2665 فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وعبدالله البلوشي أبوعيسى، وطارق أبو تيسير وعبدالملك وعبدالله المشجري وأحمد بن علي ونزار وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
(1) – بابُ النَّهْيِ عَنِ اتِّباعِ مُتَشابِهِ القُرْآنِ، والتَّحْذِيرِ مِن مُتَّبِعِيهِ، والنَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلافِ فِي القُرْآنِ
(1) – ((2665)) حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ إبْراهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: تَلا رَسُولُ اللهِ لا: {هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَاوِيلِهِ، وما يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إلّا اللهُ، والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا، وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ} قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «إذا رَأيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمّى اللهُ، (1) فاحْذَرُوهُمْ».
(2) – ((2666)) حَدَّثَنا أبُو كامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنا أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ، قالَ: كَتَبَ إلَيَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَباحٍ الأنْصارِيُّ أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، قالَ: هَجَّرْتُ إلى رَسُولِ اللهِ لا يَوْمًا، قالَ: فَسَمِعَ أصْواتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنا رَسُولُ اللهِ لا، يُعْرَفُ فِي وجْهِهِ الغَضَبُ، فَقالَ: «إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، بِاخْتِلافِهِمْ فِي الكِتابِ».
(3) – ((2667)) حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى، أخْبَرَنا أبُو قُدامَةَ الحارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أبِي عِمْرانَ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «اقْرَءُوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإذا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا».
(4) – ((2667)) حَدَّثَنِي إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، أخْبَرَنا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنا هَمّامٌ، حَدَّثَنا أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ، عَنْ جُنْدَبٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللهِ، أنَّ رَسُولَ اللهِ لا، قالَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإذا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا»،.
(4) – حَدَّثَنِي أحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدّارِمِيُّ، حَدَّثَنا حَبّانُ، حَدَّثَنا أبانُ، حَدَّثَنا أبُو عِمْرانَ، قالَ: قالَ لَنا جُنْدَبٌ ونَحْنُ غِلْمانٌ بِالكُوفَةِ، قالَ رَسُولُ اللهِ لا: «اقْرَءُوا القُرْآنَ» بِمِثْلِ حَدِيثِهِما.
((1)) وفي نسخة: «الذين سمّاهم الله».
==========
التمهيد:
“اختلاف القلوب ليس من الإسلام في شيء بل الإسلام في ائتلافها كما يقول جل شأنه: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران (103)]، وكم حذر رسول الله لا من الاختلاف ولو كان في مسائل العلم إذا أدى إلى تباعد القلوب والضغائن أو إذا أدى إلى التشكك فيما يجب الإيمان به، ومن هنا يقول إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ويثيرون حوله الجدل ويتشدقون بأنهم عالمون فاحذروهم ولا تجالسوهم وابتعدوا عن لقائهم، ويقول عنهم هلك المتنطعون هلكوا؛ لأن تنطعهم فرق بين قلوبهم وقلوب المؤمنين وأهلكوا بتنطعهم من يلوذ بهم ويقتدي بهم من المقلدين.
ويحذر لا من زمن يصبح فيه المسلمون أتباعا لأعدائهم مقلدين لهم في شعائرهم وحياتهم والتابع مغرم بتقليد المتبوع”.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
((49)) – كتاب: العلم
((1)) – (بابُ: النَّهْيِ عَنِ أُتِّباعِ مُتَشابِهِ القُرْآنِ، والتَّحْذِيرِ مِن مُتَّبِعِيهِ، والنَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلافِ في القُرْآنِ)
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6752)] ((2665)) – قوله: {هُوَ الَّذِي أنْزَلَ} الآية؛ لأن المراد لفظه. («{هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ})
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله-: يُخبر الله -تعالى- أن في القرآن آيات محكمات، هُنَّ أم الكتاب؛ أي: بيناتٌ واضحاتُ الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أُخَر فيها اشتباه
في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمَن رَدَّ ما اشتبه إلى الواضح منه، وحَكَّمَ مُحْكَمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: ({هُنَّ أُمُّ الكِتابِ})؛ أي: أصله الذي يُرْجَع إليه عند الاشتباه.
وقال الطيبيّ –رحمه الله-: سُمّيت أم الكتاب؛ لأنها بيّنة في نفسها، مبيّنة لِما عداها من المتشابهات، فهي كالأصل لهما، كما سُمّيت مكة أم القرى لدَحْوِ الأرض منها. انتهى [» الكاشف عن حقائق السنن” (2) / (618)].
({وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ})؛ أي: تَحْتَمِل دلالتها موافقة المحكم، وقد تَحتَمِل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
وقد اختَلَفوا في المحكم والمتشابه على أقوال، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
وقال البخاريّ في «صحيحه»: {مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ} قال مجاهد: ما فيه من الحلال والحرام، {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} يُصَدِّق بعضه بعضًا، هو مثل قوله:
{وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ} [البقرة (26)]، وكقوله جلَّ ذِكره: {ويَجْعَلُ
الرِّجْسَ عَلى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس (100)]، وكقوله: {والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدًى وآتاهُمْ تَقْواهُمْ ((17))} [محمد (17)]، {زَيْغٌ} شكّ، {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} المشتبهات، {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} يعلمون، {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}.
قال في «الفتح»: وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية، يقتضي أن تكون الواو في {والرّاسِخُونَ} عاطفة على معمول الاستثناء.
وقد رَوى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ: «وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به»، فهذا يدل على أن الواو للاستئناف؛ لأن هذه الرواية، وإن لم تثبت بها القراءة، لكن أقل درجاتها أن تكون خبرًا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدَّم كلامه في ذلك على مَن دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذمّ متَّبعي المتشابه؛ لِوَصْفهم بالزيغ، وابتغاءِ الفتنة، وصَرَّح بوِفق ذلك حديثُ الباب، ودلت الآية على مدح الذين فَوّضوا العلم إلى الله، وسَلّموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب.
وحَكى الفراء أن في قراءة أُبَيّ بن كعب مثل ذلك، أعني: «ويقول الراسخون في العلم آمنا به» [«الفتح» (9) / (72) – (73)].
({هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ})؛ أي: ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل.
