصامِ ((204))} [البقرة (204)]
هو الأخنس بن شَرِيق، وكان رجلًا حلو المنطق، إذا لقي رسول الله – لا – ألان
له القول، وادَّعى أنه يحبه، وأنه مسلم، ويُشهد الله على ما في قلبه؛ أي: يحلف، ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من محبتك، ومن الإسلام،
فقال الله في حقه: {وهُوَ ألَدُّ الخِصامِ}؛قاله في «العمدة». [«عمدة القاري» (18) / (114)]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
وقال محقق تفسير البسيط للواحدي:
والقول بأنها نزلت في الأخنس بن شريق فيه نظر من وجوه:
أولًا: عدم ثبوت الرواية بذلك.
ثانيًا: قد صحت الرواية في سبب نزول الآية غير هذا، وهو ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: أناس كانوا يستحبون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم.
ثالثًا: أن الآية مكية، والنفاق ظهر في المدينة فكيف تكون الآية نازلة في المنافقين؟!
رابعًا: أن الأخنس في عداد الصحابة كما ذكر ابن حجر في» الإصابة «(1) / (25) قال:» أسلم الأخنس فكان من المؤلفة، ثم شهد حنينا، ومات في أول خلافة عمر .. وذكر الذهلي في الزهريات بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس اجتمعوا ليلًا يسمعون القرآن سرًا فذكر القصة: وفيها أن الأخنس أتى أبا سفيان فقال: ما تقول؟ قال: أعرف وأنكر، قال أبو سفيان: فما تقول أنت؟ قال: أراه الحق «وقد عدّه في الصحابة: ابن شاهين، وابن فتحون عن الطبري ا. هـ.
انظر:» روح المعاني «للآلوسي (11) / (211)،» أضواء البيان «(3) / (12).
3 – (ومنها): تَنبيهٌ على صِفاتِ النِّفاقِ المذمومةِ للتَّخويفِ والتَّحذيرِ مِن الوُقوعِ فيها. [الموسوعة الحديثية].
قال ابن عثيمين:
في هذا الحديث فوائد
4 – أولا: إثبات البغض لله عز وجل
وأن بغض الله تعالى يتفاوت لقوله (أبغض) وقد مر علينا أن البغضاء ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة ومنه ((كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون))
5 – منها أن الأعمال السيئة تتفاوت بالقبح لقوله (أبغض) كما أن الأعمال الصالحة تتفاوت في الحسن والمحبة
6 – ومن فوائد هذا الحديث أن اللدود الخصم مكروه عند الله وهذا يقتضي أن يكون الاتصاف بهذه الصفة حراما.
فإن قال قائل إذا كان هذا يحاكي إثبات الحق وإثبات الباطل قلنا هذا محبوب عند الله عز وجل وليس هذا ممن يتصف بهذه الصفة لأنه ليس ألد خصم ولكنه يريد الوصول إلى الحق. اهـ
……………….
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الثانية): تعريف الفجور
معنى الفُجُور لغةً:
فَجَرَ يفجر فُجورًا، أي: فَسَقَ. وهذه المادة تدل على التَّفَتُّح في الشَّيء، ومنه: انفجَرَ الماء انفجارًا: تفتَّحَ. والفُجْرَة: موضع تفتُّح الماء. ثمَّ كثُر هذا حتَّى صار الانبعاثُ والتفتُّح في المعاصي فُجورًا؛ ولذلك سُمِّي الكَذِب فجورًا. ثمَّ كثُر هذا حتَّى سُمِّي كلُّ مائلٍ عن الحقِّ فاجرًا [انظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 34)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 475)].
معنى الفُجُور اصطلاحًا:
قال الجرجاني: (الفُجُور: هو هيئةٌ حاصلةٌ للنَّفس بها يُبَاشر أمورًا على خلاف الشَّرع والمروءة) [انظر: ((التعريفات)) (1/ 212)].
وقيل: الفُجُور بمعنى: الانبعاث في المعاصي والتوسع فيها [انظر: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص 231)].
وقيل: الفُجُور: الميْلُ عن الحقِّ إلى الباطل [انظر: ((المحيط فى اللغة)) للصاحب بن عباد (2/ 112)].