وقال القرطبيّ –رحمه الله-: وهذه الآية تَعُمُّ كل طائفة من كافر، وزنديق، وجاهل، وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران.
وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: {فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إن لم يكونوا الحرورية، وأنواع الخوارج فلا أدري من هم؟ انتهى [«الجامع لأحكام القرآن» (4) / (13)].
({فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ})؛ أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يُمكنُهم أن يُحَرِّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، كما لو احتجّ النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله، وكلمته، ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله: {إنْ هُوَ إلّا عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ} [الزخرف (59)]، وبقوله: {إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ((59))} [آل عمران (59)] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْق من مخلوقات الله، وعَبْد، ورسول من رُسُل الله.
قال الطبريّ –رحمه الله-: قيل: إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله – لا – في أمر عيسى.
وقيل: في أمر مدّة هذه الأمة، والثاني أولى؛ لأن أمر عيسى – عليه السلام – قد بيَّنه الله لنبيِّه – لا -، فهو معلوم لأمته، بخلاف أمر هذه الأمة، فإن عِلْمه خفيّ عن العباد. ذكره في «الفتح» [«الفتح» (9) / (73)].
وقوله تعالى: ({وابْتِغاءَ تَاوِيلِهِ})؛ أي: تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل بن حيان والسّدّيّ: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء من القرآن [راجع: «تفسير ابن كثير» (1) / (352) – (353)].
[فإن قيل]: كيف كان في القرآن متشابه؟، والله يقول: {وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل (44)]؟، فكيف لم يجعله كله واضحًا؟
[قيل له]: الحكمة في ذلك – والله أعلم- أن يَظهَر فضلُ العلماء انتهى كلام القرطبيّ [«الجامع لأحكام القرآن» (4) / (19)].
وقال في «المرعاة»: وحكمة وقوع المتشابه فيه: إعلام للعقول بقصورها؛ لتستسلم لبارئها، وتعترف بعجزها، وتَسلَم من العجب والغرور والتكبر والتعزّز. انتهى.
وقال الإمام ابن كثير-رحمه الله-: قوله إخبارًا عنهم: إنهم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}؛ أي: المتشابه، {كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا}؛ أي: الجميع من المحكم والمتشابه حقّ وصدق، وكل واحد منهما يُصَدِّق الآخرَ، ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس شيء من عند الله بمختلف، ولا متضادّ، كقوله: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ((82))} [النساء (82)]، ولهذا قال تعالى: {وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ}؛ أي: إنما يَفْهَم، ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة، والفُهوم المستقيمة. انتهى [«تفسير ابن كثير» (1) / (355)].
وقال الإمام ابن جرير الطبريّ –رحمه الله- في «تفسيره»: وأما قوله: {مِنهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ} فإنه يعني: من الكتاب آيات؛ يعني: بالآيات آيات القرآن.
وأما (المحكمات) فإنهن اللواتي قد أُحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهنّ، وأدلتهنّ على ما جُعلن أدلة عليه من حلال، وحرام، ووعد، ووعيد، وثواب، وعقاب، وأمْر، وزجْر، وخبر، ومَثَل، وعظة، وعِبَر، وما أشبه ذلك.
ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهنّ هنّ أم الكتاب؛ يعني بذلك: أنهنّ أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين، والفرائض، والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة، من أمر دينهم، وما كُلّفوا من الفرائض في عاجلهم، وآجلهم.
وإنما سمّاهن أمّ الكتاب؛ لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب تسمي الجامع معظم الشيء أمًّا له، فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمّهم، والمدبِّر معظم أمر القرية والبلدة أمها.
ووَحَّد أم الكتاب، ولم يجمع، فيقول: هن أمهات الكتاب، وقد قال: هنّ؛ لأنه أراد: جميعُ الآيات المحكمات أمُّ الكتاب، لا أن كل آية منهن أم الكتاب، ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن أم الكتاب لكان لا شكّ قد قيل: هن أمهات الكتاب.
ونظير قول الله -تعالى-: {هُنَّ أُمُّ الكِتابِ} على التأويل الذي قلنا في توحيد الأم، وهي خبر لِـ {هُنَّ}: قوله تعالى ذِكره: {وجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون (50)]، ولم يقل: آيتين؛ لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية؛ إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عِبْرةً.
ولو كان مراده الخبر عن كل واحد منهما على انفراده بأنه جُعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين؛ لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة.
وذلك أن مريم ولَدت من غير رجل، ونَطَق ابنها، فتكلم في المهد صبيًّا، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
قلت سيف بن دورة: ويظهر لي معنى بلاغي في إفراد (أم الكتاب) وهي أنها جميعها في رد المتشابهات إليها كالشيء الواحد
قال: وأما قوله: {مُتَشابِهاتٌ} فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى،
فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن منه آيات محكمات بالبيان، هنّ أصل الكتاب الذي عليه عمادك، وعماد أمتك في الدِّين، وإليه مفزعك ومفزعهم، فيما افترضتُ عليك وعليهم، من شرائع الإسلام، وآيات أخر هنّ متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعاني. انتهى كلام ابن جرير: -رحمه الله-[» تفسير الطبريّ” (3) / (170) – (174)].
وقال أيضًا: وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، وما المحكم من آي الكتاب؟ وما المتشابه منه؟
– فقال بعضهم: المحكمات من آي القرآن: المعمول بهن وهن الناسخات، أو المثبتات الأحكام. والمتشابهات من آية: المتروك العمل بهن، المنسوخات.
– وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني, وإن اختلفت ألفاظه.
– وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منه: ما احتمل من التأويل أوجهاً.
– وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأنبياء ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله بيان ذلك لمحمد وأمته. والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، فقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.
وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد .. ” [((جامع البيان عن تأويل آي القرآن)) (3/ 170 – 175)، بتصرف]
* فهذه خمسة أقوال مأثورة عن السلف في بيان المحكم والمتشابه. فصار الكلام في الإحكام والتشابه يدور حول خمسة متعلقات:
1 – النسخ.
2 – الحلال والحرام.
3 – احتمال المعاني.
4 – القصص والأخبار.
5 – حقائق المعاني الغيبية.