وقيل: الفُجُور: اسم جامع لكلِّ شرٍّ، أي: الميْل إلى الفساد، والانطلاق إلى المعاصي [انظر: ((مسند ابن أبي شيبة)) (1/ 390)].
فرع: الفرق بين الفِسْق والفُجُور
هناك فرق بين الفِسْق والفُجُور،
وهو (أنَّ الفِسْق: هو الخروج مِن طاعة الله بكبيرة،
والفُجُور: الانبعاث في المعاصي والتَّوسُّع فيها،
ثمَّ كثر استعمال الفُجُور حتى خُصَّ بالزِّنا واللِّواط وما أشبه ذلك) [انظر: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (1/ 397)].
(المسألة الثالثة): ذَمُّ الفُجُور والنَّهي عنه
أولًا: ذَمُّ الفُجُور والنَّهي عنه في القرآن الكريم
وردت آيات في القرآن الكريم في معنى الفُجُور مِن هذه الآيات ما يلي:
– قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
وفي تفسير هذه الآية قال الطَّبري: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} يقول: الذين اتقوا الله بطاعته وراقبوه، فحَذِرُوا معاصيه، {كَالْفُجَّارِ} يعني: كالكفَّار المنتهكين حُرُمَات الله. [انظر: ((جامع البيان)) (21/ 190)].
– وقال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5].
وفي تفسير هذه الآية قال ابن كثير: (وقوله: {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}، قال سعيد، عن ابن عبَّاس: يعني: يمضي قُدُمًا.) [انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (8/ 276)].
– قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42].
قال الآلوسي فى تفسير هذه الآية: (أي: الجامعون بين الكفر والفُجُور؛ فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغَبَرة والقَتَرة، وكأن الغَبَرة للفجور والقَتَرة للكفور، نعوذ بالله عزَّ وجلَّ من ذلك) [انظر: ((تفسير الآلوسي)) (22/ 207)].
ثانيًا: ذَمُّ الفُجُور والنَّهي عنه في السنة النبوية.
– عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((أربعٌ مَن كنَّ فيه، كان منافقًا، أو كانت فيه خصلة مِن أربعة، كانت فيه خصلة مِن النِّفاق، حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) [رواه البخاري (2459)، ومسلم (58)، واللفظ للبخاري].
قال ابن حجر: (الفُجُور: الميْل عن الحقِّ والاحتيال في ردِّه) [((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 90)].
وقال ابن بطال: (الفُجُور: الكذب والرِّيبة، وذلك حرام، ألَا ترى أنَّ النَّبيَّ -عليه السلام- قد جعل ذلك خصلة مِن النِّفاق) [((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 583)].
– عن أبي قتادة بن ربعي، أنَّه كان يحدِّث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه بجنازة، فقال: ((مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح مِن نصب الدُّنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشَّجر والدَّواب)). [رواه البخاري (6512)، ومسلم (950)].
قال الباجيُّ: (المستريح: هو العبد المؤمن يصير إلى رحمة الله وما أُعِدَّ له مِن الجنَّة والنِّعمة، ويستريح مِن نصب الدُّنيا وتعبها وأذاها، والمستراح منه هو العبد الفاجر، فإنَّه يستريح منه العباد والبلاد والشَّجر والدَّواب، ويحتمل أن يكون أذاه للعباد بظلمهم، وأذاه للأرض والشَّجر: بغصبها مِن حقِّها وصرفها إلى غير وجهها، وإتعاب الدَّواب بما لا يجوز له مِن ذلك، فهذا مستراح منه). [((المنتقى شرح الموطأ)) (2/ 34)].
قال ابن حجر: (والفاجر يَحْتَمِل أن يُرِيد به الكافر، ويَحْتَمِل أن يدخل فيه العاصي) [((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 365)].
(المسألة الرابعة): أقوال السَّلف والعلماء في الفُجُور
– قال الحسن بن علي رضي الله عنه: (أكيس الكيس التُّقَى، وأحمق الحمق الفُجُور) [انظر: ((التمثيل والمحاضرة)) للثعالبي (1/ 9)].
– وقال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (لا تعرضنَّ فيما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحتفظ مِن خليلك إلَّا الأمين، فإنَّ الأمين مِن القوم لا يعدله شيء، ولا تصحب الفاجر يعلِّمك مِن فجوره، ولا تفش إليه سرَّك، واستشر في دينك الذين يخشون الله عزَّ وجلَّ). [رواه البيهقي (10/ 112) (20822)]
وانظر: ((الصَّمت)) لابن أبي الدنيا (1/ 97)].