وقبل أن نبين وجه الإحكام والتشابه في هذه الأمور، نتعرف على معنى (الإحكام)، و (التشابه) من حيث هما، ومن حيث استعمالهما في القرآن الكريم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ” .. إن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه.
وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه.
فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه. قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، فأخبر أنه أحكم آياته كلها. وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} [الزمر: 23]، فأخبر أنه كله متشابه.
والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار. وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حكمت السفيه، وأحكمته إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة، وهو ما أحاط الحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه. فإحكام الكلام: إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره.
والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1].
وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وهو الاختلاف المذكور في قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 8 – 9] فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً.
وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام، بل هو مصدق له. فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضه، لا يناقض بعضه بعضاً. بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص.
فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك.
والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية. بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه) [((التدمرية)) (ص: 102 – 106) باختصار].
* فتبين من هذا العرض أن (الإحكام) و (التشابه) المتعلقان بالقرآن أربعة أنواع:
1 – الإحكام العام: بمعنى الإتقان في أخباره وأحكامه.
2 – التشابه العام: وهو تماثله وتناسبه وتصديق بعضه بعضاً.
3 – التشابه الخاص: وهو مشابهة الشيء لغيره من وجه، ومخالفته له من وجه آخر.
4 – الإحكام الخاص: الفصل بين الشيئين المشتبهين من وجه، المختلفين من وجه آخر.
فالأول والثاني متفقان، والثالث والرابع متضادان. [الموسوعة العقدية]
(فاحذروهم) والمراد: التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود – كما ذكره ابن إسحاق- في تأويلهم الحروف المقطعة، وأنّ عَدَدَها بالجُمَّل مقدار مدّة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج، حتى جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه فسّر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على صَبِيغ
لَمّا بلغه أنه يتّبع المتشابه، فضربه على رأسه حتى أدماه. أخرجها الدارميّ وغيره.
وقال الخطابيّ -رحمه الله-: المتشابه على ضربين:
أحدهما: ما إذا رُدَّ إلى المُحْكَم، واعتُبِر به عُرِف معناه،
والآخر: ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ، فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه، فيُفْتَنون. انتهى [«الفتح» (9) / (74) – (75)]، والله تعالى أعلم.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
س2: هناك من ينادي بحق كل إنسان في تأويل آيات القرآن تبعا لمدى فهمه لها ولظروفها ومواقفها، على أساس أن النص مقدس، ولكن الفقه أو فهم النص ليس مقدسا. ومثال على ذلك النص: آيات الكرسي والعرش ويد الله، وإن كان هذا الزعم باطلا فمن له حق التأويل، وما مدى قداسة هذا التأويل.
ونرجو تفسير الآية (7) من سورة آل عمران {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.
ونرجو توضيح ما هي المتشابهات وما هي المحكمات، ومن هم الراسخون في العلم الذين وكل الله إليهم تأويله أو هداهم إلى ذلك؟
ج2: لا يجوز تفسير القرآن إلا لأهل العلم العارفين بطرق التفسير، ولا يجوز تفسير القرآن بالجهل والهوى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». رواه الترمذي. وفهم النص خاص بأهل العلم، ليس لكل أحد أن يعتمد على فهمه وهو جاهل؛ لأن هذا من القول على الله بلا علم، وقد جعل الله القول عليه بلا علم فوق الشرك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
وآيات الكرسي والعرش واليد وغيرها هذه من أمور العقيدة لا يدخلها الاجتهاد، وإنما تثبت على معناها كما جاءت من غير تأويل ولا مدخل للأفهام فيها، والآيات المتشابهات هنا – والله أعلم – هي: الآيات المجملة والآيات المطلقة، والمحكمات هي الآيات المفصلة لهذه المجملة والمقيدة لها، والراسخون في العلم هم أهل التخصص في العلم الشرعي وفهم النصوص.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الثانية (3/ 10)]
قال الراجحي:
في هذا الحديث: دليل على أن القرآن فيه محكم ومتشابه، والواجب على المسلم: العمل بالمحكم ورد المتشابه إلى الله عز وجل.
والمحكم هو: واضح المعنى.
والمتشابه نوعان:
النوع الأول: متشابه حقيقي، وهو ما تفرَّد الله عز وجل بعلمه، مثل: كنه الذات، وكنه الصفات، وكنه حقائق الآخرة بما أخبر الله به من الجنة، والنار، والجزاء والحساب النوع الثاني: متشابه نسبي إضافي، وهذا يعلمه الراسخون في العلم، وطريقة الراسخين في العلم: العمل بالمحكم، ورد المتشابه إليه حتى يتضح، أما أهل الزيغ فإنهم يتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، فإذا رأيت من يفعل ذلك فاحذره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ؛ فَاحْذَرُوهُمْ)).
فمثلًا إذا استدل النصراني على تعدد الآلهة بقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فقال: دل الجمع على أن الآلهة ثلاثة، فإن الراسخين في العلم يردون هذا المتشابه إلى المحكم، وهو قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، ويفسرون: {إنا نحن} في لغة العرب بالواحد المعظِّم نفسَه.
والتأويل له ثلاثة معانٍ اصطلاحية:
الأول: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، والكلام نوعان: خبر، وأمر، فإن كان الكلام خبرًا فتأويل الحقيقة: وقوع المخبَر به، كقوله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق}، يعني: يوم يقع تأويله، وهو يوم القيامة، فتأويل ما أخبر الله به عن الجنة والنار والحساب والجزاء هو وقوعه، حينما يقع الحساب والجزاء ودخول المؤمنين الجنة، ودخول الكافرين النار.
ومنه: قول الله تعالى- عن يوسف عليه السلام لما سجد له أبواه وإخوته-: {قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل}، يعني: وقع تأويل الرؤيا بعد ثلاثين سنة، أو بعد أربعين سنة.
وإن كان الكلام أمرًا فإن وقوعه فعل المأمور به، كحديث عائشة رضي الله عنها- لما نزل قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا فسبح بحمد ربك واستغفره} -: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده وركوعه: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي))، يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ))، يعني: يفعل ما أُمر به في القرآن.
الثاني: التفسير، ومنه: قول الإمام ابن جرير في تفسيره: القول في تأويل قول الله تعالى كذا، يعني: في تفسيره.
وهذان المعنيان معروفان عند السلف.
الثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح؛ لدليل يقترن به، فهذا اصطلح عليه بعض الفقهاء والأصوليين المتأخرين، وهذا قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا.
والآية الكريمة: {وما يعلم تأويله إلا الله} فُسِّر التأويل فيها بالتفسيرَين السابقَين، فإذا كان التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام صار الوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله}، ثم يبدأ يستأنف: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به}، والمعنى: {وما يعلم تأويله}، أي: الحقيقة التي يؤول لها إلا الله سبحانه وتعالى.
وعلى القول الثاني أن المراد بالتأويل: التفسير، فإن الوقف على قوله: {والراسخون في العلم}، فيكون المتشابه نسبيًّا إضافيًّا، ويكون المعنى: {وما يعلم تأويله}، أي: تفسيره {إلا الله والراسخون في العلم}، أي: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله- أيضًا.
فوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان النبيّ – لا – لمعنى هذه الآية الكريمة؛ لأن الله -تعالى- وكَلَ إليه بيان معاني القرآن لأمته، حيث قال -تعالى-: {وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ} الآية [النحل (44)].
(2) – (ومنها): ما قاله النوويّ –رحمه الله-: في الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ، وأهل البِدَع، ومن يتّبع المشكلات للفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه للاسترشاد، وتلطّف في ذلك، فلا بأس به، وجوابه واجب، وأما الأول فلا يُجاب، بل يُزجرُ، وُيعزّر كما عزّر عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – صَبِيغَ بن عِسْل حين كان يتبع المتشابه. انتهى.
(3) – (ومنها): أن في ختم الآية بقوله تعالى: {وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ} تعريض بالزائغين، ومَدْح للراسخين؛ يعني: من لم يتذكّر، ويَتّعِظ، ويتبع هواه، ليس من أولي الألباب، ومن ثَمَّ قال الراسخون: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ ((8))} [آل عمران (8)] قاله الطيبيّ [«الكاشف عن حقائق السنن» (2) / (620)].
(4) – (ومنها): ما قال بعضهم: دلت الآية على أن بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله -تعالى-: {أُحْكِمَتْ آياتُهُ} [هود (1)]، ولا قوله: {كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ} [الزمر (23)] حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون؛ لأنّ المراد بالإحكام في قوله: {أُحْكِمَتْ} الإتقان في النظم، وأن كلها حقٌّ من عند الله، والمراد بالمتشابه: كونه يُشبه بعضه بعضًا في حسن السياق والنظم أيضًا، وليس المراد: اشتباه معناه على سامعه.
وحاصل الجواب: أن المحكم ورَدَ بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين. انتهى [«الفتح» (9) / (74)].
(5) – (ومنها): ما قال بعضهم: العقل مُبْتَلىً باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، فالحكيم إذا صَنّف كتابًا أجمل فيه أحيانًا؛ ليكون موضع خضوع المتعلم لأُستاذه، وكالملِك يتخذ علامة يمتاز بها من يُطلِعه على سر. وقيل: لو لم يُبْتَلَ العقلُ الذي هو أشرف البدن لاستمر العالِم في أُبَّهَة العلم على التمرد، فبذلك يَستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها؛ استسلامًا واعترافًا بقصورها. ذكره في «الفتح» [(9) / (74)]، والله تعالى أعلم.
(6) – عقد ابن تيمية بابا في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 138) فقال:
[الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم]
ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدماء وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث، هو مما نهي عنه في قوله سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} …
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته؛ لينجو منه من شاء الله له السلامة …
فأفاد ذلك بشيئين: أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.
والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.
واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء؛ تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته، أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه (1) الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض … اهـ
راجع كلام ابن تيمية حول قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ}
القاعدة الخامسة
[مجموع الفتاوى (3/ 54)]
وراجع توفيق الرحمن في دروس القرآن (1/ 374):
قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ … }.
=========
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6753)] ((2666)) – شرح الحديث:
عَنْ أبي عِمْرانَ الجَوْنِيِّ؛ أنه (قالَ: كَتَبَ إلَيَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَباحٍ الأنْصارِيُّ
أن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو) بن العاص – رضي الله عنهما – (قالَ: هَجَّرْتُ) بتشديد الجيم؛ أي: بكّرت، وقال القاري: أي: أتيت في الهاجرة؛ أي: الظهيرة، وفيه حثّ على تحمل المشقة، والإسراع إلى المسجد، وطلب العلم [«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (2) / (19)].
وقال المناويّ –رحمه الله -: يعني: أن الأمم السابقة اختلفوا في الكتب المنزلة،
فكفَرَ بعضهم بكتاب بعض، فهلكوا، فلا تختلفوا أنتم في هذا الكتاب،
والمراد بالاختلاف: ما أوقع في شكّ، أو شبهة، أو فتنة، أو شحناء، ونحو ذلك، لا الاختلاف في وجوه المعاني، واستنباط الأحكام، والمناظرة لإظهار الحقّ، فإنه مأمور به؛ فضلًا عن كونه منهيًّا عنه، قال الحرانيّ: والاختلاف انتقال من الخلاف، وهو تقابل بين اثنين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه. انتهى [«فيض القدير شرح الجامع الصغير» (3) / (5)].
وقال النوويّ –رحمه الله-: المراد بهلاك من قبلنا هنا: هلاكهم في الدِّين
بكفرهم، وابتداعهم، فحذّر رسول الله – لا – من مِثل فِعلهم، والأمرُ بالقيام عند
الاختلاف في القرآن – أي: في الحديث التالي – محمول عند العلماء على
اختلاف لا يجوز، أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن،
أو في معنى منه، لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شكّ، أو شبهة،
أو فتنة، وخصومة، أو شجار، ونحو ذلك، وأما الاختلاف في استنباط فروع الدِّين منه، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة، وإظهار الحقّ، واختلافهم في ذلك، فليس منهيًّا عنه، بل هو مأمور به، وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون على هذا، من عهد الصحابة – رضي الله عنهم – إلى الآن، والله تعالى أعلم [«شرح النوويّ» (16) / (218) – (219)].