– وعن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا: (إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنَّه قاعدٌ تحت جبلٍ، يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه، فقال به هكذا- أي بيده- فذبَّه عنه) [رواه البخاري (6308)].
– عن إبراهيم بن يزيد التّيميّ؛ قال: «المؤمن إذا أراد أن يتكلّم نظر، فإن كان كلامه له تكلّم، وإن كان عليه أمسك عنه. والفاجر إنّما لسانه رسلا رسلا» [كتاب الصمت لابن أبي الدنيا (247)].
– وقال الشَّعبي: (اتَّقوا الفاجر مِن العلماء، والجاهل مِن المتعبِّدين، فإنَّهما آفة كلِّ مفتون) [انظر: ((شعب الإيمان)) البيهقي (3/ 315)].
– وعن سفيان قال: كان يقال: (تعوَّذوا بالله مِن فتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر، فإنَّ فتنتهما فتنة كلِّ مفتون) [رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 308) (1896)].
– وقال علي رضي الله عنه: (الحِرفة مع العفَّة خير مِن الغِنَى مع الفُجُور) [((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) (1/ 435)].
– وقال -أيضًا-: (خالط المؤمن بقلبك، وخالط الفاجر بخلقك، كان يقال: يُمْتَحن الرَّجل في ثلاثة أشياء: عند هواه إذا هوى، وعند غضبه إذا غضب، وعند طمعه إذا طمع) [ذكره ابن مفلح في ((الآداب الشَّرعية)) (3/ 566)].
– وقال -أيضًا-: (لا تواخ الفاجر؛ فإنَّه يزيِّن لك فعله، ويحبُّ لو أنَّك مثله، ومدخله عليك ومخرجك مِن عنده شَيْنٌ وعار) [رواه الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (4/ 225)].
– ورُوِي عن الحسين أنَّه قال: (يا بني؛ ليس مع قطيعة الرَّحم نَمَاء، ولا مع الفُجُور غِنًى) [انظر: ((الإعجاز والإيجاز)) للثَّعالبي (ص 44)].
– وقال مالك بن دينار: (إنَّ للمؤمن نيَّة في الخير هي أمامه لا يبلغها عمله، وإنَّ للفاجر نيَّة في الشَّرِّ هي أمامه لا يبلغها عمله) [انظر: ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 70)].
– وقال سفيان الثَّوري: (إيَّاك والحدَّة والغضب، فإنَّهما يجرَّان إلى الفُجُور، والفُجُور يجرُّ إلى النَّار) [انظر: ((التذكرة الحمدونيَّة)) لابن حمدون (1/ 220)].
– وقيل للحسن: الفاجر المعلن بفجوره، ذِكْرِي له بما فيه غيبة؟ قال: لا، ولا كرامة.
– وقال الحسن البصري: (إنَّ المؤمن أحسن الظَّنَّ بربِّه فأحسن العمل، وإنَّ الفاجر أساء الظَّنَّ بربِّه فأساء العمل، فكيف يكون يحسن الظَّنَّ بربِّه مَن هو شارد عنه، حالٌّ مرتحل في سخطه؟!) [انظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيِّم (1/ 14)].
– وفي أثرٍ عن بعض السَّلف: أنَّ المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرَّجل بعيره في السَّفر؛ لأنَّه كلَّما اعترضه صبَّ عليه سياط الذِّكر والتوجُّه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد، ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويًّا عاتيًا شديدًا [انظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيِّم (2/ 479)].
وينضي شيطانه: أي يهزله. [انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 330)]
– قال ابن تيمية:
السادس: أن هذه الألفاظ فيها تكلُّفٌ وتقعُّرٌ وتنطُّعٌ، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله يُبغِض البليغَ من الرجال، الذي يتخلَّل بلسانِه كتخلُّل الباقرةِ بلسانها».
وقال: «إنّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مجلسًا منّي يوم القيامةِ الثَّرثارون والمتفيهقون المتشدِّقون». وهي تُفضِي إلى اللَّدَد،
وفي «الصحيحين» عن عائشة قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن أبغضَ الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصِم».