قال عبدالعزيز الراجحي:
((إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ)).
في هذا الحديث: التحذير من الاختلاف في الكتاب.
وفيه: دليل على أن هلاك الأولين كان باختلافهم في كتابهم.
والاختلاف في الكتاب نوعان: اختلاف في تنزيله، واختلاف في تأويله.
أما الاختلاف في تنزيله: فأهل الحق على أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، وأما أهل البدع- كالمعتزلة- فيقولون: إن القرآن مخلوق، وإنه غير منزل، وهذا كفر وضلال، والأشاعرة يقولون: إن القرآن هو المعنى دون اللفظ، وأما الألفاظ والحروف فهذه مخلوقة من تأليف جبريل، أو تأليف محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما الاختلاف في تأويله: فالتأويل قد يكون ليس عليه دليل، فيكون باطلًا، وقد يكون عليه دليل، فيكون حقًّا.
فوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان تحريم الاختلاف في القرآن الكريم، قال القرطبيّ رحمه الله: تلك الآية التي اختلف فيها الصحابيين يَحْتَمِل أن تكون من
المحكمات الظاهرة المعنى، فخالف فيها أحدهما الآخر، إما لقصور فهم، وإما لاحتمال بعيد، فأنكر النبيّ – لا – ذلك؛ إذ قد تَرَك الظاهر الواضح، وعدل إلى ما ليس كذلك.
ويَحْتَمِل أن تكون من المتشابه، فتعرّضوا لتأويلها، فأنكر النبيّ – لا – ذلك،
فيكون فيه حجَّة لمذهب السّلف في التسليم للمتشابهات، وتَرْك تأويلها. انتهى [«المفهم» (6) / (698)].
(3) – (ومنها): بيان أن الاختلاف شرّ، لا خير فيه، ولا سيّما في القرآن.
فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: سمع النبيّ – لا – قومًا يتدارؤون، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم
بهذا، ضَرَبوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يُصدِّق بعضه بعضًا، فلا
تكذّبوا بعضه ببعض، فما عَلِمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه».
(4) – (ومنها): أن المطلوب من المسلمين اتحادهم، وكونهم يدًا واحدة
=======
قال الإمام مسلم رحمه الله:
[(6754)] ((2667)) – شرح الحديث:
وقال الكرمانيّ: الظاهر أن المراد: اقرؤوا القرآن ما دام بين أصحاب القراءة ائتلاف، فإذا حصل اختلاف فقوموا عنه، وقال ابن الجوزيّ: كان اختلاف الصحابة يقع في القراآت، واللغات، فأُمروا بالقيام عند الاختلاف؛ لئلا يجحد أحدهم ما يقرأه الآخر، فيكون جاحدًا لِما أنزل الله تعالى [«عمدة القاري» (20) / (62)].
قال عياض: يَحْتَمِل أن يكون النهي خاصًّا
بزمنه – لا -؛ لئلا يكون ذلك سببًا لنزول ما يسوؤهم، كما في قوله تعالى: {لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة (101)].
ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: اقرؤوا، والزموا الائتلاف على ما دلّ عليه،
وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف، أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق، فاتركوا القراءة، وتمسكوا بالمحكم الموجِب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، وهو كقوله – لا -: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم».
ويَحْتَمِل أنه ينهى عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء، بأن يتفرقوا عند الاختلاف، ويستمرّ كل منهم على قراءته، ومثله ما تقدم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – لمّا وقع بينه وبين الصحابيين الآخرين الاختلاف في الأداء، فترافعوا إلى النبيّ – لا -، فقال: «كلكم مُحْسِنٌ»، والله تعالى أعلم.
وحديث جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – هذا متّفقٌ عليه.
قال الراجحي:
((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا))
في هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا كان في مناظرة وخشي من تغير القلوب، فالواجب عليه أن يقوم حتى لا تتغير القلوب.
وفيه: تحذير لهذه الأمة من الاختلاف في كتابها؛ لئلا تهلك كما هلك من قبلها من الأمم.
ومما يوضح ذلك: أنهم لما اختلفوا في القراءات على عهد أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه انزعج حذيفة رضي الله عنه، وهو يغازي أرمينية وأذربيجان، وجاء إلى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وقال: ((أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلافَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ- فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ، أَوْ مُصْحَفٍ- أَنْ يُحْرَقَ)) رواه البخاري
[توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (7/ 465)]
[تنبيه]: أشار البخاريّ رحمه الله في «صحيحه» إلى أنه اختلف في هذا الحديث، فقال بعد إخراجه من طريق سلام بن أبي مطيع ما نصّه: تابعه الحارث بن عبيد، وسعيد بن زيد، عن أبي عمران، ولم يرفعه حماد بن سلمة،
وأبان، وقال غندر: عن شعبة، عن أبي عمران، سمعت جندبًا، قولَهُ، وقال
ابن عون: عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن عمر، قولَهُ، وجندب أصحّ، وأكثر. انتهى [«صحيح البخاريّ» (4) / (1929)].
وراجع الفتح للتفصيل وكذلك شرح الأتيوبي
فوائد الحديث:
(1) – (منها): استحباب قراءة القرآن وقت النشاط، وحضور القلب؛ لأنه بذلك يوجد التدبّر الذي أنزل من أجله القرآن، كما قال الله لا: {كِتابٌ أنْزَلْناهُ
إلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبابِ ((29))} [ص (29)].
(2) – (ومنها) الأمر بالقيام عن قراءة القرآن، وتَرْكه إذا اختلفت القلوب، ولم يوجد لها حضور.
(3) – (ومنها): النهي عن اختلاف المسلمين في القرآن؛ لأن ذلك يؤدي
إلى التفرُّق، والتناحر، والتباغض، والتشاجر، وفيه الهلاك الشامل، كما أخبر
النبيّ – لا – في الحديث الماضي بقوله: «إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في
الكتاب».
قال في «الفتح»: وفي الحديث: الحضّ على الجماعة والألفة، والتحذير
من الفُرقة، والاختلاف، والنهي عن المراء في القرآن بغير حقّ، ومن شرّ ذلك
أن تظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي، فيُتوسَّل بالنظر، وتدقيقه إلى
تأويلها، وحَمْلها على ذلك الرأي، ويقع اللجاج في ذلك، والمناضلة عليه.
انتهى.
(4) – (ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله: قوله: «فإذا اختلفتم فيه فقوموا»: يَحْتَمِل هذا الخلاف أن يُحْمَل على ما قلناه آنفًا، قال القاضي: وقد يكون أمْره بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه – لا -؛ إذ لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ، لا في حروفه، ولا في معانيه، وهو – لا – حاضرٌ معهم، فيرجعون إليه في مُشْكِله، ويقطع تنازعهم بتبيانه.
قال القرطبيّ: ويظهر لي أن مقصود هذا الحديث: الأمر بالاستمرار في
قراءة القرآن، وفي تدبّره، والزجرُ عن كل شيء يقطع عن ذلك، والخلاف فيه
في حالة القراءة قاطع عن ذلك في أي شيء كان من حروفه، أو معانيه،
والقلب إذا وقع فيه شيء لا يمكن ردّه على الفور، فأمَرهم بالقيام إلى أن تزول
تشويشات القلب، ويستفاد هذا من قوله: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه
قلوبكم»، فإن القراءة باللسان، والتدبّر بالقلب، فأمَر باستدامة القراءة مُدّة دوام تدبّر القلب، فإذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف اللسان عن القراءة، والقلب عن التدبّر.
وعلى هذا فمن أراد أن يتلو القرآن، فلا يبحثْ عن معانيه في حال قراءته مع غيره، ويُفرد لذلك وقتًا غير وقت القراءة، والله أعلم.
والحاصل: أن الباحثين في فهم معاني القرآن يجب عليهم أن يقصدوا ببحثهم التعاونَ على فهمه، واستخراج أحكامه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، ملازمين الأدب والوقار، فإن اتفقت أفهامهم، فقد كَمُلت نعمة الله تعالى عليهم، وإن اختلفت، وظهر لأحدهما خلاف ما ظهر للآخر، وكان ذلك من مثارات الظنون، ومواضع الاجتهاد، فحقّ كل واحد أن يصير إلى ما ظهر له، ولا يُثَرِّب على الآخر، ولا يلومه، ولا يجادله، وهذه حالة الأقوياء والمجتهدين، وأما من لم يكن كذلك فحقّه الرجوع إلى قول الأعلم، فإنّه عن الغلط أبعدُ وأسلمُ، وأما إن كان ذلك من المسائل العلمية فالصائر إلى خلاف القطع فيها محروم، وخلافه فيها محرّم مذموم، ثم حُكمه على التحقيق: إما التكفير، أو التفسيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله [«المفهم» (6) / (699) – (700)]، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في المراد بالمحكم والمتشابه:
اقتصر في «الفتح» على ذِكر قولين من هذه الأقوال، فقال: المحكم من القرآن ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه، وسُمّي المحكم بذلك؛ لوضوح مفردات كلامه، وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه.
وهذا هو معنى القول الذي رجحه ابن عطيّة.
قال: وقيل: المحكم: ما عُرِف المراد منه، إما بالظهور، وإما بالتأويل،
والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروفِ المقطعة في أوائل السور.
وهذا هو القول الأول الذي استحسنه القرطبيّ.
قال: وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أُخَر غير هذه نحوُ العشرة، ليس هذا موضع بَسْطها، وما ذكرته أشهرها، وأقربها إلى الصواب.
وذكر الأُستاذ أبو منصور البغداديّ: أن الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعانيّ:
أنه أحسن الأقوال، والمختار على طريقة أهل السُّنَّة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون. انتهى ما في «الفتح» [«الفتح» (9) / (73)].
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قال أبو منصور، وابن السمعاني هو الأرجح، وهو الذي استحسنه العلامة القرطبيّ، والحافظ ابن كثير [راجع: «تفسير ابن كثير» (1) / (353)]، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ –رحمه الله- في «شرح المشكاة»: قد افتقرنا في بيان هذا الحديث إلى الكشف عن المراد بالمحكم والمتشابه، فيتّضح المحِقُّ من المبطِل من أبواب التأويل، فنقول -وبالله التوفيق-: المراد بالمحكم: ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنىً، إما أن يحتمل غيره أو لا،
الثاني: النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل،
والثاني المؤوّل، فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم،
والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه، هكذا ينبغي أن يقسّم؛ لأنه -تعالى- أوقع المحكم مقابلًا للمتشابه في قوله تعالى: {مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ}، وهو ما لم يتّضح معناه، فالواجب أن يُفَسَّر المحكم بما يقابله مما يتّضح معناه.
ويعضِد ما ذكرنا أسلوبُ الآية، وهو الجمع بين التفريق والتقسيم، وذلك أنه تعالى لَمّا فَرّق ما جَمَع في معنى الكتاب بأن قال: {مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} أراد أن يُضِيف إلى كُلٍّ منهما ما يناسبهما من الحكم، فقال أوّلًا: {فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ}، وثانيًا قال:
{والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} وكان يُمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم
استقامة فيتّبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك: {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنّا}، وإنما وضع {يَقُولُونَ آمَنّا} موضع «يتبعون المحكم» لإيثار لفظ الرسوخ في الابتداء؛ لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا بعد التتبع التام، والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد، ورَسَخَ القدمُ في العلم، أفصح صاحبه النطق بالقول الحق؛ إرشادًا للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا} شاهدًا على أن {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} مقابِلٌ لقوله: {فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، وفيه إشارة إلى أنّ الوقف على قوله: {إلّا اللَّهُ}، والابتداءُ بقوله: {والرّاسِخُونَ} وقفٌ تامّ، وإلى أن عِلم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأنّ من حاول معرفته، هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: «فاحذروهم». انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» (2) / (618) – (619)]، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الإمام البخاري -رحمه الله- في «صحيحه» عن سعيد بن جبير قال
رجل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: {فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءَلُونَ} [المؤمنون (101)]، وقال: {وأقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ((27))} [الصافات (27)]، {ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء (42)]، {واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام (23)]، فقد كتموا في هذه الآية، ….. [راجع: «صحيح البخاريّ» في «تفسير حم السجدة»]، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج]
تنبيه: قال في «الفتح» (9) / (523): كان هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج، وكان يُجالس ابن عبّاس بمكة، ويسأله، ويُعارضه. انتهى.”