وفي «صحيح مسلم» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «هلَكَ المتنطِّعون» قالها ثلاثًا.
وفي «الصحيحين» عنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «أهل النار كلُّ جعظريّ جَوَّاظٍ مستكبرٍ»
وهي خروجٌ عن البيان الذي امتنَّ الله بتعليمه حيث يقول: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 – 4]، وتكلُّفٌ في المنطق الذي هو خاصَّة الإنسان التي انفصل بها عن سائر أنواع الحيوان، وتشبُّهٌ بالأعاجم فيما أحدثوه من الدندنة والطنطنة …
[تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (1/ 256)]
– قال ابن القيّم- رحمه الله-: «سبحان الله، في النّفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتوّ عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السّبت، وفجور الوليد، وجهل أبي جهل» [الفوائد لابن القيم (98)].
– قال ابن القيّم: اقشعرّت الأرض وأظلمت السّماء وظهر الفساد في البرّ والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلّت الخيرات وهزلت الوجوه، وتكدّرت الحياة من فسق الظّلمة» [الفوائد (88)].
(المسألة الخامسة): آثارُ الفُجُور
1 – الفُجُور مِن الطُّرق الموصلة إلى النَّار، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وإنَّ الفُجُور يهدي إلى النَّار)).
2 – الفُجُور دليلٌ على خِسَّة النَّفس، وعلامة مِن علامات الدَّناءة في الشَّخص، وعنوانٌ للانحطاط الأخلاقي.
3 – الفُجُور خُلُقٌ يدعو لكراهية صاحبه، ويجعله ممقوتًا مِن الخَلْق، ممَّا يزرع الشَّحناء والبغضاء في المجتمع.
4 – كما أنَّ هذه الصِّفة ليس ضررها محصورًا على الفاجر وحده، بل إنَّ تداعيات فجوره قد تُلْحِق الأذى على الأفراد وعلى المجتمع.
5 – لا يكلمه الله تعالى؛ ففي “صحيح مسلم” من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا مَنَّه، والمُنفِّق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره)).
6 – يعرض عنه الله يوم القيامة؛ ففي “صحيح مسلم” أيضًا عن وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: “جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ((ألك بينة؟))، قال: لا، قال: ((فلك يمينه))، قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع عن شيء، فقال: ((ليس لك منه إلا ذلك))، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – لما أدبر -: ((أما لئن حلف على مال ليأكله ظلمًا، ليلقين الله وهو عنه مُعرِض)).
7 – يلقى اللهَ وهو عليه غضبان؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]، قال: فدخل الأشعث بن قيس، وقال: ما يحدثكم أبو عبدالرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، قال: فيَّ أنزلت، كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بينتك أو يمينه))، فقلت: إذن يحلفَ يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، وهو فيها فاجرٌ – لقي اللهَ وهو عليه غضبان)).
وحيث إن التجار أكثرهم مَن يحلف كاذبًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: ((إن التجار يُبعَثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبَرَّ وصدَق)).
والحديث عند الترمذي – بسند حسن – عن رفاعة رضي الله عنه
العبد الفاجر إذا مات استراح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب، كما مضى.
8 – ينباء عن سوء الخاتمة ووخيم العاقبة.
9 – سبب لهلاك الإنسان في الدّين والدّنيا.
(المسألة السادسة): أسباب الوقوع في الفُجُور
1 – هشاشة الإيمان في قلب الموصوف بالفُجُور، وضعف الوازع الدِّيني، وعدم الخوف مِن الله سبحانه وتعالى ومراقبته.
2 – قد تُسَبِّب بعض الظَّواهر الاجتماعيَّة في الوقوع في الفُجُور، كأن يكون المجتمع مجتمع غير منضبط بضوابط الشَّرع، وقد تكون التَّنشئة والتَّربية هي السَّبب في ظهور هذه الظَّاهرة.
3 – غياب فريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
4 – التَّساهل بالمعاصي الصَّغيرة واستمرائها، يصل بالمرء إلى مرتبة الفُجُور والعياذ بالله، وكما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وإنَّ الكذب يهدي إلى الفُجُور)).