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ” قسم الله تبارك وتعالى القرآن الكريم إلى قسمين: محكم ومتشابه.
والمراد بـ (المحكم): هنا الواضح البين الذي لا يخفى على أحدٍ معناه، مثل: السماء والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وما أشبهها، هذا محكم؛ لأنه لا اشتباه في معناه،
وأما (المتشابهات): فهي الآيات التي يشتبه معناها ويخفى على أكثر الناس ولا يعرفها إلا الراسخون في العلم، مثل: بعض الآيات المجملة التي ليس فيها تفصيل، فتفصلها السنة، مثل قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فإن إقامة الصلاة غير معلومة، والمعلوم من هذه الآية وجوب إقامة الصلاة فقط، لكن كيف الإقامة؟
هذا يعرف من دليل آخر.
والحكمة من أن القرآن نزل على هذين الوجهين الابتلاء والامتحان؛ لأن من في قلبه زيغ يتبع المتشابه، فيبقى في حيرةٍ من أمره، وأما الراسخون في العلم فإنهم يؤمنون به كله، متشابهه ومحكمه، ويعلمون أنه من عند الله وأنه لا تناقض فيه.
ومن أمثلة المتشابه: قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} مع قوله {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فيأتي الإنسان ويقول: هذا متناقض كيف يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَاكُنَّا مُشْرِكِينَ}، ثم يقال عنهم إنهم {لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}، فيضرب الآيات بعضها ببعض؛ ليوقع الناس في حيرة، لكنّ الراسخين في العلم يقولون: كله من عند الله ولا تناقض في كلام الله، ويقولون: إن يوم القيامة يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، فتتغير الأحوال وتتبدل، فتُنزّل هذه على حال وهذه على حال ” [فتاوى نور على الدرب].
وقال رحمه الله: ” وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك والتشكيك فضلوا، وأضلوا وتوهموا بهذا المتشابه مالا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله.
مثال الأول: قوله تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى}، وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، ونحوهما مما أضاف الله فيه الشيء إلى نفسه بصفة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد.
وأما الراسخون في العلم: فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو}. ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت بما وقع لك من الاشتباه قد كفّرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد}، أي كفروا بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
ومثال الثاني: قوله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت} وقوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، ففي الآيتين موهم تعارض، فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضاً وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية. فيقول: في القرآن تناقض.
وأما الراسخون في العلم فيقولون: لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره.
والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة وهذه تكون من الله تعالى ومن غيره، فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين ” [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين” (4/ 186)].
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في قوله -تعالى-: {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ}:
قال أبو عبد الله القرطبيّ – رحمه الله – في «تفسيره»: اختَلَف العلماء في
{والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} هل هو كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما
قبله، فتكون الواو للجمع؟
فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تمّ عند قوله: إلا اللَّهَ هذا قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وهو مذهب الكساليّ، والأخفش، والفراء، وأبي عبيد، وغيرهم.
قال أبو نَهِيك الأسدي: إنكم تَصِلُون هذه الآية، وإنها مقطوعة، وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم: {آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا}، وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس، عن أشهب، عن مالك بن أنس.
و {يَقُولُونَ} على هذا خبرُ {الرّاسِخُونَ}.
قال الخطابيّ: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمَرنا بالإيمان به، والتصديق بما فيه قسمين: محكمًا ومتشابهًا، فقال عز من قائل: {هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} إلى قوله: {كُلٌّ مِن
عِنْدِ رَبِّنا}، فاعلَمَ أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يَعلَم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله -تعالى- على الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}،
ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه، ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: {وما يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إلّا اللَّهُ}،
وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله: {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}.
ورُوي ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعائشة – رضي الله عنهم -.
وإنما رُوي عن مجاهد أنه نَسَقَ {الرّاسِخُونَ} على ما قبله، وزَعَم أنهم يعلمونه،
واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه: {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} يعلمونه قائلين:
آمنّا، وزعم أن موضع يَقُولُونَ نَصْبٌ على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه، ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تُضمِر الفعل والمفعول معًا، ولا تَذكُر حالًا إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حالٌ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال:
عبد الله راكبًا، بمعنى: أقبل عبد الله راكبًا، وإنما يجوز ذلك مع ذِكر الفعل،
كقوله: عبد الله يتكلم، يصلح بين الناس، فكان «يصلح» حالًا، كقول
الشاعر- أنشدنيه أبو عمر قال: أنشدنا أبو عباس ثعلب-:
أرْسَلْتُ فِيها قَطِمًا لُكالِكا … يَقْصُرُ يَمْشِي ويَطُولُ بارِكا
[و «القطم»: الغضبان، والمشتهي اللحم وغيره. و «اللكالك» – بضم اللام الأُولى
وكسر الثانية-: الجمل الضخم].
أي: يقصر ماشيًا. فكان قوله عامة العلماء، مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده.
وأيضًا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئًا عن الخلق، ويُثبِته لنفسه، ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله -تعالى-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ} [النمل (65)]، وقوله: {لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هُوَ} [الأعراف (187)]، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ} [القصص (88)]، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه [هكذا نسخة تفسير القرطبيّ: «بعلمه»، والظاهر أن الصواب «به»، والله تعالى أعلم]، لا يَشرَكه فيه غيره، كذلك قوله تبارك وتعالى: {وما يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إلّا اللَّهُ}، ولو كانت الواو في قوله:
{والرّاسِخُونَ} للنَّسَقِ لم يكن لقوله: {كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا} فائدة. والله أعلم.
قال القرطبيّ: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره، فقد رُوي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله -تعالى-، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون: آمنا به. وقاله الربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد، وغيرهم.
و {يَقُولُونَ} على هذا التأويل نَصْبٌ على الحال من الراسخين، كما قال:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها … والبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الغَمامَهْ
وهذ البيت يَحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون «البرق» مبتدأ، والخبر «يلمع» على التأويل الأول، فيكون مقطوعًا مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفًا على «الريح»، و «يلمع» في موضع الحال على التأويل الثاني؛ أي: لامعًا.
واحتج قائلو هذه المقالة أيضًا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم، فكيف يَمدحهم، وهم جُهّال؟ وقد قال ابن عباس: أنا ممن يَعلَم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية، وقال: أنا ممن يعلم تأويله، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي.
قال القرطبيّ: وقد رَدّ بعضُ العلماء هذا القول إلى القول الأول، فقال:
وتقدير تمام الكلام عند الله أن معناه: وما يعلم تأويله إلا الله؛ يعني: تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه، قائلين: آمنا به، كلٌّ من عند
ربنا بما نُصِبَ من الدلائل في المحكم، ومكّن من رَدِّه إليه، فماذا علموا تأويل
بعضه، ولم يعلموا البعض قالوا: آمنا بالجميع، كلٌّ من عند ربنا، وما لم يُحط
به علمنا من الخفايا، مما في شَرْعه الصالح، فعِلمه عند ربنا.
[فإن قال قائل]: قد أشكل على الراسخين بعضُ تفسيره، حتى قال ابن عباس: لا أدري ما الأوّاه، ولا ما غِسْلِين؟
[قيل له]: هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد عَلِم بعد ذلك، ففسَّر ما وقف عليه.
وجواب أقطعُ من هذا، وهو أنه سبحانه لم يقل: وكلٌّ راسخ، فيجب هذا، فإذا لم يعلمه أحد عَلِمه الآخر.
ورجح ابن فُورَك أن الراسخين يعلمون التأويل، وأطنب في ذلك، وفي قوله – لا – لابن عباس: «اللَّهُمَّ فقِّهه في الدِّين، وعلِّمه التأويل» ما يبيّن لك ذلك؛ أي: علّمه معانيَ كتابك، والوقف على هذا يكون عند قوله: {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ}،
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر [هو شيخه القرطبيّ، صاحب كتاب «المفهم»، المتوفّى سنة (656) هـ]: وهو الصحيح، فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلَمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يَفهَم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يَعلم الجميع؟ لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يُعلَم البتة، كأمر الروح والساعة، مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى عِلمه أحدٌ، لا ابن عباس ولا غيره.
فمن قال من العلماء الحُذّاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه، فمانما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حَمْله على وجوه في اللغة، ومَناحٍ في كلام العرب فيُتَأوّل، وُيعلَم تأويله المستقيم، وُيزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم، كقوله في عيسى: {ورُوحٌ مِنهُ} [النساء (171)]، إلى غير ذلك، فلا يُسفى أحدٌ راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قُدِّر له، وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ، فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا غير صحيح. انتهى [«الجامع لأحكام القرآن» (4) / (16) – (18)].
وذكر الحافظ ابن كثير –رحمه الله- بعد ذِكر القولين المتقدّمين ما نصّه: من
العلماء من فَصّلَ هذا المقام، قال: التأويل يُطلَق، ويراد به في القرآن معنيان:
أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {وقالَ ياأبَتِ هَذا تَاوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ} [يوسف (100)]، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ} [الأعراف (53)] أي: حقيقة ما أُخبِروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله -تعالى-، ويكون قوله: {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} مبتدأ، و {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} خبره.
وأما إن أريد بالتأويل: المعنى الآخر، وهو التفسير والبيان، والتعبير عن
الشيء، كقوله: {نَبِّئْنا بِتَاوِيلِهِ} [يوسف (36)] أي: بتفسيره، فإن أريد به هذا
المعنى، فالوقف على {والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ}؛ لأنهم يعلمون، ويفهَمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كُنْه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله: {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} حالًا منهم، وساغ هذا، وإن كان من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: {لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ} [الحشر (8)] إلى قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولِإخْوانِنا} الآية
[الحشر (8) – (10)]، وقوله تعالى: {وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ((22))} [الفجر (22)]؛ أي: وجاء الملائكة صفوفًا صفوفًا. انتهى [«تفسير ابن كثير» (1) / (355)].
قال الأتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدّم عن أبي العباس القرطبيّ ترجيحه هو الأرجح، فتأمّله بتأنِّ وإنصاف، والله تعالى أعلم. [البحر المحيط الثجاج]
(المسألة الثالثة): قال أبو عبد الله القرطبيّ: قال شيخنا أبو العبّاس – يعني: القرطبيّ، صاحب «المفهم» -:
متّبعو المتشابه لا يخلو أن يتّبعوه، ويجمعوه طلبًا للتشكيك في القرآن، وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة، والقرامطة الطاعنون في القرآن …. .
قسمهم إلى أربع وقال في: (الرابع): الحكم فيه الأدبُ البليغ، كما فعله عمر بصَبِيغ. وقال أبو بكر الأنباريّ: وقد كان الأئمة من السلف، يُعاقبون من يَسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن؛ لأن السائل إن كان يَبْغِي بسؤاله تخليد البدعة، وإثارة الفتنة، فهو حقيق بالنكير، وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده، فقد استحق العَتْبَ بما اجترم من الذنب؛ إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلًا إلى أن يَقصِدوا ضَعَفَة المسلمين بالتشكيك والتضليل، في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل، وحقائق التأويل، فمن ذلك: ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، أنبأنا سليمان بن حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار، أن صَبِيغ بن عِسْل [هو: صبيغ بوزن أمير، ابن شريك بن المنذر بن قطن بن قشع بن عِسل- بكسر العين- ابن عمرو بن يربوع التميميّ، وقد يُنسب إلى جده الأعلى، فيقال: صَبيغ بن عسل. راجع: «القاموس»، وشرحه في مادّة «صبغ» و «عسل»] قَدِم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، وعن أشياء، فبلغ ذلك عمرَ – رضي الله عنه -، فبعث إليه عمر فأحضره، وقد أعَدَّ له عَراجين من عراجين النخل، فلما حَضَر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغ، فقال عمر – رضي الله عنه -: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجّه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي، ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة، وقَذَفها في قلبه، فتاب وحَسُنت توبته. انتهى كلام القرطبيّ –رحمه الله-[«الجامع لأحكام القرآن» (4) / (13) – (15)].