(المسألة السابعة): مِن الأقوال والأمثال في الفُجُور
1 – كان يقال: (اثنان لا يجتمعان: القُنُوع والحسد، واثنان لا يفترقان أبدًا: الحرص والفُجُور) [انظر: ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان (9/ 132)].
2 – وقال أبان بن تغلب: (سمعت امرأة توصي ابنًا لها وأراد سفرًا، فقالت: أي بني، أوصيك بتقوى الله، فإنَّ قليله أجدى عليك مِن كثير عقلك، وإيَّاك والنَّمائم. فإنَّها تورث الضَّغائن، وتفرِّق بين المحبِّين؛ ومثِّل لنفسك مثال ما تستحسن لغيرك ثمَّ اتَّخذه إمامًا، وما تستقبح مِن غيرك فاجتنبه، وإيَّاك والتَّعرُّض للعيوب فتصير نفسك غرضًا، وخليق ألَّا يلبث الغرض على كثرة السِّهام، وإيَّاك والبخل بمالك، والجود بدينك.
فقالت أعرابيَّة معها: أسألك إلَّا زدته يا فلانة في وصيتَّك.
قالت: إي والله؛ والغدر أقبح ما يعامل به الإخوان، وكفى بالوفاء جامعًا لما تشتَّت مِن الإخاء، ومَن جمع العلم والسَّخاء فقد استجاد الحُلَّة، والفُجُور أقبح خُلَّة وأبقى عارًا) [انظر: ((نثر الدر في المحاضرات)) للآبي (4/ 61)].
3 – وعن صعصعة بن صوحان أنَّه قال لابن زيد بن صوحان: (أنا كنت أكرم على أبيك منك، وأنت أكرم عليَّ مِن ابني، إذا لقيت المؤمن فخالصه.
وإذا لقيت الفاجر فخالفه، ودينك لا تُكلِّمنَّه) [انظر: ((الأمثال)) لابن سلَّام (ص 157)].
4 – وقال أبو عمرو بن العلاء: (يا عبد الملك: كن مِن الكريم على حذر إن أهنته، ومِن اللَّئيم إذا أكرمته، ومِن العاقل إذا أحرجته، ومِن الأحمق إذا مازحته، ومِن الفاجر إذا عاشرته، وليس مِن الأدب أن تجيب مَن لا يسألك، ولا تسأل مَن لا يجيبك، أو تحدث مَن لا ينصت لك) [انظر: ((الجليس الصالح الكافي)) لأبي الفرج الجريري (ص 252)].
5 – وقال بعض أهل الأدب: (عشر خصالٍ تزري، ومنها تتفرَّع النَّذالة: الحسب الرَّديء، والخُلُق الدَّنيء، وقلَّة العقل، وسوء الفعل، ودناءة النَّفس، والجبن، والبخل، والفُجُور، والكذب، والغش للنَّاس والوقيعة فيهم) [انظر: ((التذكرة الحمدونيَّة)) لابن حمدون (1/ 203)].
(المسألة الثامنة): ذم الفُجُور في واحة الشِّعر
قال زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله تعالى عنه:
ألم تعلمْ بأنَّ اللهَ أفنَى رجالًا كان شأنُهم الفُجُور
وقال مروان بن الحكم:
وللشَّرِّ أهلٌ يُعرفون بسلبِهم تشيرُ إليهم بالفُجُورِ الأصابعُ
[انظر: ((تعليق من أمالي ابن دريد)) لابن دريد الأزدي (ص 136)]
وقال أحمد بن يوسف:
وعامل بالفُجُورِ يأمرُ بالبِرِّ كهادٍ يخوضُ في الظُّلَم
أو كطبيبٍ قد شَفَّهُ سَقَمٌ وهو يداوى مِن ذلك السَّقم
يا واعظَ النَّاسِ غيرَ متَّعظٍ ثوبَك طهِّرْ أولًا فلا تلم
[انظر: ((زهر الآداب وثمر الألباب)) للقيرواني (2/ 487)]
وشَفَّهُ: هزله. انظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (23/ 520)
وقال الزُّبير بن عبد المطَّلب:
كمالُ المرءِ حسنُ الدِّينِ منه وينقصُه وإن كَمَل الفُجُورُ
[انظر: ((الحماسة البصرية)) لأبي الحسن البصري (2/ 5)]
[موسوعة الأخلاق، ونضرة النعيم، بتصرف].
===